العربية
المؤلف | حسان أحمد العماري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - |
من أعظم الغفلة أن يعلم الإنسان أنه يسير في هذه الحياة إلى أجله، ينقص عمره، وتدنو نهايته، وهو مع ذلك لا يتجهّز ليوم المعاد، بأعمال صالحة تُبَلّغه رضوان الله وجنّته فتجده مفرطًا في العبادات؛ فإذا ما جاءت مواسم العبادات وجدته مقصراً ومضيّعاً لأيامه....
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أيها المسلمون/ عباد الله: تقوم الشركات والمؤسسات نهاية كل عام بجرد ممتلكاتها ورفع تقاريرها وحسابها المالي، فإذا كان أداء هذه الشركات والمؤسسات خلال العام، أداءً جيداً منضبطاً ونفذت واجباتها وخططها كما ينبغي، كانت أرباحها جيدة، وأعمالها مستمرة ومشاريعها في حال توسُّع وتنوُّع، كما أنها تقوم بتقييم أداء موظفيها خلال العام والأعمال التي أنجزوها وما هو المقبول منها، فتكافئ المحسن منهم وتقوم بتأنيب المقصر وتوجّه له الإنذار ولفت النظر، وربما تستغني عنه بسبب تقصيره وقد تعطيه فرصة لتجاوز التقصير وإصلاح الخلل الذي وقع فيه.
وها نحن في شهر شعبان، وهو الشهر الختام الذي تُرْفَع فيه الأعمال كل عام، ولذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم أكثر أيامه، وعندما سئل عن ذلك أخبر -عليه الصلاة والسلام- أنه شهر تُرْفَع فيه الأعمال، ورفع الأعمال إلى الله على ثلاث درجات؛ الدرجة الأولى: رفع الأعمال كل يوم فقد جاء في حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: "قام فينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخمس كلمات، فقال: "إن الله -عز وجل- لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يَخفِض القسط ويَرْفَعه، يُرفَع إليه عملُ الليل قبل النهار، وعملُ النهار قبل الليل..."(رواه مسلم).
قال المُنَاوي: "معناه يُرفَع إليه عملُ النهار في أول الليل الذي بعده، وعملُ الليل في أول النهار الذي بعده؛ فإن الحَفَظة يصعدون بأعمال الليل بعد انقضائه في أول النهار، ويصعدون بأعمال النهار بعد انقضائه في أول الليل".
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون"(البخاري).
والدرجة الثانية: تُرفع كل يوم اثنين وخميس؛ كما جاء في حديث أبي هريرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "تُعرَض أعمال الناس في كلِّ جمعةٍ -أي كل أسبوع- مرتين، يوم الاثنين ويوم الخميس، فيُغفَر لكل عبد مؤمن، إلا عبدًا بينه وبين أخيه شَحْنَاء، فيقال: اتركوا - هذين حتى يَفِيئا"(رواه مسلم)، وهذا الرفع خاص بعمل العبد خلال الأسبوع.
أما الدرجة الثالثة: فترفع الأعمال سنوياً، وهذا بمثابة التقرير الختامي السنوي، ويكون ذلك في شهر شعبان وذلك لما في حديث أسامة بن زيد، قال: قلت: يا رسول الله، لم أرك تصوم شهرًا من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: "ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر تُرْفَع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأُحبّ أن يُرفع عملي وأنا صائم"(حسنه الألباني في صحيح سنن النسائي 2356).
فانظروا -رحمكم الله- وتأملوا وفكروا كيف ستُرفع أعمالكم؟، وهل هي أعمال تَرفع الدرجات؟، أم أنها أعمال يستحي أحدنا أن يعرضها على إنسان مثله، فكيف بربّ الأرض والسماوات الذي خلقك ورزقك وأسبغ عليك نعمه الظاهرة والباطنة؟، هل هذا التقرير يؤهلك -يا عبدالله- للنجاح والفوز والفلاح في الدنيا والآخرة؟، أم أنها أعمال ظلمت فيها وقصّرت في العبادات، وارتكبت المحرمات، وسفكت الدماء، وناصرت الظلمة، وأخذت حقوق العباد من دون وجه حقّ، وكذبت وزوّرت وسرقت وشهدت شهادة الزور، وعققت والديك وقطعت رحمك، فإذا كنتَ كذلك فجدِّد العزم والتوبة النصوح، واستغل أيامك في طاعته -سبحانه- قبل أن تنزل بك السكرات، ويفاجئك الموت، وتنقطع الأسباب، وها نحن في شهر شعبان، انطلق منه لحياة جديدة وعام جديد، وهو شهر يستعد فيه العباد لاستقبال شهر رمضان بتهيئة النفوس بالطاعات والعبادات
عباد الله: لقد كان شهر شعبان في حياة الصحابة والتابعين ومن سار على نهجهم، شهر عبادة وعمل وتهيئة للنفوس لاستقبال شهر رمضان، قال سلمة بن كهيل: "كان يُقال شهر شعبان شهر القُرّاء". وقال أبو بكر البلخي: "شهر رجب شهر الزرع، وشهر شعبان شهر سقي الزرع، وشهر رمضان شهر حصاد الزرع"، وقال أيضًا: "مثل شهر رجب كالريح، ومثل شعبان مثل الغيم، ومثل رمضان مثل المطر، ومن لم يزرع ويغرس في رجب، ولم يسق في شعبان فكيف يريد أن يحصد في رمضان؟".
وقال أنس: "كان المسلمون إذا دخل شعبان؛ انكبُّوا على المصاحف فقرأوها، وأخرجوا زكاة أموالهم؛ تقويةً للضعيف والمسكين على صيام رمضان".
أيها المسلمون: وفي هذا الشهر ليلة عظيمة ينظر الحق -سبحانه وتعالى- إلى عباده فيمُنَّ عليهم بالغفران وتتنزل عليهم الرحمات روى أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله ليطّلع في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن"(رواه ابن ماجه وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة 1144).
فالمغفرة والرحمة في هذه الليلة لجميع عباد الله المؤمنين الموحدين إلا لم يحمل صفتين؛ الأولى خطرها عظيم على التوحيد والعقيدة وهي الشرك، والصفة الثانية التي يحرم صاحبها من عفو الله ومغفرته في هذه الليلة؛ فهي المشاحنة والمخاصمة والعداوة بين المسلمين.. بين الآباء والأبناء، وبين الجيران والإخوان، وبين الأصحاب والأصدقاء، وبين القبائل والأحزاب والجماعات، فلماذا لا يعفو بعضنا عن بعض، ويسامح بعضنا بعضًا ويتنازل بعضنا لبعض؟!
ولنحذر من فساد ذات البين، فعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا أدلكم على أفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟"، قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "إصلاح ذات البين؛ فإن فساد ذات البين هي الحالقة. لا أقول: إنها تحلق الشعر ولكن تحلق الدين"(صححه الألباني في غاية المرام: 414)، ولنكن ممن قال الله فيهم: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ)[الحشر:10].
والعفو خير ما ينفقه الإنسان ويتقرب به العباد يقول -تعالى-: (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ)[البقرة: 219]، ومن أراد أن يعفو الله عنه فليعفُ عن خلقه؛ فكم من خصومات بين الناس والأهل والجيران والإخوة!، وكم من قلوب ممتلئة على بعضها البعض بالحقد والغل والبغضاء والحسد! فلماذا لا يسامح بعضنا بعضًا؟
فهل من عفو يبني به المؤمن عزّاً ويرفع به قدراً لنفسه في الدنيا والآخرة ويحفظ به سلامة مجتمعة وأمنه وازدهاره؟، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزًّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله"(رواه مسلم)، لقد جاءتِ الآيات متضَافِرةً في ذكرِ الصفح والجمعِ بينه وبين العفو كما في قوله -تعالى-: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ)[المائدة:13]، وقوله: (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ)[البقرة:109]، وقوله -سبحانه-: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [التوبة:22].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، وأشكره على توفيقه وامتنانه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيرًا.
أما بعد: أيها المؤمنون: إن من أعظم الغفلة أن يعلم الإنسان أنه يسير في هذه الحياة إلى أجله، ينقص عمره، وتدنو نهايته، وهو مع ذلك لا يحتسب ليوم الحساب، ولا يتجهّز ليوم المعاد، بأعمال صالحة تُبَلّغه رضوان الله وجنّته فتجده مفرطًا في العبادات والطاعات؛ فإذا ما جاءت مواسم العبادات والمِنَح الربانية التي بها تُغفر الذنوب والزلات وجدته مقصراً ومضيّعاً لأيامه وسنوات فأين العمل الصالح؟ وأين بركة العمر؟ وأين اغتنام فرصة العمر والصحة والشباب والغنى والقدرة والقوة...
عن بن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لرجل وهو يعظه: "اغتنم خمساً قبل خمسٍ؛ شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك"(صححه الألباني في صحيح الجامع: 1077).
مضى رجبٌ ومـا أحسنتَ فيـه | وهـذا شهرُ شـعبانَ المبـارَك |
فيا من ضيَّـع الأوقـات جهـلاً | بِحُرمتهـا أفِق واحـذَر بَوارَك |
فسـوف تفـارق اللّـذاتِ قسراً | ويُخلي الْموتُ قَهراً منكَ دارَك |
تدارَك ما استطعتَ مـن الخطايـا | بتوبةِ مخلـصٍ واجعل مـدارَك |
على طلبِ السلامـةِ من جحيـمٍ | فخَير ذوي الجـرائمِ من تدارَك |
فلنستغل هذا الشهر بالتوبة النصوح والتزود من العبادات والطاعات والقربات، من صلاة وصيام وذِكْر وصدقة وقراءة للقرآن، وصلة للرحم وبذل للمعروف، وكفّ للأذى، ولنهيئ نفوسنا لشهر رمضان، شهر الرحمات والنفحات والعتق من النار.
نسأل الله -تعالى- بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يبارك لنا في شعبان، وأن يبلّغنا رمضان، وأن يكتب لنا فيه الرحمة والرضوان والعتقَ من النيران.
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، فاللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، ربنا آت نفوسنا تقواها، وزكّها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها، اشرح لنا صدورنا، ويسر لنا أمورنا، اللهم ارحمنا واغفر لنا وتب علينا، واجعلنا من ورثة جنة النعيم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبر، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.