العربية
المؤلف | علي عبد الرحمن الحذيفي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - صلاة العيدين |
إن يومكم هذا يوم فضيل، وعيد جليل، يتقرب فيه الحجاج إلى الله بالقرابين، وقد شرع لكم الأضاحي؛ إحياءً لسُنَّة أبينا إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، وهذا اليوم من أفضل الأيام عند الله، كما جاء في الحديث، وأفضل ما تقرَّب به العبد عند الله إراقة دم فيه، وأنتم في هذا اليوم في إحسان الله وكرمه...
الخطبة الأولى:
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد.
الله أكبر كلَّما أنزَل الرب -سبحانه- على العباد من النعم في مواسم الخيرات، الله أكبر كلما تجاوَز الرحمنُ في عرفات عن الذنوب العظام والسيئات، الله أكبر كلما سبَّح مسبِّح بحمد الله من المخلوقات، الله أكبر حتى يرضى ربنا -تبارك وتعالى-، الله أكبر بعد الرضا تكبيرًا يستغرق كلَّ الأوقات، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله، والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، رضا نفسِه وزنةَ عرشِه ومدادَ كلماتِه، وعددَ خلقِه، الحمد لله الرحيم الرحمن، الحمد لله عظيم الشان، شديد البرهان قوي الأركان، ما لم يشأ لم يكن، وما شاء كان، الحمد لله ذي العز والسلطان، قديم الإحسان بالمعروف الذي لا ينقطع في كل زمان، أحمد ربي وأشكره على نعمه التي نعلم والتي لا نعلم، فله الفضل والامتنان، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، كما شَهِدَ لنفسه وشَهِدَ له أولو العلم والإيمان، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه، المبعوثُ إلى الإنس والجان، المؤيَّد بالقرآن اللهم صلِّ وسلِّم وَبَارِكْ على عبدِكَ ورسولِكَ محمدٍ، وعلى آله وصحبه، الذين نصروا دينَ الله بالجهاد والحجة والبرهان.
أما بعد: فاتقوا الله -تبارك وتعالى- بالعمل بما يرضيه، والبعد عمَّا يُغضِبه ويؤذيه، فقد كتَب ربُّكم أنه لا يشقى بطاعته أحدٌ، ولا يسعد بمعصيته أحدٌ، وتاريخ الرسل -عليهم الصلاة والسلام- وأممِهم شاهدٌ بذلك، وكفى بالله شهيدًا.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أيها المسلمون: تذكَّروا أنواع نعم الله وكثرة إحسانه إلى الخلق، قال الله -سبحانه-: (وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)[إِبْرَاهِيمَ: 34]، وأعظمُ النعمِ وأجلُّها نعمةُ الإيمان؛ فبالإيمان يعلو الإنسان عندَ ربِّه في الدرجات، ويدخل به الجناتِ، قال تعالى: (وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)[إِبْرَاهِيمَ: 23]، وفي الحديث: "لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة مؤمنة"(رواه أحمد والترمذي عن علي -رضي الله عنه-)، ومَنْ فقَد الإيمانَ فلا تنفعه الدنيا بما فيها من الملذات، قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ)[مُحَمَّدٍ: 12]، الإيمان ثوابُه وجزاؤُه أحسنُ الجزاء في الحياة، وأفضل وأحسن الثواب الأبدي السرمدي بعد الممات، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا)[الْكَهْفِ: 107-108].
ثم تأتي بعد نعمة الإيمان نعمة القرآن العظيم، القرآن الهادي والدالّ على كل الفضائل والخيرات والمكرُمات، والزاجر عن كل الرذائل والشرور والمحرمات، قال تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)[الْإِسْرَاءِ: 9]، القرآن معجزة الرسول العظمى، الذي أعجَز البشرَ منذ نزَل أن يأتوا بسورة مثل سورة الكوثر، ذات العشر كلمات، فقامت هذه الأمةُ بحقِّه؛ فحفظَتْه وأحصَتْ حتى كلماته وآياته وحروفه ورسمه وضبطه، قال تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)[الْبَقَرَةِ: 23-24]، أنزَلَه اللهُ رحمةً؛ قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)[الْأَنْبِيَاءِ: 107]، ثم تأتي بعد نعمة القرآن النعمةُ الدينيةُ والدنيويةُ، إلى أصغر نعمة ممَّا لا يُحصِيه إلا اللهُ -سبحانه-، وليس في نعم الله صغير.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد.
أيها المسلمون: إن اللهَ أتمَّ عليكم إحسانه في أموركم كلها، الدينية والدنيوية، قال تعالى: (كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ)[النَّحْلِ: 81]، وقال تعالى: (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)[الْبَقَرَةِ: 150]، فمنَّ اللهُ عليكم معشر المسلمين بالحسنات، وصرَف عنكم العقوبات؛ لتُحسِنوا إلى أنفسكم بالطاعات، ومجانَبة السيئات، ولتُحسِنوا إلى الخلق بما تقدِرون عليه من أنواع البر والمعونات، فقال -تبارك وتعالى-: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[الْبَقَرَةِ: 195]، وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ)[النَّحْلِ: 90]، وقال سبحانه: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ)[الْقَصَصِ: 77]، وعن أنس -رضي الله عنه-: "الخلقُ عيالُ اللهِ، فأحبُّ الخلقِ إلى الله أحسنُهم لعياله"(رواه أبو يعلى في مسنده، والبزار والطبراني عن ابن مسعود)، وعن أبي -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق"(رواه مسلم).
أيها الناس: إن دينكم الإسلامي دين الإحسان، والرحمة والكمال وعز الدنيا وفوز الآخرة، فأعظم إحسان من الله إلى العباد، وأعظم رحمة وأعلى منة وخير تشريعات القرآن والسنة، ففرائضه وأوامره هي الإحسان من الرب -تبارك وتعالى-، ونواهيه ومحرماته هي الرحمة من الله للإنسان، قال تعالى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ)[النُّورِ: 21]، وقال تعالى: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)[الْقَصَصِ: 46]، هذه شهادة ألا إله إلا الله، وشهادة أن محمدًا رسول الله، ركن الدين الأول الأقوى الأعظم، الأساس لكل تشريع في الإسلام، لا إله إلا الله، توحيد للمعبود -جل وعلا-، وشهادة أن محمدًا رسول الله توحيد للمتبوع، فلا يُعبَد اللهُ إلا بشرعه -سبحانه وتعالى-، مع محبته، ولا يُقدَّم إلا قولُه على قول غيره كائنًا من كان، ولا يرتاب في أخباره، ولا يكون التحاكم إلا إلى كتابِه وسُنَّتِه، فمَنْ آمَن بالشهادتين بقلبِه وصدَّق بها وأقرَّ بها بلسانه وانقادت للعمل بها جوارحُه فقد فاز بإحسان الله الأعظم، وَمَنَّ اللهُ عليه بمفتاح الجنة، عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَالجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ الجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ العَمَلِ"(رواه البخاري ومسلم)، وعن رفاعة الجهني -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أشهد عند الله لا يموت عبد يشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ، وأني رسول الله صدقًا من قلبه ثم يسدِّد إلا دخَل الجنةَ"(رواه أحمد)، وأما مَنْ قال الشهادتينِ بلسانه عادةً وتقليدًا وهو مكذِّب لهما أو لأحدهما وعمل ما يضادهما فإن الشهادة لا تنفَعُه، كما لم تنفع المنافقينَ، قال سبحانه: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)[الْمُنَافِقُونَ: 1]، وقال تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ)[النِّسَاءِ: 145]، فلا بد إذن من الصدق واليقين والشهادة والعمل بما توجبه من شرائع الإسلام، ومعناها: لا معبود بحق إلا الله، والبراءة مما عُبِدَ من دون الله، ومن المشركين بالله، قال تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ)[الْمُمْتَحَنَةِ: 4]، فأيُّ إحسانٍ أعظمُ من إحسان الله إلى العباد بالتوحيد؟! وأيُّ تكريمٍ أكبرُ من تكريم الله للإنسان، بتحريره من رق العبودية لِمَا سوى الله -عز وجل-؟!
وكلُّ عبادةٍ لغير الله رقٌّ للعابد، وضررٌ لا نفعَ فيه بوجه من الوجوه، قال تعالى: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا)[مَرْيَمَ: 81-82]، فالموحِّد لربه هو أقوى الخلق؛ لأنه عبدٌ خالصٌ للرب القوي المتين، الذي له الدنيا والآخرة، والمشرِكُ أضعفُ خلقِ اللهِ؛ لأنه عبَد مخلوقًا ميتًا، قال تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 41].
وهذه الصلاة أحسَن اللهُ بها للعباد؛ كرامة من الرحمن لهذه الأمة، فرضها الله بكلامه لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- ليلة المعراج؛ فهي ضامنة بشروطها للجنَّة، قال تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ)[الْمَعَارِجِ: 34-35]، قد فرضها الله في كل دين شرعا، وهي زكاة البدن، وطهارته، قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى)[الْأَعْلَى: 14-15]، وقال تعالى: (إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ)[فَاطِرٍ: 18]، والصلاة ضامنة للرزق الحلال، قال تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى)[طه: 132].
وكل عضو للبدن يأخذ حظَّه منها، عن أبي ذر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: "يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة -أي: يصبح على كل مفصل من أعضاء البدن صدقة، فكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى"(رواه مسلم).
فإذا أقام العبد الصلاة أحسن إلى نفسه؛ بالثناء على الله بالفاتحة، فعظَّم أجرَه، وسأل الله أعظم المطالب وهي الهداية إلى الصراط المستقيم، وأحسن بالصلاة إلى كل عبد صالح في السموات والأرض، بالسلام عليه، وكافأ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- ببعض ما يجب له، بالصلاة والسلام عليه، إلى غير ذلك من الدعوات المباركة، والحمد لله على نعمه.
والمالُ إحسانٌ من الله -سبحانه- إلى الأغنياء؛ لينتفعوا به، ويثمروه في المنافع المتبادَلة، وفي المشارع الدارَّة الخيِّرة، التي تحفظ المالَ وتزيده، وترقى بالمجتمع، وتسد حاجاته، وفريضة الزكاة إحسان إلى الأغنياء بمضاعفة الثواب، والنجاة من عظيم العقاب، وحفظ للمال من الآفات والزيادة فيه بالبركات، وإحسان إلى الفقراء والمساكين والمستحقِّين لها من بقية الأصناف، وما أنفَق أحدٌ واجبًا أو مستحبًّا إلا أخلفه الله أضعافا باليقين، قال تعالى: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)[سَبَأٍ: 39]، عن أبي هريرة رضي الله -تعالى- عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله"(رواه مسلم والترمذي).
وأين أنتم من تذكُّر إحسان الله العظيم عليكم بالصيام معشر المسلمين، الذي أعدكم الله به للتقوى ولخشيته، وقال الله فيه الحديث القدسي: "الصوم لي وأنا أجزي به"، جمع الله في شهره أنواع البر والإحسان للنفس وللناس، ومن رحمة الله بنا وإحسانه إلينا؛ أن أمر الخليل أبانا إبراهيم أن يبني الكعبة، ويعينه إسماعيل -عليهما الصلاة والسلام-، قال تعالى: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)[الْحَجِّ: 26]، فهو لأهل الأرض كالبيت المعمور الذي تطوف به الملائكة في السماء السابعة بحياله، لو سقط لوقع على الكعبة، قال الله -تعالى-: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ)[الْمَائِدَةِ: 97]؛ أي: سببًا في منافع الناس ومصالحهم، وقال عز وجل: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ)[آلِ عِمْرَانَ: 96]، فبركتُه عمَّت الأرض بأثر العبادة والقرابين، وأوقَف جبريل -عليه الصلاة والسلام- إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- على المناسك والمشاعر كلها، حتى عرَفَها، وقام بهذه المناسك أتمَّ القيام، ووقف بهذه المشاعر استجابة من الله -تعالى- لدعاء إبراهيم وإسماعيل -عليهم الصلاة والسلام-؛ (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا)[الْبَقَرَةِ: 128]، وسيد البشر؛ محمد -صلى الله عليه وسلم- بعث بملة إبراهيم -عليه السلام- مقتديًا به في قوله: "خذوا عني مناسككم"، فأراد الله أن يربط هذه الأمة آخِرَها بأولها؛ لتكون على الإرث العظيم بهذا الدين، وليبقى هذا البيت العتيق منارَ هدًى للعالمينَ، وليبقى تاريخ أمة الإسلام عزيزًا منيعًا خالدًا متصلًا بالآخرة، وأنتم اليوم في عيد الأضحى، سمَّاه اللهُ يومَ الحجِّ الأكبر؛ لكثرة أعمال الحج فيه، ومن رحمة الله -تعالى- أنه يأمر الناس كلهم بالعمل الصالح، فإذا لم يتمكن الناس كلهم من ذلك العمل شرَع مثلَ ذلك لمن لم يتمكَّن؛ فشرَع صيامَ عرفة لمن لم يحج، وشرَع الأضحيةَ مثل قرابين الحج، اقتداء بسيدنا وأبينا إبراهيم -عليه السلام- لما أمر بذبح ابنه قربة إلى الله، فشرع في الذبح فعلم الله عزمه، ففدى ابنه بذبح عظيم، والأضحية إحياء لسُنَّته.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أيها المسلمون: لقد تبيَّن لكم أن ما أمَر اللهُ به كله، إحسان من الله، فبر الوالدين، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر وصلة الأرحام، وجميع الأوامر إحسان للقائم بها، وإحسان للخلق، كما أن ما نهى الله عنه كله إحسان من الله، وكف شر وضرر عن المكلَّف وعن الخلق، كالشرك بالله، وقتل النفس والزنا وعمل قوم لوط، وقطيعة الأرحام والربا، والظلم... إلى غير ذلك مما حرمه الله -سبحانه وتعالى-، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)[الْأَنْفَالِ: 24]، وقال تعالى: (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ * فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ)[الشُّورَى: 47-48].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
الله أكبر الله لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
الخطبة الثانية:
الحمد لله العزيز الحميد، ذي العرش المجيد، فعال لما يريد، أحمد ربي وأشكره على نعمه التي نعلم والتي لا نعلم، وأثني عليه الخير كله؛ فهو أهل الحمد والشكر، وأسأله من فضله المزيد، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وهو على كل شيء شهيد، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله، المفضل بالقرآن المجيد، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه والمتمسِّكين بحبل الله المتين.
أما بعد: فاتقوا الله بفعل ما أمَر، واجتناب ما نهى عنه وزجَر، تفوزوا بأعظم الأجر.
عباد الله: إن يومكم هذا يوم فضيل، وعيد جليل، يتقرب فيه الحجاج إلى الله بالقرابين، وقد شرع لكم الأضاحي؛ إحياءً لسُنَّة أبينا إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، وهذا اليوم من أفضل الأيام عند الله، كما جاء في الحديث، وأفضل ما تقرَّب به العبد عند الله إراقة دم فيه، وأنتم في هذا اليوم في إحسان الله وكرمه، تأكلون من الأضاحي، والحجاج من القرابين، ويجزئ من الإبل أضحية ما تم له خمس سنين، ومن البقر ما تم له سنتان، ومن المعز ما تم له سنة، ومن الضأن ما تم له ستة أشهر، وتُنحَر الإبلُ قائمةً معقولةَ اليد اليسرى، ويُذبَح ما عداها مضطجعة إلى جنبها الأيسر متوجهة إلى القبلة، ويقول عند الذبح: بسم الله؛ وجوبا، ويزيد "الله أكبر" استحبابا اللهم هذا منك ولك.
ولا تجزئ في الأضحية المريضة البيِّن مرضُها، ولا العوراء ولا الضعيفة التي لا مخَّ فيها، ولا ما سقط سنُّها، ولا مقطوعة الأذن، ولا مكسورة القرن، ويتخيَّرها صحيحة سليمة، سمينة، وتجزئ الشاة عن الرجل وأهل بيته، والبقرة والبدنة كل منهما عن سبعة، ويسن أن يأكل منها ويهدي ويتصدق، ووقت الذبح بعد الصلاة إلى يومين بعد العيد أو ثلاثة على الأصح.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
بسم الله الرحمن الرحيم: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)[الْكَوْثَرِ: 1-3].
أعاد الله علي وعليكم من بركات هذا العيد، وجعَلَنا من الآمنين يوم الوعيد.
أيها الناس: لا تغرَّنَّكم الدنيا وزخرفها، فإنها إلى زوال، ولا تخدعنَّكم الآمال، وتذكروا من صلى معكم البال، من الأهل والإخوان، فأنتم على طريقهم سائرون.
عباد الله: اشكروا الله واحمدوه على نعمة الأمن والاستقرار، وتيسُّر الأرزاق؛ فإن هذه هي مطالب الحياة، التي لا غنى للإنسان عنها.
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، وقد قال صلَّى الله عليه وسلَّم: "مَنْ صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى اللهُ عليه بها عشرًا"، فصلُّوا وسلِّموا على سيد الأولين وإمام المرسلين.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وسلم تسليما كثيرا، اللهم وارض عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، اللهم وارض عن أمهما البتول فاطمة بنت الرسول، اللهم صل وسلم على بقية العشرة، من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وعن الذين بايعوا نبيك تحت الشجرة، اللهم وارض عن الصحابة أجمعين، إنك على كل شيء قدير.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، اللهم دمر أعداءك أعداء الدين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، اللهم أذل البدع كلها، التي تضاد دينك الذي ارتضيته لنفسك، وأكرمت به هذه الأمة، يا رب العالمين.
اللهم اغفر لموتانا وموتى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين، يا ذا الجلال والإكرام، اللهم تقبل حسناتهم، وتجاوز عن سيئاتهم يا أرحم الراحمين، اللهم احفظ بلادنا من كل شر ومكروه، اللهم احفظ جنودنا، واحفظ حدودنا يا رب العالمين، اللهم تول أمر كل مسلم ومسلمة، وأمر كل مؤمن ومؤمنة، اللهم يسر أمورهم يا رب العالمين، واشرح صدورهم، اللهم أعذنا وذرياتنا من إبليس وشياطينه وأوليائه يا رب العالمين إنك على كل شيء قدير.
اللهم أعذ المسلمين من شر السحرة، اللهم أعذنا والمسلمين من شر السحرة يا رب العالمين، إنك على كل شيء قدير.
اللهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم ادفع عنا الغلا والوبا والزنا والزلازل والمحن، وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم ارفع هذه الجائحة، عن البلاد والعباد، برحمتك يا أرحم الراحمين.
(رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا)[الْبَقَرَةِ: 286]، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.