الأعلى
كلمة (الأعلى) اسمُ تفضيل من العُلُوِّ، وهو الارتفاع، وهو اسمٌ من...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
فالغيرة المحبوبة هي ما وافقت غيرة الله تعالى؛ وهذه الغيرة هي أن تنتهك محارم الله؛ وهي أن تؤتي الفواحش الباطنة والظاهرة. لكن غيرة العبد الخاصة هي من أن يُشركه الغير في أهله. فغيرته عن فاحشة أهله ليست كغيرته من زنا الغير؛ لأن هذا ما يتعلق به، وذاك لا يتعلق إلا من جهة بغضه لمبغضة الله؛ ولهذا كان الغيرة الواجبة عليه هي من غيرته على أهله، وأعظم ذلك امرأتُه، ثم أقاربُه، ومن هو تحت طاعته ..
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجهم، واهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى بفعل ما أمر، واجتنبوا الفواحش ما بطن منها وما ظهر، فالتقوى طريق الجنة؛ إذ هي محفوفة بالمكاره. والفواحش طريق النار؛ فقد حُفَّتْ بالشهوات والملذات.
أيها الإخوة المؤمنون: من أخلاق العرب السامية: خلق الغيرة. هذا الخلق كان العرب في جاهليتهم يُعرفون به، وقد أفرطوا فيه، وغالَوا، وتشدَّدوا، وتجاوزوا حده المشروع؛ حتى وصل بهم إلى وأد بناتهم خشية العار.
جاء الإسلام فأقرّ أصل الغيرة؛ لكنه هذَّبَها وعدّلها؛ لتكون بين الإفراط والتفريط، وبين الغلو والتقصير.
وقلةُ الغيرة من قلة الإيمان؛ لأن المؤمن يغار، يغار لنفسه إذا شورك في شيء يختص به، ويغار لله تعالى إذا انتُهكت محارم الله تعالى. أخرج الشيخان من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يغار، وإن المؤمن يَغار، وغيرة الله أن يأتيَ المؤمنُ ما حرم عليه"، وفي الصحيحين، واللفظ لمسلم، من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس أحَد أحب إليه المدح من الله عز وجل؛ مِن أجل ذلك مدح نفسه، وليس أحد أغير من الله؛ من أجل ذلك حرم الفواحش، وليس أحدٌ أحبَّ إليه العذر من الله؛ من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل".
وميزان الغيرة الشرعية ما ذكره النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "من الغيرة ما يحب الله، ومنها ما يبغض الله، فأما التي يحبها الله عز وجل فالغيرة في الريبة، وأما التي يبغضها الله فالغيرة في غير ريبة" أخرجه أحمد وأبو داود. وفي حديث الكسوف قال لهم -عليه الصلاة والسلام-: "يا أمة محمد! ما أحد أغير من الله أن يرى عبده أو أمته تزني، يا أمة محمد! لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً" متفق عليه.
ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشدُّ الناس غيرة، ثم صحابته من بعده -رضي الله عنهم- وأرضاهم. هذا عمر -رضي الله عنه- يقول له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "بينما أنا نائم رأيتني في الجنة فإذا امراة تتوضأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا؟ قال: لعمر، فذكرت غيرته فولَّيت مدبراً، فبكى عمر وهو في المجلس ثم قال: أوعليك يا رسول الله أغار" متفق عليه.
وعند مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال سعد بن عبادة: "يا رسول الله، لو وجدت مع أهلي رجلاً، لم أمسه حتى آتي بأربعة شهداء؟"، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نعم"، قال: "كلا، والذي بعثك بالحق إن كنت لأعاجله بالسيف قبل ذلك"، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اسمعوا إلى ما يقول سيدكم، إنَّهُ لَغَيُورٌ، وإني لأَغْيَرُ مِنه، والله أغير مني".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "وبيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه أغير من غيرة المؤمن، وأن المؤمن يغار، والله يحب الغيرة، وذلك في الريبة، ومن لا يغار فهو ديُّوث. وقد جاء في الحديث"لا يدخل الجنة ديوث".
فالغيرة المحبوبة هي ما وافقت غيرة الله تعالى؛ وهذه الغيرة هي أن تنتهك محارم الله؛ وهي أن تؤتي الفواحش الباطنة والظاهرة. لكن غيرة العبد الخاصة هي من أن يُشركه الغير في أهله. فغيرته عن فاحشة أهله ليست كغيرته من زنا الغير؛ لأن هذا ما يتعلق به، وذاك لا يتعلق إلا من جهة بغضه لمبغضة الله؛ ولهذا كان الغيرة الواجبة عليه هي من غيرته على أهله، وأعظم ذلك امرأتُه، ثم أقاربُه، ومن هو تحت طاعته؛ ولهذا كان له إذا زنت أن يلاعنها لما عليه في ذلك من الضرر بخلاف ما إذا زنا غيرُ امرأته".
وقال أيضاً: "فالغيرة الواجبة ما يتضمنه عن المخزي، والغيرة المستحبة ما أوجبت المستحب من الصيانة. وأما الغيرة في غير ريبة، وهي الغيرة في مباح لا ريبة فيه، فهي مما لا يحبه الله".
وقد قسم شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بني آدم في الغيرة إلى أربعة أقسام:
"قومٌ لا يغارون على حرمات الله بحال، ولا عن حُرُمِها، مثل الديوث، ومثل أهل الإباحة الذين لا يحرِّمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق؛ ومنهم من يجعل ذلك ديناً وطريقاً، (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) [الأعراف:28].
وقوم يغارون على ما حرمه الله، وعلى ما أمر به، مما هو من نوع الحب والكره، يجعلون ذلك غيرة؛ فيكره أحدهم من غيره أموراً يحبها الله ورسوله. ومنهم من جعل ذلك طريقاً وديناً، ويجعلون الحسد والصد عن سبيل الله وبغض ما أحبه الله ورسوله غيرة.
وقوم يغارون على ما أمر الله به دون ما حرمه؛ فنراهم في الفواحش لا يبغضونها ولا يكرهونها؛ بل يبغضون الصلوات والعبادات؛ كما قال تعالى (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً) [مريم:59].
وقوم يغارون مما يكرهه الله، ويحبون ما يحبه الله، هؤلاء هم أهل الإيمان" أهـ. كلامه رحمه الله تعالى.
والذنوب والمعاصي سبب لنقص الغيرة واضمحلالها وذهابها؛ ولذا فإن أكثر الناس غيرة أتقاهم لله تعالى، وتنقص الغيرة من قلب العبد بقدر نقص تقواه.
قال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "ومن عقوبات الذنوب أنها تطفئ من القلب نار الغيرة التي هي لحياته وصلاحه كالحرارة الغريزيّه لحياة جميع البدن، فالغيرة حرارته وناره التي تُخرج ما فيه من الخبث والصفات المذمومة، كما يخرج الكير خبث الذهب والفضة والحديد. وأشرف الناس وأجدُّهم وأعلاهم همة أشدهم غيرة على نفسه وخاصيته وعموم الناس؛ ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أغير الخلق على الأمة، والله سبحانه أشدُّ غيرة منه".
إلى أن قال: "فإن كثيراً ممن تشتد غيرته من المخلوقين تحمله شدةُّ الغيرة على سرعة الإيقاع والعقوبة من غير إعذار، ومن غير قبول العذر ممن اعتذر إليه؛ بل يكون له في نفس الأمر عذر، ولا تدعه شدة الغيرة أن يقبل عذره. وكثير ممن يقبل المعاذير، ويرى عذراً ما ليس بعذر؛ حتى يعتذر كثير منهم -يعني على معاصيهم- بالقَدَر وكل منهما غير ممدوح على الإطلاق... وإنما الممدوح اقتران الغيرة بالعذر؛ فيغار في محل الغيرة، ويعذر في موضع العذر، ومن كان هكذا فهو الممدوح حقاً" اهـ.
وقال أيضاً: "والمقصود أنه كلما اشتدت ملابسته للذنوب أخرجت من قلبه الغيرة على نفسه وأهله وعموم الناس، وقد تضعُف في القلب جداً؛ حتى لا يستقبح بعد ذلك القبيح، لا من نفسه ولا من غيره، وإذا وصل إلى هذا الحد فقد دخل في باب الهلاك.
وكثير من هؤلاء لا يقتصر على عدم الاستقباح، بل يُحسِّن الفواحش والظلم لغيره، ويزينه له، ويدعوه إليه، ويحثه عليه، ويسعى له في تحصيله؛ ولهذا كان الديوث أخبث خلق الله، والجنةُ حرام عليه، وكذلك محلِّلُ الظلم والبغي لغيره، ومزينه له. فانظر ما الذي حملت عليه قلة الغيرة، وهذا يدلك على أن أصل الدين الغيرة، ومن لا غيرة له لا دين له.
فالغيرة تحمي القلب فتحمي له الجوارح؛ فتدفع السوء والفواحش، وعدم الغيرة يميت القلب فتموت الجوارح، فلا يبقى عندها دفعٌ البتة. ومثَلُ الغيرة في القلب مثل القوة التي تدفع المرض وتقاومه، فإذا ذهبت القوة وجدَ الداءُ المحلَّ قابلاً، ولم يجد دافعاً فتمكن، فكان الهلاك".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأعراف:28-30].
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره وأتوب إليه وأستغفره. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى اللهُ عليه وسلم وبارك، وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجهم، واقتفى أثرهم، إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الغيرة الموزونة بميزان الشرع تسبب الخير، وتدفع الشر، وتقمع أهل الريب والفساد. غضب أبو بكر -رضي الله عنه- لما ارتد المرتدون، ومنع الزكاة المانعون؛ وغضب -رضي الله تعالى عنه- وقال لعمر لما حاول تهدئته: "يا عمر، أجبَّارٌ في الجاهلية خوَّارٌ في الإسلام؟!" وانطلقت قولته المشهورة التي أصبحت نبراساً يستضاء به: "والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم عليه"، قال ذلك غيرة لله تعالى، وقاتل أهل الردة، فأعز الله به الإسلام.
وهكذا يكون أبو بكر -رضي الله عنه- أنموذجاً صالحاً، وأسوة حسنة لكل عبد غيور على دين الله، قوي في الحق، آمر بالمعروف، ناهٍ عن المنكر، لا كحال كثير من الناس يرون حرمات الله تنتهك فلا يغارون لله تعالى؛ ولكن كيف يغارون إذا كان في الناس من تنتهك حرماته ولا يغار.
إن حدود الرجم والجلد والتغريب في الزنا ما شرعت إلا محافظة على الأعراض أن تنتهك؛ وإن آداب الاستئذان، وكيفية الدخول على البيوت والمحارم، ومنع النظر إلى الأجنبيات، ما جاء إلا حفاظاً على الأعراض؛ وإن جلد القاذف ما شرع إلا حفظاً للنساء الطاهرات العفيفات أن تقع فيهن الألسن الجارحة العاصية؛ واللعان بين الزوجين ما شرع إلا ليضبط غيرة الرجل على أهله؛ فلا تتعدى حدود الريبة.
ما شرع ذلك كله إلا لمكانةِ الأعراض وأهميتها في دين الله تعالى؛ ولكن ما حال الناس أمام هذه الحرمة العظيمة؟ وما مقدار الغيرة في ظل بث الفضائيات الخبيثة التي تنشر الفساد والإباحية، وزمن انتشار المجلات الخالعة التي تسهل طرق الفاحشة؟!.
ما حالُ مراهقٍ أو مراهِقةٍ يخلو كلُّ واحد منهم في غرفته، تنتقل عينه من فضائية إلى أخرى؟ فبالله عليكم! وبعيداً عن المزايدة في الكلام بالتسويغات السامجة، والأعذار الواهية، ماذا سيكون جوابُ صاحب البيت الآمن حينما جلَب النار والعار ووضعهما في أيدي أبنائه وبناته؟ ليس حديثي هذا للمنافقين؛ فالمنافقون أخبر الله عنهم بأنهم ( يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا) [النور:19]، لذا لا غرابة أن يقلبوا الموازين، ويخلطوا المفاهيم، ويجعلوا الفاحشة رقياً وتقدماً، وحضارة ومجداً، ويصفوا الغيرة وحفظ الأعراض بالجمود والقيود والأغلال.
وإنما الحديث لأهل الإيمان والفطر السوية، التي ترفض الفاحشة، وتأبى الانحلال؛ لكن دفعها على استقبال خبيث الفضاء تقليد على غير هدى، في غفلة مع الغافلين.
كانوا يظنون أن الأمر سهلٌ ويسير، وفيه متعةٌ وتسليةٌ للأولاد؛ أما وقد بان لهم أمرُها، وظهر أمامهم خبُثها ونتنُها؛ فهل من عودة إلى الحق، ورجعة إلى الله تعالى، وتوبة وإنابة تقود إلى تنظيف البيوت الآمنة من أسلحة غزاة الفساد والفاحشة؛ حماية للأعراض، وغيرة على المحارم؟!.
هذا هو الظن بهم، أن يستجيبوا لله ولرسوله، ويقطعوا طرق الشيطان والفاحشة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) [النور:21].
فما أقوى نفوسهم إن تغلبت على الهوى والشيطان! وما أضعفها وأعجزها وأجبنها إن استمرت في غيها! و"المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف".
ألا وصلُّوا وسلِّموا على خير خلق الله، كما أمركم بذلك ربكم.