القيوم
كلمةُ (القَيُّوم) في اللغة صيغةُ مبالغة من القِيام، على وزنِ...
العربية
المؤلف | عبد الحليم توميات |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - التوحيد |
رقيب عليك في الباطن، فاحذر أن يكون قلبك محبًّا لغيره تعالى، فمن أعجب الأشياء أن تعرفه ثم لا تحبه، وأن تعرف قدر الرّبح في معاملته ثم تعامل غيره، وأن تعرف قدر غيرته على محارمه ثم تتعرّض لها، وأن تذوق ألم الوحشة في معصيته ثم لا تطلب الأنس بطاعته، وأعجب من هذا كله أن تعلم أنك لا بد لك منه، وأنك أحوج إليه، ثم تبتعد منه ..
أما بعد:
عباد الله: إن من مستلزمات التوحيد، ومن حقوق الله على العبيد، التي تعتبر من منازل السائرين ومسالك المتقين منزلة المراقبة؛ مراقبة الله -سبحانه وتعالى- في السر والإعلان، في أعمال القلب والجوارح واللسان، وهذه المنزلة العظيمة لا تقل شأنًا عن المنازل الأخرى التي رأيناها فيما سبق.
واعلموا -إخوتي الكرام- أن لله -سبحانه وتعالى- في ذكر أسمائه وصفاته في القرآن الكريم حكمًا عظيمة، ومن ذلك أنه تعالى ذكر لنا أسماءه وصفاته لنتعرفه بها، وندنو بها إليه، ندبنا ودعانا لمعرفة أسمائه وصفاته لنتعبَّده بها ونسير إليه بمقتضاها ومدلولها.
والمراقبة تشمل أسماءً حسنى كثيرة؛ منها: الرّقيب والحفيظ والعليم والسميع والبصير، فمن عقل هذه الأسماء وتعبّد الله بمقتضاها حصلت له المراقبة لا ريب في ذلك.
قال تعالى: (وَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَحْذَرُوهُ) [البقرة:235]، وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، وقال: (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْء رَّقِيبًا) [الأحزاب:52]، وقال: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ) [الحديد:4]، وقال: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ) [غافر:19].
وفي حديث جبريل المشهور أنه سأل النبي –صلى الله عليه وسلم- عن الإحسان فقال: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
كل هذه النصوص تمر عليك -أيها المسلم- لتذكرك بأن الله سبحانه مطلع على جميع أعمالك ونواياك، كل وقت، وكل لحظة، وكل نفس، وكل طرفة عين، فكيف يليق بك بعد ذلك كله أن تعيش في ظلمات الغيّ والهوى؟!
المراقبة هي دوام علم العبد وتيقنه باطلاع الحق عليه؛ على ظاهره وباطنه.
رقيب عليك في الباطن، فاحذر أن يكون قلبك محبًّا لغيره تعالى، فمن أعجب الأشياء أن تعرفه ثم لا تحبه، وأن تعرف قدر الرّبح في معاملته ثم تعامل غيره، وأن تعرف قدر غيرته على محارمه ثم تتعرّض لها، وأن تذوق ألم الوحشة في معصيته ثم لا تطلب الأنس بطاعته، وأعجب من هذا كله أن تعلم أنك لا بد لك منه، وأنك أحوج إليه، ثم تبتعد منه.
وهو رقيب عليك في الظاهر من الأقوال والأفعال، فإن كنت تستحيي من القبيح أمام إخوانك وجيرانك والناس أجمعين، فالله أولى أن تستحيي منه سبحانه، قال تعالى في ذم المنافقين: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ) [النساء:108].
وإذا خلوت بريبـةٍ في ظلمة
فخاطب نفسك وتحدث معها: ويحك يا نفس، إن كنت قد تجرأت على الله وعصيتيه وأنت تظنين أنه لا يراك فما أكفرك، وإن كنت قد تجرأت على الله وعصيتيه وأنت تعلمين أنه يراك فما أقل حياءك. ويحك يا نفس، أجعلت الله أهون الناظرين إليك؟! إياك إياك أن تغفل عن الله وعن مراقبته، فإنه يمهل ولا يهمل.
إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقـل
واعلموا -عباد الله- أن أعظم مجالات المراقبة هو التوحيد وتجنّب الشرك، خاصة شرك القلوب، ومنها الدعاء والتوكل والحب والشكر.
أما الدعاء فإني سائلك -يا أخي-: كم ساعة دعوت الله في هذا اليوم؟! هل هي ساعة أو ساعتان؟! فإني أخشى أن تكون حصيلة هذه العبادة العظيمة دقائق معدودات.
وأما التوكل فهل أنت من الذين إذا أصابتهم مصيبة ذكروا الله أوّلاً ثم الأسباب ثانيًا، فكم منهم أولئك الذين إذا أصابه وجع أو ألم يتذكر أوّل ما يتذكر الطبيب المعالج، ولا يذهب ذهنه في أول وهلة إلى رب الطبيب.
ووالله لو وَجَدَنا الله -عز وجل- معظمين له حق التعظيم نلجأ إليه قبل أي حميم لكان عند ظننا به، مصداقًا لقوله في الحديث القدسي: "أنا عند ظن حسن عبدي بي، فليظن بي ما شاء". متفق عليه.
ولكن لما جُعِل اللهُ تعالى من الأمور الفرعية الثانوية، يلجأ إليه العبد عندما يفشل في إبرام أمره، تركه الله ووكله إلى نفسه.
واعلموا أنّ المراقبة تكون قبل العمل وفي العمل وبعد العمل؛ فراقب نفسك قبل العمل: هل حركك عليه الهوى وحظ النفس، أو الحامل لك عليه هو إرادة الله تعالى والدار الآخرة؟! فإن كان الله وحده لا شريك له هو الذي أردته بعملك فلا تتوان في عمله وإلا فاتركه، قال الحسن: "رحم الله امرءًا وقف عند عمله، إن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخر". وهذا هو الإخلاص الذي يناط به قبول العمل.
ثم راقب نفسك في العمل، هل هو على شريعة الله وسنّة نبيه –صلى الله عليه وسلم-؟! فإن كان كذلك فلا تتأخر عن القيام به، وإلا فاعلم أن عملك هذا مردود عليك، وهذا هو الاتباع الذي يعتبر شرطًا ثانيًا في قبول العمل.
وراقب نفسك بعد العمل، فإياك أن تنسب التوفيق إلى نفسك، بل انسبه إلى الله سبحانه الذي وفقك إليه، لا موفق سواه، وهذا مقام الافتقار إلى الله وحده.
فإن كان العمل معصية فراقب نفسك، ولا تتماد في العصيان، بل تب إلى ربّك، وأقلع عن ذنبك، تجد الله توابًا رحيمًا.
هذه هي المراقبة التي يجب على المسلم أن يستحضرها في كل أفعاله وأقواله. والله الموفق لا ربّ سواه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي وسع علمه جميع العباد، وخصّ أهل طاعته ومراقبته بسلوك سبيل الرّشاد، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة أدّخرها ليوم المعاد، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الذي أوضح لنا طريق الهدى والسداد، صلى الله عليه وسلم وعلى آله الأكرمين الأجواد، صلاةً وسلامًا تبلغنا نهاية الأمل والمراد.
أما بعد:
فإن الذي أدرك أهمية مراقبة الله تعالى سهل عليه الجواب عن السؤال الذي يطرحه كثير منا هذه الأيام: كيف هانت المعصية وانتشرت الآثام والرذائل في المسلمين؟!
الجواب هو أن المراقبة تكاد تنعدم في بعض القلوب، ولا يمكن لأحد أن يراقب نفسه إلا إذا حاسبها كما يحاسب الشريك الشحيح شريكه، أما إذا كان أحدنا راضيًا عن نفسه مطمئنًا على قلبه، فإنه سيثق بنفسه ويقع على أمّ رأسه، وإلا فمن هذا الذي يثق بشيء موصوف في كتاب الله تعالى بأنه يأمر بالسوء: (وَمَا أُبَرّئ نَفْسِى إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِلسُّوء) [يوسف: 53].
كيف تأمن على نفسك بعد أن لم يأمنها الأنبياء والمرسلون والصديقون والصالحون؟!
ها هو رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يكثر في سجوده من أن يقول: "يا مقلب القلوب: ثبت قلبي على دينك وطاعتك"، فإذا سئل عن سبب ذلك قال: "وما يؤمنني، وإنما قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الله -عز وجل-، إنه إذا أراد أن يقلب قلب عبده قلبه". رواه أحمد.
فاتهم نفسك دائمًا وحاسبها وأنّبها، لعلها تستجيب لندائك وتستكين لدعائك، واجعل الله تعالى نصب عينيك، واعلم أنه مطّلع عليك، فمن العيب أن يراك الله حيث نهاك، وأن لا يجدك حيث أمرك. هذه هي العقيدة التي ينبغي لنا أن نعقد قلوبنا عليها وأن ندعو الناس إليها.
ونختم كلامنا هذا بقصة من قصص المتقين وسير الصالحين، وكلكم يعرف قصة عمر بن الخطاب حين كان يتفقد رعيته ليلاً؛ إذ مر على باب من أبواب بيوت المدينة، فسمع امرأة تهيئ اللبن لتبيعه نهارًا، فخلطته بالماء، فقالت لها ابنتها: إن أمير المؤمنين عمر نهانا أن نخلط الماء باللبن، فقالت لها أمها: ولكن عمر لا يرانا الآن، فقالت الفتاة المؤمنة: ولكن رب عمر يرانا.
(أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام:90].