المولى
كلمة (المولى) في اللغة اسم مكان على وزن (مَفْعَل) أي محل الولاية...
العربية
المؤلف | عبدالله الجهني |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحج |
لَمَّا كان الله -سبحانه وتعالى- قد وضَع في نفوس المؤمنين حنينًا إلى مشاهَدة بيته الحرام، وليس كل أحد قادرًا على مشاهَدته في كل عام، فرَض على المستطيع الحجَّ مرةً واحدةً في عمره، وجعَل موسم العشر مشترَكًا بين السائرين والقاعدين...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي هدى عبادَه لدين الإسلام، ووفَّقَهم ومَنَّ عليهم بزيارة بيته الحرام، وخصَّ مَنْ شاء منهم بأداء النسك في المشاعر العظام، فأكرَمَهم وحطَّ عنهم جميعَ الأوزار والآثام، أحمده -سبحانه- على جزيل الفضل والإنعام، وأشكره على ما أولاه من التوفيق والإلهام، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، الملك الحق السلام، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، خير معلِّم وإمام، اللهم صلِّ على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه البررة الكرام، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ: فاتقوا الله يا عباد الله حقَّ تقواه، وسارعوا إلى مغفرته ورضاه.
أيها المسلمون: في هذه الأيام الطيبة المباركة يشدُّ الحُجَّاجُ رحالَهم إلى بيت الله الحرام، ندعو الله لهم بالسلامة في الحِلِّ والترحال، وأن يتقبَّل منا ومنهم صالح الأعمال، وفي ظروف استثنائية، وحرصًا على إقامة هذه الشعيرة العظيمة دون أن يلحَق ضررٌ بأرواح الحُجَّاج، بما قرَّره أهلُ الاختصاص، من أن التجمعات تعتَبر السبب الرئيس في انتقال العدوى وزيادة انتشاره؛ لذا قررت حكومة المملكة العربية السعودية، وقيادتها الحكيمة وفَّقها الله -تبارك وتعالى- لكل خير، بأن يكون حج هذا العام بعدد محدود جدًّا، نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يمُنَّ على خلقه برفع هذا الوباء عاجلًا غير آجِل، وأن يُنزِل مكانَه الدواءَ والشفاءَ.
أيها المسلمون: ينعم حُجَّاج بيت الله الحرام ممَّن وفَّقهم الله -تبارك وتعالى- وكتب لهم فريضة حج هذا العام بأداء هذا الركن العظيم، فالحج فريضة عظيمة الأجر والثواب، جمعت بين الجهد البدني وإنفاق المال؛ لذا كان جزاؤه مغفرة الذنوب والسيئات، والتجاوز من الله عمَّا سلَف من التقصير والهفوات، عن عمرو بن العاص رضي الله -تعالى- عنه في قصه إسلامه وفيها: "فَلَمَّا جَعَلَ اللهُ الْإِسْلَامَ فِي قَلْبِي أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلْأُبَايِعْكَ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ، قَالَ: فَقَبَضْتُ يَدِي، قَالَ: "مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟" قَالَ: قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ، قَالَ: "تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟" قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي، قَالَ: "أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟ وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا؟ وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟" الحديثَ. (رواه مسلم).
يا حُجَّاجَ بيتِ اللهِ الحرامِ: الحج قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام، فهو آداب وأعمال، فمن آدابه قوله -تعالى-: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ)[الْبَقَرَةِ: 197]، فالرفث هو الجِماع ومقدِّماته الفعلية والقولية، والفسوق هو الخروج عن طاعة الإسلام، والجدال هو المناقَشة في غير مصلحة حتى تصل إلى المخاصَمة.
ومن أعمال الحج -يا رعاكم الله-: الوقوف بعرفة ساعة من ليل أو من نهار، يوم التاسع من ذي الحجة، والمبيت عند المشعر الحرام في مزدلفة، ورمي الجمرات، والمبيت بمنًى أيامَ التشريق، والطواف والسعي، والحلق أو التقصير، والهدي لمن كان متمتِّعًا أو قارنًا، فيجب الأخذُ بجميع آداب الحج وأعماله، فالكل من التشريع، ومن أمر الله -تبارك وتعالى-.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[الْبَقَرَةِ: 198-199].
بارَك الله لنا في القرآن العظيم، ونفَعَنا بما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، أعدَّ للذاكرينَ الله كثيرًا والذاكرات أجرًا عظيمًا، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا الله وحدَه لا شريكَ له، يعلم ما في السماوات وما في الأرض، ويعلم ما كان وما يكون وكفى به عليمًا، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، أنزَل عليه الكتابَ والحكمةَ، وعلَّمَه ما لم يكن يعلم، وكان فضل الله عليه عظيمًا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا مزيدًا.
أما بعدُ: ففي العشر من ذي الحجة يوم عظيم قدره، جليل أثره؛ وهو يوم عرفة، وما أدراكَ ما يوم عرفة!، أخرج مسلم في صحيحه بسنده، عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِيهِ عَبْدًا أَوْ أَمَةً مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ، وَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟"، يوم مغفرة الذنوب، والتجاوز عن الآثام، ويوم المباهاة بأهل الموقف، والعتق من النار، يوم من ملك فيه سمعه وبصره، غفر له ما تقدم من ذنبه، ويسن صيام هذا اليوم لغير الحاج، فعن أبي قتادة رضي الله -تعالى- عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "صوم يوم عرفة يكفر سنتين، ماضية ومستقبلة، وصوم عاشوراء، يكفِّر سنة ماضية"(رواه الإمام مسلم)، ويشرع كذلك استثماره بالعمل الصالح؛ لأن العمل الصالح فيه أفضل من الجهاد، ولأن يوم عرفة أحد أيام عشر ذي الحجة، التي قال عنها النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنْ أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ العَشْرِ"، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ"(رواه الترمذي).
قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله-: "لَمَّا كان الله -سبحانه وتعالى- قد وضَع في نفوس المؤمنين حنينًا إلى مشاهَدة بيته الحرام، وليس كل أحد قادرًا على مشاهَدته في كل عام، فرَض على المستطيع الحجَّ مرةً واحدةً في عمره، وجعَل موسم العشر مشترَكًا بين السائرين والقاعدين، فمَنْ عجَز عن الحج في عام قدَر في العشر على عمل يعمله في بيته، يكون أفضل من الجهاد، الذي هو أفضل من الحج"، أيام عظيمة وعجيبة، فإذا كانت الأعمال الصالحة فيها أفضل من الجهاد في سبيل الله، رغم عظيم شرف الجهاد ومكانته، إلَّا أن يُقتَل المجاهدُ ويذهب مالُه، فأي غَبن وأي خسارة تلحق الغافل عن هذه الأيام؟! فهل من معتبِر؟! وهل من مدَّكِر؟! فإنه مهما طال زمن الغفلة والفتور فلا يجب أن يطال هذه الأيام، وعليك -أخي المسلم وأختي المسلمة- أن يجتهد كلٌّ منا في الدعاء عشيةَ عرفةَ، في وقت النزول الإلهي، وليسأل الله المغفرة، وليسأل الله الرحمة، وليسأل الله -جل وعلا- ما أباحه من المسائل، فدعاء عرفة مجاب كله في الأغلب، إن شاء الله -تبارك وتعالى-، إلا للمعتدين في الدعاء، بما لا يرضي الله -عز وجل-.
ثم اعلموا أن الله -تبارك وتعالى- أمرَنا بأمر بدأ فيه بنفسه، فقال عز من قائل عليمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى اللهُ عليه عشرَ صلوات، وحطَّ بها عنه عشرَ سيئات، ورفعه بها عشر درجات"، اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسَلين، وإمام المتقين، وخاتم النبيين، محمد عبدك ورسولك، إمام الخير، وقائد الخير، ورسول الرحمة، اللهم ابعثه مقامًا محمودًا يَغبِطُه به الأولون والآخِرون، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، الأئمة المهديين، الذين قَضَوْا بالحق وبه كانوا يعدلون؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، واخذل اللهم مَنْ خذَل الإسلامَ والمسلمينَ، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا رخاءً سخاءً، وسائرَ بلاد المسلمين، اللهم واغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين، واحفظ أطباءنا وأعونهم وسددهم وارفع عنا هذا الوباء يا أرحم الراحمين، اللهم انصر جنودنا على الحدود، اللهم سدد رميهم، وثبت أقدامهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم أجمعين، اللهم احفظ الحجاج وأعنهم على أداء نسكهم، وتقبل منهم وردهم إلى أهليهم سالمين غانمين يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامَنا خادمَ الحرمين الشريفين وولي عهده لما تحب وترضى، وخذ بناصيتهما للبر والتقوى، ووفق جميع ولاة أمور المسلمين لكل خير وصلاح، اللهم أنتَ اللهُ لا إلهَ إلا أنتَ، أنتَ الغنيُّ ونحن الفقراء، أنزِلْ علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم إنا نستغفرك إنكَ كنتَ غفَّارًا، فأرسِلِ السماءَ علينا مدرارًا يا ربَّ العالمينَ.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 23]، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201].
عبادَ اللهِ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه يزدكم، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45].