البر
البِرُّ في اللغة معناه الإحسان، و(البَرُّ) صفةٌ منه، وهو اسمٌ من...
العربية
المؤلف | أحمد بن عبد العزيز الشاوي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - الحياة الآخرة |
تبدأ رحلة المأوى والمصير حينما يحشر المتقون إلى الرحمن وفدًا، ويُساق المجرمون إلى جهنم وردًا، هناك تبيض وجوه وتسود وجوه، هناك وجوه قد أشرقت بالنور وفاضت بالبِشْر فابيضت من البشر والبشاشة، وهناك وجوه كمدت من الحزن واغبرت من الغم واسودت من الكآبة، وجوه مستنيرة ضاحكة مستبشرة راجية ربها مطمئنة بما تستشعره من رضاه عنها، ووجوه تعلوها غبرة الحزن والحسرة ويغشاها سواد الذل والانقباض...
الْخُطْبَةُ الْأُولَى:
الحمد لله الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إنه كان بعباده خبيرًا بصيرًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أرسله الله بشيرًا ونذيرًا صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن كان بهديه مستنيرًا وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ)[الحشر:18-20].
حقًّا هل يستوي من جنان الخلد مسكنه، ومن يذوق صنوف الذل في سقر؟! هل يستوي من يرى وجه الإله ومن يرى الحثالة من جن ومن بشر؟
هذا حديث عن رحلة طويلة حتمية الوقوع، وكل الخليقة سائر فيها، حديث لمن يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها وهم عن الآخرة هم غافلون، حديث لمن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون، حديث لمن لا يظنون أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين، حديث عن اليوم البعيد القريب (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا)[المعارج:6-7]
إن الحياة في شريعة الإسلام تمتد في الزمان، فتشمل هذه الفترة المحددة المشهودة، فترة الحياة الدنيا وفترة الحياة الآخرة التي لا يعلم مداها إلا الله، وتمتد في المكان فتضيف إلى هذه الأرض دارًا أخرى جنة عرضها السموات والأرض ونارًا تسع الكثرة من جميع الأجيال.
إن إنسانًا يعيش في هذا المدى المتطاول من الزمان والمكان والعوالم والمذاقات غير إنسان يعيش في ذلك الحجر الضيق ويصارع الآخرين عليه بلا انتظار لعرَض يفوته ولا لجزاء عما يفعله وما يفعل به إلا في هذه الأرض ومن هؤلاء الناس.
أما المؤمن فهو بحكم إيمانه يتسع تصوّره ويتعمق يقينه ليوقن بالآخرة دارًا للجزاء والحساب، ولذلك كان التوكيد شديدًا على عقيدة الآخرة في دين الله، ومِن ثَم كانت هذه القوارع العنيفة العميقة التي نقرؤها في القرآن، القوارع التي يعلم الله أن فطرة الإنسان تهتز لها وترجف فتتفتح نوافذها وتتحرك وتحيى وتتأهب للتلقي والاستجابة.
إنها قوارع عنيفة عميقة، إنها طرقات متوالية على الحس، طرقات عنيفة قوية وصيحات، وصيحات بقوم غارقين في النوم، أو بسكارى أثقل حسهم الشراب، أو بلاهين في سمر راقصين في ضجة وتصدية ومكاء.
تتوالى على حسهم تلك الطرقات والصيحات المنبثقة من هذا القرآن بنُذُر واحد، استيقظوا، انظروا، تفكروا وتدبروا، إن هناك إلهًا، وإن هناك تقديرًا، وإن هنالك ابتلاء، وإن هنالك تبعة، وإن هنالك حسابًا، وإن هنالك جزاء، وإن هنالك عذابًا شديدًا ونعيمًا كبيرًا، وتتوالى الطرقات والصيحات ومعها يد قوية تهز الغافلين هزًّا عنيفًا.
كثيرون هم المسلمون اليوم، ولكن قليلاً من يؤمن بالآخرة عن يقين، وقليل من يخشى ذلك اليوم ويعمل له. قال الحسن البصري: "هيهات هيهات!، أهلك الناس الأماني، قول بلا عمل ومعرفة بغير صبر وإيمان بلا يقين، مالي أرى رجالاً ولا أرى عقولاً، وأسمع حسيسًا ولا أرى أنيسًا، دخل القوم والله ثم خرجوا، وعرفوا ثم أنكروا، وحرموا ثم استحلوا، إنما دين أحدهم لعقة على لسانه، إذا سُئل أمؤمن أنت بيوم الحساب؟ قال: نعم، كذب ومالك يوم الدين".
إن من الحقائق المتقررة عند المؤمنين أن الله سيجمع عباده يوم الجمع ذلك يوم التغابن، فريق في الجنة وفريق في السعير. منهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة، ومنهم شقي وسعيد.
لقد كان الإنذار الأكبر والأشد والاكثر تكرارًا في القرآن هو الإنذار بيوم الجمع (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ)[الشورى:7].
يوم يجمع الله ما تفرق من الخلائق على مدار الأزمنة، واختلاف الأمكنة ليفرّقهم من جديد بحسب عملهم في دار العمل في هذه الأرض؛ حيث يلقى أهل النار في النار ليذوقوا العذاب ويساق المتقون إلى الجنان ليكشف لهم الحجاب.
إنه مشهد عنيف رهيب، مشهد ترتجف له القلوب، في ذلك اليوم الذي يجعل الولدان شيبًا، ذلك اليوم الذي (تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ)[الحج:2].
تبدأ رحلة المصير النهائية بعد يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، كان حافلاً بألوان من الشدائد والأهوال، إنه يوم يردّد فيه الأنبياء وهم أشرف الخلق قائلين: "اللهم سَلِّم سَلِّم"، بعد يوم من الحساب الشديد والوقوف الطويل تشققت فيه السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلاً، يوم فيه الشمس كورت، والنجوم انكدرت، والجبال سيرت، والعشار عطلت، والوحوش حشرت، والنفوس زوجت، والموءودة سئلت، والصحف نشرت، والسماء كشطت، والجحيم سعرت، والجنة أزلفت.
بعد يوم دنت فيه الشمس من الخلائق قدر ميل، ولا ماء ولا ظل ظليل إلا ظل الملك الجليل.
تبدأ رحلة المأوى والمصير حينما يحشر المتقون إلى الرحمن وفدًا، ويُساق المجرمون إلى جهنم وردًا، هناك تبيض وجوه وتسود وجوه، هناك وجوه قد أشرقت بالنور وفاضت بالبِشْر فابيضت من البشر والبشاشة، وهناك وجوه كمدت من الحزن واغبرت من الغم واسودت من الكآبة، وجوه مستنيرة ضاحكة مستبشرة راجية ربها مطمئنة بما تستشعره من رضاه عنها، ووجوه تعلوها غبرة الحزن والحسرة ويغشاها سواد الذل والانقباض (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ)[عبس: 38-42].
قوم يقال لهم: ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون، وآخرون يخاطبون بعد الارتهان والاحتباس في اليوم الطويل، (انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ * لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ)[المرسلات: 29-31].
فيا عباد الله: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)[السجدة: 18-21].
إن ربكم -سبحانه- يدعو عباده للاستجابة لمنهجه قبل أن يفجأهم هذا المصير (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ)[الشورى:47]؛ استجيبوا لربكم قبل أن يفجأكم المصير فلا تجدوا ملجأ يقيكم ولا نصير ينصركم.
يا عبد الله: إذا هممت بالشهوات وفكرت بالمعاصي، وبدأت الخطوات فتذكر (يَوْمَ الْآَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ)[غافر:18]، تذكر أن هذا اليوم الذي مقداره خمسين ألف سنة المليء بالشدائد والأهوال سيكون على المتقين كمقدار صلاة مكتوبة، فاصنع أنت اليوم مدة ذلك اليوم ومن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها وما ربك بظلام للعبيد.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
أما بعد: يا مسلمون: يوم القيامة يوم عسير على الكافرين والمجرمين غير يسير، (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا)[النساء:42]، (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ)[المعارج:11-14].
هذا اليوم العظيم الذي يتغير فيه الكون، وتقع فيه الواقعة وترجف الراجفة سيكون يومًا سعيدًا على من خاف ربه اليوم واتقاه واستعد للقاه وقدم جوابًا منجيًا حينما يلقاه. لن يكون يوم القيامة مرعبًا، ولكنه سيكون يومًا رائعًا وجميلاً لمن سار على العهد وعمل لذلك اليوم (لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)[المائدة:103]، سيكون يوماً سعيدا عندما تُبعث وترى الملائكة في انتظارك تتلقاك: (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)[المائدة:103].
سيكون يوماً رائعاً عندما تطلقها صرخة في العالمين من الفرح (هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ)[الحاقة:19]، سيكون يوماً سعيداً عندما تنظر خلفك وترى ذريتك تتبعك لمشاركتك فرحتك: (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ)[الطور:21].
سيكون يوماً في غاية الروعة وأنت تمشي ولأول مرة في زمرة المرضي عنهم ويتقدمك النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-: (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[التحريم: 8].
سيكون يوماً جميلاً عندما تكون ضيفاً مرغوباً أنت وأهلك وتسمع نداءً خاصًّا لك: ادخل.. (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ)[الزخرف:70].
لن تكون قادراً على إخفاء نضارة وجهك السعيد عندما يكون رفيقك هناك محمد -صلى الله عليه وسلم- وموسى وعيسى ونوح وإبراهيم -عليهم السلام-؛ (فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا)[النساء:69-70].
هناك ستتذكر ما تلوته هنا: (أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ)[القصص:61].
استعدوا لحياة سرمدية لا تبغون عنها حولاً...
اللهم صلِّ وسَلِّم ...