الغفار
كلمة (غفّار) في اللغة صيغة مبالغة من الفعل (غَفَرَ يغْفِرُ)،...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الصلاة |
ثم ما قيمتنا -نحن بني آدم- حتى يُنتدب ملائكة كرام، لا يعصون الله تعالى طرفة عين، ينتظروننا على أبواب المساجد كل جمعة ليكتبونا في صحفهم، ويرفعوها إلى الله تعالى، ثم نُجزى بذلك أعظم الجزاء؟! ما قيمتنا لولا أن الله تعالى رفع قدرنا، وأعلى مكانتنا، وشرفنا بدينه، وألزمنا شريعته؟ فلنكن -يا عباد الله- على قدر تشريف الله تعالى لنا، ورفعه إيانا، ولن نبلغ ذلك مهما عملنا ..
الحمد لله رب العالمين؛ فتَح أبواب الخير لعباده، وأمرهم بالمسارعة فيها، والمبادرة إليها، (فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا) [المائدة:48]، أحمده كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ كتب الأجور العظيمة على العمل القليل؛ رحمة منه بنا، وإحسانا إلينا، ومراعاة لعجزنا وضعفنا، (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ) [البقرة:185]، (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا) [النساء:28]، فله الحمد، لا نحصي ثناء عليه، كما أثنى هو على نفسه.
وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله؛ لا خير إلا دلنا عليه، ولا شر إلا حذرنا منه، تركنا على بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أيها الناس: يوم الجمعة يوم عظيم مبارك، باركه الله -عز وجل- بهذه الصلاة العظيمة، وخصه بخصائص كثيرة، هدى أمة الإسلام إليه، وهي الأمة المتأخر زمنها في تاريخ الأمم، وضلَّ عنه من كان قبلها من اليهود والنصارى، فلله الحمد على ما هدانا وفضَّلَنا وأعطانا.
وصلاة الجمعة شعيرة من أعظم الشعائر الظاهرة في الإسلام، أنزل الله تعالى في شأنها سورة تتلى إلى يوم القيامة، وأمر المؤمنين فيها بأداء هذه الشعيرة العظيمة، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ الله وَذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الجمعة:9]، فأمر سبحانه وتعالى بالسعي إلى عمل الآخرة، وهو ذكره سبحانه في المساجد بهذه الصلاة العظيمة، كما أمر -عز وجل- بترك السعي إلى عمل الدنيا، وهو البيع ونحوه.
قال الحسن البصري -رحمه الله تعالى-: أما والله ما هو بالسعي على الأقدام، ولقد نهوا أن يأتوا الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار، ولكن بالقلوب والنية والخشوع. أهـ. وقال عطاء -رحمه الله تعالى-: إذا نودي بالأذان حرم اللهو، والبيع، والصناعات كلها، والرقاد، وأن يأتي الرجل أهله، وأن يكتب كتابا.أهـ.
ولما حبس المصلون أنفسهم في الجوامع للقيام بفريضة الله تعالى أُمروا بالانتشار عقب أدائها لحاجاتهم ومعايشهم؛ رحمة من الله تعالى ولطفا بهم، (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ الله وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الجمعة:10].
وقد جاء عن عراك بن مالك -رضي الله عنه- أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال: اللهم إني أجبت دعوتك، وصليت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني فارزقني؛ من فضلك، وأنت خير الرازقين.
ومن اشتغل بالتجارة أو الدنيا عن صلاة الجمعة فيُخشى عليه العذاب، وقد كاد بعض الصحابة -رضي الله عنهم- أن يُصابوا به لما خرجوا من المسجد لاستقبال قافلة قدمت، وتركوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب؛ كما روى جابر -رضي الله عنه- فقال: بينا النبي -صلى الله عليه وسلم- قائم يوم الجمعة إذ قدمت عير إلى المدينة، فابتدرها أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حتى لم يبق معه إلا اثنا عشر رجلا، فيهم أبو بكر وعمر، قال: ونزلت هذه الآية (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا) [الجمعة:11] رواه الشيخان، وفي لفظ لابن حبان فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده! لو تتابعتم حتى لا يبقى منكم أحد، لسال لكم الوادي نارا".
ومن عظيم فضل هذه الصلاة أنها سبب لتكفير ذنوب الأسبوع، مع أن المبكر إليها يقضيها في سويعات قلائل، والمتأخر لا يمكث في المسجد ساعة كاملة، فتكون هذه الساعة سببا في تكفير ذنوب الأسبوع، فما أعظمه من فضل حبانا به ربنا جل جلاله! روى أبو هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، كفارة لما بينهن، ما لم تغش الكبائر" رواه مسلم.
وروى البخاري عن سلمان -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يغتسل رجل يوم الجمعة، ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه، أو يمس من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام، إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى" رواه البخاري. وجاء في رواية أخرى عند مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وفضل ثلاثة أيام".
والإنسان أحوج ما يكون إلى المغفرة وتكفير السيئات، فإنه لا يزال يخطئ بالليل والنهار، والعاقل لا يفوِّت هذه الشعائر العظيمة التي تكفر الكثير من الذنوب.
وكان بعض الصحابة -رضي الله عنهم- يرى أن الخروج إلى الجمعة من الخروج في سبيل الله تعالى، وأنه سبب للنجاة من النار؛ كما روى البخاري من حديث عَباية بن رفاعة -رحمه الله تعالى- قال: أدركني أبو عَبْس عبدُ الرحمنِ بنُ جبر -رضي الله عنه- وأنا أذهب إلى الجمعة فقال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من اغبَرَّتْ قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار"، فجعل -رضي الله عنه- الخروج إلى الجمعة من الخروج في سبيل الله تعالى، والمحدِّثون وضعوا هذا الحديث في أبواب الجمعة لأجل ذلك.
ومن أبين ما يدل على فضل صلاة الجمعة أن الله تعالى انتدب إليها كتَبة من الملائكة عليهم السلام، يقفون على أبواب مساجد المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، يكتبون في صحفهم من يبكِّرون إليها؛ كما جاء في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الأول فالأول، فإذا جلس الإمام طووا الصحف، وجاءوا يستمعون الذكر" رواه الشيخان، وفي رواية لأحمد: "على كل باب من أبواب المسجد ملكان يكتبان الأول فالأول"، وجاء في رواية ابن ماجه: "فمن جاء بعد ذلك فإنما يجيء بحق إلى الصلاة".
فكم من الخير العظيم يحرم منه من يتأخرون عن الجمعة إلى خروج الإمام؟ إذ يفوت عليهم تسجيل الملائكة لهم في صحفهم.
وما كانت هذه العناية بالجمعة حتى خصص لها ملائكة يكتبون المبكرين إليها إلا لعظيم منزلتها عند الله تعالى، وفخامة مكانتها من شريعته الغراء، فلا يحرم من هذا الخير العظيم إلا محروم.
أرأيتم -يا عباد الله- لو أن ملِكا من ملوك الدنيا فتح مجلسه للناس، وجعل على أبوابه كتبة يكتبون الأول فالأول ليطلع الملك على أسمائهم، ويجزيهم بتبكيرهم إلى مجلسه، فماذا سيحصل؟! إنه لو حلف حالف أن أنفسا تهلك من الزحام على أبواب مجلسه لما حنث في يمينه، فكيف -يا عباد الله- والداعي إلى الجمعة هو الله تعالى الخالق الرازق الذي بيده ملكوت كل شيء؟ والمساجد بيوته، والملائكة على أبوابها كتبته، وهو مطلع على من بادروا إلى الجمعة وبكروا، ومن ناموا عنها، أو سوفوا فتأخروا.
ثم ما قيمتنا -نحن بني آدم- حتى يُنتدب ملائكة كرام لا يعصون الله تعالى طرفة عين، ينتظروننا على أبواب المساجد كل جمعة ليكتبونا في صحفهم، ويرفعوها إلى الله تعالى، ثم نُجزى بذلك أعظم الجزاء؟! ما قيمتنا لولا أن الله تعالى رفع قدرنا، وأعلى مكانتنا، وشرفنا بدينه، وألزمنا شريعته؟ فلنكن -يا عباد الله- على قدر تشريف الله تعالى لنا، ورفعه إيانا، ولن نبلغ ذلك مهما عملنا، (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) [إبراهيم:34]، ولكن سددوا وقاربوا، وجدوا واجتهدوا في طاعة ربكم، وأروه من أنفسكم خيرا؛ فإنه -سبحانه- متفضل عليكم، شرع لكم من العبادات ما يصلحكم، فاقبلوا عن الله تعالى شريعته، وسارعوا إلى طاعته، ونافسوا غيركم عليها، (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ) [المطَّففين:26]، ولا تقدموا الدنيا على طاعة الله تعالى؛ فإنكم مفارقوها إلى قبوركم وآخرتكم، ولن تجدوا أمامكم إلا أعمالكم، (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الغُرُورِ) [آل عمران:185].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله ربكم (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ) [البقرة:123].
أيها المسلمون: من عظيم الخطر، وكبير الإثم أن يتخلف المسلم عن صلاة الجمعة بلا عذر؛ وذلك باب من أبواب النفاق، وسبب للختم على قلب صاحبه حتى يموت قلبه فيكون من الغافلين؛ كما وردت بذلك الأحاديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، روى ابن عمر وأبو هريرة -رضي الله عنهم- أنهما سمعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول على أعواد منبره: "لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونُنَّ من الغافلين" رواه مسلم.
وروى أبو الجعد الضمري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من ترك ثلاث جمع تهاونا بها طبع الله على قلبه"، وفي لفظ لابن حبان: "من ترك الجمعة ثلاثا من غير عذر فهو منافق". وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "من ترك الجمعة ثلاث جمع متواليات فقد نبذ الإسلام وراء ظهره".
ولقد هم النبي -عليه الصلاة والسلام- بمعاقبة من يتخلفون عنها بأشد العقوبة؛ كما روى ابن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لقوم يتخلفون عن الجمعة: لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس، ثم أُحَرِّق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم" رواه مسلم.
ولأجل ذلك كره كثير من العلماء السفر يوم الجمعة لأجل الصلاة، فإذا أذن الأذان الثاني وهو مقيم لزمه أن يصلي قبل أن ينشئ سفره إلا إذا كان سيصليها في الطريق في بلد قريب، أو يخشى فوات رحلة أو رفقة في سفره.
إن كثيرا من الناس يتهاونون بصلاة الجمعة في هذا العصر، ويتأخرون عنها، وربما فاتتهم بسبب سهرهم ليلتها، فيحرمون أنفسهم التبكير إليها، وفيه من الفضل ما فيه، وربما فاتت بعضهم فناموا عنها.
وكثير منهم قد اتخذوا ضيعات واستراحات أو إبل يخرجون إليها ثم يتثاقلون عن العودة لشهود الجمعة مع المسلمين، وهذا الصنيع قد خافه النبي -عليه الصلاة والسلام- على أمته؛ كما جاء في حديث عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنما أخاف على أمتي الكتاب واللبن. قيل: يا رسول الله، ما بال الكتاب؟ قال: يتعلمه المنافقون، ثم يجادلون به الذين آمنوا. فقيل: وما بال اللبن؟ قال: أناس يحبون اللبن، فيخرجون من الجماعات، ويتركون الجمعات" رواه أحمد.
قال السندي -رحمه الله تعالى-: قوله "فيخرجون من الجماعات ويتركون الجمعات" أي: لا يتيسر الإكثار منه إلا في البادية، فيخرجون إليها، فيؤدي ذلك إلى ترك الجمع والجماعات.
وهذا الحديث من أعلام نبوة النبي عليه الصلاة والسلام؛ إذ يقع ذلك كثيرا من أهل الزرع وأهل الإبل إلا من رحم الله تعالى، فلم يشغلهم شيء من الدنيا عن فرائض الله تبارك وتعالى. قال عثمان بن أبي العاص -رضي الله عنه-: لولا الجمعة والجماعة لبنيت في أعلى داري هذه بيتا فلم أخرج منه حتى أخرج إلى قبري. وقال أبو الحسن السري -رحمه الله تعالى-: لولا الجمعة والجماعة لطينت عليَّ الباب.
فاحرصوا -رحمكم الله تعالى- على هذه الشعيرة العظيمة، وبَكِّروا إليها، وتهيئوا لها بما يليق بمقامها، فإنها فريضة من فرائض الله تبارك وتعالى، وشعيرة من شعائره، شرعها لتقربكم إليه، ولتكون زيادة في حسناتكم، ورفعة لدرجاتكم، وتكفيرا لخطاياكم، وكم نقارف من الذنوب والعصيان خلال سبعة أيام، والجمعة إلى الجمعة مكفرة لما بينهما إذا اجتنبت الكبائر.
وصلوا وسلموا على نبيكم....