الواسع
كلمة (الواسع) في اللغة اسم فاعل من الفعل (وَسِعَ يَسَع) والمصدر...
العربية
المؤلف | محمد بن عبدالرحمن محمد قاسم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
فسَل الرياح: مَن أنشأها بقدرته؟ ومَن صرَّفها بحكمته، وسخَّرها بمشيئته، وأرسلها بشرى بين يدي رحمته؟ مَن جعَلها سببًا لتمام نعمته، وسلطانًا على من شاء بعقوبته؟ ومن جعلها رُخَاءً، وذارية، ولاقحة، ومثيرة، ومؤلفة، ومغذية لأبدان الحيوان والشجر والنبات؟ ومَن جعلها قاصفًا، وعاصفًا، ومهلكة، وعاتية؟ إلى غير ذلك من صفاتها. فهل ذلك لها من نفسها وذاتها؟ أم بتدبير مدبِّرٍ شهدت الموجودات بربوبيته، وأقرت المصنوعات بوحدانيته..
الحمد لله الذي نصَّبَ الكائناتِ على ربوبيته ووحدانيته حججًا، وأوجب الفوز بالنجاة لمن شهد له بالوحدانية شهادة لم يبغ لها عوجًا، أسبغ على عباده نعمه الفرادى والتوائم، وسخر لهم البرَّ والبحر والشمس والقمر والهواء والمطر والليل والنهار، والعيون والأنهار، والضياء والظلام، وأرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، يدعوهم إلى جواره في دار السلام.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا سَمِيَّ له، ولا كفو له، ولا صاحبة له، ولا ولد له، ولا شبيه له، ولا يحصي أحد ثناءً عليه؛ بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يُثني عليه خلقُه.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده. أرسله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، ومحجة للسالكين، وحجة على العباد أجمعين. جاهد أعداء الله باليد والقلب واللسان، فدعا إلى الله على بصيرة، وسار في الأمة بالعدل والإحسان وخُلُقِهِ العظيم أحسن سيرة، إلى أن أشرقت برسالته الأرض بعد ظلامها، وتألَّفت به القلوب بعد شتاتها، وسارت دعوته سير الشمس في الأقطار، وبلغ دينه القيم ما بلغ الليل والنهار. فجزاه الله عن أمته أفضل الجزاء، وصلَّى عليه صلاة تبلغ أقطار الأرض والسماء، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا عباد الله: "الرياحُ" من أعظم آيات الله الدالة على عظمته وربوبيته وقدرته، وفيها من العِبَر: هُبوبها، وسكونها، ولِينها، وشدتها، واختلاف طبائعها، وصفاتها، ومهابها، وتصريفها، وتنوع منافعها، وشدة الحاجة إليها؛ ولهذا أقسم الله –سبحانه- بها في قوله (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا) [الذّاريَات:1]، وهي الرياحُ تذرو المطر، وتذرو التراب، وتذرو النبات إذا تهشم؛ ثم بما فوقها وهو السحاب: (فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا) [الذّاريَات:2]، أي ثقلاً من الماء يسوقها الله سبحانه على متون الرياح، فالقسم بها دليل على أنها من أعظم آياته.
هذا "الهواء" اللطيف المحبوس بين السماء والأرض يدرك المرءُ جسمَه بحس اللمس عند هبوبه ولا يرى شخصه، يجري بين السماء والأرض، والطير محلقة فيه، سابحة بأجنحتها في أمواجه، كما تسبح حيوانات البحر في الماء، وتضطرب جوانبه وأمواجه عند هيجانه، كما تضطرب أمواج البحر, فإذا شاء الله –سبحانه- حرَّكه بحركة الرحمة، فجعله رُخاءً، ورحمةً، وبشرى بين يدي رحمته، ولاقحًا للسحاب؛ وإن شاء حركه بحركة عذاب فجعله عقيمًا، وأودعه عذابًا أليمًا، وجعله نقمة على من شاء من عباده، فجعله صرصرًا، ونحسًا، وعاتيًا، ومفسدًا لما يمر به، ومسببًا للفيضان المدمر.
والرياح في قوتها أشد من الحديد والنار والماء، ومع ذلك فهي ألطف شيء، وأقبل المخلوقات لكل كيفية، سريعة التأثر والتأثير، لطيفة المسارق بين السماء والأرض.
تأمل هذا الهواء وما فيه من المصالح؛ فإنه حياة هذه الأبدان، والممسك لها من داخلٍ بما تستنشق منه، ومن خارج بما تُبَاشِرُ به من رَوْحِه، فتتغذى به ظاهرًا وباطنًا؛ فحياة ما على الأرض من نبات وحيوان بالرياح؛ فإنه، لولا تسخير الله لها لعباده، لَذوَى النبات، ومات الحيوان، وفسدت المطاعم، وأنتن العالم، وفسد. فسبحان من جعل هبوب الرياح تأتي برَوحه، ورحمته، ولطفه، ونعمته! كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-:"الرياح من رَوح الله، تأتي بالرحمة".
والرياح تلقح الشجر والنبات، ولولاها لكان عقيمًا؛ وكذلك تُسيِّر السفن، ولولاها لوقفت على ظهر البحر. ومن منافعها أنها تبرد الماء، وتضرم النار التي يراد إضرامها، وتجفف الأشياء التي يُحتاج إلى جفافها. وهي الحامل للروائح على اختلافها، تنقلها من موضع إلى موضع، فتأتي العبدَ الرائحةُ من حيث تهب الريح. وهي أيضًا الحاملة للحر والبرد اللَّذيْن بهما صلاح الحيوان والنبات.
وتأملوا الحكمة البالغة في كون الريح في البحر تأتي من وجه واحد لا يعارضها شيء؛ فإن السفينة لا تسير إلا بريح واحدة من وجه واحد سيرها، فإذا اختلفت عليها الرياح وتصادمت وتقابلت، فهذا سبب الهلاك، فالمقصود بها في البحر غير المقصود بها في البر؛ ففي البر جعل الله لها ريحًا أخرى تقابلها، وتكسر سورتها وحدتها، فيبقى لينها ورحمتها، فرياح الرحمة متعددة. وأما ريح العذاب فإنه ريح واحدة ترسَل من وجه واحد لإهلاك ما ترسل بإهلاكه، فلا تقوم لها ريح أخرى تقابلها، وتكسر سورتها، وتدفع حدتها.
وجعل –سبحانه- الريح للسفن بقدرٍ لو زادت عليه لأغرقتها، ولو نقصت عنه لعاقتها. والرياح تحمل الصوت عند اصطكاك الأجرام، وتؤديه إلى مسامع الناس، فينتفعون به في حوائجهم ومعاملاتهم بالليل والنهار؛ كالبريد والرسول الذي من شأنه حمل الأخبار.
وتَحْدُثُ الحركات العظيمة من حركاتهم، فلو كان أثر هذه الحركات والأصوات يبقى في الهواء، كما يبقى الكتاب والقرطاس، لامتلأ العالم منه، ولعظم الضرر به، واشتدت مؤنته، واحتاج الناس إلى محوه من الهواء؛ واستبداله أعظم من حاجتهم إلى استبدال الكتاب المملوء كتابة، فاقتضت حكمة العزيز الحكيم أن جعل هذا الهواء قرطاسًا خفيفًا، يحمل الكلام بقدر ما يُبَلِّغُ الحاجة، ثم يمَّحِى بإذن ربه، فيعود جديدًا نقيًا لا شيء فيه، فيحمل ما حمل كل وقت.
فسَل الرياح: مَن أنشأها بقدرته؟ ومَن صرَّفها بحكمته، وسخرها بمشيئته، وأرسلها بشرى بين يدي رحمته؟ مَن جعَلها سببًا لتمام نعمته، وسلطانًا على من شاء بعقوبته؟ ومن جعلها رُخَاءً، وذارية، ولاقحة، ومثيرة، ومؤلفة، ومغذية لأبدان الحيوان والشجر والنبات؟ ومَن جعلها قاصفًا، وعاصفًا، ومهلكة، وعاتية؟ إلى غير ذلك من صفاتها. فهل ذلك لها من نفسها وذاتها؟ أم بتدبير مدبر شهدت الموجودات بربوبيته، وأقرت المصنوعات بوحدانيته، بيده النفع والضر، وله الخلق والأمر؟ تبارك الله رب العالمين.
ولما كانت الرياح تجول في الأرض، وتدخل في تجاويفها، وتُحدث فيها الأبخرة؛ وتختنق إذ يتعذر عليها المنفذ، فقد أذن الله -سبحانه- لها في الأحيان بالتنفس، فتحدث لها الزلازل العظام، فيحدث من ذلك لعباده الخوف والخشية والإنابة، والإقلاع عن معاصيه، والتضرع إليه، والندم؛ كما قال بعض السلف- وقد زلزلت الأرض- إن ربكم يستعتبكم. وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: وقد زلزلت المدينة، فخطَبَهم ووعظَهم، وقال: لئن عادت، لا أساكنكم فيها.
فاتقوا الله عباد الله، واعتبروا بخلق الهواء والرياح، وما جعل الله فيها من المنافع لعباده، وما جعل فيها من العذاب. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ * إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا، وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى:32- 34].
الخطبة الثانية
أما بعد: فتأملوا -عباد الله- الحكمة البديعة في تيسيره –سبحانه- على عباده ما هم أحوج إليه، وتوسيعه وبذله، فكلما كانوا أحوج إليه كلما كان أكثر وأوسع، وكلما استغنوا عنه كلما كان أقل، وإذا توسطت الحاجة توسط وجوده.
واعتبروا هذا بالأصول الأربعة: التراب، والماء، والهواء، والنار. تأملوا سعة ما خلق الله منها، وكثرته.
تأملوا سعة الهواء وعمومه، ووجوده بكل مكان؛ لأن الحيوان مخلوق في البر لا يمكنه الحياة إلا به، فهو معه أينما كان، وحيث كان؛ لأنه لا يستغني عنه لحظة واحدة، ولولا سعته وامتداده في أقطار العالم، لاختنق العالم من الدخان والبخار المتصاعد المنعقد. فتأمل حكمة ربك في أن سخر له الرياح، فإذا تصاعد إلى الجو أحالته سحابًا أو ضبابًا، فأذهَبَت عن العالم شره وأذاه.
فسل الجاحدين: مَن الذي دبر هذا التدبير، وقدر هذا التقدير؟! وهل يقدر العالم كلهم لو اجتمعوا أن يحيلوا ذلك ويقلبوه سحابًا أو ضبابًا؟ أو يذهبوه عن الناس ويكشفوه عنهم؟! ولو شاء ربه تعالى أن يحبس عنه الرياح فاختنق على وجه الأرض فأهلك ما فيها من الحيوان والناس، (إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) [النّحل:7]، فاشكروه تعالى، واتقوه، واعتبروا يا أولي الأبصار.
واعلموا -عباد الله- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أرشد إلى ما يقال عند شدة هبوب الرياح من الدعاء الذي هو عبودية لله، واعتراف بأنها إنما تهب بأمره؛ فهو الذي أوجدها، وأمَرها، وصرفها؛ فعن أبيّ بن كعب -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تسبوا الريح، فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح، وخير ما فيها، وخير ما أمرت به؛ ونعوذ بك من شر هذه الريح، وشر ما فيها، وشر ما أمرت به". فهذه حال أهل الإيمان، خلافًا لحال أهل الجهل والجفاء والعصيان.