المجيب
كلمة (المجيب) في اللغة اسم فاعل من الفعل (أجاب يُجيب) وهو مأخوذ من...
العربية
المؤلف | إسماعيل القاسم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
يجب على العبد أن يعلّق رجاءه بالله دون سواه، فالخلق مجبولون على الضعف، عاجزون عن جلب النفع لأنفسهم ودفع الضر عنهم، وهم عن غيرهم أعجز, فلا تُعلّق أطماعك وأمَلَك بغير الله, فلن تجني سوى العدم, وذُلّ المسألة والتفريط في عبادة جليلة، وارجُ كرم الله وعطاءه وجزيل مناه, فتلك عبادة عظيمة، واطلب منه كشف الحاجات والملمات...
الخطبة الأولى:
الرجاء عبادة قلبية، وهو: الرغبة والطمع في الحصول على شيء مرجو، وهو يتضمن التذلل والخضوع، ويستلزم المسلم فيه طاعة الله قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[البقرة:218]، فجمعوا بين أعمال صالحة من الإيمان والهجرة والجهاد، قال ابن القيم -رحمه الله-: "لولا روح الرجاء, لعطلت عبودية القلب والجوارح".
والرجاء عبادة لا تُصرَف لغير الله قوله -تعالى-: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ)؛ وموعوده وثوابه (فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا)، وهو الموافق لشرع الله (وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)[الكهف:110]. لا رياءً ولا سمعةً ولا يُصْرَف العبادة لغير خالقه، بل يجعل أعماله كلها خالصة لوجه الله, فمن جَمَعَ بَيْنَ الإخلاص والمتابعة نَالَ ما يرجو ويطلب, ومن عدمَ ذلك فإنه خاسر, وفاته القرب من مولاه, ونَيْل رضاه.
وقد أمر الله بتعليق الرجاء به فقال: (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا)[نوح:13]؛ والمسلم يعلق آماله وأطماعه ورجاءه بالله قال -سبحانه-: (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا)[النساء:104].
وأنواع الرجاء ثلاثة ذكرها ابن القيم -رحمه الله-: "والرجاء ثلاثة أنواع؛ نوعان محمودان, ونوع غرور مذموم. الأولان: رجاء رجل عمل بطاعة الله, على نور من الله, فهو راجٍ لثوابه، ورجل أذنب ذنوبًا ثم تاب منها فهو راجٍ لمغفرة الله -تعالى- وعفوه وإحسانه وجوده وحلمه وكرمه.
والثالث: رجل متمادٍ في التفريط والخطايا, يرجو رحمة الله بلا عمل, فهذا هو الغرور والتمني والرجاء الكاذب.
ومن قوي رجاؤه ازداد عمله الصالح, قال ابن القيم -رحمه الله-: "كلما قوي الرجاء جدَّ في العمل قوله -تعالى-: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)[الكهف:110]
وفي الحديث القدسي: "قال الله تعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي"(رواه الترمذي).
والدعاء مع الرجاء موجبان لمغفرة الله -جل وعلا-؛ وهناك من يدعو، وهو ضعيف الظن بربه، لا يحسن الظن بربه، وقد ثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: قال الله -تعالى-: "أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء".
فمن رجا الله غفران ذنبه؛ غفر الله ذنبه، وإن تكررت وكثرت، وإن كثرت وعظمت؛ فإن عفو الله ومغفرته أعظم منها وأعظم. فهي صغيرة في جنب عفو الله ومغفرته.
قال ابن القيم: "فقوة الرجاء على حسب قوة المعرفة بالله وأسمائه وصفاته وغلبة رحمته غضبه.. بل لولا روح الرجاء لما تحركت الجوارح بالطاعة ولولا ريحه الطيبة لما جرت سفن الأعمال في بحر الإرادات".
قال ابن حجر: "والمقصود من الرجاء أن مَن وقع منه تقصير فليحسن ظنه بالله، ويرجو أن يمحو عنه ذنبه، وكذا من وقع منه طاعة يرجو قبولها، وأما مَن انهمك على المعصية راجيًا عدم المؤاخذة بغير ندم ولا إقلاع فهذا في غرور".
ومن رجا غير الله ما لا يقدر عليه إلا الله, كمغفرة ذنوبه, أو شفاء مريضه, فقد صرف تلك العبادة لغير الله, ووقع في الشرك الأكبر؛ لأن هذا طمع في شيء لا يملكه إلا الله، وصرف عبادة الرجاء إلى غير الله، قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "الرجاء ينبغي أن يتعلق بالله، ولا يتعلق بمخلوق ولا بقوة العبد ولا عمله، فإن تعليق الرجاء بغير الله إشراك, وإن كان الله قد جعل لها أسبابًا؛ فالسبب لا يستقل بنفسه، بل لابد له من معاون، ولا بد أن يمنع العارض المعوق له، وهو لا يحصل ويبقى إلا بمشيئة الله -تعالى- ومن رجا مخلوقًا أو تعلق به, انصرف قلبه عن العبودية لله, وصار عبدًا لغيره بقدر ما قام في قلبه من التعلق والرجاء فذلّ لغير الله وخضع".
وقال -رحمه الله-: "ما علّق العبد رجاءه وتوكله بغير الله, إلا خاب من تلك الجهة، ولا استنصر بغير الله إلا خُذِلَ, وقد قال الله -تعالى-: (وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا)[مريم:81-82]"، وقال -رحمه الله-: "وما رجا أحد مخلوقًا أو توكل عليه، إلا خاب ظنه فيه". ولا يجني من ورائهم سوى الذلة والمهانة.
وقال -رحمه الله-: "إذا تعلق بالمخلوقين ورجاهم وطمع فيهم أن يجلبوا له منفعة, أو يدفعوا عنه مضرة, فإنه يُخْذَل من جهتهم, ولا يحصل مقصوده، بل قد يبذل لهم من الخدمة والأموال وغير ذلك ما يرجو أن ينفعوه وقت حاجته إليهم فلا ينفعونه، إما لعجزهم، وإما لانصراف قلوبهم عنه، وإذا توجَّه إلى الله بصدق الافتقار إليه, واستغاث به مخلصًا له الدين، أجاب دعاءه وأزال ضرره، وفتح له أبواب الرحمة".
ومن علّق رجاءه بالبشر خُذِلَ، قال ابن القيم -رحمه الله-: "وكل من خاف شيئًا غير الله سُلِّط عليه, كما أنَّ مَن أحبَّ مع الله غيره عُذِّبَ به، ومن رجا مع الله غيره خُذِلَ من جهته, وهذه أمور تجربتها تكفي عن أدلتها".
قال الكرماني: "علامة صحة الرجاء حسن الطاعة". فيجب على العبد أن يعلّق رجاءه بالله دون سواه، فالخلق مجبولون على الضعف، عاجزون عن جلب النفع لأنفسهم ودفع الضر عنهم، وهم عن غيرهم أعجز, فلا تُعلّق أطماعك وأمَلَك بغير الله, فلن تجني سوى العدم, وذُلّ المسألة والتفريط في عبادة جليلة، وارجُ كرم الله وعطاءه وجزيل مناه, فتلك عبادة عظيمة، واطلب منه كشف الحاجات والملمات, فذلك أرفع للدرجات, وأعز للنفس, وفيه تحقيق للمأمول.
الخطبة الثانية:
الرجاء يحدو بالعبد في سيره إلى الله, ويطيب له المسير, ويحثّه عليه, ويبعثه على ملازمته, قال ابن القيم -رحمه الله-: "ولولا الرجاء لما سار أحد، فإن الخوف وحده لا يحرّك العبد، وإنما يحركه الحب، ويزعجه الخوف, ويحدوه الرجاء".
والعبد يجمع بين المحبة والرجاء والخوف, ولا تحصل العبودية لله إلا بهذه الثلاثة, قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "اعلم أن محركات القلوب إلى الله -عز وجل- ثلاثة: المحبة والخوف والرجاء، وأقواها المحبة, وهى مقصودة تراد لذاتها؛ لأنها تُرَاد في الدنيا والآخرة, بخلاف الخوف فإنه يزول في الآخرة، قال الله -تعالى-: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)[يونس:62].
والخوف المقصود منه: الزجر والمنع من الخروج عن الطريق؛ فالمحبة تلقي العبد في السير إلى محبوبه, وعلى قَدْر ضعفها وقوتها يكون سيره إليه، والخوف يمنعه أن يخرج عن طريق المحبوب، والرجاء يقوده.
قال الشافعي:
فلما قسا قلبي وضاقت مذاهبي | جعلت الرجا مني لعفوكِ سُلَّما |
تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك | ربي كان عفوك أعظما |
فالرجاء والخوف كجناحي طائر يخافه الله ويرجوه بأداء الأعمال الصالحة، ومع ذلك يرجو الله ويخافه، كما قال الله عن الرسل -عليهم السلام-: (كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ)[المؤمنون:90]؛ فمعنى (رَغَبًا) يعني رجاء، ورهبًا يعني خوفًا.
فالواجب على المسلم أن يجمع بين الخوف والرجاء، فلا أمن ولا قنوط، بل يسير بينهما حتى يلقى ربه.
وصلوا وسلموا....