البصير
(البصير): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على إثباتِ صفة...
العربية
المؤلف | منور بن الوناس صدوق |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان - المنجيات |
أما أهل الإسلام والإيمان فإنهم يعرفون أن هذا الكسوف آية من آيات الله الدالَّة على وحدانيته وانفراده بالخلق والتصوير، والتصرف والتدبير. وعلى عظم قدرته وشدّة سطوته، فخرجوا خائفين من ربهم، تائبين من ذنوبهم، قصدوا أفضل البقاع بيوت الله، والتجؤوا إليه فهو ملجؤهم ومولاهم، ومنجيهم وناصرهم. وقد وقع الكسوف في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فقام فزعاً مستعجلاً يجرّ رداءه حتى دخل المسجد...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
أما بعد: فيا أيها المسلمون: إن هذا الحدث الجلل وهو كسوف الشمس، يذكّرنا بقيام الساعة، اليوم كسفت الشمس واسودت على غير عادتها، وغداً تفاجئنا بالطلوع من مغربها، عن أبي موسى –رضي الله عنه- قال: "خسفت الشمس فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- فزعًا نخشى أن يكون الساعة"، فهو يخشى أن يكون الكسوف مقدِّمة لبعض الأشراط كطلوع الشمس من مغربها. فلا يبعد أن تظهر بعد الكسوف علامات الساعة. وتقع متتالية، بعضها إثر بعض، وقد قال الله –تعالى-: (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) [النحل: 77].
وتذكِّرنا ظلمة الكسوف –يا عباد الله– بظلمة القبر، ولأجل ذلك أرشد النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه في خطبة الكسوف أن يستعيذوا بالله من عذاب القبر، فظلمة النهار بالكسوف تذكر بظلمة النهار بالقبر، نسأل الله –تعالى- أن ينوِّر علينا قلوبنا وسائر المسلمين.
واعلموا –رحمكم الله– أن حقيقة الاتعاظ والادّكار هو في التمسك بما ينجي يوم القيامة (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء: 88- 89]، ولهذا لما سئل النبي -صلى الله عليه وسلم-: "متى قيام الساعة؟ قال للسائل: "وماذا أعددت لها".
فينبغي أن تكون همّة المؤمن متعلقة بالآخرة، فكل ما في الدنيا يحركه إلى ذكر الآخرة، وكل من شغله شيء فهمه في شغله، ألا ترى أنه لو دخل أرباب الصنائع إلى دار معمورة رأيت النجّار ينظر إلى الأبواب والنوافذ والطاولات والدواليب، والبنّاء إلى الحيطان، والخياط إلى النسيج المخيط والستائر والفرش، وهكذا المؤمن إذا رأى ظلمة ذكر ظلمة القبر. وإذا رأى شيئاً مؤلمًا ذكر العذاب والعقاب.
وإذا سمع صوتاً فظيعاً ذكر نفخة الصور، وإذا رأى الناس نياماً ذكر الموتى في القبور، وإذا رأى لذّة ذكر الجنة وما فيها من الحور والقصور، واللذات والسرور.
عباد الله: ليس هذا الكسوف عند الكفار وأتباعهم إلا ظاهرة طبيعية من جملة المظاهر، ومنظر من أروع وأجمل المناظر، خرج اليوم في أنحاء العالم كل كافر وفاجر، لرؤية هذا المشهد العظيم وكأنهم في نزهة الخاطر، ولم يعلموا أنهم بذلك قدر ركبوا المخاطر.
أما أهل الإسلام والإيمان فإنهم يعرفون أن هذا الكسوف آية من آيات الله الدالة على وحدانيته وانفراده بالخلق والتصوير، والتصرف والتدبير. وعلى عظم قدرته وشدّة سطوته، فخرجوا خائفين من ربهم، تائبين من ذنوبهم، قصدوا أفضل البقاع بيوت الله، والتجؤوا إليه فهو ملجؤهم ومولاهم، ومنجيهم وناصرهم.
وقد وقع الكسوف في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فقام فزعاً مستعجلاً يجرّ رداءه حتى دخل المسجد.
أخرج أبو داود في سننه عن حذيفة بن اليمان قال: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا حزبه أمر -أي: اشتد عليه وأهمّه- صلَّى".
وهكذا المسلم دائماً يرجع إلى الله –تعالى- في حال الشدة، فإن لم يفعل فحتما لن يرجع إلى الله في حال الرخاء.
فإذا رأى المسلم من الآيات ما قد يسفر عن العقوبات، أو حلَّ به بلاء، وضرب بسياط القضاء؛ استيقظ من نومته، وأفاق من غفلته، فرجع مسرعاً إلى ربه (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم: 41].
نعم، خاف ورجع إلى الله تائباً منيباً حتى يرضى الرب، ويكشف الكرب، ويغفر الذنب فتراه يصلي ويدعو ويزكي، ويسبّح ويهلّل ويستغفر، ويتصدق ويعتق.
وعن أبي بكرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد، ولكن الله –تعالى- يخوّف بهما عباده" (أخرجه البخاري). وقال تعالى: (وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا) [الإسراء: 59].
وعن أبي بكرة أيضاً قال: "كنّا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فانكسفت الشمس فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- يجر رداءه -وفي رواية مستعجلاً- حتى دخل المسجد، فدخلنا فصلى بنا ركعتين حتى انجلت الشمس، فقال: "إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد، فإذا رأيتموهما فصلوا، وادعوا حتى يكشف ما بكم" (أخرجه البخاري). وفي حديث آخر: "فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى الصلاة".
وعن أبي موسى الأشعري –رضي الله عنه- قال: "خسفت الشمس فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- فزعاً"، يخشى أن تكون الساعة، فأتى المسجد فصلى بأطول قيام وركوع وسجود، ما رأيته قطّ يفعله، وقال: "هذه الآيات التي يرسل الله لا تكون لموت أحد ولا لحياته، ولكن يخوّف الله بها عباده، فإذا رأيتم شيئًا من ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره".
وفي حديث آخر قال في خطبة الكسوف: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله، وكبّروا وصلّوا وتصدقوا، ثم قال: يا أمة محمد والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً".
وعن أسماء -رضي الله عنها- قالت: "لقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالعتاقة في كسوف الشمس"، وإن تعذّرت العتاقة لانعدام الرقاب والعبيد، فإنه يقوم مقامها كلمة الإخلاص.
فعن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومُحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأتِ أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك" (أخرجه البخاري).
عباد الله: كل ما ذكر من أنواع الطاعة يرجى من الله –تعالى- أن يدفع به ما يُخشى من أثر ذلك الكسوف.
لقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- في خطبة الكسوف باستدفاع البلاء بالذكر والدعاء والصلاة والصدقة، وزجر عن المعاصي التي هي أسباب جلب البلاء، وخصّ منها الزنا، لأنه من أعظمها في ذلك، فإن مَن آثار غيرة الله –تعالى- السخط والانتقام من أهل الفساد والإجرام، قال -صلى الله عليه وسلم-: "ولم تظهر الفاحشة في قوم قطّ حتى يعلنوا بها إلا ظهرت فيهم الأوجاع والأوباء التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا".
فاتقوا الله يا عباد الله، وتوبوا إلى الله توبة نصوحاً، وأكثروا من الدعاء بإخلاص وإيقان، وتصدقوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
لم ترد.