المؤخر
كلمة (المؤخِّر) في اللغة اسم فاعل من التأخير، وهو نقيض التقديم،...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
من علامات صحة القلب أنه لا يزال يحث صاحبه حتى ينيب إلى الله، ويخبت إليه، ويتعلق به تعلق المحب المضطر إلى محبوبه، الذي لا حياة له ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا برضاه وقربه، والأنس به، فبه يطمئن، وإليه يسكن، وإليه يأوي، وبه يفرح، وعليه يتوكل، وبه يثق، وإياه يرجو، وله يخاف، فذكر الله قُوتُه وغذاؤه، ومحبته والشوق إليه: حياته ونعيمه ولذته وسروره...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله وخليله وصفيه، أرسله بالحق بشيرًا ونذيرًا، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله واتقوا الدنيا فإنها دار غرور، وعن قريب تزول ويموت أهلها، وشمّروا إلى دار لا يخرب بنيانها، ولا يموت سكانها، ولا يهرم شبابها، يتقلب أهلها في رحمة الله الجليل.
عباد الله: لو عرف العبد كل شيء ولم يعرف ربه، فكأنه لم يعرف شيئًا، ولو نال كل حظ من حظوظ الدنيا ولذاتها وشهواتها، ولم يظفر بمحبة الله والشوق إليه، والأنس به، فكأنه لم يظفر بلذة ولا نعيم ولا قرة عين، بل إذا كان قلب العبد خاليًا عن ذلك، عادت تلك الحظوظ واللذات عذابًا له ولا بدَّ، فيصير معذبًا بنفس ما كان منعمًا به من جهتين: من جهة حسرة فوته، وأنه حِيلَ بينه وبينه مع شدة تعلّق روحه به، ومن جهة فوت ما هو خير له وأنفع وأدوم؛ حيث لم يحصل له.
إن كل من عرف الله -عزَّ وجلَّ- أحبه، وأخلص له العبادة، ولم يؤثر عليه شيئًا من المحبوبات، فمن آثر عليه شيئًا من المحبوبات فقلبه مريض ولا بدَّ، كما أن المعدة إذا اعتادت أكل الخبيث وآثرته على الطيب، سقطت عنها شهوة الطيب، وقد يمرض قلب الإنسان ويشتد مرضه، ولا يعرف به صاحبه، لانشغاله عنه، بل قد يموت وصاحبه لا يشعر بموته.
عباد الله: إن أصل كل خير وسعادة للعبد حياةُ قلبه وكمالُ نوره، فحياة القلب ونوره أصل كل خير، ومرض القلب وظلمته من أبواب الخيبة والخسران، قال الله تعالى في وصف أصحاب القلوب المريضة: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ) [التوبة: 124، 125]، ومرض القلب يورث صاحبه الإعراض عن المنهج القويم، قال -سبحانه-: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا) [النساء: 61].
عباد الله: إن منزلة القلب في البدن منزلة عظيمة؛ إذ هو الملك وباقي الأعضاء جنوده، يأتمرون بأمره ويستعملها فيما شاء؛ فهي تحت عبوديته وقهره، وتكتسب منه الاستقامة والزيغ، وتتبعه فيما يعقده، فإن صلح القلب صلحت الجوارح وإن فسد القلب فسدت الجوارح، عن النُّعْمَان بْن بَشِيرٍ، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "...أَلاَ وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ"[البخاري (52)].
عباد الله: الخطاب القرآني كثيرًا ما يخاطب القلوب، فأحيانا يخاطبها بوصفها, قال تعالى: (لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا) [الحج: 46]، وأحيانا بأنها المعتمد في المعرفة والإدراك، قال -سبحانه-: (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج: 46]، وأخرى بصفة القلب الذي تحصل له السلامة يوم القيامة، قال تعالى: (إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء: 89].
والقلب معرَّض للفتن كما في حديث حُذَيْفَة -رضي الله عنهما- قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا، فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا؛ لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ" [مسلم (144)].
من هذا المنطلق ينبغي للمسلم أن يعرف علامات القلب السليم والقلب المريض المفتون، فيعرف القلب السليم ليحرص أن يكون قلبه على شاكلته صحيحًا سليمًا، ويعرف القلب المريض وصفاته حتى يحذر من أن يكون قلبه كذلك، ثم -إن قُدّر أنه مريض- يسعى في إصلاحه ومداواته بالأدوية الشرعية الربانية.
عباد الله: نوّع ربنا تبارك وتعالى في خلق الإنسان، وخصَّ كل عضو من أعضاء البدن لفعل خاصّ به، وجعل كماله في حصول ذلك الفعل منه، ومرضه أن يتعذر عليه الفعل الذي خُلق له، حتى لا يصدر منه، أو يصدر مع نوع من الاضطراب والنقص، فمرض اليد أن يتعذر عليها البطش، ومرض العين أن يتعذر عليها النظر والرؤية، ومرض اللسان أن يتعذر عليه النطق، ومرض البدن أن تتعذر عليه حركته الطبيعية، أو يضعف عنها، ومرض القلب أن يتعذر عليه ما خُلق له من معرفة الله، ومحبته، والشوق إلى لقائه، والإنابة إليه، وإيثار ذلك على جميع شهواته.
عباد الله: ومرض القلوب نوعان: مرض شبهات, ومرض شهوات، وصحة القلب الكاملة تتم بشيئين: كمال معرفته بالله وعلمه ويقينه, وكمال إرادته وحبه لما يحبه الله ويرضاه، فإن كان عند الإنسان شبهات تعارض ما أخبر الله به، في أصول الدين وفروعه، كان علمه منحرفًا, وإن كانت إرادته ومحبته مائلة لشيء من معاصي الله، كان ذلك انحرافًا في إرادته، وهما متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر.
فلا تغلب على العبد الشبهات إلا بفساد علمه بالله، وجهله بعدله وقضائه، وحكمته وشرعه وجزائه، ولا تغلب عليه الشهوات إلا بفساد نفسه، وغلبة شهوات الدنيا عليه، وغلبة رياساتها وحظوظها على ما عند الله والدار الآخرة، فمن الأول قوله -سبحانه-: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) [البقرة: 10]، ومن الثاني قوله -سبحانه-: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا) [الأحزاب: 32].
إن القلب بيت الإيمان والتقوى، كما أن المعدة مكان الطعام والشراب، والإيمان في القلب يحرّك البدن لطاعة الله، كما أن الطعام في المعدة يمد البدن بالغذاء الذي به تتم صحته وتكمل حركته.
فالقلب يحتاج إلى غذاء الإيمان، والبدن يحتاج إلى أكل الطيبات، وكلاهما لازم للإنسان، وكماله باجتماعهما، وهلاكه بفقدهما، ولهذا أمرنا الله عزَّ وجلَّ بهذا وهذا، فقال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [البقرة: 172].
والقلب منزل الملائكة، ومهبط أثرهم، فإذا امتلأ القلب بالصفات الرديئة فيه كالغضب والشهوة المحرمة، والحقد والحسد، والكبر والعجب، وغيرها من الشرور المتسلطة، فلا تدخله الملائكة وهو مشحون بهذه الشرور، وأنى يدخل الخير وهو مليء بالشرور؟ قال تعالى: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا) [البقرة: 256]، فلا بد من تطهير القلب وتصفيته وتخليته من أمراضه أولاً, ثم تحليته بالإيمان والطاعة ثانيًا، فحرام على قلب أن يدخله النور، وهو مظلم فيه شيء مما يكرهه الله -عزَّ وجلَّ-.
عباد الله: وعلل القلب كثيرة مؤلمة أشد من ألم البدن، وإذا أراد الله بعبدٍ خيرًا بصَّره بعيوب نفسه, وإذا عرف العبد عيوبه وشخصها أمكنه العلاج, وما أنزل الله داء إلا أنزل له دواء, علمه من علمه، وجهله من جهله، وأفضل علاج لأدواء القلوب أن تعرف فاطرها ومعبودها وتطيع أمره, وتحب ما يحب, وتحذر مما يكره, وذلك كله في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، قال تعالى: (قل هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) [فصلت: 44].
عباد الله: وعلامة مرض القلب أن لا تؤلمه جراحات القبائح، ولا يوجعه جهله بالحق، فإن القلب إذا كان فيه حياة تألم بورود القبيح عليه، وتألم بجهله بالحق بحسب حياته، وقد يشعر بمرضه، ولكن يشتد عليه تحمل مرارة الدواء والصبر عليها، فهو يؤثر بقاء ألمه على مشقة الدواء، فإن دواءه في مخالفة الهوى، وذلك أصعب شيء على النفس، وليس لها أنفع منه، وتارة يوطن نفسه على الصبر، ثم ينفسخ عزمه، لضعف علمه وبصيرته وصبره، والقلب يبصر الحق كما تبصر العين الشمس، والحق إذا لاح وتبين، لم يحتج إلى شاهد يشهد به.
كما أن من علامات أمراض القلوب عدولها عن الأغذية النافعة الموافقة لها إلى الأغذية الضارة، والقلب الصحيح يؤثر النافع الشافي على الضار المؤذي، والقلب المريض بضد ذلك، يؤثر الضار المهلك على النافع الشافي، وأنفع الأغذية غذاء الإيمان, وأنفع الأدوية دواء القرآن, وكل منهما فيه الغذاء والدواء، والشفاء والرحمة.
عباد الله: ومن علامات صحة القلب أن يرتحل عن الدنيا حتى ينزل بالآخرة، ويحل فيها حتى يبقى كأنه من أهلها وأبنائها، جاء إلى هذه الدار غريبًا يأخذ حاجته ويعود إلى وطنه، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: "كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأنَّكَ غَرِيبٌ أوْ عَابِرُ سَبِيلٍ"، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: "إِذَا أمْسَيْتَ فَلا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أصْبَحْتَ فَلا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ"[البخاري (6416) ].
وكلما صح القلب من مرضه، ترحل إلى الآخرة، وقرب منها حتى يصير من أهلها، يعمل بأعمالها، ويجني من ثمارها، وكلما مرض القلب واعتلَّ، آثر الدنيا واستوطنها، حتى يصير من أهلها، وقد جمع علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- هذا المعنى في قوله: "إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، والآخرة قد ارتحلت مقبلة ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا؛ فإن اليوم عمل ولا حساب وغدًا حساب ولا عمل".
نسأل الله أن يصلح لنا قلوبنا، ويهدي نفوسنا، ويصلح لنا أحوالنا، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي بدأ الخلق ثم يعيده وهو على كل شيء قدير, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الخلق والملك والتدبير، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا.
عباد الله: اتقوا الله ربكم حق تقاته، وعظّموه حق تعظيمه، وطهّروا قلوبكم، واحرصوا على سلامتها من كل ما لا يرضي الله -جل وعلا-.
عباد الله: من علامات صحة القلب أنه لا يزال يحث صاحبه حتى ينيب إلى الله، ويخبت إليه، ويتعلق به تعلق المحب المضطر إلى محبوبه، الذي لا حياة له ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا برضاه وقربه، والأنس به، فبه يطمئن، وإليه يسكن، وإليه يأوي، وبه يفرح، وعليه يتوكل، وبه يثق، وإياه يرجو، وله يخاف، فذكر الله قُوتُه وغذاؤه، ومحبته والشوق إليه: حياته ونعيمه ولذته وسروره، والالتفاف إلى غيره والتعلق بسواه: داؤه، والرجوع إليه: دواؤه.
قال بعض العارفين: "مساكين أهل الدنيا خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها". قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: "محبة الله والأنس به، والشوق إلى لقائه، والتنعم بذكره وطاعته". وقال آخر: "والله ما طابت الدنيا إلا بمحبته وطاعته، ولا الجنة إلا برؤيته ومشاهدته". وقال آخر: "من قرت عينه بالله تعالى قرت به كل عين، ومن لم تقر عينه بالله تقطع قلبه على الدنيا حسرات". وقال يحيى بن معاذ: "من سُرَّ بخدمة الله سُرَّت الأشياء كلها بخدمته، ومن قرَّت عينه بالله قرت عيون كل أحد بالنظر إليه".
ومن علامات صحة القلب كذلك: أن لا يفتر عن ذكر ربه، ولا يسأم من خدمته، ولا يأنس بغيره إلا بمن يدله عليه، ويذكره به، قال تعالى: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) [آل عمران: 191]، فإن القلوب كما قيل كالقدور، واللسان كالمغرفة، فاللسان يُخرِج ما في القلب من حلو أو حنظل، فلو كان القلب عامرًا بحب الله لانشغل اللسان بالذكر، قال بعضهم: "المحب لا يجد للدنيا لذة ولا يغفل عن ذكر الله طرفة عين"، وقيل كذلك: "المحب طائر القلب كثير الذكر، يسعى إلى رضوان الله بكل سبيل يقدر عليه".
فهو لا يأنس بغيره ولا يتلذذ بسواه، روي عن ابن مسعود أنه قال: "من كان يحب أن يعلم أنه يحب الله فليعرض نفسه على القرآن، فإن أحب القرآن فهو يحب الله، فإنما القرآن كلام الله"، وروي عنه أنه كان يقبّل المصحف ويقول: "كلام ربي، كلام ربي"، وقال عثمان -رضي الله عنه-: "لو طهرت قلوبكم ما شبعت من كلام ربكم".
ومن علامات صحة القلب أنه إذا فاته فرض من فرائض الله، أو فاته وِرْده، وجد لفواته ألمًا عظيمًا، أعظم من تألم الحريص بفوات ماله وفقده، وقد روي حماد بن زيد فقال: "كان ليث بن أبي سليم إذا فاتته الصلاة في مسجد حيه اكترى حماراً، فطاف عليه المساجد حتى يدرك جماعة".
ومن علامات صحته أنه يشتاق إلى الخدمة والعبادة، كما يشتاق الجائع إلى الطعام أو الشراب، وأنه إذا دخل في الصلاة ذهب عنه همه وغمه بالدنيا، واشتد عليه خروجه منها، ووجد فيها راحته ونعيمه.
عباد الله: ومن علامات صحة القلب: أن يتعب الجسد في عبادة ربه ولا يمل القلب، لقد كان أويس -رضي الله عنه- يقوم الليل فيشعر أن الليل ينقضي بسرعة لا يستطيع أن يشبع ويريد أن يطيل القيام، ويطيل الركوع، ويطيل السجود، ويطيل الصلاة، فلا يجد ليلاً يكفيه، فيأتي على ليلة ويجعلها ليلة الركوع أي يطيل من الركوع، وبعد ذلك ليلة: ليلة السجود، وليلة هي ليلة القيام، وهذا تنويع في طاعة الله - تبارك وتعالى -، وهذه هي أحوال الصالحين.
وإن من علامات صحة القلب أنه لا يمل حتى لو تعب البدن، وإنما الشرع الحنيف يحفظك حتى لا يمل القلب، وما أحسن ما وصفهم القرآن به قال تعالى: (إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ *كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات: 16 - 18].
ومن علامات صحة القلب أن يكون همّه واحدًا، وأن يكون في الله، قال تعالى: (وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى) [الليل: 19، 20]، وأن يكون أشح بوقته أن يذهب ضائعًا من أشد الناس شحًّا بماله، وأن يكون اهتمام العبد بتصحيح العمل أعظم منه بالعمل، فيحرص فيه على الإخلاص والمتابعة والإحسان، ويشهد مع ذلك منة الله عليه فيه، وتقصيره في حق الله -جل جلاله-.
ولا ريب أن سرور القلب وسعادته يبعثه على دوام السير إلى الله -عز وجل-، وبذل الجهد في طلبه، وابتغاء مرضاته، ومن لم يجد هذا السرور، ولا شيء منه، فليتهم إيمانه وأعماله, فإن للإيمان حلاوة، من لم يذقها فليرجع، وليقتبس نورًا يجد به حلاوة الإيمان.
فلا نجاة إلا بإصلاح القلوب وسلامتها، فأمراضها شر وأشد من أمراض الأبدان، فاعتصموا - أيها الإخوة- بحبل الله، واستمسكوا بصراطه المستقيم، وطهروا قلوبكم، وعودوا لربكم، ولا تغرنكم الحياة الدنيا.
نسأل الله كمال الإيمان به، وجميل التوكل عليه، وحسن الظن فيه.
اللهم املأ قلوبنا ثقة بك، وتوكلاً عليك، ومحبة لك، اللهم إنا نسألك إيمانًا صادقًا، ولساناً ذاكرًا، وقلبًا خاشعًا.