الرب
كلمة (الرب) في اللغة تعود إلى معنى التربية وهي الإنشاء...
العربية
المؤلف | إسماعيل القاسم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - أركان الإيمان |
ولأهمية محبة العبد لربه عليه أن يسأل الله ذلك، قال ابن القيم -رحمه الله-: "ومن أفضل ما سُئل اللهُ -عز وجل- حبَّه، وحبَّ من يحبه، وحُبَّ عملٍ يقرب إلى حبه".. وحلاوة الإيمان هي التلذذ بالطاعة، وطمأنينةُ القلب، وانشراحُ الصدر. ومحبة الله متنوعة للأماكن، والأشخاص، والفئات من الناس.
الخطبة الأولى:
الله -عز وجل- يُحِبُّ ويُحَبُّ، قال -سبحانه-: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)[المَائدة: 54]، فهو يحب عباده المؤمنين وهم يحبونه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "اتفق سلف الأمة وأئمتُها وسائرُ أهل السنة وأهلِ المعرفة أن الله نفسه يُحِبُّ ويُحَبُّ".
ومحبته -سبحانه- لمن شاء من عباده موافقة لأمره ونهيه، فيحب من شاء من عباده ممن اتصفوا بصفات جليلة وأعمال حميدة:
فالله -سبحانه- (يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[المَائدة: 93]، و(يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)[الحُجرَات: 9]، و(يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)[آل عِمرَان: 76]، و(يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)[البَقَرَة: 222]، و(يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ)[الصَّف:4]
والمؤمنون يحبون الله حبًّا شديدًا أشدَّ من محبة المشركين لآلهتهم قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ)[البَقَرَة: 165].
وأهم ما يتوصل به المرء إلى محبة الله هي محبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)[آل عِمرَان: 31]، ومحبته -صلى الله عليه وسلم- بلزوم هديه واتباع سنته، ويقدِّم أوامرَ الله وأوامرَ رسوله -صلى الله عليه وسلم- على هوى نفسه وعلى أمر غيره وعلى نهي غيره كائنًا مَنْ كان، من نفسه وأهله ووالده، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- "والذي نفسي بيده! لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين"(متفق عليه).
وقال عمر -رضي الله عنه-: "يا رسول الله! لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إليَّ من نفسي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: الآن يا عمر"(رواه البخاري).
ومن كان الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما سينعم بحلاوة الإيمان، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار"(متفق عليه).
وحلاوة الإيمان هي التلذذ بالطاعة، وطمأنينةُ القلب، وانشراحُ الصدر. ومحبة الله متنوعة للأماكن، والأشخاص، والفئات من الناس.
فيحب الله مكة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- "والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت"(رواه الترمذي). ويحب الله المساجد، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أحب البلاد إلى الله مساجدها وأبغض البلاد إلى الله أسواقها"(رواه مسلم)، قال القاضي عياض -رحمه الله- في سبب المحبة: "لأنها بيوت خُصت بالذكر، وبُقعٌ أسست للتقوى والعمل الصالح".
ويحب الله أشخاصًا بعينهم كعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم خيبر: "لأعطين الراية غدًا رجلاً يفتح على يديه يحب اللهَ ورسولَه، ويحبه اللهُ ورسولُه، فبات الناس ليلتهم أيهم يعطى، فغدوا كلُّهم يرجوه، فقال: أين علي؟ فقيل: يشتكي عينيه، فبصق في عينيه، ودعا له فبرأ كأن لم يكن به"(رواه البخاري).
وبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلاً على سرية، وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم، فيختم بقل هو الله أحد؛ فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "سلوه لأي شيء يصنع ذلك، فسألوه، فقال: لأنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأ بها، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: أخبروه أن الله يحبه"(متفق عليه).
قال ابن دقيق العيد -رحمه الله-: "يحتمل أن يكون سبب محبة الله له محبته لهذه السورة، ويحتمل أن يكون لما دل عليه كلامه؛ لأن محبته لذكر صفات الرب دالة على صحة اعتقاده".
وأحب الأديان إلى الله الحنيفية، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- "أحب الأديان إلى الله الحنيفية"(رواه أحمد)، قال ابن حجر -رحمه الله-: "والمراد بالأديان الشرائعُ الماضيةُ قبل أن تبدل وتنسخ، والحنيفية: ملةُ إبراهيم، والحنيف، في اللغة: من كان على ملة إبراهيم، وسمي إبراهيم حنيفًا لميله عن الباطل إلى الحق، لأن أصل الحنف الميل".
ومن أحب الأنصار أحبه الله، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- "لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، من أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله"(رواه مسلم)، قال النووي -رحمه الله- عن محبة المرء للأنصار: "من دلائل صحة إيمانه وصدقه في إسلامه، لسروره بظهور الإسلام والقيام بما يرضي الله -سبحانه وتعالى-، ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، ومن أبغضهم كان بضد ذلك".
ويحب الله من الأسماء "عبدالله وعبد الرحمن"(رواه مسلم)، لتضمنهما لوصف المولى بالإلهية والرحمة، ووصف الإنسان بالعبودية والافتقار، ولم يقع في القرآن عبدٌ إلى اسم من أسمائه -تعالى- غيرُهما، قال عيسى -عليه السلام-: (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا)[مَريَم: 30]، وقال في وصف عباده المؤمنين (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا)[الفُرقان: 63]، وهما أيضًا أصول الأسماء الحسنى.
وأهم عمل يوجب محبة الله أداء الفرائض، قال الله -تعالى- في الحديث القدسي: "وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه"(رواه البخاري).
وأداء النوافل سبب لمحبة الله، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- "أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله صيام داود، وكان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، ويصوم يومًا، ويفطر يومًا"(رواه البخاري).
وزيارة المسلم لأخيه المسلم في الله سبب لمحبة الله، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن رجلا زار أخًا له في قرية أخرى، قال: فأرصد الله على مدرجته ملَكًا، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخًا لي في هذه القرية، فقال له: هل له عليك من نعمة تَربُّها؟ قال: لا، غير أني أحبه في الله، قال: فإني رسول الله إليك أن الله -جل وعلا- قد أحبك كما أحببته فيه"(رواه مسلم).
ويحب الله من يصلي الفريضة في وقتها، ومن يبرُّ بوالديه، ومَن يجاهد في سبيله، سأل ابن مسعود النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أي العمل أحب إلى الله -عز وجل-؟ قال: "الصلاة لوقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، ثم قلت أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله"(متفق عليه).
وكلما كثر المصلون كان ذلك أحبَّ إلى الله -تعالى-، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وإن صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كثر فهو أحب إلى الله -تعالى-"(رواه أبو داود).
ويحب الله من الذكر أربعًا، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، لا يضرك بأيهن بدأت"(رواه مسلم)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم"(متفق عليه).
ودوام العمل الصالح أحب الأعمال إلى الله وإن قَل، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وإن أحب الأعمال إلى الله ما دام وإن قل"(رواه البخاري).
وأداء العمل الصالح في عشر ذي الحجة أحب إليه -سبحانه- من غيره، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام -يعني أيام العشر- قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله، قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء"(رواه أبو داود).
وأحب المكاسب ما كان من عمل اليد، لتعُفَّ به النفس عن السؤال، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما أكل أحد منكم طعامًا أحبَّ إلى الله -عز وجل- من عمل يديه"(رواه أحمد).
وخير المكاسب ما كان من عمل اليد، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن خير ما أكل المرء من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده".
وقد كان أنبياء الله -عليهم السلام- يعملون بأيديهم، فداود -عليه السلام- كان يصنع الدروع، قال -سبحانه-: (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ)[الأنبيَاء: 80]، وزكريا -عليه السلام- نجارًا - كما في صحيح مسلم -، وما من نبي إلا ورعى الغنم، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما بعث الله نبيًّا إلا رعى الغنم، فقال أصحابه: وأنت؟ قال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة"(رواه البخاري)
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية:
ثمرة محبة الله للعبد يجدها في الدنيا قبل ثواب الآخرة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أحب الله عبدًا دعا جبريل، فقال: إني أحب فلانًا فأحبه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء، فيقول: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء قال: ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبدًا دعا جبريل، فيقول: إني أبغض فلانًا فأبغضه، قال: فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلانًا فأبغضوه، قال: فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض"(رواه مسلم).
ولأهمية محبة العبد لربه عليه أن يسأل الله ذلك، قال ابن القيم -رحمه الله-: "ومن أفضل ما سُئل اللهُ -عز وجل- حبَّه، وحبَّ من يحبه، وحُبَّ عملٍ يقرب إلى حبه".
وإذا أحب الله العبد أدخله الجنة، فقد كان رجل من الأنصار يؤم الناس في مسجد قباء، وكان كلما افتتح سورةً يقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به، افتتح (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)[الإخلاص: 1]، حتى يفرغ منه، ثم يقرأ سورة أخرى معها، وكان يصنع ذلك في كل ركعة، فلما أتاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبروه الخبر، فقال: "يا فلان !ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك، وما يحملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة؟، فقال: إني أحبها، فقال: حبّك إياها أدخلك الجنة"(رواه البخاري).
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه؛ فصلوا عليه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.