الجبار
الجَبْرُ في اللغة عكسُ الكسرِ، وهو التسويةُ، والإجبار القهر،...
العربية
المؤلف | عبد العزيز بن محمد القنام |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المهلكات |
فالغيبة والنميمة -يا عباد الله- داءان خطيران يسببان عذاب القبر وشدة الحساب، فقد ورد أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- مَرَّ بِقَبْرَيْنِ فَقَالَ: "إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِير، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ يَمْشِى بِالنَّمِيمَةِ". والغيبة والنميمة انتهاك لحرمة المسلم التي أوجب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- صونها وحفظها ..
عباد الله: أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله العظيم، وأحثكم على طاعته وأحذركم وبال عصيانه ومخالفة أمره، وأستفتح بالذي هو خير: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة:7، 8].
أما بعد:
فيا أيها الإخوة المؤمنون: إن داء الغيبة والنميمة داء من أفسد وأفتك الأدواء التي تبتلى بها الأفراد والجماعات، ومن ثَمَّ حذَّرنا اللهُ -تبارك وتعالى- من هذا الداء في كتابه العزيز فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ) [الحجرات:12].
إن أشد ما يكرهه الإنسان وينفر منه طبعه أن يتناول لحم ميت ليأكله، وأشد منه غلظة وأكثر منه بشاعةً أن يكون ذلك الميت أخاه، بهذه الصورة البشعة المستقذرة شَبَّه الله الغيبة وما يتناوله المغتاب من أخيه، وشبه الله الغيبة بهذه الصورة لينفر الناس منها كما ينفرون من ذلك، ولتستقر في نفوسهم بشاعتُها.
والغيبة هي أن تذكر أخاك بما يَكْره، قال –صلى الله عليه وسلم-: "أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟!"، قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ"، قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟! قَالَ: "إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ".
فالغيبة إذًا هي ذكرك أخاك بما يكره، سواء كان ذلك فيه أم لم يكن فيه، على أن ذكرك ما فيه تتناوله حرمة الغيبة، وذكرَك ما ليس فيه تتناوله حرمة البهتان والعياذ بالله تعالى. وسواء كان ذلك بحضوره أم بغيابه، أم كان ذلك في خُلُقهِ أم خَلْقهِ، كل ذلك اعتداء على حرمة المسلم ونيلٌ من عرضه وشخصه، ورسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: "كُلّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ".
والنميمة هي نقل الحديث من قوم إلى قومٍ، أو من إنسان إلى إنسانٍ آخر على وجه الإفساد؛ فهي خصلة ذميمة تجلب الشر وتدعو إلى الفرقة، وتوغرُ الصدور وتثير الأحقاد، وتحطُّ بصاحبها إلى أسفل الدركات، وتنفر الناس منه، فيصبح لا أنيس له ولا جليس، والعاقل من تبرَّأ من تلك الخصال الدنيئة، وتطهر من أدرانها الخبيثة، وعمل على محاربتها بكل ما في وسعه، قال تعالى: (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ) [القلم:10-13]، وقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ".
فالغيبة والنميمة -يا عباد الله- داءان خطيران يسببان عذاب القبر وشدة الحساب، فقد ورد أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- مَرَّ بِقَبْرَيْنِ فَقَالَ: "إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِير، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ يَمْشِى بِالنَّمِيمَةِ".
والغيبة والنميمة انتهاك لحرمة المسلم التي أوجب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- صونها وحفظها، فقد خطب –صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع فقال: "فَإِنَّ اللَّهَ حرَّمَ عَلَيْكُمْ دِماءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا".
فالغيبة خيانة وهتك ستر وغدرٌ وإيذاءٌ للمسلمين، وهي زادُ الخبيث، وطعامُ الفاجر، ومرعَى اللئيم، وضيافةُ المنافق، وفاكهةُ المجالس المحرمة.
ولقد بَيَّنَ لنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- خطر الغيبة والنميمة وإثمهما وسوء عاقبة أصحابهما، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "لما عُرج بي مررتُ بقوم لهم أظفار من نُحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟! قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم".
وعَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: قُلْتُ لِلنَّبِي –صلى الله عليه وسلم-: "حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ بعض الرواة: تَعْنِى قَصِيرَةً، فَقَالَ: "لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ". إن كلمة أم المؤمنين عائشة -على ما فيها بالنسبة لما نحن اليوم عليه من نيل من أعراض المسلمين وذكر عيوبهم ومثالبهم ونقائصهم- لا تُعدُّ شيئًا.
عباد الله: لما عَلِمَ سلفُنا الصالح حرمة الغيبة وأدركوا خطرها على المجتمعات وخطورتها على المغتاب في يوم العرض على الله تعالى، أمسكوا ألسنتهم عن التكلم في عرض أحد أو طعنه أو شتمه، وشغلوها بذكر الله وطاعته والأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر، وإذا جاءهم فاسق بنبأ لامُوهُ على نقله الحديث، وحذروه من مغبة سوء فعله، فقد جاء رجل إلى عمرو بن عبيد فقال له: إن الأسواريَّ ما زال يذكرك في مجالسه بشرٍّ، فقال عمرو: "يا هذا: ما راعيت حقَ مجلس الرجل حين نقلت إلينا حديثه، ولا أديتَ حقي حين أعلمتني عن أخي ما أكره، ولكن قل له: إن الموت يعمّنا، والقبر يضمّنا، والقيامة تجمعنا، والله يحكم بيننا، وهو خير الحاكمين".
ورُوِيَ أن رجلاً قال لعبد الملك بن مروان: إني أريد أن أُسِرَّ إليكَ حديثًا، فأشار الخليفة إلى أصحابه بالانصراف، فلما أراد الرجل أن يتكلم قال الخليفة: قِفْ، لا تَمْدحني، فأنا أعلم بنفسي منك، ولا تَكْذِبْني فأنا لا أعفو عن كذوب، ولا تَغْتَبْ عندي أحدًا فلستُ أسمع إلى مغتاب. فقال الرجل: هل تأذن لي في الخروج؟! فقال الخليفة: إن شئت فاخرج. هذه مخاطر الغيبة وطرقُ علاجها.
أيها المسلمون: ولا تباح الغيبة إلا لغرض شرعي؛ كأن يعلن المظلوم عن ظلمه، أو يُدعى إنسان للشهادة، أو يشهدَ من غير أن يُدعى لإثبات حق قد يضيعُ، قال تعالى: (وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) [البقرة:283]. فإحقاق الحقوق والسعيُ في إيصالها لأهلها مما هو مطلوب ومأمور به شرعًا، فقد سألتْ هِنْدُ زوجة أبي سفيان -رضي الله عنهما- رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، وَلَيْسَ يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي، إِلاَّ مَا أَخَذْتُ مِنْهُ وَهْوَ لاَ يَعْلَمُ، فَقَالَ: "خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ".
كما تجوز الغيبة عندما يسألك إنسان عن مصاهرة إنسانٍ أو مشاركته أو معاملته، فإنه يجوز لك أن تبين مِنْ حاله وواقِعه بقدر الحاجة وبنية النصيحة لا التشفي. كما أن المجاهر بالمعاصي لا تحرم غيبته إن أُمِنَ شَرُّهُ، وكذا الفاسق والمنافق والمارق من الدين؛ كي يجتَنب الناس شرورهم.
عباد الله: أما النميمة فهي أشد خطرًا من الغيبة؛ لأنها نقل الحديث من قوم إلى قوم على جهة الإفساد والفتنة، وهي تورث الفتنة والضغينة وتفرق بين المتآلفين، وتفضي إلى كثير من المفاسد والشرور، والنمام بنميمته يباعد ويفرق بين المتآلفين، ويفصم عقدة النكاح بين الزوجين، ويسبب الحرب بين الأهلين. ثم إن النمام يجمع إلى قبح النميمة قبح الغيبة؛ لأنه يهتك ستر أخيه ويذكر عيوبه، وهو حين يسعى بين الناس بالإفساد يقترف جريمة الغدر والخيانة.
ولقد حذر الله -عز وجل- المؤمنين شر النمام، ونهاهم عن تصديق قوله، وصرح لهم بفسقه، فقال -جل شأنه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات:6] .
فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أن المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه، واعلم -أخي المسلم- أن من نَمَّ لك نَمَّ عليك، ومن نقل لك خبر سوء سينقل عنك مثله.
فانهوا المغتابين عن أعراضِ المسلمين، وذكِّروهم بالله -تبارك وتعالى- أن يتمادَوا في معصيته، فإن لكلِّ قولٍ حسابًا عند الله -عز وجل-، قال الله تعالى: (ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70، 71].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ذي الجلال والإكرام والعزةِ التي لا ترام ولا تضام، أحمد ربي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عزيزٌ ذو انتقام، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى دار السلام، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه الأئمة الأعلام.
أما بعد: فاتقوا الله -أيها المسلمون-، فمن اتقى الله وقاه العذاب وضاعف له الثواب، قال الله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَـانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ قَعِيدٌ * مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق:16-18].
عباد الله: إن الغيبةَ والنميمة كبيرةٌ من الكبائر، زيَّنها الشيطان للإنسان، فوقع بها في شراكه ومكرِه، وظلم بها المسلم نفسَه. وإن النميمةَ نوع خبيث من أنواع الغيبة، فالنميمة نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض للإفساد بينهم، قال الله تعالى في ذم النمام: (وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) [القلم:10-12]، وعن حذيفة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "لا يدخل الجنة نمام". متفق عليه.
فاتقوا الله -أيها المسلمون-، وحاسبوا أنفسَكم قبل أن تحاسَبوا، وزنوها قبل أن توزنوا.
أيها المسلمون: إن أهلَ العلم بيَّنوا أنَّه يجوز للمظلوم أن يذكُر ظلامتَه لولي الأمر من أمير وقاضٍ ونحوهما، ويجوز لمن رأى منكرًا أن يرفعَه لمن له ولاية وقدرةٌ على التغيير وزجر للعاصي، ويجوز للمستفتي أن يذكرَ ما وقع عليه من ظلم للمفتي؛ ليبيِّن له وجهَ الحق، ويجوز لمن شاورك في أحد أن تذكر له بعضَ حاله، ولا يجوز أن تخفي عنه ما يوقعه في الغرر والخديعة، فهذه الأنواع ذكر أهل العلم أنها تُباح فيها الغيبة لأجل الضرورة ولما أباحه الشرع والدليل، وما سوى ذلك من الأمور التي فيها غيبة بالتشهي وفيها ظلم وعدوان فإن ضرر ذلك على المغتاب لا على من ظُلم، فاتقوا الله عباد الله.
أيها المسلمون: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـائِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56]، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا"، فصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم...