اللطيف
كلمة (اللطيف) في اللغة صفة مشبهة مشتقة من اللُّطف، وهو الرفق،...
العربية
المؤلف | محمد كياد المجلاد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - التاريخ وتقويم البلدان |
فلكل من يطالب الحاكم بتطبيق شرع الله تذكر أيضًا أنك مطلوب منك أن تقيم شرع الله، نستعرض معكم الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة ومسلك السلف الصالح كيف تعاملوا، ونعقد مقارنة بين حالنا وحالهم وحال كثير من الشعوب اليوم؛ ليفهم كل واحد منا المسألة على أصلها الشرعي، ولا يهرف بما لا يعرف، وانتبه فهذا كلام الله تعالى وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم- ..
حديثنا لهذا عن أمرٍ عظيم، وخطب جليل، حديثنا عن فتن كقطع الليل المظلم، فتنٌ شرقت وغربت، واعترضت ودمرت، حديثنا عما يحدث في العالم اليوم من حُمى التظاهرات والخروج على الحكومات، حديثنا عن الغرب البغيض وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية ومن يقف خلفها من دول الكفر الذين عاثوا في الأرض فسادًا إيقادًا للحروب، وكلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادًا والله لا يحب المفسدين، يزعمون تحرير الشعوب من ظلم حكامهم وهم عاثوا ردحًا من الزمن في دول كثيرة كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدًا من كل مكان، فلما أطاعوها رأيتم الدمار الشامل والفتن المتلاحقة التي لا تكاد تنتهي إلى قيام الساعة.
فلكل من يطالب الحاكم بتطبيق شرع الله تذكر أيضًا أنك مطلوب منك أن تقيم شرع الله، نستعرض معكم الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة ومسلك السلف الصالح كيف تعاملوا، ونعقد مقارنة بين حالنا وحالهم وحال كثير من الشعوب اليوم؛ ليفهم كل واحد منا المسألة على أصلها الشرعي، ولا يهرف بما لا يعرف، وانتبه فهذا كلام الله تعالى وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فخذه برفق ولين حتى لا يأخذنك الله أخذ عزيز مقتدر، والله عزيز ذو انتقام.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء: 59].
وروى الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في صحيحه عن نافع قال: جاء عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- إلى عبد الله بن مطيع حين كان من أمر الحرة ما كان زمن يزيد بن معاوية فقال: اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة، فقال: إني لم آتك لأجلس، أتيتك لأحدثك حديثًا سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقوله، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من خلع يدًا من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية".
وروى الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في صحيحه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من كره من أميره شيئًا فليصبر عليه؛ فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبرًا فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية".
وروى الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبية أو يدعو لعصبية أو ينصر عصبية، فقتل، فقتلته جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي لذي عهد عهده، فليس مني ولست منه".
وفي صحيح مسلم -رحمه الله تعالى- أيضًا عن أبي إدريس الخولاني قال: سمعت حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- يقول: "كان الناس يسألون رسول الله عن الخير، وكنت أسأله عن الشر؛ مخافة أن يدركني"، فقلت: يا رسول الله: إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير شر؟! قال: "نعم"، فقلت: فهل بعد ذلك الشر من خير؟! قال: "نعم، وفيه دخن"، قلت: وما دخنه؟! قال: "قوم يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر"، فقلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟! قال: "نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها"، فقلت: يا رسول الله: فما ترى إن أدركني ذلك؟! قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟! قال: "فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك".
وفي صحيح مسلم -رحمه الله- عن عرفجة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنها ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنًا من كان".
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تسبوا أمراءكم ولا تغشوهم ولا تبغضوهم، واتقوا الله واصبروا فإن الأمر قريب". حديث صحيح، رواه ابن أبي عاصم وصححه الألباني.
وعن عياض بن غنيم -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يُبْدِه علانية، وليأخذ بيده، فإن سمع منه فذاك، وإلا كان أدى الذي عليه". حديث صحيح رواه أحمد وابن أبي عاصم والحاكم والبيهقي وصححه الألباني.
وعن شقيق بن سلمة -رحمه الله تعالى- عن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- قال: قيل له: ألا تدخل على عثمان فتكلِّمه فيما يصنع؟! فقال: "أترون أنِّي لا أكلِّمه إلاَّ أُسمعكم؟! والله، لقد كلَّمته فيما بيني وبينه ما دون أن أفتح أمرًا لا أحبُّ أن أكون أوَّل من فتحه". هذا لفظ مسلم. وعند البخاري: "إنِّي أكلِّمه في السرِّ دون أن أفتح بابًا لا أكون أوَّل من فتحه".
وقال القاضي عياض -رحمه الله تعالى- معلقًا على هذا الأثر: "مراد أسامة أنَّه لا يفتح باب المجاهرة بالنكير على الإمام، لما يخشى من عاقبة ذلك، بل يتلطَّف به وينصحه سرًّا، فذلك أجدر بالقبول".
وعن سعيد بن جمهان -رحمه الله تعالى- قال: أتيت عبد الله بن أبي أوفى وهو محجوب البصر، فسلَّمت عليه، قال لي: من أنت؟! قلت: أنا سعيد بن جمهان، قال: فما فعل والدك؟! قلت: قتلته الأزارقة، قال: لعن الله الأزارقة، لعن الله الأزارقة، حدَّثنا رسول الله أنَّهم كلاب النار، قال: قلت: الأزارقة وحدهم أم الخوارج كلُّها؟! قال: بلى الخوارج كلُّها، قال: قلت: فإنَّ السلطان يظلم الناس ويفعل بهم، قال: فتناول يديَّ فغمزها بيده غمزةً شديدة، ثمَّ قال: "ويحك يا ابن جمهان! عليك بالسواد الأعظم، عليك بالسواد الأعظم، إن كان السلطان يسمع منك فائته في بيته فأخبره بما تعلم، فإن قبل منك وإلاَّ فدعه، فإنَّك لست بأعلم منه". رواه أحمد بسند حسن.
وقال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "إذا أتيت الأمير المؤمَّر فلا تأته على رؤوس الناس".
ويا للعجب من بعض شباب هذا الزمان ومن نحى نحوهم، تذكر لهم هذه الأحاديث، فلا يقيمون لها وزنًا، بل وصل الحال ببعضهم إلى الاستهزاء بها. فتعجب لحالهم، وينتهجون منهاج الغرب والكفار من دول أمريكا والدول الأوروبية من المطالبة بالتظاهرات التي يسمونها -زعمًا منهم- أنها سلمية، والله إنها لسمية وليست سلمية، متى كان الخروج للشوارع والمطالبة بالحقوق سلامًا، بل نشاهد ما حدث في مصر وتونس وغيرهما من دول الإسلام وما يحدث الآن في ليبيا، فتنة أقبلت ويريد الواحد من هؤلاء المتظاهرين أن يفتتح فرعًا للتظاهرات في بلاد الحرمين التي ما زالت بلاد الأمن والأمان، نعمة من الله، والله لو لم نقدر حق هذه النعمة فلسوف تسلب منا، ولا يأمن الواحد منا الخروج من بيته سليمًا معافى، وترجع الأحقاد القديمة والعداوات المندثرة والعصبيات القبلية، والله لن تنتهي حتى قيام الساعة، فعليكم -معاشر المؤمنين- بالرجوع لمنهج الكتاب والسنة والتمسك بهما، فزمن الفتن قد أقبل، والسعيد السعيد من خرج من هذه الدنيا وهو غير مفتون.
وهم يطالبون الحكام بتحكيم شرع الله، وهم لم يحكموا شرع الله في أنفسهم، وها هي نصوص القرآن الكريم، والسنة النبوية، تدعو للسمع والطاعة لولاة الأمر والصبر واحتساب الأجر على أذيتهم، وعدم الخروج عليهم، وعدم سبهم وشتمهم. فيا شباب الإسلام: يقول الله تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [النساء: 65]، ويقول: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) [المائدة: 92].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في منهاج السنة: "ولهذا كان المشهور من مذهب أهل السنة أنهم لا يرون الخروج على الأئمة وقتالهم بالسيف وإن كان فيهم ظلم، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن الفساد في القتال والفتنة أعظم من الفساد الحاصل بظلمهم بدون قتال ولا فتنة، فلا يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما، ولعله لا يكاد يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته".
قال ابن عبد البرّ -رحمه الله تعالى-: "إن لم يتمكَّن نصح السلطان فالصبر والدعاء، فإنَّهم -أي: علماء السلف ومن تبعهم من الخلف- كانوا ينهون عن سبِّ الأمراء".
وعن أبي جمرة -رحمه الله تعالى- قال: لمَّا بلغني تحريق البيت خرجت إلى مكَّة، واختلفت إلى ابن عبَّاس حتَّى عرفني، واستأنس بي، فسببت الحجَّاج عند ابن عبَّاس، فقال: "لا تكن عونًا للشيطان". رواه البخاري في تاريخه.
وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- أنَّه وقف يومًا على باب معاوية، فحجبه لشغل كان فيه، فكأنَّ أبا الدرداء وجد في نفسه فقال: "وإنَّ أوَّل نفاق المرء طعنه على إمامه". رواه ابن عبد البر في التمهيد وابن عساكر.
وعن عمرو البكالي -رحمه الله تعالى- قال: "إذا كان عليك أمير فأمرك بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة فقد حلَّ لك أن تصلِّي خلفه، وحرم عليك سبُّه". رواه ابن زنجويه في الأموال بسند صحيح.
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
لقد كان للسلف الصالح صور من التعامل مع ظلم الحاكم، نمر على بعض المواقف منها:
اجتمع فقهاء بغداد في ولاية الواثق إلى أبي عبد الله -الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى-، وقالوا له: إن الأمر قد تفاقهم وفشا -يعنون إظهار القول بخلق القرآن وغير ذلك- ولا نرضى بإمرته ولا سلطانه، فناظرهم في ذلك، وقال: "عليكم بالإنكار بقلوبكم ولا تخلعوا يدًا من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم، وانظروا في عاقبة أمركم، واصبروا حتى يستريح برٌّ، أو يُستراح من فاجر". وقال: "ليس هذا بصواب، هذا خلاف الآثار".
وقال المرذوي -رحمه الله تعالى-: سمعتُ أبا عبد الله يأمر بكف الدماء، وينكر الخروج إنكارًا شديدًا، وقال في رواية إسماعيل بن سعيد: الكفُّ لأنا نجدُ عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما صلوا فلا". خلافًا للمتكلمين في جواز قتالهم كالبغاة.
وإليكم -أيها الإخوة- صورة من وصية السلف لأبنائهم في مسألة الحكام؛ قال عمرو بن العاص -رضي الله عنه- لابنه: يا بني: "احفظ عني ما أوصيك به: إمامٌ عدلٌ خيرٌ من مطرٍ وابلٍ، وأسدٌ حطوم خيرٌ من إمام ظلوم، وإمام ظلومٌ غشوم خيرٌ من فتنةٍ تدوم".
قال ابن الجوزي -رحمه الله تعالى-: "الجائز من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع السلاطين التعريف والوعظ، فأما تخشينُ القولِ نحو: يا ظالم، يا من لا يخاف الله، فإن كان ذلك يُحركُ فتنةً يتعدى شرها إلى الغير، لم يجز، وإن لم يخف إلا على نفسه فهو جائز عند جمهور العلماء".
قال -رحمه الله تعالى- أيضًا: "والذي أراه المنع من ذلك؛ لأن المقصود إزالة المنكر، وحمل السلطان بالانبساط عليه على فعل المنكر أكثر من فعل المنكر الذي قصد إزالته". قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "لا يُتعرض للسلطان؛ فإن سيفهُ مسلولٌ".
ووعظ ابن الجوزي في سنة أربع وسبعين وخمسمائة بحضور الخليفة المستضيء بأمر الله وقال: لو أني مثلتُ بين يدي السدةِ الشريفة لقلت: يا أمير المؤمنين: كُن لله سبحانه مع حاجتك إليه، كما كان لك مع غناه عنك؛ إنه لم يجعل أحدًا فوقك، فلا ترضَ أن يكون أحدٌ أشكر له منك". فتصدق أمير المؤمنين بصدقات، وأطلق محبوسين.
ولما أراد المنصور خراب المدينة لإطباق أهلها على حربه مع محمد بن عبد الله بن حسن، فقال له جعفر بن محمد: "يا أمير المؤمنين: إن سليمان أُعطي فشكر، وإن أيوب -عليه السلام- ابتلي فصبر، وإن يوسف -عليه السلام- قدر فغفر، وقد جعلك الله -عز وجل- من نسل الذين يعفون ويصفحون". فطُفِئ غضبه وسكت.
وقال ابن عقيل -رحمه الله تعالى- في الفنون: "قال بعض أهل العلم قولاً بمحضرٍ من السلطان، فأخذ السلطان في الاحتداد عليه، وأخذ بعض من حضر يترفقُ ويسكنُ غضبه، ولم يكُ محله بحيث يشفع في مثل ذلك العالم، فالتفت العالمُ فقال للشافع: يا هذا: غضبُ هذا الصدر، وكلامه إياي بما يشق أحبُّ إليّ من شفاعتك إليه، فإن غضبه لا يغُضُّ مني وهو سلطاني، وشفاعتك هي غضاضةٌ عليّ فأفحكم الشافع، وأرضى السلطان".
وإليكم صورة من مناصحة السلف للخارجين على الحاكم:
كتب المهلب بن أبي صفرة إلى ابن الأشعث يحذره، وينهاه عن الخروج على إمامه وقال: "إنك -يا ابن الأشعث- قد وضعت رجلك في ركاب طويل، أبق على أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، الله الله!! انظر لنفسك فلا تهلكها، ودماء المسلمين فلا تسفكها، والجماعة فلا تفرقها، والبيعة فلا تنكثها، فإن قلت: أخاف الناس على نفسي، فالله أحق أن تخافه من الناس، فلا تعرضها لله في سفك دم أو استحلال محرم، والسلام عليك".
وندم الإمام الشعبي لخروجه على الحجاج؛ لما هرب ابن الأشعث بعد أن أثار فتنة أهلك الحرث والنسل فقتل من أتباعه من قتل، وأسر كثير منهم، فقتلهم الحجاج بن يوسف، وهرب من بقي منهم، ومنهم عامر الشعبي الإمام الثقة، فأمر الحجاج أن يؤتى بالشعبي، فجيء به حتى دخل على الحجاج، قال الشعبي: فسلمت عليه بالإمرة، ثم قلت: "أيها الأمير: إن الناس قد أمروني أن أعتذر إليك بغير ما يعلم الله أنه الحق، ووالله لا أقول في هذا المقام إلا الحق، قد والله تمردنا عليك وحرضنا، وجهدنا كل الجهد، فما كنا بالأتقياء البررة، ولا بالأشقياء الفجرة، لقد نصرك الله علينا، وأظفرك بنا، فإن سطوت فبذنوبنا، وما جرت إليك أيدينا، وإن عفوت عنا فبحلمك، وبعد فالحجة لك علينا".
فقال الحجاج لما رأى اعترافه وإقراره: أنت يا شعبي أحب إليّ ممن يدخل علينا يقطر سيفه من دمائنا، ثم يقول: ما فعلت ولا شهدت، قد أمنت عندنا يا شعبي. ثم قال الحجاج: يا شعبي: كيف وجدت الناس بعدنا يا شعبي؟! وكان الحجاج يكرمه قبل دخوله في الفتنة، فقال الشعبي مخبرًا عن حاله بعد مفارقته للجماعة: أصلح الله الأمـير؛ قد اكتحلت بعدك السهر!! واستوعرت السهول!! واستجلست الخوف!! واستحليت الهم!! وفقدت صالح الإخوان!! ولم أجد من الأمير خلفًا!! فقال الحجاج: انصرف يا شعبي، فانصرف آمنًا.
وقال الشيخ ابن عثيمين في تعقيبه على كتاب السياسة الشرعية لابن تيمية: "مهما فسقوا في أنفسهم وظلموا الخلق فالواجب طاعتهم والسمع لهم وعدم منابذتهم؛ لما يترتب على منابذتهم وعصيانهم والتمرد عليهم من المفاسد العظيمة؛ ولهذا أمر النبي -عليه الصلاة والسلام- بالسمع والطاعة للأمراء وإن ضربوا ظهورنا وأخذوا أموالنا وإن لم يعطونا حقنا، فإن الواجب علينا أن نعطيهم حقهم، ونسأل الله حقنا".
عباد الله: هذه هي طريقة الإسلام وسعة الدين في نقد الولاة ونحوهم من الكبراء وذوي الهيئات من الوجهاء، لا كتلك الطرق الوافدة علينا من الأمَّة الغضبية الملعونة، أمة المغضوب عليهم من اليهود، ومن الأمَّة الضالة أمَّة النصارى الضالين، ولا يغرنكم نصحهم، فهم بذلك يريدون خيرات بلادكم ولا يريدون الخير لكم.