العربية
المؤلف | سعود بن ابراهيم الشريم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحديث الشريف وعلومه - المنجيات |
ما أحوج الأمة المسلمة في كل عصر وفي كل مصر إلى الإمام العادل، وهو صاحب الولاية العظمى، الإمام العادل هو الذي يتبع أمر الله بوضع كل شيء في موضعه من غير إفراط ولا تفريط، فهو أبو الرعية والرعية أبناؤه، يعلِّم جاهلهم، ويواسي فقيرهم، ويعالج مريضهم، يرى القوي ضعيفاً حتى يأخذ الحق منه، والضعيف قوياً حتى يأخذ الحق له، وإن تحقيق العدل أمام الرغبات والمصالح والأهواء أمر في غاية الصعوبة، إذ حلاوته مرة وسهولته صعبة، وحينما يستطيع تخطي تلك العقبات فإن معنى ذلك أن فيه من الإيمان والتقوى ما يجعله مستحقاً لأن يكون واحداً من هؤلاء السبعة.
الخطبة الأولى:
الحمد لله الكريم الوهاب، خالق البشر من تراب، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو إليه أدعو وإليه مآب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل من صلى وأناب، صلوات الله وسلامه وعليه على آله وصحبه أولي النهى والألباب.
أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، اتقوا ربكم حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واحذروا المعاصي فإن أقدامكم على النار لا تقوى.
أيها الناس! في الليلة الظلماء يفتقد البدر، وفي لهيب الشمس وسموم الحر يستطلب الظل وتستجلب النفحات، وما أروع العدل حين يطغى الجور! والإنصاف حين يعلو الغمط! وما أعجب الشاب حينما ينتصر على الصبوة المتفتقة! ويا لعظم الحظ ووطأة التوفيق لمن أوقف قلبه فبات معلقاً في كل مسجد! وما أهنأ الرجلين إذا يتحابان في الله فلا يجتمعان إلا عليه، ولا يفترقان إلا عليه.
ويا حبذا العفة والخشية حينما تظهر المغريات وتضمحل العقبات، وما أقوى صدقة السر في إطفاء غضب الرب! وما أعذب الدموع الرقراقة في الخلوة حينما تسيل على خد الأسيف العامي!
أيها المسلمون! إن سنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- هي المنبع الثري للهدى والحق والنور، وهي المعين الذي لا ينضب، والحق الذي لا يعطب، وإن الوقوف الدقيق عند حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المنبعث من مشكاة النبوة؛ ليحمل النفس المؤمنة على أن تعرف أسراره وتستضيء بأنواره، فلا ينفك يشرح للنفس ويهديها بهديه فتؤمن بالنبي المصطفى والرسول المجتبى صلوات الله وسلامه عليه، وكلما ذكر كلام المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فكأنما قيل من فمه للتو، كلام صريح لا فلسفة فيه، يغلب الأثرة والشهوة والطمع.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق فأخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه".
عباد الله! ما أحوجنا جميعاً إلى أن نستظل في ظل الرحمن في يوم عصيب يعظم فيه الخطب! ويشتد فيه الكرب، يوم أن تدنو الشمس من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، رحماك يا رب، عفوك يا الله.
ألا ما أحوج الأمة المسلمة في كل عصر وفي كل مصر إلى الإمام العادل، وهو صاحب الولاية العظمى، وكذا كل من ولي شيئاً من أمور المسلمين فعدل فيه، الرعية عبيد يستعبدهم العدل، العدل مألوف وهو صلاح العالم، الإمام العادل هو الذي يتبع أمر الله بوضع كل شيء في موضعه من غير إفراط ولا تفريط، فهو أبو الرعية والرعية أبناؤه، يعلِّم جاهلهم، ويواسي فقيرهم، ويعالج مريضهم، يرى القوي ضعيفاً حتى يأخذ الحق منه، والضعيف قوياً حتى يأخذ الحق له، وإن تحقيق العدل أمام الرغبات والمصالح والأهواء أمر في غاية الصعوبة، إذ حلاوته مرة وسهولته صعبة، وحينما يستطيع تخطي تلك العقبات فإن معنى ذلك أن فيه من الإيمان والتقوى ما يجعله مستحقاً لأن يكون واحداً من هؤلاء السبعة.
ولقد ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة فأرسل إلى الحسن البصري أن يكتب إليه بصفة الإمام العادل، فكان مما كتب له الحسن : اعلم يا أمير المؤمنين! أن الله جعل الإمام العادل قوام كل مائل، وقصر كل جائر، وهو كراع الإبل على شعيره الذي يرتاد لها أطيب المراعي، ويذودها عن مراتع الهلكة، ويكنها من أذى الحر والقر، هو كالأم الشفيقة البرة بولدها، حملته كرهاً ووضعته كرهاً، تسهر بسهره، وتسكن بسكونه، والإمام العادل يا أمير المؤمنين! وصي اليتامى، وخازن المساكين، وهو كالقلب بين الجوارح، تصلح الجوارح بصلاحه، وتفسد بفساده.
اللهم أظلنا في ظلك يوم لا ظل إلا ظلك.
أيها الناس! إن الشاب المسلم الذي يستحق أن يكون واحداً من هؤلاء السبعة هو ذاك الفتى اليافع الذي تعلق قلبه بربه، ولما يشب تتجاذبه مزالق الرغبات النفسية ومتطلبات الجسد، ترق عنده الحياة فتسحره بالنظرات المغرية، وتجمع له لذائذ الدنيا في لحظة مسفرة أو شبهة عارضة.
الشباب الذي يعيش للهوى وأحلام اليقظة (وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [طه:131].
الشاب شأنه شأن غيره من الشباب الذين تعتريهم في هذا السن أنواع من التصرفات غير المتزنة، والذين هم أحرى في أن يقعوا فريسة لمثل هذه الدركات اللا مسئولة.
إن للشباب مرحلة هي من أخطر مراحل الحياة؛ لأنها مرحلة قوة بين ضعفين: ضعف الطفولة، وضعف الشيخوخة. ولما كان الشباب من العمر، وسيسأل الإنسان عن عمره؛ فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خص الشباب في قوله: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: وذكر منها وعن شبابه فيم أبلاه" (رواه الترمذي).
إن من أكرم الناس نفساً، وأنداهم كفاً، وأطيبهم قلباً، وأصدقهم عزماً: الشاب المسلم النقي التقي، الذي يجل الكبير ويرحم الصغير، لا تسمعه إلا مهنئاً أو معزياً، أو مشجعاً أو مسلياً، ولا تراه إلا هاشاً باشاً، طلق الوجه مبتسماً، يبعده إيمانه بربه عن طيش الصغر وإصرار الكبر، فهو الجندي في الميدان، والتاجر في السوق، والعضو الفعال في الجمعيات والمنتديات الخيرة (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً) [الكهف:13]، (قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ) [الأنبياء:59-60]، (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ) [يوسف:30].
إن مما يساعد الشاب على عبادة ربه صفاء المحضن ممثلاً بالبيت والمدرسة والمجتمع، وكذا قيام المحضن بواجبه من توجيه وإرشاد حتى يشب الشباب عن الطوق ألا "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"، ولن يستغني شاب عبد ربه عن مطالعات حديثة في سير أسلافه إبان شبابهم؛ كابن الزبير وابن عباس وأبي هريرة وابن عمر وأسامة وأنس والحسن بن علي والحسين بن علي رضي الله عنهم أجمعين، وجدير بشاب هذا شأنه أن يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
عباد الله! المساجد بيوت الله وأماكن عبادته، وهي خير بقاع، يكرم الله عمارها وزواره فيها، ويثيب على الخطى إليها (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) [النور:36-37]
ومن هنا كان فرح الباري جل وعلا بزوار المساجد، يقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "ما توطن رجل المساجد للصلاة والذكر؛ إلا تبشبش الله تعالى إليه كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم إذا قدم عليهم" (رواه ابن ماجة وابن خزيمة وغيرهما وإسناده صحيح).
ولم يكن للمسلمين في القرون الأولى من معاهد ولا مدارس إلا المساجد، ناهيكم عن خمس صلوات في اليوم والليلة، ففي المسجد يدرس القرآن وتفسيره والسنة وفقهها، واللغة وأصول الدين، وأين مجلس إمام دار الهجرة ، والحسن البصري ، وأبي حنيفة ، والشافعي ، وأحمد ، إن لم يكن في المسجد، أما إنه لو رجع لبيوت الله ما كانت عليه من إقامة الشعائر واجتماع المسلمين فيها؛ لتعلقت بها قلوب الكثيرين ممن أعرضوا عنها وأُعرضوا عنها واستخفوا بشأنها (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ) [البقرة:114] اللهم أظلنا تحت ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك.
عباد الله! إن المؤمن في هذه الحياة يجد صعوبة بالغة في أن يعيش وحيداً فريداً دون صديق أو مؤانس، صديق يناجيه، وخل يلاقيه ويواسيه، يشاطره مسرته ويشاركه مساءته، لقد أصبحت علاقات الكثيرين من الناس في هذا العصر خداج غير تمام، تقوم لغرض وتقعد لغرض، والإسلام دين الأخوة والمحبة والتآلف (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) [الأنفال:63] الحب في الله والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان، وبه تقع الألفة.
المتحابون في الله دائمة صحبتهم، باقية مودتهم، لا تزيدها الأيام إلا وثوقاً وإحكاماً؛ لخلوصها من الإثم والأغراض الدنيئة (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف:67]، يقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "أيها الناس! اسمعوا واعقلوا واعلموا أن لله عز وجل عباداً ليسوا بأنبياء، ولا شهداء، يغبطهم النبيون والشهداء على منازلهم وقربهم من الله، فجثا رجل من الأعراب من قاصية الناس فقال: يا رسول الله! ناس من المؤمنين ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء على مجالسهم وقربهم؟! انعتهم لنا. فسر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسؤال الأعرابي ثم قال: هم ناس من أفناء الناس ونوازع القبائل لم تصل بينهم أرحام متقاربة، تحابوا في الله وتصافوا، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسهم عليها، فيجعل وجوههم نوراً، وثيابهم نوراً، يفزع الناس يوم القيامة ولا يفزعون، وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون" (رواه أحمد ورجاله ثقات).
اللهم أظلنا في ظلك يوم لا ظل إلا ظلك.
عباد الله! إذا ما يسرت للمسلم سبل الغواية ودعت إليها الدواعي والمغريات دعاً؛ فهو بحاجة ماسة إلى أن يرى برهان ربه، وأن يسطع نور الهداية في فؤاده، وليس هناك امتحان أقسى من امتحان يتغلب فيه المرء على صبوته وغريزته، تبذل له حسناء نفسها وهو في فحولة الرجولة، وهي في حالة رفيعة من الجمال والجاه، فاتنة عاشقة، مختلية متعرضة، منكشفة متهالكة، فحينها لا ينبغي أن ييأس الرجل، إذ إن مطارق الخوف من الله ومراقبته تعينه على أن يرى برهان ربه، وتذكره بقوله تعالى عن يوسف: (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ) [يوسف: 23]، لقد اجتمع ليوسف عليه السلام من الدواعي لإتيان الفاحشة الشيء الكثير، فلقد كان شاباً وفي الشباب ما فيه (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا) [يوسف:24] وقد غلقت الأبواب وهي ربة الدار، وتعلم بوقت الإمكان وعدم الإمكان، فكان ماذا؟ (قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) [يوسف:23] استعاذة وتنزه واستقباح، لماذا؟ وما هو السبب؟
لأنه يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإن الله يراه، فأراه الله برهان ربه (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات:40-41].
"كان كفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله، فأتته امرأة فأعطاها ستين ديناراً على أن يطأها، فلما أرادها على نفسها ارتعدت وبكت فقال: ما يبكيك؟ قالت: لأن هذا عمل ما عملته، وما حملني عليه إلا الحاجة. فقال: تفعلين أنت هذا من مخافة الله؟ فأنا أحرى، اذهبي فلك ما أعطيتك، والله ما أعطيه بعدها أبداً. فمات من ليلته فأصبح مكتوباً على بابه: إن الله قد غفر للكفل؛ فعجب الناس من ذلك" (رواه الترمذي وحسنه الحاكم وصححه)..
فاتقوا الله معاشر المسلمين، وتخلقوا بأخلاق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، واهتدوا بهديه تفلحوا، ويتحقق لكم ما وعدكم به من الاستظلال في ظل الرحمن يوم لا ظل إلا ظله.
اللهم أظلنا تحت ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه إنه كان للأوابين غفاراً.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، وأصحابه ومن اهتدى بهديهم واتبع سنتهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -أيها المسلمون- واعلموا أن من الناس من أنعم الله عليه بشيء من المال، فما أنكر فضل الله عليه، بل هو ينفق بسخاء ويتسلل إلى المساكين لواذاً، يعلم أن من الفقراء من يحرجه علانية العطاء، فذاك رجل تخطى عقبة الجشع، أنقذه الله ممن عبدوا الدينار والدرهم، فكانوا أحلاس كفر وإمساك، سجاياهم المتكررة منع وهات، بل هات وهات، قد قضوا على أنفسهم أن يعيشوا مرضى بالصحة، فقراء بالغنى، مشغولين بالفراغ، لكنهم مع ذلك لا يجدون في المال معنى الغنى، إذ كم من غني يجد وكأنه لم يجد إلا عكس ما كان يجده، وما علموا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اليد العليا خير من اليد السفلى" (متفق عليه).
إن النفس بطبعها تميل إلى إبراز عملها لا سيما الصدقة، كل هذا لأجل أن تُحمد، فإذا ما جاهد المرء نفسه حق له أن يكون من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ورحم الله مالك بن دينار حيث يقول: قولوا لمن لم يكن صادقاً: لا يتعنى. ولقد قال ابن عائشة قال أبي: سمعت أهل المدينة يقولون: ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي بن الحسين -رضي الله عنه-.
عباد الله! ما أسعدها من لحظات يجلسها المرء خالياً فيها مع نفسه، يناجي ربه وخالقه، فينهمر دمعه عذباً صافياً خالياً من لوث الرياء، وإن نيران المعاصي التي تأتي على قلب المسلم فتحيله إلى فحم أسود كالكوز مجخياً، لا يطفئها إلا تلك الدموع التي تنهمر على إثر ذكر الخالق وخشيته، ولقد كان ابن سيرين رحمه الله تعالى يضحك بالنهار، فإذا جن الليل فكأنه قتل أهل القرية من شدة البكاء!
ولقد كان أيوب السختياني رحمه الله ربما حدث بالحديث فيرق فيتمخط ويقول: ما أشد الزكام. يظهر أنه مزكوم لإخفاء البكاء؛ رجاء أن يكون من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
وقام محمد بن المنكدر ذات ليلة فبكى فاجتمع عليه أهله ليسألوه عن سبب بكائه فاستعجم لسانه، فدعوا أبا حازم فلما دخل هدأ بعض الشيء فسأله عن سبب بكائه فقال: تلوت قول الله: (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) [الزمر:47] فبكى أبو حازم ، وعاد محمد بن المنكدر إلى البكاء، فقالوا له: أتينا بك لتخفف عنه فزدته بكاءً!
روى النسائي وأحمد من حديث عقبة بن عامر قال: "قلت: يا رسول الله! ما النجاة؟ قال: "أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك".
فاتقوا الله -عباد الله- واعلموا أنه لا بد من الخوف والبكاء، إما في زاوية التعبد والطاعة، أو في هاوية الطرد والإبعاد، فإما أن تحرق قلبك -أيها المسلم- بنار الدمع على التقصير، وإلا فاعلم أن النار أشد حراً (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [التوبة:82]
فانظروا عباد الله! إلى البكائين في الخلوات، قد نزلوا على شواطئ أنهار دموعهم، فلو سرتم عن هواكم خطوات لاحت لكم قيامتهم ولسمعتم بكاءهم ونشيجهم، ولسان حالهم يقول:
نزف البكاء دموع عينك فاستعر | عيناً لغيرك دمعها مدرارُ |
من ذا يعيرك عينه تبكي بها | أرأيت عيناً للدموع تعار؟! |
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم ارض عن صحابته الأربعة: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وعن سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، اللهم أظلنا تحت ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك يا أرحم الراحمين، اللهم ولِّ على المسلمين خيارهم، واكفهم شرارهم، اللهم آمنا في أوطاننا، واصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.