الإله
(الإله) اسمٌ من أسماء الله تعالى؛ يعني استحقاقَه جل وعلا...
العربية
المؤلف | إسماعيل القاسم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أهل السنة والجماعة |
كل خير فيه المسلمون إلى يوم القيامة من الإيمان والإسلام، والقرآن والعلم، والمعارف والعبادات، ودخول الجنة، والنجاة من النار، وانتصارهم على الكفار، وعلو كلمة الله، فإنما هو ببركة ما فعله الصحابة، الذين بلَّغوا الدين، وجاهدوا في سبيل الله، وكل مؤمن آمن بالله فللصحابة -رضي الله عنهم- عليه فضل إلى يوم القيامة...
الخطبة الأولى:
اصطفى الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- على العالمين، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم"(رواه مسلم).
والصحابة -رضي الله عنهم- نالوا شرف الصحبة، وعاصروا تنزل الوحي، فلهم -رضي الله عنهم- سابقُ إيمانٍ وتصديقٍ، ونصرةٍ وبذلٍ وتضحيةٍ، وتعلمٍ وتعليمٍ، ودعوةٍ وجهاد.
وقد جاءت آيات كثيرة في فضل الصحابة -رضي الله عنهم-، قال -جل وعلا-: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ)[الفَتْح: 18]. وفي فضلهم قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم"(رواه البخاري).
ولفضلهم وعلو شأنهم -رضي الله عنهم- لا تجد كتابًا من كتب السنة إلا وفيه ذكر فضائلهم، ومنهم من أفرده في مصنف كالإمام أحمد وسماه: "فضائل الصحابة".
قال ابن تيمية -رحمه الله-: "فكل خير فيه المسلمون إلى يوم القيامة من الإيمان والإسلام، والقرآن والعلم، والمعارف والعبادات، ودخول الجنة، والنجاة من النار، وانتصارهم على الكفار، وعلو كلمة الله، فإنما هو ببركة ما فعله الصحابة، الذين بلَّغوا الدين، وجاهدوا في سبيل الله، وكل مؤمن آمن بالله فللصحابة -رضي الله عنهم- عليه فضل إلى يوم القيامة".
أثنى الله -تبارك وتعالى- على الصحابة عامة، وعلى السابقين من المهاجرين والأنصار خاصة يقول -سبحانه-: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ -رضي الله عنهم- وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[التّوبَة: 100].
وفاضل الله بين الصحابة بقوله: (لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى)[الحَديد: 10]، وهذه الآية دليل على أن الصحابة كلَّهم في الجنة فالحسنى في قوله: (وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى)[الحَديد: 10]، هي: الجنة.
والصحابة -رضي الله عنهم- عدول ليس فيهم مجروح ولا ضعيف؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع للصحابة: "ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب".
قال ابن عبد البر -رحمه الله-: "الصحابة -رضي الله عنهم- قد كفينا البحث عن أحوالهم، لإجماع أهل الحق من المسلمين، وهم أهل السنة والجماعة على أنهم كلهم عدول".
وأصحابه -رضي الله عنهم- خير أصحاب الأنبياء -عليهم السلام- وخيرُ هذه الأمة، وأفضلُهم: صاحبُه الأخصُّ، وأخوه في الإسلام، ورفيقُه في الهجرةِ والغارِ، أبو بكر الصديق، وزيره في حياته، وخليفته بعد وفاته، ثم عمرُ الفاروق، ثم عثمانُ ذو النورين، ثم عليٌّ -رضي الله عنهم-.
وأفضل الصحابة -رضي الله عنهم- المهاجرون، حيث لاقوا صنوفًا من التعذيب في مكة على يدي كفار قريش، فأنزل الله ما يدعوهم إلى الهجرة فقال -سبحانه-: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)[الزُّمَر: 10].
وأوصاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالهجرة إلى أرض الحبشة فقال: "إن بأرض الحبشة ملكًا لا يُظلم أحدٌ عنده فالحقوا ببلاده، حتى يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا مما أنتم فيه"(رواه البيهقي).
هاجر الصحابة -رضي الله عنهم- هجرتين إلى الحبشة رجالاً ونساء، قطعوا المفاوز، وعبروا البحر، وبعد بيعة العقبة الثانية من العام الثالثَ عشرَ من البعثة -والتي بايع فيه الأوسُ والخزرجُ رسولَ الله على الحماية والنصرة له- كانت سببًا في هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة إلى المدينة.
فبدأت الهجرة إلى المدينة، وأول من هاجر مصعبُ بنُ عمير وعبدُالله بنُ أُمِّ مكتوم -وهو كفيف البصر-، ولما أراد صهيبٌ الهجرةَ قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكًا حقيرًا فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك؟ والله لا يكون ذلك، فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم، قال: فإني قد جعلت لكم مالي، فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ربح صهيب" قيل: إن هذه الآية نزلت فيه: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ)[البَقَرَة: 207].
وكانت هجرة الصحابة -رضي الله عنهم- إلى المدينة زرافاتٍ ووحدانًا، وكان منهم الخلفاءُ الراشدون، والعشرة المبشرون بالجنة.
وصف الله المهاجرين بقوله -تعالى-: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا)[الحَشر: 8]، وَقصْدهم وغايتهم (وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)[الحَشر: 8]، وزكَّاهم الله بأنهم (أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)[الحُجرَات: 15].
فالمهاجر يعلم أن عليه تبعةَ الجهادِ والنصرةِ، فلا يهاجر إلا وهو صادق الإيمان متحملٌ المصاعبَ والمتاعبَ والأخطار، لذا قدَّم الله المهاجرين على الأنصار، قال -تعالى-: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ)[التّوبَة: 100].
وكقوله -تعالى-: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ)[التّوبَة: 117]، وقال: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ)[التّوبَة: 20].
المهاجرون غرباء في أرض الله، لا دار، ولا أهل، ولا ولد، ولا مال، تركوا أرضًا بها خير ماء على وجه الأرض -ماء زمزم-، وقدموا المدينة فاستنكروا فيها الماء فاشترى عثمان -رضي الله عنه- عَينَ رُومَة.
وَعَد الله من هاجر بخيري الدنيا والآخرة فقال: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً)[النِّسَاء: 100]، والمراغم: النصرُ والتأييد، والسعةُ: الرزقُ الحسن، وبالهجرةِ زال عنهمِ ما يؤذيهم، وأغناهم الله من بعد عيلة، فأغنياء الصحابة هم من المهاجرين - كأبي بكرٍ، وعثمانَ، وابنِ عوف -رضي الله عنهم-.
وَعَدَهم الله بوعد حسن فقال -سبحانه-: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ)[الحَجّ: 58-59].
قال ابن كثير -رحمه الله-: "فمن خرج مهاجرًا في سبيل الله، ابتغاء مرضاته، وطلبًا لما عنده، وَتَركَ الأوطان والأهلين والخُلاَّن، وفارق بلاده في الله ورسوله، ونصرةً لدين الله، ثم قتلوا، أي: في الجهاد، أو ماتوا -أي: حتف أنفهم، أي: من غير قتال على فرشهم-، فقد حصلوا على الأجر الجزيل، والثناءِ الجميل. كما قال -تعالى-: (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)[النِّسَاء: 100]".
قال الشيخ ابن سعدي -رحمه الله- في قوله -تعالى-: (لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ)[الحَجّ: 59]: "إما ما يفتحه الله عليهم من البلدان، خصوصًا فتحَ مكة المشرفة، فإنهم دخلوها في حالة الرضا والسرور، وإما المراد به: رزق الآخرة، وأن ذلك دخول الجنة، فتكون الآية جمعت بين الرزقين، رزقِ الدنيا، ورزقِ الآخرة".
الخطبة الثانية:
الصحابة -رضي الله عنهم- قسمان: مهاجرون وأنصار، فالأنصار نالوا شرفَ حماية الدعوة الإسلامية، واحتضانِها على أرض المدينة، وقد سعت الأنصار إلى بيعة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعاهدوه على نصرة دينه، وحمايةِ المهاجرين، فاشتروا بذلك الآخرة، وكما وفوا بما التزموا فقد وفى الله لهم بقوله: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[التّوبَة: 100].
وقد وصَّى النبي -صلى الله عليه وسلم- بالأنصار في مرضه فقال: "أوصيكم بالأنصار، فإنهم كَرِشي وعيبتي -أي: جماعتي، وخاصتي- وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم"(متفق عليه).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لو أن الأنصار سلكوا واديًا أو شعبًا لسلكت في وادي الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار"(رواه البخاري).
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- للأنصار أنتم أحب الناس إلي، فعن أنس -رضي الله عنه- أنه قال: "رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- النساء والصبيان مقبلين، قال: حسبت أنه قال من عرس. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "اللهم أنتم مِنْ أحب الناس إليَّ"(متفق عليه) وعند البخاري: قالها ثلاث مرار.
وقال: "الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله"(رواه البخاري). وقال: "آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار"(رواه البخاري).
وكرمُ وإيثارُ الأنصار -رضي الله عنهم- ظاهرٌ في الرجل الذي سأل النبي -صلى الله عليه وسلم-، فبعث إلى نسائه فقلن ما معنا إلا الماء، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من يضم، أو يضيف هذا؟".
فقال رجل من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى امرأته، فقال: أكرمي ضيف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني، فقال: هيئي طعامك، وأصبحي سراجك، ونوِّمي صبيانك إذا أرادوا عشاء، فهيأت طعامها، وأصبحت سراجها، ونومت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان، فباتا طاويين، فلما أصبح غدا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "ضحك الله الليلة، أو عجب من فعالكما، فأنزل الله: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الحَشر: 9](رواه البخاري).
ثم اعلموا أن معتقد أهل السنة من الصحابة سلامةُ قلوبهم وألسنتهم، فلا يُضْمِرون في قلوبهم غِلاً ولا حقدًا، وألسنتهم سليمة من السب واللعن، بل قلوبهم مملؤة بحب الصحابة، وألسنتُهم تذكر فضائلهم.
قال ابن قدامة -رحمه الله-: "ومن السُّنة تولّي أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومحبتُهم، وذكر محاسنهم، والترحمُ عليهم، والاستغفارُ لهم"، وخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- في غداة باردة، والمهاجرون والأنصار يحفرون الخندق، فقال: "اللهم إن الخير خير الآخرة؛ فاغفر للأنصار والمهاجرة"، فأجابوا: "نحن الذين بايعوا محمدًا على الجهاد ما بقينا أبدًا"(رواه البخاري).
رضي الله عن الصحابة أجمعين.