الحفي
كلمةُ (الحَفِيِّ) في اللغة هي صفةٌ من الحفاوة، وهي الاهتمامُ...
العربية
المؤلف | بلال بن عبد الصابر قديري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
الحب جِبِلَّةٌ في الخلق وفطرة في النفوس، فكل قلب يخفق بحبّ، وكل لسان يلهج بذكر محبوب، وكل أذنٍ تطرب بسماع كلام حبيب، ولكن شتان بين حُبٍّ وحُب، وشتان بين قلب امتلأ حبًّا للرحمن وقلوبٍ اشتغلت حبًّا للأخدان والمردان، قال الله تعالى: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) ..
مهما يكن من شيءٍ بعد: فإن أبلغ الوصايا وأنفعها، وأهم النصائح وأرفعها هي الوصيةُ بتقوى الله -عز وجل-؛ إذ لا خير يدرك ولا رحمة تنزل ولا علم يُحَصَّلُ إلا بالتقوى، التي ملاكها وجماع خيرها أن تعبدوا الله كأنكم ترونه، فإن لم تكونوا ترونه فإنه يراكم.
أيها الناس: لا شك أن من أشرف العلوم بعد علم العقائد والتوحيد علمَ الفقه في دين الله؛ إذ به يُعْبَدُ الله على هُدى وبصيرة وبَيِّنَةٍ من الأمر، وقد صح في الخبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين". رواه أحمد والطبراني.
والفقه لغة: الفهم والإيضاح، وفي اصطلاح العلماء: معرفة الأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها التفصيلية، والفقيه هو المستنبط للأحكام. ويكون الفقه تارةً فرضًا عينيًّا، وتارةً فرضًا كفائيًا، قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) [التوبة: 122].
ونحن اليوم -يا عباد الله- بصدد التفقه في أمر عمت به البلوى، وشغل به أهل المدر والوبر، لا سيما الشباب منهم، ممن يعيشون للهوى وأحلام اليقظة، الذين يبدأ تاريخ حياتهم بالحاء، ثم لا يلبث أن ينتهي بالباء، إنه الحب.
الحب جِبِلَّةٌ في الخلق وفطرة في النفوس، فكل قلب يخفق بحبّ، وكل لسان يلهج بذكر محبوب، وكل أذنٍ تطرب بسماع كلام حبيب، ولكن شتان بين حُبٍّ وحُب، وشتان بين قلب امتلأ حبًّا للرحمن وقلوبٍ اشتغلت حبًّا للأخدان والمردان، قال الله تعالى: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) [البقرة: 165]، وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [المائدة: 54]. وليس العجب أن يحبوه، فهو المتفضل بالنعم والعطايا سبحانه، ولكن العجب أن يحبهم مع غناه عنهم وعدم حاجته إليهم.
أيها الناس: لكن ناسًا من الناس خرجوا بالحب عمّا ينبغي أن يكون عليه إلى معانٍ أخرى مبتذلة، فتحت مظلة الحب المحرَّم انتهكت الحرمات وارتكبت المحرمات، فحاربوا الله بالعظائم: أرق بالليل، وحَرَقٌ بالنهار، وغرق في أَسَنِ الرذيلة، ولا أدلَّ على تعلق جمعٍ من الشباب بالحبّ المحرّم من تلك القصائد على صفحات الجرائد، اقرأ ما يكتبون، واسمع ما ينطقون؛ تجدهم وقد ذهبت أيامهم في المغازلات والمطاردات، فما أدركوا إلا الهم والأرق؛ لأن الله أبى إلا أن يعذب من تعلّق بسواه.
تولَّعَ بالعشق حتى عشـق
وشطَّ بعضهم في الحب غلوًّا أخرجه عن الحد، فأوجب لهم الإثم، وعَظُمَ منهم الجرم، يقول مجنونهم في اعتراض سافرٍ على الملك القهَّار:
أتـوب إليك يا رحمن مِما
ويقول قيس بن ملوَّح في ليلاه التي غدت قبلته وصارت كعبته:
أراني إذا صليت يممت نحوها
فربما أخرج الحب ناسًا من الملة والدين وحياض المسلمين.
ولئن كان أهل الجاهلية قصر إثمهم في حب الرجال للنساء، فإن فتنة أهل زماننا بالحب أشد وأفظع، فلقد شغل الذكور بالذكور، والإناث بالإناث، فيما تعارف الناس على تسميته بالعشق أو الإعجاب، نعوذ بالله من الخذلان.
والسبب الذي أورد الشباب العطب خواء قلوبهم من حب الله؛ لأن النفس البشرية لو كان لها شغل بالخالق لما أحبت المزاحمة بما يسخطه، وقديمًا قيل: "من عشق طريق اليمن لم يلتفت إلى الشام". قال الله -عز وجل-: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) [البقرة: 165].
فيا عشاق القَدِّ والخد، كيف طابت نفوسكم أن تجعلوا لله الدُّونَ من قلوبكم؟! وما تعلق قلب بغير الله إلا بَاءَ ذِلَةً وقِلَّةً وهوانًا، فالله تعالى هو المستحق لكمال المحبة، فقد أطعم من جوع، وكسا من عُري، وآمن من خوف، وآوى من بعد وحشة، وأغنى من بعد فقر، وجبر من بعد كسر.
حب الله يورث سعادة الدنيا ونعيم الآخرة، قال الله -عز وجل- في الحديث القدسي: "من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَ إِليَّ مما افترضته عليه، وما يزال يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنَّه". رواه البخاري.
ومن أحبَّ اللهَ أحبَّ لقاء اللهِ، ومن أحبَّ لقاء اللهِ أحبَّ اللهُ لقاءَه. هذا حرام بن ملحان يُطعن بالرمح من خلفه يوم أُحدٍ، حتى نفذ من بطنه، فيفرغ الدم على وجه من طعنه ويقول: فزت ورب الكعبة. فهنيئًا له، (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا) [مريم: 96].
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُقْذَفَ في النار". متفق عليه.
أيها الناس: المصطفى -صلى الله عليه وسلم- حبيب رب العالمين وخليله، جعل الله حبه أساسًا في الإيمان وأصلاً، فلا يتم الإيمان إلا إذا كان أحب إليك من مالك وولدك ونفسك والناس أجمعين، وكم حزنت نفوسٌ أنها لم تحظ بلقياه ولم تكتحل عيونهم برؤياه، ولكن من يا ترى يصدق فيه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مِن أشد أمتي لي حبًّا ناسٌ يكونون بعدي، يَوَدُّ أحدهم لو رآني بأهله وماله". رواه مسلم.
روى أهل العلم من المفسرين أن ثوبان مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان شديد الحب للنبي -صلى الله عليه وسلم- قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه، فقال له -صلى الله عليه وسلم-: "ما غير لونك يا ثوبان؟!"، فقال: يا رسول الله: ما بي من مرض ولا وجع، غير أنني إذا لم أرك استوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة، فأخاف أن لا أراك؛ لأنك سترفع مع النبيين، وإني إن دخلت الجنة فأنا في منزلة أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل الجنة لا أراك أبدًا، فنزل قوله تعالى: (وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا) [النساء: 69].
وما أحبَّ أحدٌ من الناس أحدًا كحب أصحاب محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- محمدًا، فكانوا يحبونه أشدَّ من حبهم للماء البارد في اليوم القائظ، فكانت كل مصيبةٍ بعده جلل.
فاستبشر بمثل حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- حين جاءه رجل من أهل البادية يسأله عن الساعة، قال: "ويلك، ما أعددت لها؟!"، قال: ما أعددت لها كثير صوم ولا صلاة ولا صدقة إلا أنيّ أحب الله ورسوله، قال: "فإنك مع من أحببت"، قال راوي الحديث: قلنا: ونحن كذلك؟! قال: "نعم"، قال: ففرحنا فرحًا شديدًا يومئذ. متفق عليه. قال أنس بن مالك وهو الراوي: ونحن نحب أبا بكر وعمر، نعمل بأعمالهم فنرجو الله أن يحشرنا معهم.
ولم يكن حب النبي -صلى الله عليه وسلم- مما انفرد به أصحابه عن غيرهم، بل إن جذع النخلة التي كان يخطب عليها وتركها لما صُنِعَ له المنبر حنَّ لفراقه، وخارَ خُوَارَ الناقة العشراء، وما هدأ حتى نزل الحبيب -صلى الله عليه وسلم- عن منبره وسكَّنه، وليس هذا فحسب، بل إنه -عليه الصلاة والسلام- لما جاء يوم النحر من حجة الوداع ووقف لينحر هديه طفقت الإبل تزدلف إليه سراعًا بأيَّتِهنَّ يبدأ، فنحر ثلاثة وستين بدنةً بيده وتوقف، فكان ما نحر بعدد سِنيِّ عمره -صلى الله عليه وسلم-.
أيها الناس: الأخوَّة الإسلامية من روابط المحبة الوثقى بين المسلمين، فمَثلُهُم في التوَادّ والتراحم كمثل الجسد الواحد، وهم لبعضٍ كالبنيان يشد بعضه بعضًا، ومحبة المسلمين فيما بينهم يجب أن تكون لله وفي الله، لا تبنى على عوارض الدنيا وأغراضها، ففي الحديث أن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: "رجلان تحابَّا في الله؛ اجتمعا عليه وعليه تفرقا"؛ لأنه حينما يكون الإخاء خالصًا لله، والوُد قائمًا على الإيمان بالله، والترابط يَشُدُ عراه حبل الإيمان، يكون من ثماره مثل قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن من عباد الله أناسًا ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء بمكانهم من الله"، قالوا: يا رسول الله: أخبرنا من هم؟! قال: "هم قوم تحابوا في الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها". رواه أبو داود.
أيها المسلمون: ومن المحبة الجبلِّيَّة تلك المودة الكامنة بين الزوجين: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الروم: 21]. فإن آثار هذه المودة تبدو ظاهرة للعيان، مجلاةً في حياة كل زوجين، ولا يخفى على ذي اللُّبِّ والبصيرة الآثار الاجتماعية الرائعة التي تنبعث من المحبة بين الزوجين من سلامٍ واطمئنانٍ يحيط الأجواء ويعبق الحياة.
وهذا النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلم أمته أن حُبَّ الرجل لزوجته من مكارم الأخلاق، فيظهر حبه لزوجته ولا يكتمه، وذلك لمَّا سأله عمرو بن العاص -رضي الله عنه-: يا رسول الله: أيُّ الناس أحبُ إليك؟! قال: "عائشة"، قال: فمن الرجال؟! قال: "أبوها". متفق عليه. وهي -رضي الله عنها- تقول له: "والله إني لأحبك وأحب قربك". ففي الحب الحلال للزوجة والأهلِين كفايةٌ وغنيةٌ عن الحرام، وأيُّ امرئ أبى الحلال فليعلم أنه مفتون.
إخوة الإسلام: ومما تعارف المسلمون وتواطؤوا على حبه بقاع شتى؛ لأن من تمام الحب حب محبوبات الله، فأفضل البقاع إلى الله المساجد، وأبغضها إليه الأسواق، وأحب أرض الله إلى الله مكة، وقد دعا محمد -صلى الله عليه وسلم- للمدينة فقال: "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا لمكة أو أشد"، وكان إذا قدم من سفر ورآها أوضع راحلته، وإن كان على دابة حركها. وإن تعجبوا فعجب أن يكون الصخر الجلمد الأصم يُحِبُّ، ويزول العجب بسماع قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أحد جبل يحبنا ونحبه".
وأما حبّ الوطن وأنه من الإيمان فحديث ضعيف لا أصل له، وإنما تحنُّن الناس إلى أوطانهم معهود، كما الطير إلى وكره ومنشئه، ولكن الحذر كل الحذر من أن تُتَّخَذ هذه المحبة وسيلةً لهدم عرى الأخوة الإسلامية، التي تجمع الأبيض والأسود، والعربيَّ والعجميَّ، بل وطننا هو الوطن الإسلاميُّ الكبير، لا الأنفة أو الموالاة والمعاداة على بقعة من الأرض صغيرة:
وأينما ذكر اسم الله في بلد
عباد الله: مظاهر أخرى من الحب الدنيء الهابط ينبغي أن تعلم فتُجتَنَب، مثل الحب والتعلق بالبشر أو الحجر من الطواغيت والأنداد من دون الله، أو أن يجمع المسلم بغير المسلمين من اليهود والنصارى رابطة مودة وصفاء، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) [الممتحنة: 1]، وعجيب أمر هؤلاء وأولئك، فبني جلدتنا ينشدون الأشعار ويروون القصص والأخبار عن محبتهم للغرب وإعجابهم بحضارته وتقدمه، وأولئك يتبرؤون منهم: (هَا أَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [آل عمران: 119]، وقل مثل ذلك فيمن قدم على حب الله وحب رسوله والجهاد في سبيل الله مَنْ دونهم من أموال وأوطان وبنين: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [التوبة: 24].
وكل محبة في الدنيا لم تكن لله تنقلب في الآخرة إلى عداوة وبغضاء: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً) [الفرقان: 27-29]، وقال سبحانه: (الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ) [الزخرف: 67].
فليراع في المحبة أن تنهج نهج الوسطية والاعتدال، أخذًا بوصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القائل: "أحبب حبيبك هونًا ما، عسى أن يكون بغيضك يومًا ما، وأبغض بغيضك هونًا ما، عسى أن يكون حبيبك يومًا ما". رواه البخاري في الأدب المفرد وابن ماجه وأبو داود والترمذي.
وبعد:
أيها المسلمون: إن استطعتم أن لا تحبوا إلا الصحابة والصالحين والعلماء فافعلوا.
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم
أو كما قال الشافعي -رحمه الله-:
أحبُّ الصالحين ولست منهم
وأبشر بالعوض من الله، فإن من ترك شيئًا عوضه الله خيرًا منه، فإن لم تكن قنعت نفسك بعدُ فاسألها: أين لذة أمس؟! وأين هوى النفس؟! لقد ذهبت وبقيت تبعاتها، وغابت وظلت لوعاتها، وإن غابت عن ذهنك فإنها لم تغب عن كتاب حوى الأقوال والأفعال، (لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا) [الكهف: 49]. فكن ممن ينهى نفسه عن هواها، ويلزمها بطاعة خالقها، (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات: 41،40]
اللهم إنا نسألك حبك، وحب من يحبك، وحب كل عمل يقربنا إلى حبك، اللهم ما رزقتنا مما تحب فاجعله لنا قوة فيما تحب، وما صرفته عنا مما نحب فاجعله انصرافًا إلى ما تحب.
الخطبة الثانية:
أما بعد: فإن من الملوثات التي لحقت بأمة الإسلام من الغرب الكافر احتفال جمع ليس بالقليل من بنات المسلمين وأبنائهم بما يعرف بعيد الحب، الذي تواطؤوا على الاحتفال به في مثل هذا الشهر من كل عام، فيتبادلون فيه التهاني والزهور الحمراء، ويحتفلون بالحب والرومانسية والصداقة، زعموا، وتحرص البنات على لبس الأحمر كما الحال في ديار الكفار، وما علموا أن عيد الحب -أو قل: الفالانتاين إن شئت- ما هو إلا احتفال ديني خاصّ لدى النصارى، وتخليد لذكرى إحدى الشخصيات النصرانية وهو القس فالانتاين، الذي كان له دور بارز في دين النصارى في القرن الثالث الميلادي.
وأيًّا ما كان فما لنا ولأعيادهم؟! وما بالنا نتبعهم في جحورهم ونشاركهم في حبورهم؟! فأعياد المسلمين لا رابع لها: عيد الفطر، والأضحى، وعيد الأسبوع المتكرّر كل يوم جمعة.
لقد آن الأوان أن يدرك المسلمون أن عليهم العيش قادة لا منقادين، ومتبوعين لا تابعين؛ لأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ولكن أكثرهم لا يعلمون.
ثم اعلموا -يا عباد الله- أن من خير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم: كثرة صلاتكم وسلامكم على النبي المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، فقد أمركم بذلك ربكم جل وعلا...