الجواد
كلمة (الجواد) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فَعال) وهو الكريم...
العربية
المؤلف | خالد بن عبدالله الشايع |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحج |
إن قومًا تخلّفوا عن ركب الحجاج لعذر شرعي، إلا أنهم تخلفوا عنهم بأبدانهم وصحبوا الحجاج بقلوبهم، فهم يطوفون حول بيت الله تعالى، ويسعون معهم بين الصفا والمروة، ويبيتون بمنى ويقفون بعرفة، ويفيضون إلى مزدلفة، ويرمون الجمار، ويحلقون ويقصرون وينحرون، كل ذلك بأفئدة طار بها الشوق إلى مشاعر مكة، هفت قلوبهم إلى مغفرة ربهم، فهؤلاء...
الخطبة الأولى:
الحمد لله...
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله في السر والجهر، فإن تقواه سبب لتفريج الكربات، وتكفير السيئات، واشكروه على ما من به عليكم من إدراك مواسم الخيرات، فالسعيد من لم يفرط في موسم الخير، وقام بحق ربه فيه، فصان أعماله وجوارحه عما يغضب ربه، وسارع في الخيرات.
والخسارة للمفرطين، المضيعين لحقوق الله، فما أحراهم بالخيبة والخذلان، عياذًا بالله من ذلك.
عباد الله: إن التاجر الناجح في دنياه هو الذي يخطط لتجارته قبل الخوض فيها، ثم يحاسب نفسه بعد الخروج منها، وينظر مدى الخسارة والربح، ثم يتلافى ما حصل من أخطاء في تجارته القادمة، وخير التجارة ما كان مع الله؛ إذ لا خسارة تذكر، بل هي الربح الكثير الوفير.
فينبغي لكل مكلف أن ينظر في حاله، وما قدم لمآله، وهل هو في ربح أو خسارة؟! فنحن في هذا اليوم نستقبل حجاج بيت الله، قدموا من موسم عظيم، تاجروا فيه مع الله، فربحهم على قدر نصبهم وكدحهم، وهم في ذلك يتفاوتون.
وأعلاهم رتبة من قدم من حجه كيوم ولدته أمه، عاد وقد حط أوزاره، وابيضت صحائفه، وأنار قلبه، فهو في رحمة الله يغدو ويروح.
فيا حجاج بيت الله: الله الله في لزوم الطاعات، والحرص على الفرار من المعاصي والسيئات، مهما قلت أو صغرت في عينك، فإن المعصية تعظم بعظم الناهي عنها، قال بلال بن سعد السكوني -رحمه الله-: "لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى من عصيته".
فلتكن حياتك بعد حجك حياة عطرة بطاعة الله وذكره، منزهة عن الآثام والشرور، فلقد حظيت بشرف الحج ووفادة الله تعالى، فلا تدنسها بحطام الدنيا الفانية.
عباد الله: إن قومًا تخلّفوا عن ركب الحجاج لعذر شرعي، إلا أنهم تخلفوا عنهم بأبدانهم وصحبوا الحجاج بقلوبهم، فهم يطوفون حول بيت الله تعالى، ويسعون معهم بين الصفا والمروة، ويبيتون بمنى ويقفون بعرفة، ويفيضون إلى مزدلفة، ويرمون الجمار، ويحلقون ويقصرون وينحرون، كل ذلك بأفئدة طار بها الشوق إلى مشاعر مكة، هفت قلوبهم إلى مغفرة ربهم، فهؤلاء أجرهم على الكريم المنان، ولربما بلغت نية العبد ما لم يبلغه عمله.
أخرج البخاري في صحيحه من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما رجع من غزوة تبوك، فدنا من المدينة قال: "إن بالمدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم"، قالوا: يا رسول الله: وهم بالمدينة؟! قال: "وهم بالمدينة، حبسهم العذر".
أيها المسلمون: بقي من خلق الله المسلمين طائفة ليس لهم في مواسم الخير نصيب، وكأنهم عن رحمة ربهم مستغنون، أو كأنهم في الجنان آمنون، فلا أعمال يتسابق فيها، ولا قلوب تشتاق إلى رحمة الله ومواطنها، فهؤلاء أحسن الله عزاءهم، يحملون بين جنوبهم قلوبًا ميتة، قد عشش الشيطان فيها وفرخ.
أيها المؤمنون: يجب على كل مكلف يرجو النجاة لنفسه؛ أن يسعى جاهدًا في إصلاح قلبه، والبعد والهرب الشديد عن الخلق البطالين، الذين هم من أعظم أسباب موت القلوب وقسوتها.
والحرص على قوم يذكّرونك ربك، ويخوّفونك عذابه، وينصحون لك في الليل والنهار، فمن ظفر بمثل هؤلاء فليعض عليهم بالنواجذ، فهم في هذا الزمن قليل.
دخل أحد الأئمة على الخليفة، فقال له الخليفة: من نصحب؟! إننا لنصحب قومًا يخوفوننا، وقومًا يؤمّنوننا، فقال -رحمه الله-: "لأن تصحب قومًا يخوّفونك حتى تبلغ المأمن، خير لك من أن تصحب قومًا يؤمّنونك حتى تبلغ المخاوف".
أيها المسلمون: إن هذه الدنيا غرارة: (فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [لقمان: 33]، واحذروا -عباد الله- ما حذرت الأمم قبلكم يومًا تعنو في الوجوه وتجف فيه القلوب وتنقطع فيه الحجج لعزة الملك الجبار الذي قهر الخلق بجبروته، وهم داخرون ينتظرون قضاءه ويخافون عقابه.
اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
الخطبة الثانية:
أيها المؤمنون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، فإنه من اتقاه وقاه، ومن أقرضه ومن شكره زاده: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم: 7].
عباد الله: إن مواقف الحج، مواقف عظيمة تتلخص منها مواعظ وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فمن ذلك: لبس الناس للإحرام، إزار ورداء، يفعل ذلك كل من أراد الحج أو العمرة، فيتساوى في ذلك الغني والفقير، والأمير والحقير؛ لأنهم يقفون ويحرمون بين يدي العلي القدير.
فبذلك تسمو معالم العدل الرباني، فلا فرق بين الخلق في الموازين الربانية.
ومنها كذلك: وقوف الحجيج جميعًا على صعيد عرفة، ذاكرين الله تعالى، خاشعة قلوبهم، دامعة عيونهم، مرفوعة أكفهم، كلهم يطلب الغفران والعتق من النيران، وكلهم يخلص دعواه للواحد الديان.
إن ذلك الموقف خصوصًا عند دفعه من عرفات ليذكر بالموقف العظيم، يوم القيامة، يوم يقف الخلق بين يدي ربهم حفاة عراة غرلاً.
إلا أن موقف القيامة فيه أهوال عظيمة، لا ينجو منها إلا من سبقت له الحسنى من الرحمن: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمْ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمْ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) [الأنبياء: 101 - 103].
ومن مواقف الحج: رميهم للجمار، إعلانًا منهم بتغلبهم على الشيطان والنفس والهوى، مكبرين لله مع رميهم، بيانًا منهم أن الله -عز وجل- أكبر من كل مطلوب ومرهوب، فهو إعلان بالتوحيد المتجرد الخالص.
ثم ينحرون هديهم قربانًا لله تعالى، ثم يحلقون رؤوسهم إيذانًا بزوال الذنوب، ثم يجلسون أيام التشريق يذكرون الله -عز وجل-، وبذلك تختم الأعمال الصالحات، ثم يعودون إلى أوطانهم بعد أن يودعوا البيت بالطواف، ويستقبلهم الناس بالدعاء لهم أن يكون حجهم مبرورًا وسعيهم مشكورًا.
فهذه المناظر في تلك المشاعر تدعو الإنسان للإقبال على ربه، والانطراح بين بيديه، سائلاً المغفرة والعتق من النار، خصوصًا من فرّط في مواسم الخيرات، وأخذ يدعو بالويل والثبور.
أيها المؤمنون: إنما مثل مواسم الخير مع العبد المؤمن في هذه الحياة، كمثل رجل اشترى عبدًا ووضعه في مزرعة ليعمل فيها، وقال له: اعمل في هذه الأرض حتى يأتيك رسول مني يحملك إليّ، واعلم أنك سيقع منك أخطاء في عملك، ولكني سأجعل لك أيامًا إذا قرب بك وأحسنت العمل فيها، غفرت لك زللك وخطأك فيما مضى، وإن فرطت بقيت عليك إلا أن تراجع قبل الموت.
فهذه المواسم -عباد الله- من رحمة الله -جل وعلا- بخلقه، يضع عنهم فيها آصارهم وخطيئاتهم، فيا خيبة وشقاوة من فرط فيها، وهجم عليه الموت وهو من الغافلين.
اللهم أيقظنا من الغفلات، وأعذنا من المضلات، ووفقنا لاغتنام الساعات، يا أرحم الراحمين.