البحث

عبارات مقترحة:

القيوم

كلمةُ (القَيُّوم) في اللغة صيغةُ مبالغة من القِيام، على وزنِ...

الرب

كلمة (الرب) في اللغة تعود إلى معنى التربية وهي الإنشاء...

المجيد

كلمة (المجيد) في اللغة صيغة مبالغة من المجد، ومعناه لغةً: كرم...

بيت المستقبل

العربية

المؤلف هلال الهاجري
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الحياة الآخرة
عناصر الخطبة
  1. القبر أول منازل الآخرة .
  2. تحسر أهل الغفلة في قبورهم على التفريط في طاعة الله .
  3. بكاء الأنبياء عند المقابر وحثهم على الاستعداد بالصالحات .

اقتباس

تنتهي في هذه الحفرةِ كلُّ الأماني والآمالِ، وتنقطعُ فيها كلُّ المواعيدُ والأشغالُ، فها هو اليومَ في حياةٍ جديدةٍ، في سِنينَ طويلةٍ مَديدةٍ، وقد شاهَدَ فيها الحقيقةَ الأكيدةَ. سل الغنيَّ: أين ذهبَ غِناهُ؟ وسل الفقيرَ: هل انتهتْ المأساةُ؟ وسل المريضَ: هل انقطعتْ المعاناةُ؟ وسل المحزونَ: أينَ حزنُه الذي أعياهُ؟

الخطبة الأولى:

إنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].

أَمَّا بَعْدُ: هل ذهبتَ يوماً إلى المقابرِ في تشييعِ قريبٍ أو في زيارةِ حبيبٍ؟ هل رأيتَ هناكَ الحفرَ الضَّيقةَ المتقاربةَ؟ هل تصوَّرتَ يوماً أنَّكَ توضعُ فيها، وتتركَ الدُّنيا وما فيها؟

دعوني أُخبرُكم بصراحةٍ: مع إيمانِنا بأن الموتَ حقٌ وأنَّه مصيرُ كلِّ حيٍّ، ولكن من الصعبِ أن نتخيَّلَ هذا الشُّعورَ، ونحنُ قد أُنزلنا إلى ظُلمةِ القبورِ، فلا أهلَ ولا أصحابَ، ولا أقاربَ ولا أحبابَ.

ولو استشعرنا هذا الموقفَ حقَّ اليقينِ، لسالتْ المقابرُ بدمعِ العينِ، كَانَ عُثْمَانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إِذَا وَقَفَ عَلَى قَبْرٍ، بَكَى حَتَّى يَبُلَّ لِحْيَتَهُ، فَقِيلَ لَهُ: تُذْكَرُ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَلاَ تَبْكِي، وَتَبْكِي مِنْ هَذَا، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ الْقَبْرَ أَوَّلُ مَنَازِلِ الآخِرَةِ، فَإِنْ نَجَا مِنْهُ، فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ، فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ" تنتهي في هذه الحفرةِ كلُّ الأماني والآمالِ، وتنقطعُ فيها كلُّ المواعيدُ والأشغالُ، فها هو اليومَ في حياةٍ جديدةٍ، في سِنينَ طويلةٍ مَديدةٍ، وقد شاهَدَ فيها الحقيقةَ الأكيدةَ.

سل الغنيَّ: أين ذهبَ غِناهُ؟ وسل الفقيرَ: هل انتهتْ المأساةُ؟ وسل المريضَ: هل انقطعتْ المعاناةُ؟ وسل المحزونَ: أينَ حزنُه الذي أعياهُ؟

أتيتُ القبورَ فناديتُها

أينَ المُعَظَّمُ والمُحتقَر

وأينَ المُذِلُّ بسلطانِه

وأين المُزَكَّي إذا ما افتَخَر

تَفانوا جَميعاً فمَا مُخبرٌ

ومَاتوا جميعاً ومَاتَ الخَبر

تروحُ وتغدو بَنَاتُ الثَّرى

فتمحوا مَحاسنَ تلكَ الصُّور

فيا سَائلي عن أُناسٍ مَضوا

أَما لكَ فِيما مَضَى مُعتَبر

إنَّه ذلكَ اليومُ الذي ينتهي فيه الليلُ ويطلعُ الفَجرُ!

إنَّها تلكَ السَّاعةُ التي ينقضي فيها العمرُ!

إنَّها تلكَ اللحظةُ التي نُحملُ فيها إلى ذلكَ القَبرِ!

فهل حقَّاً سيذهبُ بنا الأقاربُ والأحبابُ إلى هذا البيتِ الذي يَنتظرُنا؟ هل حقَّاً سيتنافسونَ على حثوِّ التُّرابِ على قبورِنا؟ وكأنَّ لسانَ حالِ الواحدِ مِنَّا يقولُ لهم: هل في هذهِ الحفرةِ تتركوني؟ يا أحبابي: باللهِ عليكم أَخرجوني؟ يا أُخواني: من سيؤنسُ وَحشتي؟ ومن سيُؤمِّنُ رَوعتي؟

ولكن للأسفِ لا يسمعونَ صوتي، دخلَ عليُّ بنُ أبي طَالبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- المقابرَ، فقَالَ للموتى: "أمَّا المنازلُ فقد سُكِنَتْ، وأمّا الأموالُ فقد قُسِمَتْ، وأمّا الأزواجُ فقد نُكِحَتْ، فهذا خبرُ ما عِندَنا، فما خَبرُ ما عِندَكم؟، ثم قَالَ: والذي نَفسي بيدِه، لو أُذِنَ لهم في الكلامِ لأخبَرُوا: أنَّ خيرَ الزّادِ التّقوَى.

في تلكَ اللحظاتِ سنعلمُ أننا كنَّا في غفلةٍ وغُرورٍ، وسنندمُ لأنَّنا استبدلنا الفانيةَ بدارِ الحُبورِ.

يا اللهُ! كم أضعنا من الأيامِ والأوقاتِ؟ وكم انشغلنا في الشَّهواتِ والمَلذَّاتِ؟!

ليتني كُنتُ مُحافظاً على صلاةِ الفَجرِ! ليتَ لساني كانَ رطباً بالذِّكرِ! ليتَ لي صدقاتٌ في العَلنِ والسِّرِّ! ليتَ لي ركعاتٌ تنفعني اليومَ في القَبرِ! مطالبُ وأمنياتٌ، آمالٌ ورَغباتٌ، ولكن هيهاتَ هيهاتَ، مَرَّ رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّمَ- بِقَبْرٍ فَقَالَ: "مَنْ صَاحِبُ هَذَا الْقَبْرِ؟" فَقَالُوا: فُلانٌ، فَقَالَ: "رَكْعَتَانِ أَحَبُّ إِلَى هَذَا مِنْ بَقِيَّةِ دُنْيَاكُمْ"

حِينها سنندمُ على خِصامٍ كانَ مع حبيبٍ، وخِلافٍ كانَ مع قريبٍ، وسنعلمُ أنَّنا قصَّرنا في حقِّ الأولادِ والزَّوجاتِ، ونتمنى لو كنَّا قضينا معهم جميعَ الأوقاتِ، حينها سنعرفُ حقيقةَ الدَّنيا وأنها سرابٌ، وأنَّنا قد انشغلنا بدارِ الخرابِ، ونسينا الاستعدادَ ليومِ الحسابِ، حينَها سيصرخُ الصَّارخُ: (رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ)، فيأتيه الجوابُ فوراً: (كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)[المؤمنون: 99-100]، وصدقَ أَبُو ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- حِينَ قَالَ: "أَلا أخْبركُم بِيَوْمِ فَقري، يَوْمَ أُنزلُ قَبْرِي".

الموْتُ بابٌ وكلُّ الناسِ داخِلُهُ

يا ليْتَ شِعرِيَ بعدَ البابِ ما الدَّارُ

الدَّارُ جنَّة ُخلدٍ إنْ عمِلتَ بِمَا

يُرْضِي الإلَهَ، وإنْ قصّرْتَ، فالنّارُ

هُمَا مَحَلَّانِ مَا لِلنَّاسِ غَيْرُهُمَـا

فَانـْظُرْ لِنَفْسِك مَاذَا أَنْتَ مُخْتَارُ

أقولُ ما تَسمعونَ، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذَنبٍ، إنَّه هو الغَفورُ الرَّحيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ الذي أَمرَ بذكرِه، ورَتَّبَ على ذلك عَظيمِ أَجرِه، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أعظمِ النَّاسِ ذِكراً لربَّه نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِه وصحبِه ومن سَارَ على دَربِه.

أما بَعد: عن البراءِ بنِ عَازبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: "بينما نَحنُ معَ رَسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلمَ- إذ أَبصرَ بجماعةٍ فَقَالَ: عَلامَ اجتمعَ هَؤلاء؟ قِيلَ: على قَبرٍ يَحفرونَه، قَالَ: ففَزِعَ رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلمَ-، فبَدا بينَ يَدي أصحابِه مسرعًا، حتى انتهى إلى القبرِ فجَثا عَليهِ، قَالَ: فاستقبلتُه من بينِ يَديهِ لأنظرَ ما يَصنعُ، فبَكى حتى بَلَّ الثَّرى من دُموعِه، وأبكى من حَولَه، ثُمَّ أَقبلَ عَلينا فقَالَ: "أَيْ إخواني! لمثلِ هذا اليومَ فأَعدِّوا" يا لها من نصيحةِ ناصحٍ تستحقُّ التأمَّلَ كثيراً! فما الذي يمنعُ أن نُعِدَّ لذلكَ اليومَ؟

تذَّكرْ تلكَ الليلةَ الأولى التي تبيتُها في قَبرِكَ، وليسَ تحتَك سريرُكَ الوَطيءُ، وليسَ فوقَك فِراشُكَ الهَنيءُ، بعيداً عن بيتِكَ وزوجتِكَ، وحيداً ليسَ مع أولادِكَ وصُحبتِكَ، فارقَ رجلٌ ليلةً مَرقدَه، فلم يستطعْ النومَ، فتذكَّرَ أولَ ليلةٍ في القبرِ، وأنشدَ:

فارقتُ موضِعَ مَرقدي

يَوماً ففَارقني السُّكونُ

القبرُ أولُ ليلةٍ

باللهِ قُلْ لي مَا يَكونُ؟

إنَّها واللهِ الليلةُ التي أنذرَ منها الأنبياءُ، وبَكى مِنها العلماءُ، وأسهرتْ ليلَ الأتقياءِ، واستعَّدَّ لها الحُكماءُ، وعجزَ في وصفِها البُلغاءُ، أنيسُكَ فيها العملُ الصَّالحُ، ويَنعمُ فيها المؤمنُ الفالحُ، فيامن يحبُّ السَّعةَ في السَّكنِ والدُّورِ، اعلمْ أنَّ اليومَ هو العملُ لتوسيعِ القبورِ، فالزادَ الزادَ، والاستعدادَ الاستعدادَ.

أَمّا بُيوتُكَ في الدُنيا فَواسِعَةٌ

فَلَيتَ قَبرَكَ بَعدَ المَوتِ يَتَّسِعُ

اللهم يا أرحم الراحمين؛ يا ذا الجلال والإكرام نسألك أن تجعل قبورنا من رياض الجنان، ولا تجعلها من حفر النيران.

اللهم إنا نعوذ بك من عذاب القبر ومن عذاب جهنم، اللهم اجعل قبورنا ووالدينا خير منازلنا بعد فراق هذه الدنيا.

اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من سخطك والنار.

(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[البقرة: 201].

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.