المعطي
كلمة (المعطي) في اللغة اسم فاعل من الإعطاء، الذي ينوّل غيره...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن صالح العجلان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
لقد عرف التاريخ طُغاةً كُثُرًا، أمعَنُوا في عُتوِّهم وعُلوِّهم، وتمادوا في استِرخاص الدِّماء، وسفْك أرواح الأبرياء، بَيْدَ أنَّ حديثنا اليوم عن نوعٍ خاص من هؤلاء، مع طُغاةٍ جمعوا مع الطغيان جنونًا، هذا الجنون لا يعني فقدان العقل وذَهابه، وإنما هو جنونٌ لا يفعله العُقَلاء، إنهم طُغاةٌ اختلفتْ أجناسهم، وتبايَنتْ أزمانهم، واتَّحدتْ قبائحهم، فالمَشاهِد تتكرَّر، والأفعال تتشابَه: (أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ) ..
الحمد لله الذي هَدانا، وجعَلَنا من خير أمَّة واجْتبانا، نحمَدُه سبحانه ونشكُره على ما أسبَغَ من نعمه وأعطانا، ونشهَدُ أن لا إله إلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له، خلَقَنا فسوَّانا، وأطعَمَنا وسَقانا، ونشهَدُ أنَّ محمدًا عبده ورسوله أصدق الناس لسانًا، وأفصحهم بَيانًا، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه، أكرِمْ بهم من جيلٍ وإخوان، وعلى مَن تبعهم بخير وإحسان.
أمَّا بعدُ: فإنَّ أعظم ما يُوصِي المرء أخاه، أنْ يتَّقي ربَّه ومولاه، ويعتَصِم بحبْله وهُداه: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [طه: 123-124].
معاشِرَ المسلمين: التاريخ نذيرُ قومٍ لا يغفل، وشاهدُ حقٍّ لا يكذب، مَن تأمَّل التاريخ استَنارَ قلبُه، ورشد عقلُه، وحسُن رأيُه، وعاش عصرَه بتجارِب غيره.
وَمَنْ حَوَى التَّارِيخَ فِي صَدْرِهِ
نقفُ -إخوةَ الإيمان- مع صفحات سوداء من تاريخ البشريَّة، مع أخبار بعض الجبابرة الذين طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد، فبغتَتْهُم سننُ الله في الظالمين، فتهاوَتْ عُرُوشهم، وحلَّت مَصارِعهم، ثم كانوا عارًا ومَسبَّة لِمَن بعدَهم.
لقد عرف التاريخ طُغاةً كُثُرًا، أمعَنُوا في عُتوِّهم وعُلوِّهم، وتمادوا في استِرخاص الدِّماء، وسفْك أرواح الأبرياء، بَيْدَ أنَّ حديثنا اليوم عن نوعٍ خاص من هؤلاء، مع طُغاةٍ جمعوا مع الطغيان جنونًا، هذا الجنون لا يعني فقدان العقل وذَهابه، وإنما هو جنونٌ لا يفعله العُقَلاء، إنهم طُغاةٌ اختلفتْ أجناسهم، وتبايَنتْ أزمانهم، واتَّحدتْ قبائحهم، فالمَشاهِد تتكرَّر، والأفعال تتشابَه: (أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ) [الذاريات: 53].
نيرون أحد أباطرة الرومان من أوائل مَن طغى وآثَر الحياة الدنيا، تولَّى الحكم وعمره لم يتجاوَزْ ست عشرة سنة، وصَل إلى الحكم عن طريق الاغتيالات السياسيَّة، ثم رفع راية الإصلاح في مهْد رِئاسته، ولم يمضِ زمانٌ حتى تحوَّل هذا الرئيس إلى كابوسٍ على شعبه، كانت شخصيَّة هذا الملك غريبة متلوِّنة؛ فكان شديدَ الحماقة، سفيهَ الرأي، دائمَ الغدر، مصَّاصًا للدماء، مُتَفنِّنًا في القتل والسفك والتعذيب، ألقى بعض شعبه وجبةً للوحوش الضارية، وأمَر بطَلْيِ أجساد بعضِ المُعارِضين بالقار، ثم أشعَلَ فيهم النار، لتكون ضوءًا في الاحتفالات الخاصَّة له.
وحادثةٌ واحدةٌ فقط تختصر لنا حجمَ الطغيان والعتوِّ وقَسوة القلب التي كان يتمتَّع بها نيرون، عاش هذا الطاغية قبل الرسالة الإسلاميَّة، وكان مُبغِضًا للديانة النصرانيَّة بُغضًا شديدًا، وحين بلَغَه اعتناق بعض أهالي روما للنصرانيَّة، تحرَّكت في داخله عقارب الطغيان، فقرَّر حرق المدينة بالنار، فكان حريق روما الشهير سنة ثمانٍ وستين للميلاد، احترقَتْ عشرة أحياء بالكامل، من بين أربعة عشر حيًّا أسبوعًا كاملاً، ووقف هذا الطاغية يتلهَّى بموسيقاره، لم يبقَ في قلبه ذرَّة رحمة، وهو ينظُر إلى النار تلتَهِم الرجال والنساء والأطفال!
ولم ينتهِ طُغيانه عند هذا، بل اتَّهم مَن آمَن من المسيحيين بإشعال هذه النار وإفساد البلاد، ومحاولة زَعزَعة الأمن، والدعوة إلى قيام ولاية نصرانيَّة داخل مملكته، فنكل بهؤلاء المسيحيين نكالاً يعجز البيان عن تصويره.
عبادَ الله: لكلِّ ظالم نهايةٌ، وكثْرة الظلم تُولِّد الثورات، وهذا ما حصل للطاغية الروماني، فبعدَ سنين من الظلم والقهر الذي لا يُطاق اجتمع أهل بلده ورجال مملكته على عَزلِه، فثارَ الناس وحاصرَتْه الجموع حول قصره، وشاء الله أنْ تكون اليد التي تقتلُه هي اليد التي قتلتْ ونكلت شعبه، فقام هذا الشقيُّ حين أَيْقَنَ بالنهاية، فقتَل نفسه، وهلك مع الهالكين.
ومِن نيرون الروماني إلى طاغيةٍ عرفه التاريخ الإسلامي قال عنه الذهبي: "كان شيطانًا مريدًا، وجبَّارًا عنيدًا، كثير التلوُّن، سفَّاكًا للدماء، خبيث النحلة، عظيم المكر، له شأنٌ عجيبٌ، ونبَأ غريب، كان فرعون زمانه، تسمَّى هذا الطاغية زورًا وبهتانًا بالحاكم بأمر الله، هو أحد رُؤَساء الدولة الفاطمية الباطنية الرافضية، والذين حكَم عليهم غيرُ واحد من أهل العلم كالغزالي وابن تيميَّة بأنَّ ظاهرهم الرفض، وباطنهم الكفر المحض".
تولَّى هذا الطاغية الحكم وعمره ثلاث عشرة سنة، فلا تَسَلْ بعد ذلك عن إمارة الصبيان كيف تكون؟!
كان غريب الأطوار، متناقض القَرار، أذاق الناس المر والأمرّ بسبب سفاهته وحمقه، كان يأمُر بالأمر وعكسه، أمَر بفتح الأسواق ليلاً وغلقها نهارًا، قرَّب العُلَماء والصُّلَحاء ثم قتلهم، كتب سبَّ الصحابةِ وخِيارِ السلف على أبواب المساجد، وزخرَفَها بالذهب والفضة، أجبَرَ اليهود والنصارى على الإسلام، ثم سمح لهم بالارتداد، ضيَّق على الناس في مَعاشِهم، فمَنَع بيع العسل والزبيب بلا حِكمةٍ ولا سبب، أصدر أمرًا بإلغاء الزكاة، ومنع صلاة الضحى وصلاة التراويح، وأصدر قَرارًا بتبجيله وتقديسه وترميزه، بل ألزم رعيَّته إذا ذكَر الخطيب اسمه على المنبر، أنْ يقوموا على أقدامهم صُفوفًا؛ إعظامًا لذكره، واحترامًا لاسمه.
ووصل جنون العظمة بهذا الطاغي الباغي أنِ ادَّعى الألوهيَّة، وألزَمَ الناس بالسجود له، حتى قال فيه أحد الشعراء المتزلفين الأشقياء:
مَا شِئْتَ لاَ مَا شَاءَتِ الأَقْدَارُ
نعوذُ بالله من الكفر والزندقة!
ذكرتْ كتب التاريخ أنَّ هذا الطاغية أراد بأهل القاهرة شرًّا؛ فأمر بإحضار العبيد من الآفاق ثم أطلقهم على الناس، فحصلت مجزرة عظيمة؛ سُفِكت فيها الأرواح، وانتُهِكت الأعراض، وسُرِقت الممتلكات، ثم بعد هذه الأحداث المروعة فرَّج الطاغية على الناس، وتَباكَى على الأموات، ووعَد بملاحقة الجناة، كأنَّ الأمر لم يكنْ بتدبيره وتخطيطه، وإنما قال ما قال لتهدئة الشعب، ولتسكين الغضب، جثَم هذا الطاغية على شعبه أكثر من خمسٍ وعشرين سنة، وحين أراد الله هلاكه كانت نهايته على يد أقاربه الذين تآمَروا مع قادة الجيش على اغتياله، فطُوِيت بعد قتله صفحةٌ سوداء لا تُنسَى من صفحات الطُّغيان، وارتاح بهلاكه البلاد والعباد والشجر والدواب، وطهرت الأرض من كفريَّاته وزندقاته.
إخوةَ الإيمان: ويَدُور الزمان دورتَه، ويَشاء الله تعالى أنْ نرى بأعيننا نموذجًا من هذا النوع من البشر، فإذا نحن أمام طاغية فريد، ومستبدٍّ عنيد، طاغية جمع التناقُضات من أرجائها، والجهالة من أنحائها، يتلوَّن تلوُّن الحرباء، ليس له دِينٌ، ولا مبادئ ولا قيم، بعد انقلابٍ عسكريٍّ تولَّى الرئاسة في صِباه، ونعوذُ بالله من إمارة الصبيان، فكان شُؤمًا وبَلاءً على أهل ليبيا، كانت سياسته ظلامًا في ظلام، وتاريخه مليئًا بالجُرم والإجرام، أضحَكَ الدُّنيا بجهله وحمقه، فادَّعى أنَّه لا يملك منصبًا رسميًّا، والكلُّ يعلم أنَّه المسيطِر على مُقدَّرات البلد وقَراراته، تَناحَر مع كثيرٍ من الدول المجاورة، وأشغل الناس بمواقفه المهترئة المستفزَّة.
جاء في كتاب "أوراق الموساد المفقودة": "كانت مساعدتنا للقذَّافي بمثابة مُقامَرة كبرى، ولكنَّها كانت ذات فوائد عظيمة لنا؛ لقد كان من بين أهم ما جنيناه من وراء وقفتنا خلفَه هذه الصِّراعاتُ والنِّزاعات التي نجح القذَّافي في خلقها، والعَداوات التي أشعَلَها بين الدول العربيَّة المختلفة".
سار هذا الطاغية على درب مَن سبَقَه من الجبابرة، كان شغوفًا بالإطراء، هائمًا بالألقاب:
كَالْهِرِّ يَحْكِي انْتِفَاخًا صَوْلَةَ الأَسَدِ
لقَّب نفسَه بملك مُلوك إفريقيا، وبإمام المسلمين، وعميد الحكَّام، ورئيس الاتحاد الإفريقي.
عاش هذا الفاجر في بلدٍ تنضح بالثروات المهولة، مع قلَّة عدد سكَّانه، إلا أنَّ شعبه لم يَشعُر بهذا الخير والثَّراء، أمَّا الحريَّة والكرامة فهي مَعانٍ جميلة، وقيمٌ نبيلة، لكنْ لا رصيد لها في أرض الواقع الليبي.
ويبقى التوجُّه العقدي والأطروحات الفكريَّة التي يحملها هذا الرجل محطَّةً يجب أنْ تُذكَر ولا تغيب، فالمواقف والأقوال والأفعال تُحرِّكها عقيدةٌ وأفكارٌ.
هذا الرجل لا يحمل معتقدًا واضحًا، وإنما هو خليطٌ من السَّوءات العقديَّة، والعُفونات الفكريَّة، نشَر ذلك كلَّه في كتابه الأخضر، وكتابه الأبيض الذي أسماه (إسراطين)، نادَى فيه بقِيام دولة إسرائيليَّة فلسطينيَّة، جُمِعَتْ خُطبه وخِطاباته وبياناته وحواراته في كتابٍ يُسمَّى "السجل القومي"، موجودٌ في موقعه الشخصي، هذه الخِطابات تنضح بالضلال والردة، من أهم ما قاله وتقيَّأ به:
اعتبر الدين عدوًّا للحرية والعلم.
أنكر حادثة المعراج.
استهزأ بمقدَّسات المسلمين، فوصف الحج بأنَّه عبادة ساذجة، والحجاب بأنَّه من عمل الشيطان.
ادَّعى أنَّ الدولة الفاطميَّة -التي كفَّرها علماء السنة- أنها أوَّل دولة قامت في الإسلام.
زعَم أنَّ أبا بكر ليس بخليفة رسول الله، ووصف عمر بأنَّه ديكتاتور، ونفى عن عثمان صلاحيَّته للحكم، كما نفى أنْ يكون هناك عشرة مبشرون بالجنة.
وصَف الخلافة بعد النبي بأنها بدعة وضلالة، منذ أنْ قامت بعد وفاة الرسول، وقال ما نصه: إنَّ الرسول بريء من الخلفاء الذين أتوا بعده.
بل بلغ من جُرأته وعدم احترامه لمشاعر المسلمين أنِ اقترح أنْ تحذف كلمة (قُلْ) من المصحف؛ زاعمًا أنها أمرٌ موجَّه للنبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- وقد مات هذا النبي.
أنكر العمل بالسنَّة والاحتجاج بها؛ بحجَّة الضعيف والموضوع فيها، بل اعتبر العمل بالسنَّة من الشرك بالله، فقال ما نصه: مَن الذي أتى وقال: حديث النبي هذا لا بُدَّ (تمشوا) به وتقدسوه مثل القرآن، هذا شرك طبعًا.
أمَّا اليهود الذين سبوا الله ووصفوه بأبشع الأوصاف، فقد قال عنهم: الديانة اليهوديَّة نعترف بها، ومفضَّلة في القُرآن.
هذه بعض أطروحاته وزندقاته، وهذا ما حدا هيئة كبار العلماء أنْ تصدر في حقِّه الفتوى الشهيرة سنة 1402هـ والتي نصَّ علماؤنا على كفر هذا الطاغية وردَّته، وكان من أبرز وأشهر الموقِّعين العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز، والعلامة الشيخ عبد الله بن حميد، أعلى الله نُزُلَهم في عليِّين.
عبادَ الله: وفي هذه الأيَّام انسلخ هذا السفاح من إنسانيَّته، وكشر عن أنيابه؛ فشاهَدنا وشاهَد العالم كلُّه كيف يجلد هذا الجبار شعبه، وكيف تُراق الدماء، وتُنثَر الأشلاء، آلاف القتلى، وأعداد لا يحصون من الجرحى، جُثَث متفحِّمة، وقطع ممزقة، وأعضاء متناثرة.
لِمِثْلِ هَذَا يَذُوبُ القَلْبُ مِنْ كَمَدٍ
يحدُث هذا كلُّه والطاغية يتغنَّى بأمجاده وأفضاله، فيجعل من نفسه الأمَّةَ والعزَّ والمجدَ، لا تصلح البلاد إلا به، وأمَّا هؤلاء القتلى والجرحى فهم حشرات وجرذان لا يستحقُّون الحياة.
فأفٍّ والله من هذا التكبُّر، أفٍّ والله من هذا التجبُّر، الذي أنَّ لهوله كرامُ الرجال!
أفٍّ والله من هذا الظُّلم، الذي أفجَعَ الأمَّ بوليدها، وأدخَلَ مَراراتٍ من الأسى على أُسَرٍ رملتْ نساؤها، ويُتِّمتْ أطفالها، وبكتْ رجالها، ودامَتْ أحزانها.
عبادَ الله: ومع ما يحدُث لإخواننا من الفجع والوجع فإنَّنا على يقينٍ من ربِّنا بهلاك الظَّلَمة الجبابرة وأعوانهم، وإنَّ هذا الهوس الطغياني في مراحله النهائيَّة، وأنفاسه الأخيرة.
فهذا الانتفاخ الجنوني لن يقفَ في وجْه الشعب الليبي الشجاع المغوار الذي أنجبَ للأمَّة أسد الصحراء عمر بن المختار، فهذا الشعب المصابر المستبسِل قد اختارَ حَلاوة الشهادة على مَرارة الطغيان، وأعلَنَها صراحةً: كفانَا جنونًا وفقرًا، وضيمًا وقهرًا، لقد صمَد هذا الشعب الليبي أمام السفاح كرستيان الإيطالي، وسوف تنتصر -بإذن الله- جحافلُ الليبيين المكبِّرين المهلِّلين على كتائب الارتزاق وشُذَّاذ الآفاق.
(وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا) [الإسراء: 51].
أقول قولي هذا واستغفروا الله، إنَّ الله غفور رحيم.