الشاكر
كلمة (شاكر) في اللغة اسم فاعل من الشُّكر، وهو الثناء، ويأتي...
العربية
المؤلف | عمر القزابري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الصلاة |
إن المؤذن إذا أخلص وصدق في نيته ينال أعلى المنازل وأجمل الدرجات؛ لأنه مؤتمن على أهم ركن بعد الشهادتين وهو الصلاة. وهناك حديث عظيم يدفع الأئمة والمؤذنين إلى المزيد من الإخلاص والصبر، ويبشرهم بمزيد من الفضل والأجر، يقول -صلى الله عليه وسلم- فيما صح عنه: "الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة، واغفر للمؤذنين" الله أكبر.. أيّ فضل هذا؟! دعاء من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للمؤذنين والأئمة.. إن المؤذن والإمام إذا انصرف قلبهم إلى هذا الفضل والأجر العظيم هانت عليهما كل ألوان الأذى، وتوجها إلى الله وارتفعا عن كل ما ينزل بهما عن هذا المقام السامي...
الخطبة الأولى:
الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالملك الأعز الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا ورائه مرمى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدسًا لا عدمًا.. وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعما عُما، وبعث فيهم رسولاً من أن أنفسهم عربًا وعجمًا، وأذكاهم محتدًا ومنما، وأشدهم بهم رأفة ورحمة حاشاه ربه عيبًا ووصمًا وذكاه روحًا وجسمًا وآتاه حكمة وحكمًا، فآمن به وصدقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى.. صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا..
معاشر الصالحين: يستمر حديثنا عن عنصر نور الهدى الذي أضاء الظلم مقباسه، وينبوع الرحمة الواكف على الأمة مجاسه، داعي الخلق للتي هي خير وأبقى ومنقذهم وهم غرقى، نبي الرحمة، الرحمة الهامية العهود، وصاحب المقام المحمود الصادع بالبينات الزاكية الشهود، والمعجزات الثابتة العقود شفيع الخلائق في اليوم الموعود، وداعيهم على بصيرة من ربه إلى دار الخلود، فمن اعتصم بحبله أو آوى إلى سنته فقد تمسك بالسبب المشدود، ولجأ إلى الظل الممدود، إنه سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- مطلع أنوار الهدى التي جلاها وسر عنايته في آخر الأمور وأولاها؛ النبي الكريم الذي فاز من قداح الاختصاص والاصطفاء بمعلاها.
أيها الكرام: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نور يُستضاء به ويُستدل به على الله، تداوى بذكره الجراح، وما أكثرها في دنيانا اليوم؛ جراحات توالت، ومصائب تتابعت حتى ضاقت الصدور.
لذالكم فإن ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو خروج من حالة اليأس، وشرح للصدر بنفحة الأنس؛ فإنه -صلى الله عليه وسلم- علمنا أن نقوّي العزائم حتى في حالة الهزائم، وألا نيأس من الروح حتى ولو اشتد الألم وكثر النوح.
رسولنا حبيبنا إمامنا قائدنا قدوتنا شفيعنا نورنا معرفنا بربنا، لن نيأس أبداً ما دمنا ننتمي إلى جنابه، ولن نضيق أبداً ما دمنا في رحابه؛ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه.
أيها الأحباب الكرام: لقد اعتنى رسولنا الحبيب -صلى الله عليه وسلم- بكل فئات المجتمع فكل صاحب مهنة، أو صاحب مهمة أو حرفة إلا ويجد أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد اعتنى به ووجه ونصحه ودلّه على طريق السعادة من خلال مهنته أو مهمته، كيف لا وهو رسول البشرية ومفخرة الإنسانية.
وسنتحدث اليوم -إن شاء الله- عن اعتنائه وتوجيهاته لشريحتين من أرقى وأهم شرائح المجتمع الإسلامي إنهم المؤذنون والأئمة.
لا يخفى على شريف علمكم -رعاكم الله- أن أول ما بدأ به المصطفى -صلى الله عليه وسلم- عند وصوله إلى المدينة الطاهرة المنورة: بناء المسجد الذي هو رمز المسلمين ومحل اجتماعهم وتعبدهم وتوحيدهم ووحدتهم.
بنى -صلى الله عليه وسلم- المسجد لكن كانت هناك قضية تشغل باله وتؤرق نومه وتحير فكره وتقلق باله، إنه مهموم يفكر.. في ماذا يفكر -صلى الله عليه وسلم-؟
يفكر في طريقة ينبّه بها الناس في وقت الصلاة، يفكر في وسيلة تجمع المؤمنين للمسجد، وقد تعددت الآراء وكثرت الاقتراحات، وكان -صلى الله عليه وسلم- يميل إلى اتخاذ الناس الناقوس إلا أنه كان كارهًا لهذا الرأي ضائقًا بها نفسه، ولكنه لم يكن ببعيد من الموافقة عليه ليكون أداة للتنبيه على الصلاة.
إلا أن الناقوس من خصائص النصارى، ورسولنا -صلى الله عليه وسلم- يحب أن تكون له وسيلة مميزة مخالفة لليهود والنصارى، وفي يوم من الأيام إذا برجل يقبل إليه -صلى الله عليه وسلم- وهو فرح مسرور مستبشر ينادي يا رسول الله يا رسول الله، فأجابه -صلى الله عليه وسلم- فأخبره أنه رأى رؤيا في الأذان، فإذا بوجه الحبيب يتهلل والبشرى ترتسم على محياه، ويعلم أنها منّة من الله تعالى.
جاء في حديث عبدالله بن زيد -رضي الله عنه- قال: لما أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالناقوس يُعمل ليضرب به للناس لجمع الصلاة طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوسًا في يده، فقلت: يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ فقلت: ندعو به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت له: بلى، قال: فقال: تقول الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله. قال: ثم استأخر عني غير بعيد ثم قال: وتقول إذا أقمت الصلاة: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، فلما أصبحت أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبرته بما رأيت فقال: "إنها لرؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به فإنه أندى منك صوتًا". (رواه أبو داود وحسنه الألباني).
تأملوا رعاكم الله قوله -صلى الله عليه وسلم-: "فإنه أندى منك صوتا"، في هذا دليل على اهتمامه -صلى الله عليه وسلم- بالأصوات الجميلة في الأذان والقرآن، وأنه -عليه الصلاة والسلام- يبحث عن ذوي الأصوات الحسنة، وأنه دليل على أنه -صلى الله عليه وسلم- كان إمام الذوق، وأنه كان صاحب إحساس مرهف، ولعلمه -صلى الله عليه وسلم- بما للصوت الجميل من أثر في النفوس من التحبيب في الطاعة والتنشيط على العبادة.
وهناك كذلك قصة أبي محذورة ذاك المؤذن الشاب الذي سمع صوته النبي -صلى الله عليه وسلم- فأعجب به فدعا له، ومسح على رأسه وأرسله إلى المسجد الحرام ليكون مؤذنًا فيه، فظل أبو محذورة مؤذنًا بالمسجد الحرام، وتوارث في الأذان بنوه من بعده، ومكث فيهم سنين طويلة.
وقد كانت لأبي محذورة لمة من الشعر، يعني لمة إذا تجاوز الشعر الأذن، ونزل على الكتفين وطالت كثيرا، نزلت هذه اللمة من الشعر، ورفض أن يقصها؛ لأن يد المصطفى -صلى الله عليه وسلم- مرت عليها.
أرأيت كيف كانوا يحبون رسول الله ويعظمونه؟! وهذا هو سبب انتصارهم وانتشارهم وظهورهم على من خالفهم، أما اليوم فالناس يتنادون إلى مليونيات لنصرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وحبذا لو كانت هذه مليونات في مساجد المسلمين كل يوم في صلوات الفجر، حبذا لو ترجمت في واقع المسلمين إلى اتباع ينفي الابتداع وإلى انقياد ينفي العناد.
أما أجر المؤذنين فقد بشرهم -صلى الله عليه وسلم- ببشائر عظيمة مميزة، وحق لهم ذلك إن قاموا بحقه؛ فهم الذين يصدحون بالنداء لحضور أعظم صلة بين العبد وربه، وهم الذين يتسببون في تذكير الناس وحثهم على الصلاة، وهم الذين يترنمون بالتكبير والشهادتين.
ولذلك يقول -صلى الله عليه وسلم-: "المؤذنون أطول الناس أعناقًا يوم القيامة" (رواه مسلم)، ولعل سائلاً يسأل عن معنى قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أطول الناس أعناقا" ما المقصود منه؟
فنورد هنا ما قاله الإمام النووي -رحمه الله- حين قال: "اختلف السلف والخلف في معناه فقيل معناه أكثر الناس تشوفًا إلى رحمة الله تعالى؛ لأن المتشوف إلى الشيء يطيل عنقه إلى ما يتطلع إليه، فمعناه كثرة ما يراه من الثواب".
وقال النضر بن شميل: "إذا أُلجم الناس العرق –إذا وصل إلى فمهم- يوم القيامة طالت أعناقهم لئلا ينالهم ذلك الكرب والعرق".
وقيل: معناه أنهم سادة ورؤساء؛ لأن العرب تصف السادة بطول العنق.
وقال بعض أهل العلم: "لما رفعوا النداء للصلاة في الدنيا رفع الله رؤوسهم يوم القيامة، وأطال أعناقهم دلالة على رفعة مكانتهم، والجزاء من جنس العمل".
ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "لو يعلم الناس ما في النداء –أي الأذان- والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا" (رواه البخاري) "أن يستهموا" أين يلجئوا للقُرْعَة.
ولذلك فإن الفاروق عمر -رضي الله عنه- لما لاحظ هذا الفضل العظيم قال: "لولا الخلافة لكنت مؤذنًا".
إن المؤذن إذا أخلص وصدق في نيته ينال أعلى المنازل وأجمل الدرجات؛ لأنه مؤتمن على أهم ركن بعد الشهادتين وهو الصلاة. وهناك حديث عظيم يدفع الأئمة والمؤذنين إلى المزيد من الإخلاص والصبر، ويبشرهم بمزيد من الفضل والأجر، يقول -صلى الله عليه وسلم- فيما صح عنه: "الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة، واغفر للمؤذنين" (أخرجه أبو داود وصححه الألباني).
الله أكبر.. أيّ فضل هذا؟! دعاء من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للمؤذنين والأئمة "اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين".
وفيما معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: "المؤذن مؤتمَن"، يقول ابن الأثير -رحمه الله-: "مؤتمن القوم الذي يثقون إليه ويتخذونه أمينًا حافظًا، يعني أن المؤذن أمين الناس على صلاتهم وصيامهم"؛ إنها مسئولية عظيمة وبقدر عظم المسئولية يكون عظم الأجر.
إن المؤذن والإمام إذا انصرف قلبهم إلى هذا الفضل والأجر العظيم هانت عليهما كل ألوان الأذى، وتوجها إلى الله وارتفعا عن كل ما ينزل بهما عن هذا المقام السامي.
جعلني الله وإياكم ممن ذُكر فنفعته الذكرى، وأخلص لله عمله سرا وجهرا، آمين، آمين والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي شرف من شاء بخدمته وجعلهم دليل للعباد على محبته وعبادته، وأحيى بهم سبل الهدى وجعلهم سبيلا للندى، أحمده على ما أعطانا ونشكره على ما أولانا، ونصلي ونسلم على المصطفى المختار سيد الأبرار إمام الأطهار سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- ما تعاقب الليل والنهار وعلى آله وأصحابه الأبرار وعلى تبعهم في كل الأمصار والإعصار.
معاشر الأخيار: أما الإمامة فإنها درجة رفيعة ورتبة كبيرة، ومنزلة عالية ومهمة غالية، جمالها وجلالها من اسمها فهي إمامة، إنها تقدم ورفعة وأفضلية، إنها لمن أخلص فيها وصدق وبر سبق إلى الخير، وتقدم في الأجر، وزيادة في الدين، ووجاهة عند رب العالمين، إنها قيادة المؤمنين الخاشعين المناجين لرب العالمين، وهي مع ذلك تبعة ومسئولية وأمانة.
إنها تعني القدوة الحسنة والاستقامة، إن من يتقدم أمام صفوف المصلين، ويقود جموع الراكعين الساجدين يجب أن يكون أهلاً لذلك الموقف، فإن أحسن فله، وإن أساء فعليه.
إن الإمامة ليست مجرد تقدم للصلاة بالناس، إنها تعني الثقة والأمانة، والاستقامة والحرص، والتواضع والحب، والتوجيه والتعليم، والموعظة واللين، والرفق والذكرى، والتأثير والتوعية، إنها تعني أن يكون الإمام قدوة حسنة في دينه، في عبادته، في سمته في لباسه في خشوعه، في خضوعه في أدبه، في أخلاقه في صبره في رشاده وإرشاده.
ولذالكم فإنكم تلاحظون في الدعاء النبوي الذي خص به الأئمة قال: "اللهم أرشد الأئمة" دعاء للأئمة بالرشاد؛ لأنه في مقام الإرشاد، ولا إرشاد بلا رشاد.
إن على الإمام أن يمضي على نهج الإمام الأعظم والقائد الأكمل والمربي الأفضل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ولك أن تتخيل إذا قام كل إمام بواجبه وأدى رسالته، وعرف قدر مهمته كيف ستكون حال أمة الإسلام.
إن الأئمة إن ساروا على نهج الإمام الأعظم سيكونون شموسًا في البلدان ونورًا في الأوطان وهداية للحيران، فيا بشرى لمن قام بالواجب، وأخلص في العطاء وصدق في تحمل الأمانة.
إن له -صلى الله عليه وسلم- مع الإمامة عجائب وله مع المصلين غرائب وله مع المساجد روائع، كيف بنا لو أردنا أن نستوفي هديه في الإمامة، وأحاديثه في الصلاة وتوجيهاته للأئمة، ولكننا سوف نعطر الأسماع بشيء يسير من عبق الإمامة، وبعض ما ورد عن الحبيب -صلى الله عليه وسلم-.
النبي -صلى الله عليه وسلم- هو إمام الدنيا، ومن تكريم الله وإعلان ريادته للبشرية أن أكرمه بأن يصلي إماما في المسجد الأقصى بالنبيين جميعًا -عليهم السلام-، فجمع الله له الإمامة في المساجد الثلاثة، في المسجد الحرام ومسجده -صلى الله عليه وسلم- والمسجد الأقصى.
يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إنما جُعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا" (أخرجه البخاري ومسلم).
أما عن الأحق بالإمامة فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا كَانُوا ثَلاثَةً فَلْيَؤُمَّهُمْ أَحَدُهُمْ وَأَحَقُّهُمْ بِالإِمَامَةِ أَقْرَؤُهُمْ" (أخرجه مسلم).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِلْمًا -وفي رواية فَأَكْبَرُهُمْ سِنًّا-، وَلَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ، وَلَا يَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ" (أخرجه مسلم).
وقد فسر بعض أهل العلم قوله -صلى الله عليه وسلم- "يؤم القوم أقرؤهم" فقالوا "أي أحفظهم"، وقال آخرون: "أحسنهم قراءة"، ولا شك أن الأجمل والأكمل اجتماعهما معا أن يكون أحفظهم وأحسنهم قراءة.
وحسن القراءة -أيها الأحباب- متوقف على معرفة مخارج الحروف ومراعاة الابتداء والوقوف؛ أن يعرف أين يقف، ومن أين يبدأ؛ مراعيا المعاني القرآنية، فإن الوقف -لا يخفى على شريف علمكم- على ثلاثة أوجه: تام وحسن وقبيح، فالتام هو الذي يحسن الوقف عليه والابتداء بما بعده، ولا يكون ما بعده يتعلق به، والحسن هو الذي يحسن الوقف عليه ولا يحسن الابتداء بما بعده، والقبيح هو الذي ليس بتام ولا حسن.
وقالوا: ولا يتم الوقف على المضاف دون المضاف إليه، ولا المنعوت دون نعته، ولا المرفوع دون مرفوعه، ولا المعطوف دون المعطوف عليه، وهذا باب واسع.
وقال آخرون: الوقف أربعة: تام مختار، وكافٍ جائز، وحسن مفهوم، وقبيح متروك.
وخلاصة الأمر أن تكون للإمام دراية بالمعاني القرآنية، فيقف حيث لا يخل بالمعنى القرآني، ولا يغير المقصود من البلاغ الرباني، ويبدأ كذلك من حيث لا يخل بالمعنى.
يقول ابن الجزري -رحمه الله- في المقدمة:
وَبَعْدَ تَجْوِيْدِكَ لِلْحُرُوفِ | لاَبُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْوُقُوفِ |
وَالاِبْتِدَاءِ وَهْيَ تُقْسَمُ إِذَنْ | ثَلاَثَةً تامٌ وَكَافٍ وَحَسَنْ |
إلى أن يقول:
وَغَيْرُ مَا تَمَّ قَبِيْحٌ وَلَهُ | يُوقَفُ مُضْطَرّاً وَيُبْدَا قَبْلَهُ |
يقول -صلى الله عليه وسلم-: "الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن"، قال الخطابي -رحمه الله-: "قال أهل اللغة الضامن في كلام العرب الراعي، والضمان الرعاية، فالإمام ضامن بمعنى أنه يحفظ الصلاة وعدد الركعات على القوم، وقيل معناه ضمان الدعاء يعمهم به، ولا يختص بذلك دونهم، والمراد أنه راعٍ ومحافظ على الصلاة بالإتيان بأفعالها والمأمومون تبع له فهو ضامن".
وفيه إشارة إلى أن الإمامة مسئولية عظيمة يتحمل الأئمة فيها أمراً عظيماً، وقد فسر ذلك حديث سهل بن ثابت الساعدي -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في الأئمة: "فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فعليهم ولكم"، أي: لهم صلاتهم وعليهم خطأه.
ولذلك كان أبو العباس سهل بن سعد -رضي الله عنه- إذا حضر في المسجد وأقيمت الصلاة، وأراد الناس أن يقدموه امتنع، فيتقدم من هو أصغر منه سنّاً فقالوا له: أيتقدم هؤلاء وأنت لك القدم في الإسلام؟! فقال: ما يمنعني إلا أني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن، فإن أصاب الإمام فله ولهم، وإن أخطأ فعليه ولهم"؛ يخاف من تابعيات الإمامة.
إن الإمامة -أيها الكرام- لا تقف عند حدود الصلاة فقط، ولكنها تشمل الإصلاح والإرشاد، والصفح واللين، والنصح وتأليف القلوب، فبذلك تستمال القلوب.
ولذلكم فقد توعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كل مَن أمَّ قومًا وهم له كارهون وعيدًا شديدًا تنفطر من هوله القلوب، نسأل الله السلامة والعافية، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة ولا تصعد إلى السماء ولا تجاوز رءوسهم؛ رجل أمَّ قوما وهم له كارهون، ورجل صلى على جنازة ولم يؤمر، وامرأة دعاها زوجها من الليل فأبت عليه" (أخرجه ابن خزيمة وصححه الألباني).
ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يؤم قومًا إلا بإذنهم" (أخرجه أبو داود وصححه الألباني)، وإذنهم مترتب على حبهم طبعًا.
من واجبات الإمام تسوية الصفوف؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم- " ألا تَصُفُّونَ كما تَصُفُّ الملائِكةُ عندَ ربِّها؟" فقلنا: يا رسول الله! وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: "يُتِمُّونَ الصُّفوفَ الأولَ ويتراصُّونَ في الصَّفِّ" (رواه مسلم).
قال تعالى عن الملائكة: (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) [الصافات: 165]، قال قتادة: "هم الملائكة صفوا أقدامهم"، وقال الكلبي: "صفوف الملائكة في السماء في العبادة كصفوف الناس في الأرض".
وعن أبي مسعود -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمسح مناكبنا في الصلاة"، انظروا إلى هذا الرفق، "ويقول: "استووا، ولا تختلفوا، فتختلف قلوبكم، ليليني منكم أولو الأحلام والنُّهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم".
"أولو الأحلام" يعني الذين بلغوا الحلم وهم البالغون، "والنُّهى" جمع نهية، وهي العقل يعني الذين يكونون خلف الإمامة مباشرة ينبغي أن يكونوا من أهل العقل والفضل، ولا يُفهم من الحديث أن نطرد الصبيان الذين يميزون؛ فإن من سبق إلى مكان فهو أولى به.. فرق بين قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ليليني منكم أولو الأحلام"، وبين أن يقول: "لا يليني منكم إلا أولو الأحلام"، هناك فرق عظيم بين اللفظين.
قال أبو مسعود متممًا الحديث "فأنتم اليوم أشد اختلافًا"، وهو يكلم بقية الصحابة. (أخرجه مسلم)، قال هذا في زمانه وفيهم الأفاضل فكيف لو رأى زماننا؟!
وفي رواية في مسلم: "وإياكم وهيشات الأسواق"، يعني إياكم والخصومة والمنازعة وارتفاع الأصوات، أي: لا تجعلوا اجتماعكم للصلاة مثل اجتماع الناس في الأسواق.
أيها الأحباب الكرام: المسجد هو منطلق المبادئ وميدان القيم، وإذا لم تتوحد قلوبنا في بيوت ربنا فلن تتوحد خارجها أبدًا، وإذا أردت أن تعرف حال الأمة فانظر إلى حال مساجدها، لا أقصد الزخارف والنقوش، فهذه أمور لا تؤسس قيمًا ولا تبني رجالاً؛ فلقد كان مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- مبنيًا بالطين مسقوفًا بالنخل، وتخرج منه أسياد الرجال وأئمة الهدى لأنهم كانوا كما وصفهم الله (أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ) [الفتح: 29].
هذا الذي نفتقده اليوم مع الأسف، هذا الذي نحن إليه، هذا الذي بسبب قلته شقينا وشقيت بنا دنيانا.
في المسجد الواحد تجد فرقًا وأحزابًا وتكتلات وخصومات وعداوات.. لماذا كل هذا ومن اجل ماذا كل هذا؟! تعبنا والله، سئمنا والله..
لماذا لا نكون إخوة ننشر الرحمة فيما بيننا، إن نصحنا فبرحمة، وإن انتقدنا فبرحمة، وإن اختلفنا فبرحمة.
نختلف على السفاسف في الوقت الذي يشتغل فيه الأعداء ليل نهار من أجل تقويض أخوتنا، أساءوا إلى نبينا، أهانوا قرآننا، احتلوا بلدنا، نهبوا خيراتنا، قتلوا أطفالنا، مكنوا لأعدائنا من الروافض الشيعة أهل الخبث وفتحوا لهم الأبواب فسقطت البلدان واحدة تلو الأخرى من عراق وشام والتحقت بالركب اليمن، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ونحن في خلافنا عندنا إصرار عجيب على الخلاف!! ونحن في خلافنا وتفاهتنا فمتى نتفق، فمتى نستفيق؟!
اللهم أصلح أحوالنا...