الوكيل
كلمة (الوكيل) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) بمعنى (مفعول) أي:...
العربية
المؤلف | خالد بن عبدالله الشايع |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحديث الشريف وعلومه - المعاملات |
إن الرزق قد كتبه الله للعبد وهو في بطن أمه، ولن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، وإن رزق الله لا يجلبه حرص حريص ولا يدفعه كراهة كاره، وإنما على العبد أن يسلك الطرق المباحة للكسب بنية طيبة، أما أن يرتكب المحرمات ليكسب، أو يُرْهِق نفسه، ويصيبه القلق، والاكتئاب من أجل الكسب أو لفوات المال، فهذا خلاف ما قدره الله وشرعه.
الخطبة الأولى:
أما بعد فيا أيها الناس: اتقوا الله وأجملوا في الطلب فلن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، نحن في هذه الحياة مع كثرة الشهوات والشبهات، وكثرة الفتن، وقلة المال، وغلاء الأسعار، ونزع البركة من الأموال والأوقات، أصبح الواحد منا يطلب المال من أي مكان وبأي طريقة، ولا يسأل عن حِلّه ولا حُرمته، إلا من رحم الله، بل بعض الناس أصبح يبخل عن إخراج الزكاة، والبعض يبحث عن الرُّخَص في إسقاط الزكاة، لِماذا كل هذا يا عباد الله؟
أخرج الترمذي في جامعه من حديث أبي برزة الأسلمي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة، حتى يُسْأل عن عمره فِيمَ أفناه؟ وعن علمه فيم فعل فيه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه؟".
فكن حذرًا عبد الله، فلنسألن عن كل هللة كسبناها مِن أين كسبناها؟ وكل هللة أنفقناها في ماذا أنفقناها؛ يقول الله -سبحانه-: (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ)[الأعراف:6]، ويقول -تعالى-: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى)[القيامة:36].
عباد الله: إن الرزق قد كتبه الله للعبد وهو في بطن أمه، ولن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، وإن رزق الله لا يجلبه حرص حريص ولا يدفعه كراهة كاره، وإنما على العبد أن يسلك الطرق المباحة للكسب بنية طيبة، أما أن يرتكب المحرمات ليكسب، أو يُرْهِق نفسه، ويصيبه القلق، والاكتئاب من أجل الكسب أو لفوات المال، فهذا خلاف ما قدره الله وشرعه.
إن المال وديعة من الله للعبد، والله يعطي العبد بقدر حتى يعيش بسلام ولا يبغِ في الأرض، قال -سبحانه-: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ)[الشورى:27].
وأعطاه المال وقيّده بضوابط شرعية فليس له أن يخبط في ماله بغير حق، قال -سبحانه- في صفة عباد الرحمن: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا)[الفرقان:67].
ونهى عن الإسراف والتبذير، فقال: (وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا)[الإسراء:26]، وقال: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا)[الأعراف:31].
ومن هذه الناحية سيُسْأل العبد عن ماله، كيف كسبه؟ وكيف أنفقه؟، فالبعض رزقه الله مالاً، وهو يخبط فيه يمنة ويسرة، ولا يرعى فيه حقًّا، أخرج البخاري في صحيحه من حديث خولة بنت عامرٍ الأنصارية، وهي امرأة حمزةَ -رضي الله عنه-، قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن رجالًا يَتخوَّضونَ في مال الله بغير حقٍّ، فلهم النار يوم القيامة".
وأعظم منه جُرمًا ذلك الذي ينفقه في الحرام، فيشتري السيئات بماله، كمن يشرب الدخان أو المخدرات، أو يدفع مالاً ليزني، أو يسافر لأماكن الفجور، أو يدخل أماكن المنكر بماله، كل هذا سيسأل عنه.
ومثله الذي يغشّ في البيع والمعاملات، ويسرق ويرتشي، ويأكل مال غيره بالحرام، ويحاول كسب المال بأي طريقة، فالحلال عنده ما حل في اليد.
ألا فلنتق الله عباد الله، ولنحذر من المال، فلا نكسبه إلا بطريق مباح شرعًا ليس فيه شبهة، ولا نصرفه إلا فيما أمر الله.
اللهم وفّقنا لهداك واجعل عملنا في رضاك، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
أما بعد فيا أيها الناس: إن كسب المال من خلال الطرق المباحة شرعًا، يبارك لك في المال، فيكون القليل كثيرًا، ويبارك لك فيه حتى يكفيك أمورك ومستلزمات حياتك، مهما قل المال، وإن كسبه عن طريق الحرام، ينزع منه البركة، فلا ينفعك مالك، ولربما أنفقته في علاج أمراض تُبْتَلى بها، أو تصيبه آفات تقضي عليه.
وإن على العبد أن يستعمل الورع في الكسب والصرف، فيدع ما لا بأس به خشية الوقوع فيما به بأس، أخرج البخاري في صحيحه من حديث عائشة -رضي الله عنها-، قالت: "كان لأبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، غلامٌ يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يومًا بشيء، فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: تدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنت تكهنتُ لإنسانٍ في الجاهلية، وما أُحسِن الكهانة إلا أني خدعته، فلقيني فأعطاني بذلك هذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر يده فقاء كلَّ شيءٍ في بطنه".
وروى الترمذي (614) وحسنه عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَا يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إِلَّا كَانَتْ النَّارُ أَوْلَى بِهِ".
وأخرج البخاري في صحيحه من حديث نافع أنَّ عمرَ بن الخطاب -رضي الله عنه-، كان فرض للمهاجرين الأولين أربعة آلاف في أربعة، وفرض لابن عمر ثلاثة آلاف وخمس مائة، فقيل له هو من المهاجرين، فلِمَ نقصته من أربعة آلاف؟ فقال: "إنما هاجر به أبواه، يقول: ليس هو كمن هاجر بنفسه".
قال ابن عثيمين -رحمه الله-: "وهذا يدلُّ دلالة عظيمة على شدة ورع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. وهكذا يجب على مَن تولَّى شيئًا من أمور المسلمين ألا يحابي قريبًا لقربه، ولا غنيًّا لغناه، ولا فقيرًا لفقره، بل ينزل كلَّ أحد منزلته، فهذا من الورع والعدل، ولم يقل عبد الله بن عمر: يا أبت، أنا مهاجر، ولو شئت لبقيت في مكة؛ بل وافق على ما فرضه له أبوه؛ ذرية بعضها من بعض في الورع.
وروى ابن أبي الدنيا في كتاب الورع عن ابن السماك قال: "كان عمر بن عبد العزيز يقسم تفاحًا بين الناس، فجاء ابن له وأخذ تفاحة من ذلك التفاح، فوثب إليه ففك يده؛ فأخذ تلك التفاحة؛ فطرحها في التفاح، فذهب إلى أمه مستغيثًا، فقالت له: ما لك أي بني؟ فأخبرها؛ فأرسلت بدرهمين فاشترت تفاحًا، فأكلت وأطعمته، ورفعت لعمر، فلما فرغ مما بين يديه دخل إليها، فأخرجت له طبقًا من تفاح، فقال: من أين هذا يا فاطمة؟ فأخبرته فقال: "رحمك الله!، والله إن كنتُ لأشتهيه".
وعن فاطمة بنت عبد الملك قالت: "اشتهى عمر بن عبد العزيز يوما عسلاً فلم يكن عندنا، فوجهنا رجلاً على دابة من دواب البريد إلى بعلبك، فأتى بعسل، فقلنا يومًا: إنك ذكرت عسلاً وعندنا عسل، فهل لك فيه؟ قال: نعم. فأتيناه به فشرب، ثم قال: من أين لكم هذا العسل؟ قالت: قلت: وجهنا رجلاً على دابة من دواب البريد بدينارين إلى بعلبك فاشترى لنا عسلاً. قالت: فأرسل إلى الرجل فجاء، فقال: انطلق بهذا العسل إلى السوق، فبعه، فاردد إلينا رأس مالنا، وانظر الفضل، فاجعله في علف دواب البريد، ولو كان ينفع المسلمين قيءٌ لتقيأت".
رحمهم الله، فكم بين ورع السلف وهلع الخلف!!
اللهم قنا شر هذا المال، وارزقنا منه ما يكفينا ولا يطغينا.