المجيب
كلمة (المجيب) في اللغة اسم فاعل من الفعل (أجاب يُجيب) وهو مأخوذ من...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
يطيب لكثير من الناس الحديث عن البشائر والمرغبات، وينفرون ممن يحذرهم وينذرهم، ولا يحبون من يذكرهم بنصوص الترهيب والتخويف، ولا سيما في موجة التخذيل والإرجاء والتبديل لدين الله تعالى التي تكاد تجتاح العالم الإسلامي في هذا الزمن.
الحمد لله العلي الأعلى؛ أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، نحمده على سابغ نعمه، ونشكره على واسع فضله؛ فما من خير إلا وهو واهبه، ولا من بلاء إلا وهو دافعه ورافعه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ نواصي العباد بيديه، وآجالهم وأرزاقهم إليه، يعطيهم منذ خلقهم فما نفدت أرزاقه، ولا غاضت نفقته (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) [فاطر:3].
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أنصح العباد للعباد وأتقاهم لله تعالى، رغَّب ورهَّب، وبشَّر وأنذر، ونهى العباد عن معصية الله تعالى، وحذَّرهم نقمته وعذابه حتى قال صلى الله عليه وسلم : "إنما مَثَلِي وَمَثَلُ ما بَعَثَنِي الله بِهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ أتى قَوْمًا فقال: يا قَوْمِ، إني رأيت الْجَيْشَ بِعَيْنَيَّ وَإِنِّي أنا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ فَالنَّجَاءَ فَأَطَاعَهُ طَائِفَةٌ من قَوْمِهِ فَأَدْلَجُوا فَانْطَلَقُوا على مَهَلِهِمْ فَنَجَوْا وَكَذَّبَتْ طَائِفَةٌ منهم فَأَصْبَحُوا مَكَانَهُمْ فَصَبَّحَهُمْ الْجَيْشُ فَأَهْلَكَهُمْ وَاجْتَاحَهُمْ فَذَلِكَ مَثَلُ من أَطَاعَنِي فَاتَّبَعَ ما جِئْتُ بِهِ وَمَثَلُ من عَصَانِي وَكَذَّبَ بِمَا جِئْتُ بِهِ من الْحَقِّ" صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واحذروا نقمته فلا تعصوه؛ فإن ربكم سريع العقاب، شديد المحال (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود:102].
أيها الناس: يطيب لكثير من الناس الحديث عن البشائر والمرغبات، وينفرون ممن يحذرهم وينذرهم، ولا يحبون من يذكرهم بنصوص الترهيب والتخويف، ولا سيما في موجة التخذيل والإرجاء والتبديل لدين الله تعالى التي تكاد تجتاح العالم الإسلامي في هذا الزمن.
ومن نظر في القرآن الكريم وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وجد فيهما الوعيد كما فيهما الوعد، وفيهما الترهيب كما فيهما الترغيب، وغالبا ما يُقرن في الكتاب والسنة الوعد بالوعيد، والترغيب بالترهيب (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المائدة:98] (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)[الأنعام:165] وفي السنة النبوية روى أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إلا من أَبَى، قالوا: يا رَسُولَ الله، وَمَنْ يَأْبَى؟ قال: من أَطَاعَنِي دخل الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى" رواه البخاري.
ونحو هذا كثير في القرآن الكريم، وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وإذا كان في الناس تقصير في طاعة الله تعالى، وإقبال على المعاصي؛ فإن من النصيحة لهم، والرأفة بهم؛ تذكيرَهم بعذاب الله تعالى؛ لئلا يحيق بهم وهم في غفلتهم؛ فإن أمما ممن سبقونا أسرفوا على أنفسهم بالعصيان فحل بهم عقاب الله تعالى وهم في غفلتهم (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ) [الأعراف:4].
ومن نظر في واقع الناس المعاصر وجد أنهم يعانون من مشكلات كثيرة، وتحل بهم مصائب متنوعة سواء على مستوى الأفراد أم على مستوى الجماعة، وصار الخوف من المستقبل ومفاجأته هاجسا يسيطر على العقول، ومرتكزا لبناء العلاقات، وتغيير القناعات، وأخذ الاحتياطات، ومن لم يحتط بدين الله تعالى فلا عاصم له.
ثم كان حبس القطر عن الناس مكملا لمشكلاتهم، وزيادة في معاناتهم، وتضرر بذلك أهل الزرع وأهل الضرع، وعمت المصيبة أهل البوادي والقرى والمدن بما نتج عنه من غور المياه، وموت الزرع، وقلة الثمر، وجدب الأرض، وهُزال الماشية.
والعادة أن الأمطار التي تنهمر في موسمها تخضَّر بها الأرض، وينتفع بها الزرع، ويعود ذلك بالفائدة على المواشي ثم على الناس، ويبقى مخزونها في الأرض لأهل السقاية يسقون بها زروعهم وأشجارهم، ويُروون بها نعمهم، وتنفعهم إلى الموسم القابل.
أَمَا وقد حُبس قَطْرُ هذا الموسم عن العباد فإن الأمر خطير، وما ينتج عنه شديد، وما هو إلا من إنذار الرب للعباد؛ فإنه سبحانه يخوفهم بآياته (وَمَا نُرْسِلُ بِالآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا) [الإسراء:59] فعسى أن يكون فينا من الخوف ما يجعلنا نحاسب أنفسنا، ونتوب إلى الله تعالى من معاصينا، ونلزم طاعة ربنا، فما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة كما قال العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، ونعوذ بالله العظيم أن نكون من أهل قوله سبحانه وتعالى: (وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا) [الإسراء:60].
إن حبس القطر، وغور المياه، وجدب الأرض، وقلة الثمر، وفساد الزرع، وهُزَال الماشية إذا أصاب قوما فإنه يكون ابتلاء للمؤمنين الطائعين، وإنذارا للعصاة المسرفين، والعقوبة إذا كتبت على قوم أصابتهم جميعا (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ) [الأنفال:25].
ولهذه العقوبة الربانية والإنذار الإلهي أسباب بخصوصها دلَّ الشرع عليها، كما أن عموم المعاصي أسباب لعموم المحن والبلايا بقول الله تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود:117] وفي آية أخرى (وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ) [القصص:59] وفي آية ثالثة (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشُّورى:30].
وبخصوص قطر السماء دلت النصوص على أن تقصير العباد في تحصيل أسباب كمال الإيمان، وكسلهم عن تحقيق التقوى، وميلهم إلى الهوى سبب لمنع القطر (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف:96] ومن بركات السماء الغيث المنزل، ومن بركات الأرض اهتزازها بالزرع، وزينتها بالخضرة، ولا يملك ذلك إلا الله تعالى، وذلك من رزقه في السماء والأرض (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آَيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا) [غافر:13].
ودلت السنة النبوية على أن بخس الموازين، والغش في التجارات سبب للجوع والقلة، وبه تنزع البركة من الأرزاق وأن منع الزكاة سبب لحبس القطر؛ كما في حديث ابن عُمَرَ رضي الله عنهما قال: "أَقْبَلَ عَلَيْنَا رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقال: يا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إذا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِالله أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ....وذكر منها: ولم يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إلا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عليهم ولم يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إلا مُنِعُوا الْقَطْرَ من السَّمَاءِ وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لم يُمْطَرُوا" رواه ابن ماجه.
وجاء في القرآن ما يدل على أن نشر الفساد في الأرض، وتسويغه للعباد، وتشريعه بينهم، وعدم إنكاره فيهم سبب لفساد البر والبحر، وينتج عن فسادهما ذهاب خيراتهما، ونزع بركة أرزاقهما؛ فإن الله تعالى جعل في البر والبحر من الكنوز والأرزاق والخيرات ما ينتفع به العباد في مأكلهم ومشربهم وملبسهم ومركبهم، وإمعان العباد في المعاصي سبب لنزع البركة من البر والبحر، فتنضب أرزاقهما، وتذهب خيراتهما (ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الرُّوم:41].
جاء عن عكرمة رحمه الله تعالى أنه قال في ظهور الفساد في البر والبحر: هو قحوط المطر، قيل له: قحوط المطر لن يضرَّ البحر، قال: إذا قلَّ المطر قلَّ الغوص.اهـ
وفي هذه الآية العظيمة بيَّن الله عز وجل أن فساد البر والبحر بسبب أعمال العباد، وأن ذلك من العذاب الذي يمسهم عساهم أن يرجعوا إلى ربهم، ويستمسكوا بدينهم، ويتوبوا من ذنوبهم (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).
كذلك دلت السنة النبوية على أن الانغماس في الحرام مانع من قبول الدعاء، ومعلوم أن الناس إذا أصابتهم الضراء، ونزل بهم البلاء لجئوا إلى الله تعالى بالدعاء، وكم استسقى الناس في هذا العام، ورفعوا أكف الضراعة إلى الله تعالى، وخرجوا إلى المصليات طلبا للغيث فما استجيب لهم ولم يُغاثوا على كثرة ما خرجوا واستغاثوا، وربنا جواد كريم لا يَرُدُ سائلا، ولا يُخَيِّبُ داعيا، ولولا موانع الإجابة التي تلطخ العباد بها لأُجيبوا، ولتنزل عليهم غيث السماء مدرارا فاخضرت به أرضهم، روى أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أَيُّهَا الناس إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إلا طَيِّبًا وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فقال: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)[المؤمنون:51] وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) [البقرة:172] ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّمَاءِ: يا رَبِّ يا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ" رواه مسلم.
وفي زمننا هذا انتشرت المعاملات المالية المحرمة كالربا والنجش والغش، وأكل أموال الناس بالباطل فيما يعرف بتجارة الأسهم أو تشغيل الأموال ثم جحدها أو المماطلة فيها، مما كان فيه ظلم عظيم وإضرار بالضعفة من الناس، وكل ذلك -ومثله كثير، وكثير جدا- هو من أكل الحرام الذي يمنع إجابة الدعاء.
أفعجبتم -يا عباد الله- إن استسقينا مرات عدة فلم نمطر، وحال كثير منا مع الأموال والتجارة فيها ما لا يخفى عليكم؟!
فنسأل الله تعالى أن يأخذ بأيدينا إلى البر والتقوى، وأن لا يؤاخذنا بذنوبنا ولا بما فعل السفهاء منا، وأن يعفو عنا ويغفر لنا ويرحمنا (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ) [الأعراف:23].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم....
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا كثيرا مباركا فيه يليق بجلال ربنا وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- وأطيعوه؛ فبتقواه عز وجل تأمنون وترزقون (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) [الطَّلاق:2-3].
أيها المسلمون: كثير من الناس لا يدركون خطورة منع القطر من السماء؛ لأنهم لم يفقدوا الماء من بيوتهم، ولا يُحسون بمعاناة إخوانهم من مُلَّاك الزرع والضرع، وتلك أنانية أن لا يفكر المرء إلا في نفسه دون إخوانه، ثم إن الضرر الذي يأتي عليهم اليوم يلحق بقية الناس غدا؛ فإن غور المياه، ونضوب الآبار، وفساد الزروع والثمار ضرره عام على جميع الناس ولو لم يروا أثره في الحال..كيف والبلاد تشكو فقرا كبيرا في المياه الجوفية مما ينذر بأسوأ العواقب في المستقبل القريب!!
إن عدم اهتمام كثير من الناس بما منعوا من قطر السماء في هذا العام يدل على غفلة عظيمة؛ فالنذر تأتيهم من بين أيديهم ومن خلفهم وهم لا يلقون لها بالا، ولا يرفعون بها رأسا، ولم يتغير لهم حال، إلا من رحم الله تعالى وقليل ما هم.
إن سوء الظن بالله تعالى قد ملأ قلوب كثير من الناس حتى أماتها، والعذاب إنما ينزل بالناس إذا استحكمت الغفلة من قلوبهم، وكما أن من سوء الظن بالله تعالى دعاءَه سبحانه من غير يقين بالإجابة فإن من سوء الظن به سبحانه أن يظن العباد أنه لا يؤاخذهم بذنوبهم، وهذا فيه تعطيل لقدرته سبحانه أو لحكمته؛ فإن حكمته البالغة تقتضي مؤاخذة المصرِّين على عصيانهم بعد أن أعذر الله تعالى إليهم بما أرسل إليهم من النذر والآيات التي كان من آخرها حبس القطر عنهم، بل إن في ذلك استخفافا بوعيد الله تعالى للعباد في كتابه العزيز، واستهانة بعذابه، وتلك كانت طريقة المعذبين في الأمم الغابرة.
أما أهل الإيمان فإن من إحسان ظنهم بربهم رجاءَ رحمته، والخوف من عذابه، والحذر من أسباب نقمته، ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم كان أحسن الخلق ظنا بالله تعالى، ومن إحسان ظنه به أنه عليه الصلاة والسلام كان يخاف عذابه؛ لعلمه بشدة بطشه، وسريع انتقامه، وأليم عقابه، وليقينه أنه يأخذ العصاة على حين غرة، عن عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يَوْمُ الرِّيحِ وَالْغَيْمِ عُرِفَ ذلك في وَجْهِهِ وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ فإذا مَطَرَتْ سُرَّ بِهِ وَذَهَبَ عنه ذلك، قالت عَائِشَةُ: فَسَأَلْتُهُ فقال: إني خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ عَذَابًا سُلِّطَ على أُمَّتِي" رواه مسلم.
إننا محتاجون -أيها الإخوة- إلى من يذكرنا بنصوص الترهيب والوعيد؛ لكثرة ما يُنتهك في هذا الزمن من حرمات الله تعالى على مستوى الأفراد والجماعة، وقد جاهر أهل العصيان بمعاصيهم، وأطلع المنافقون قرونهم يناطحون بها ديننا، وأعلن الزنادقة رفضهم لشريعة الله تعالى، وحاول المحرفون تحريفها وتبديلها، مع تشريعهم للفساد الأخلاقي، ونشرهم للانحراف الفكري على أوسع نطاق، ودعوتهم الناس إلى الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، والفساد في الأرض، على عكس ما ارتضاه الله تعالى لنا دينا، وفرضه علينا شرعا، وهو سبحانه ينهانا عن الفساد في الأرض (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ الله قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِينَ) [الأعراف:56].
فجمع عز وجل في هذه الآية بين النهي عن الفساد وبين الأمر بالدعاء في آية واحدة مما يدل على أن الفساد في الأرض من موانع إجابة الدعاء، وكم يفسد المفسدون من أخلاق الناس وأفكارهم في صحفهم وإعلامهم؟!
ثم بيَّن سبحانه أن رحمة الله تعالى قريب من المحسنين، ومعنى ذلك أنها بعيد من المفسدين، وإذا سكت الناس عن إفساد المفسدين كانوا متواطئين معهم، فيُخشى عليهم أن ينالهم العذاب معهم، وعقوبة الله تعالى إذا كتبت على أمة عمتهم جميعا، ولا ينجو منها إلا الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر بدليل قول الله تعالى: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) [الأعراف:165].
فلنعتبر -يا عباد الله- بما أصابنا من قحوط المطر، وجدب الأرض، وغلاء السلع، وقلة الموارد وغيرها من الإنذارات والآيات..لنعتبر بها عما هو أشد منها قبل أن يصيبنا ما أصاب الأمم التي قبلنا (إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ) [الرعد:11].
وصلوا وسلموا على نبيكم |