قال المؤلف - رحمه الله -:- « فإني لما نظرت في غفلتي عن اكتساب الزاد المبلغ ليوم المعاد ورأيت أوقاتي قد ضاعت فيما لا ينفعني في معادي ورأيت استعصاء نفسي عما يؤنسني في رمسي لا سيما والشيطان والدنيا والهوى معها ظهير؛ فعزمت على جمع ما تيسر من الكتاب والسنة وكلام العلماء والحكماء والزهاد والعباد مما لعله أن يكون سببًا نافعًا حاثًا لي وإخواني من المسلمين الذي أصيبوا مثلي بضياع أوقاتهم فيما لا ينفع ولا يجدي على الاستعداد والتأهب ليوم المعاد ».
التفاصيل
إرشاد العباد للاستعداد ليوم الميعاد الأسباب الجالبة لمحبة الله لعبده المؤمن نذكر ما تيسر منها إن شاء الله: فصل في ذكر بعض الفوائد والمواعظ فصل في فوائد منوعة فصل البشارات التي بشر الله تعالى بها المتقين في القرآن إرشاد العباد للاستعداد ليوم الميعادتأليف الفقير إلى عفو ربه عبدالعزيز بن محمد السلمانغفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمينمن أراد طباعته لوجه الله تعالى لا يريد به عرضًا من الدنيا فقد أُذِن له وجزاه الله عني وعن المسلمين خيرًا، أسأل اللهَ الكريمَ العلي العظيم الرءوف الرحيم أن ينفع به من قرأه ومن سمعه وأن يأجر من دل عليه أو سعى به إلى من ينتفع به، اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد القهار العزيز الغفار مقدر الأقدار ومصرف الأمور على ما يشاء ويختار ومكور الليل على النهار. الواحد الأحد الفرد الصمد العليم الحكيم الذي أيقظ من خلقه من اصطفاه فأدخله في جملة الأخيار ووفق من اختار من عبيده فجعله من الأبرار. وبصر من أحبه من خلقه للحقائق فزهدوا في هذه الدار فاجتهدوا في مرضاته والتأهب لدار القرار. وبعد: فإني لما نظرت في غفلتي عن اكتساب الزاد المبلغ ليوم المعاد ورأيت أوقاتي قد ضاعت فيما لا ينفعني في معادي ورأيت استعصاء نفسي عما يؤنسني في رمسي لا سيما والشيطان والدنيا والهوى معها ظهير. فعزمت على جمع ما تيسر من الكتاب والسنة وكلام العلماء والحكماء والزهاد والعباد مما لعله أن يكون سببًا نافعًا حاثًا لي وإخواني من المسلمين الذي أصيبوا مثلي بضياع أوقاتهم فيما لا ينفع ولا يجدي على الاستعداد والتأهب ليوم المعاد. أسألُ اللهَ العظيمَ الحيَّ القيومَ الواحدَ الأحدَ الفردَ الصمدَ ذاَ الجلال والإكرام الرءوفَ الرحيمَ ربَّ العرشِ العظيمِ أن يجعله خالصًا لوجههِ الكريمِ. وأن ينفع به من قرأه ومن سمعه وجميع المسلمين وأن يفتح لنا ولهم أبواب القبول والإجابة، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين. ومن أراد طباعته لوجه الله تعالى لا يريد به عرضًا من الدنيا فقد أذِنَ له وجزاه الله عني وعن المسلمين خيرًا إنه واسع كريم على كل شيء قدير. اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. عبد العزيز بن محمد بن سلمانفصلاعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين أنه ينبغي لمن أراد شيئًا من الطاعات وإن قل أن يحضر النية وهي أن يقصد بعمله رضا الله عز وجل وتكون نيته حاضرة حال العمل. ويدخل في هذا العبادات كلها من صلاة وزكاة وصيام وحج والوضوء والتيمم والاعتكاف والصدقة وقضاء الحوائج وعيادة المريض واتباع الجنائز وابتداء السلام ورده وتشميت العاطس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإجابة الدعوة وحضور مجالس العلم والأذكار وزيارة العلماء والأخيار لا لقصد دنيوي. والنفقة على الأهل والضيف وإكرام الأقارب وبر الوالدين وإكرام أهل الود والأصدقاء وذوي الأرحام ومذاكرة العلم والمناظرة فيه وتكراره وتدريسه وتعلمه وتعليمه ومطالعته وكتابته وتصنيفه والفتاوى. وبذل الجاه لإخوانه المسلمين وخصوصًا طلبة العلم، ومساعدتهم فيه، وفي شئونهم الخاصة وتشجيعهم وحثهم على العلوم النافعة وتحذيرهم من البدع وأهلها وتحذيرهم من العلوم الضارة والعلوم التي ضررها أكثر من نفعها. وما أشبه هذه الأعمال حتى إنه ينبغي له إذا أكل أو شرب أو نام يقصد بذلك التقوى على طاعة الله أو راحة البدن للتنشيط للطاعة وكذلك إذا أراد جماع زوجته يقصد إيصالها حقها وتحصيل ولد صالح يعبد الله تعالى وإعفاف نفسه وصيانتها عن التطلع إلى الحرام والفكر فيه. ومن حرم النية في هذه الأعمال فقد حرم خيرًا كثيرًا ومن وفق فقد أوتي فضلاً عظيمًا، فنسأل الله الحي القيوم العلي العظيم ذا الجلال والإكرام الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد التوفيق لذلك وسائر وجوه الخير. وعن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله يقول: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» متفق عليه. وعن جابر بن عبد الله t قال: كنا مع رسول الله ﷺ في غزاة فقال: «إن بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم حبسهم المرض» . وفي رواية: «شركوكم في الأجر» رواه مسلم. وروى البخاري عن أنس t قال: رجعنا من غزوة تبوك مع النبي ﷺ فقال: «إن أقوامًا خلفنا بالمدينة ما سلكنا شعبًا ولا واديًا إلا وهم معنا حبسهم العذر»، وهذا دليل على فضل النية ؛ لأنهم كتب لهم أجر الغزو بالنية. وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله ﷺ فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى قال: «إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك. فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله تبارك وتعالى عنده حسنة كاملة وإن هم بها فعملها كتبها الله عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله تعالى عنده حسنة كاملة وإن هم بها فعملها كتبها الله تعالى عنده سيئة» متفق عليه. شعرًا :لِيَسْكُنَهَا وَقْتاً قَليْلاً وَيَرْحَلُ عَجِبْتُ لِمَنْ يَعْمُر قُصُوْراً فَسِيحَةًزَمَانًاً طَويْلاً ثُمّ يأتِي يُهَرْولُ ويَتْرُكُ قَبْراً فِيهِ يَسْكُنُ وَحْدهوتُسْقطُ ذَات اَلْحَملِ فيْهِ وتَذْهَلُ إِلَىْ مَوقِفٍ يَشِيْبُ وَلِيْدُهُلَطلَّقْتَ دُنْياً بالثَلاثِ مُعَجلُ ومِنْ بَعْدِه الأهْوَالُ لَوْ قَدْ رَأَيْتَهاعَلَيْهَا أُنَاسٌ جَاهِلُوْنَ وَغُفَّلُ فَلِلّهِ دَرُّ الزَّاهِدِيْنَ بِجِيْفَةٍذكر بعض الفوائد والمواعظ الميقظة للقلوب الغافلة1- اعلم أيها الإنسان أن النفس الأمارة بالسوء عدوة لك مع إبليس لعنه الله، وإنما يتقوى عليك الشيطان بهوى النفس وشهواتها، فهي سلاحه الذي يصيد به وهل أوقع إبليس في كبره ومعصيته إلا نفسه، قال الله جل وعلا وتقدس: إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ. فلا تغرنك نفسك بالأماني والغرور؛ لأن من طبع النفس الأمن والغفلة والراحة والفترة والكسل والعجز فدعواها باطل وكل شيء منها غرور، وإن رضيت عنها واتبعت أمرها هلكت، وإن غفلت عن محاسبتها غرقت، وإن عجزت عن مخالفتها واتبعت هواها قادتك إلى النار. وهي رأس البلايا، ومعدن الفضيحة، وهي خزانة إبليس، ومأوى كل شر لا يعرفها إلا خالقها نعوذ بالله من شرها. 2- ينبغي للإنسان العاقل أن يبادر بالتوبة من الذنوب الماضية والحاضرة من رياء أو كبر أو عقوق أو قطيعة رحم أو كذب أو غيبة أو نميمة أو نحو ذلك من الذنوب. وتُطْوَى عَلَى الأعمالِ صُحْفُ التَّزَوُدِ فَبَادِرْ مَتَابًا قَبْلَ يُغْلَقُ بَابُهُلِنَفْسِكَ نَفَّاعًا فَقدّمْهُ تَسْعَدِ ومِثْلُ وُرُوْدِ القَبْرِ مَهْمَا رأيْتَهُويتفكر فيما يقربه إلى الله وينجو به في الدار الآخرة ويقصر الأمل ويكثر من ذكر الله تعالى، ويجتنب المناهي كلها ويصبر نفسه ويسأل الله الثبات بالقول الثابت حتى الممات. 3- قيل إن يعقوب عليه السلام قال لملك الموت: إني أسألك حاجة قال: وما هي ؟ قال: أن تعلمني إذا دنى أجلي وأردت أن تقبض روحي، فقال: نعم أرسل إليك رسولين أو ثلاثة. فلما انقضى أجله أتى إليه ملك الموت فقال: أزائر جئت أم لقبض روحي، فقال: لقبض روحك. فقال: أولست كنت أخبرتني أنك ترسل إلي رسولين أو ثلاثة قال: قد فعلت: 1- بياض شعرك بعد سواده. 2- ضعف بدنك بعد قوته. 3- وانحناء جسمك بعد استقامته. هذه رسلي يا يعقوب إلى بني آدم قبل الموت. شعرًاوجَاء رسولُ الموتِ والقلبُ غَافَلُ مَضَى الدهرُ والأيامُ والذّنْبُ حَاصِلُوعَيْشُكَ فِيْ الدُّنْيَا مُحَالُّ وبَاطِلُ نَعِيْمُكَ فِيْ الدُنْيَا غُرُوْرٌّ وحَسْرةٌّآخر: وإصْبَاحِ خَدّيْ فِيْ المَقَابِر ثاوِيَا تَفَكَّرْتُ فِيْ حَشْري ويَوْم قِيَامَتِيرَهِيْنًا بِجُرْمي والتُرابُ وِسَادِيَا فَرِيْدًا وَحيْدًا بَعدَ عِزّ ومِنْعَةٍوذُلِّ مَقَامِي حِيْنَ أُعْطَى حِسَابِيَا تَفْكَّرْتُ فِيْ طُوْلِ الحِسَابِ وَعَرْضِهِبأنك تَعْفُو يَاْ إِلَهي خَطَائِيَا وَلَكِنْ رَجَائِي فِيْكَ رَبِيْ وَخَالِقِي أشرف الأوقات التي يعمرها الإنسان ما تقضى بطاعة الله، ومن أراد حفظ أوقاته فليجعل كلامه ذكرا وصمته تفكرًا ونظره عبرة وعمله برًا. شعرًا :فِيْ السَّهْوِ فِيْهَا لِلْوَضِيْعِ مَعَاذِرُ لاَ يَحْقِرِ الرَّجلُ الرَّفِيِعُ دَقِيِّقَةًوَصَغَائِرُ الرَّجلِ الكَبِيِرِ كَبَائِرُ فَكَبَائِرُ الرَّجلِ الصَّغِيِرِ صَغِيرةٌوقال آخر: إذا رأيت من قلبك قسوة فأكثر من تلاوة كتاب الله بتدبر وتفكر وجالس الذاكر لله واصحب الزاهدين وعليك بالسنة وسيرة النبي ﷺ وسيرة أصحابه رضي الله عنهم أجمعين. 4- ذكر عن شقيق البلخي أنه قال: الناس يقولون ثلاثة أقوال، وقد خالفوها في أعمالهم، يقولون: نحن عبيد الله، وهم يعملون عمل الأحرار، وهذا خلاف قولهم، ويقولون: إن الله كفيل بأرزاقنا، ولا تطمئن قلوبهم إلا بالدنيا وجمع حطامها، وهذا خلاف قولهم، ويقولون: لا بد لنا من الموت، وهم يعملون أعمال من لا يموت وهذا خلاف قولهم. 5- وقال عيسى عليه السلام: يا معشر الحواريين ارضوا بدنيء الدنيا مع سلامة الدين كما رضي أهل الدنيا بدنيء الدين مع سلامة الدنيا: وفي معنى ذلك قيل: وما أرَاهُم رَضُوا فِيْ العيشِ بالدُوْنِ أرَى رِجالاً بأدْنَى الدِينِ قَدْ قِنَعُواـتَغْنَى الملوكُ بدُنْياهُم عن الدِينِ واسْتَغْنِ بالدِين عن دُنَيا الملوك كما اِسْـوقال علي :t من جمع ست خصال لم يدع للجنة مطلبا ولا عن النار مهربًا أولهما: من عرف الله فأطاعه. وعرف الشيطان فعصاه. وعرف الحق فاتبعه. وعرف الباطل فاتقاه. وعرف الدنيا فرفضها. وعرف الآخرة فطلبها. شعرًا :مِن الفَواحِشِ يأتيهَا لَمَغْبُونُ إن امْرءًا باعَ أخْرَاهُ بفَاحِشَةٍعَن جَنَّةِ ما لَهَا مِثْلٌّ لمَفْتُونُ ومَن تَشَاغَلَ بالدُّنْيَا وزُخْرُفِهَافيما يُبَعّدُ عن مَوْلاهُ مَجْنُونُ وكُلُ مَن يَدَّعي عَقْلاً وهِمَّتُهُ7- وقال ابن مسعود: ما أصبح أحد إلا وهو ضيف وماله عارية فالضيف مرتحل والعارية مردودة وفي ذلك قيل: ولا بُدَّ يَوْمًا أنْ تُرَدَّ الوَدائعُ وما المالُ والأهلونَ إلاَّ وَدِيْعَةٌّ8- وقال بعضهم: الدنيا جيفة فمن أراد منها شيئا فليصبر على معاشرة الكلاب، وفي ذلك يقول الشافعي: عليها كِلابٌّ هَمُهُنَّ اجْتِذَابُهَا وما هِيَ إلاَّ جِيْفَةٌّ مُسْتَحِيلةٌّ 9- وقال أبو أمامة :t لما بعث الله محمدًا ﷺ أتت إبليس جنوده فقالوا: قد بعث نبي وأخرجت أمة، قال: يحبون الدنيا، قالوا: نعم قال: لئن كانوا يحبون الدنيا ما أبالي أن لا يعبدوا الأوثان وإنما أغدوا عليهم وأروح بثلاث، أخذ المال من غير حقه، وإنفاقه في غير حقه، وإمساكه عن حقه والشر كله من هذا نبع. 10- وقال لقمان لابنه: يا بني إنك استدبرت الدنيا من يوم نزلتها واستقبلت الآخرة فأنت إلى دار تقرب منها أقرب من دار تباعدت عنها. شعرًا :تُقَرِّب مِن دَارِ الِلّقَا كُلَّ مُبْعَدِ وما هَذِهِ الأيام إلاَّ مَرَاحِلٌّفَقَدْ حَانَ منه المُلْتَقَى وكَأنْ قَدِ ومَنْ سَارَ نَحْوَ الدارِ خَمْسِيْنَ حَجَةًآخر: وأيَّامُنَا تُطْوَى وهُنَّ مَرَاحِلُ نَسِيْرُ إِلَىْ الآجال فِيْ كُلّ لَحْظَةٍفصل11- وقال الفضيل بن عياض: الدخول في الدنيا هين ولكن الخروج منها هو الشديد. 12- وقال آخر: عجبًا لمن عرف أن الموت حق كيف يفرح، وعجبًا لمن عرف النار وأنها حق كيف يضحك، وعجبًا لمن رأى تقلب الدنيا بأهلها كيف يطمئن إليها، وعجبًا لمن يعلم أن القدر حق كيف ينصب. قال مالك بن دينار: اصطلحنا على حب الدنيا، فلا يأمر بعضنا بعضًا، ولا ينهى بعضنا بعضًا، ولا يدعنا الله على هذا فليت شعري أي عذاب الله ينزل علينا. وقيل لبشر: مات فلان فقال: جمع الدنيا وذهب إلى الآخرة وضيع نفسه. وقال آخر: الدنيا تبغض إلينا ونحن نحبها فكيف لو تحببت إلينا. وقال آخر: لا يصبر عن شهوات الدنيا إلا من كان في قلبه ما يشغله بالآخرة. وقال آخر يعظ أخًا له في الله ويخوفه بالله، فقال: يا أخي إن الدنيا دحض مزلة، ودار مذلة، عمرانها إلى الخراب صائر، وعامرها إلى القبور زائر، شملها على الفرقة موقوف، وغناها إلى الفقر مصروف، الإكثار فيها إعسار والإعسار فيها يسار. فافزع إلى الله وارض برزق الله، لا تتسلف من دار فنائك إلى دار بقائك فإن عيشك في الدنيا فيء زائل وجدار مائل أكثر من عملك وأقلل من أملك. وقال يحيى بن معاذ: العقلاء ثلاثة من ترك الدنيا قبل أن تتركه، وبنى قبره قبل أن يدخله وأرضى خالقه قبل أن يلقاه. وقال بندار: إذا رأيت أبناء الدنيا يتكلمون بالزهد فاعلم أنهم في سخرية إبليس. وذكر أناس الدنيا وأقبلوا على ذمها عند رابعة العدوية، فقالت: اسكتوا عن ذكرها فلولا موقعها من قلوبكم ما أكثرتم من ذكرها، إن من أحب شيئا أكثر من ذكره. شعرًا :وطُلاَّبُها مِثْلُ الكِلاب الهَوامِسِ ألا إنما الدُّنْيَا كجيْفَة مَيْتَةٍبهَا شَغَفًا قومٌّ طِوالُ القلانِسِ وأعظمُهمْ ذَمًّا لَهَا وأشدُهُمْوقال آخر: الدنيا مزبلة ومجمع كلاب وأقل من الكلاب من عكف عليها، فإن الكلب يأخذ من الجيفة حاجته وينصرف والمحب للدنيا لا يفارقها بحال. وقيل لإبراهيم بن أدهم كيف أنت ؟ فقال: فلا ديْنُنَا يَبْقَى ولا ما نُرَقّعُ نُرقِعُ دُنْيَانَا بتَمْزِيْق دِيْنِنَاوجَادَ بِدُنْيَاه لِماَ يُتَوَقْعُ فَطُوبَى لِعَبْد آثرَ الله وحْدَهُوقال آخر: ونالَ مِن الدُنياَ سُرورًا وأنْعُمَا أرَىَ طالبَ الدُّنْيَا وإن طَالَ عمْرُهُفلَمَّا اسْتَوى ما قَدْ بَناه تَهَدَّمَا كَبَانٍ بَنَى بُنْيَانَهُ فأقامَهُوقال لقمان لابنه: يا بني بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعًا ولا تبع آخرتك بدنياك تخسرهما جميعًا. وقال محمد بن الحسين: لما علم أهل الفضل والعلم والمعرفة والأدب أن الله عز وجل قد أهان الدنيا وأنه لم يرضها لأوليائه، وأنها عنده حقيرة ذليلة. وأن رسول الله ﷺ زهد فيها، وحذر أصحابه من فتنتها أكلوا منها قصدًا وقدموا فضلا وأخذوا منها ما يكفي، وتركوا ما يلهي، لبسوا من الثياب ما ستر العورة، وأكلوا من الطعام أدناه مما سد الجوعة. ونظروا إلى الدنيا بعين أنها فانية وإلى الآخرة أنها باقية، فتزودوا من الدنيا كزاد الراكب، فخربوا الدنيا وعمروا بها الآخرة. ونظروا إلى الآخرة بقلوبهم فعلموا أنهم سينظرون إليها بقلوبهم وأعينهم، ولما علموا أنهم سيرتحلون إليها بأبدانهم تعبوا قليلا وتنعموا طويلا كل ذلك بتوفيق مولاهم الكريم أحبوا ما أحب لهم وكرهوا ما كره لهم. قال عبد الله بن مسعود: نام رسول الله ﷺ على حصير فقام وقد أثر في جنبه فقلنا: يا رسول الله، لو اتخذنا لك وطاءً فقال: «مالي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها». والسَّالِكُونَ طَرِيْقَ الحقِ أفْرَادُ اعلم بأن طَرِيقَ الحق مُنْفَرِدٌّفهُمْ عَلَى مَهَل يَمشُون قُصَّادُ لا يَطْلبُونَ ولا تُطْلَبْ مَسَاعِيهُمْ فَجُلٌّهُمْ عن طَرِيقِ الحَقِ رُقَّادُ والناسُ فِيْ غَفْلةٍ عمَّا لهُ قَصَدُوْاوخطب عمر بن عبد العزيز رحمه الله فقال: يا أيها الناس إنكم خلقتم لأمر إن كنتم تصدقون به، وهذا عملكم فإنكم حمقى، وإن كنتم تكذبون به فإنكم هلكى فما خلقتم للأبد ولكنكم من دار إلى دار تنقلون. عباد الله: إنكم في دار لكم فيها من طعامكم غصص ومن شرابكم شرق لا تصفوا لكم نعمة تسرون بها إلا بفراق أخرى تكرهون فراقها، فاعملوا لما أنتم صائرون إليه وخالدون فيه ثم غلبه البكاء ونزل. وقال بعضهم في وصف مراحل السلوك: إن المؤمن إذا آمن بالله واستحكم إيمانه خاف الله تعالى فإذا خاف الله تعالى تولد من الخوف الهيبة. فإذا سكنت غلبة الهيبة دامت طاعته لربه، فإذا أطاع ربه تولد من الطاعة الرجاء. فإذا سكنت درجة الرجاء في القلب تولد من الرجاء المحبة. فإذا استحكمت المحبة في قلب العبد سكن بعدها مقام الشوق، فإذا اشتاق أداه الشوق إلى الأنس بالله، فإذا أنس بالله اطمأن إلى الله، فإذا اطمأن إلى الله كان ليله في نعيم ونهاره في نعيم وسره في نعيم وعلانيته في نعيم. وقال بعضهم: يا ابن آدم ما أنصفت إذ يدعوك داعي الدنيا بكلمة واحدة لشيء ذاهب فتجيبه مسرعًا، ويدعوك داعي الآخرة لشيء باقي صافي ثابت فلا تجيبه مسرعًا، فليتك إذ لم تقدر الآخرة سويت بينهما. وقال آخر: العلماء العاملون أرأف بأمة محمد من آبائهم وأمهاتهم وأشفق عليهم، قيل له كيف ذلك ؟ قال: لأن آباءهم وأمهاتهم يحفظونهم من نار الدنيا، والعلماء يحفظونهم من نار الآخرة وأهوالها. وقال آخر: من أقوى القوى أن تغلب نفسك، من عجز عن أدب نفسه كان عن أدب غيره أعجز، وقال: من علامات الاستدراج للعبد عماه عن عيبه، وتطلعه إلى عيوب الناس، وقال من النذالة أن يأكل العبد بدينه. وقال آخر، وقد سئل عن الطريق إلى الله؟ فقال: توبة تحل الإصرار، وخوف يزيل الغرور، ورجاء ينهض الخيرات، ثم مراقبة الله في خواطر القلوب. فصلاعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين إلى ما يحبه ويرضاه أن من الطرق التي يستفيد منها الإنسان معرفة عيوبه ألسنة أعدائه فإن الساخط ينقب عن عيوب عدوه وقديمًا قيل: كما أن عين السخط تبدي المساويا وعينُ الرضا عن كل عيب كليلةويقول الآخر: فلا أذهب الرحمن عني الأعاديا عُدَاتي لهم فضلُ عَليَّ ونِعْمَةٌّوهم نافَسُوني فاكْتسبتُ المعاليا هُمُوْا بَحَثُوا عن زَلَّتِي فاجْتَنَبْتُهَاولعل انتفاع الإنسان بعدو مشاحن يذكره عيوبه وسقطاته ومساويه أكثر من انتفاعه بصديق مداهن يثني عليه ويمدحه ويخفي عنه عيوبه، فالبصير لا يخلو عن الانتفاع بقول أعدائه، فإن مساويه لا بد وأن تنتشر على ألسنة أعدائه. رأى بعض الزهاد رجلاً يضحك إلى غلام فقال له: يا خرب العقل والقلب أما تستحي من رب العالمين والكرام الكاتبين والملائكة الحافظين يحفظون الأفعال ويكتبون الأعمال وينظرون إليك ويشهدون عليك. شعرًا :فأوْدَتُما قَلْبي أشرَّ الْمَواَرِد تَمَتَّعتُمَا يا ناظريَّ بنظرةمِن البغي سَعْيُ اثنين فِيْ قتلِ واحد أعَيْنَايَ كُفَّا عن فُؤادِي فإنهفالعيون مصائد الشيطان، والعين أنفذ الجوارح صرعة فمن أتبع جوارحه نفسه في طاعة ربه فقد وصل أمله، ومن أتبع جوارح نفسه في نيل لذاته فقط أحبط عمله، فليحذر اللبيب من إرسال النظر فيما لا يحل فإنه سهم صائب وسلطان غالب قال عليه الصلاة والسلام: «النظر سهم من سهام إبليس فمن تركه مخافة الله تعالى أعقبه إيمانًا يجد طعمه في قلبه». ولَمَّا تَشُبْهَا لِلْمعَاصِي شَوَائِبُ إذا ما صَفَتْ نفسُ الْمُرِيد لِطَاعةٍفَتِلْكَ عليه أنْعُمٌّ ومَوَاهِبُ واتْبعَهَا فِعْلُ الجَوارحِ كُلّهَاإذا جُبَّ لِلعَاصِي سِنَامٌّ وغارِبُ تَلَقَتْهُ فِيْ دَارِ الخُلُودِ كَرَامَةٌّ كتب بعض الحكماء إلى رجل من إخوانه: يا أخي احذر الموت في هذه الدار قبل أن تصير إلى دار تتمنى فيها الموت فلا تجده. وكان عمر بن عبد العزيز يجمع كل ليلة الفقهاء فيتذاكرون الموت والقيامة والآخرة ثم يبكون حتى كأن بين أيديهم جنازة. وقال إبراهيم التيمي: شيئان قطعا عني لذة الدنيا ذكر الموت، والوقوف بين يدي الله عز وجل. وقال كعب من عرف الموت هانت عليه مصائب الدنيا وهمومها. وقال أشعث: كنا ندخل على الحسن فإنما هو ذكر النار وأمر الآخرة وذكر الموت. وقالت صفية رضي الله عنها: إن امرأة اشتكت إلى عائشة رضي الله عنها قسوة قلبها. فقالت لها: أكثري ذكر الموت يرق قلبك، ففعلت فرق قلبها فجاءت تشكر عائشة رضي الله عنها. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.فصل وقال بعض العلماء واصفًا علماء وقته: قد غلب على العباد والنساك والقراء في هذا الزمن التهاون بالذنوب حتى غرقوا في شهوات فروجهم وبطونهم، وحجبوا عن شهود عيوبهم فهلكوا وهم لا يشعرون، أقبلوا على أكل الحرام وتركوا طلب الحلال. ورضوا من العمل بالعلم، ويستحي أحدهم أن يقول فيما لا يعلم لا أعلم، هم عبيد الدنيا لا علماء الشريعة، إذًا لو علموا وعملوا بها وفق الشريعة لمنعتهم عن القبائح، إن سألوا ألحوا وإن سئلوا شحوا لبسوا الثياب على قلوب الذئاب. شعرًا :ولو عَظَّمُوه فِيْ النفوس لَعُظّمَا ولو أن أهل العلم صانوه صَانَهممُحَيِّاهُ بالأطماع حَتَّى تجَهَّمَا ولكن أهانُوه فَهانُوا ودنَّسُوْاكَبَى حَيْثُ لم تُحْمَ حِمَاهُ وأظلما فإنْ قُلْتُ زَنْدَ العِلم كَابٍ فإنماوخرج الحسن يوما من عند ابن هبيرة فإذا هو بالقراء على الباب، فقال: ما يجلسكم ههنا؟ تريدون الدخول على هؤلاء الخبثاء.أما والله ما مجالستكم إياهم بمجالسة الأبرار، تفرقوا فرق الله بين أرواحكم وأجسادكم. أما والله لو زهدتم فيما عندهم لرغبوا فيما عندكم، لكنكم رغبتم فيما عندهم فزهدوا فيما عندكم. وعن أنس بن مالك أن معاذ بن جبل t دخل على رسول الله ﷺ فقال: «كيف أصبحت يا معاذ؟» قال: أصبحت مؤمنا بالله حقا. قال: «إن لكل قوم مصداقًا ولكل حق حقيقة فما مصداق ما تقول؟» قال: يا نبي الله ما أصبحت صباحًا قط إلا ظننت أني لا أصبح، ولا خطوة خطوة إلا ظننت أني لا أتبعها أخرى وكأني أنظر إلى كل أمة جاثية تدعى إلى كتابها معها نبيها وأوثانها التي كانت تعبد من دون الله، وكأني أنظر إلى عقوبة أهل النار، وثواب أهل الجنة، قال عليه الصلاة والسلام: «عرفت فالزم». وبلغ زين العابدين من الدنيا أفضل ما تسعى إليه همة رجل، فرفضها ونبذها قائلا: (هذا سرور لولا أنه غرور، ونعيم لولا أنه عن قريب عديم، وملك لولا أنه هلك، وغنى لولا أنه فنى، وأمر جسيم لولا أنه ذميم، وارتفاع لولا أنه اتضاع وحسب امرئ من الدنيا لقيمات يقيم بها صلبه، وثوب يستر به عورته، وصحة يستقوي بها على طاعة الله). موعظة اعلم يا أخي أن الأجل قريب وهو مستور عنك وهو في يد غيرك، يسوقه حثيث الليل والنهار، وإذا انتهت المدة حيل بينك وبين العدة، فاحتل قبل المنتهى وأكرم أجلك بحسن صحبة الصادقين، وإذا آنستك السلامة فاستوحش بالعطب، فإنه الغاية وإذا فرحت بالعافية فاحسب حسابًا للبلاء، وإذا بسطك الأمل فاقبض نفسك عنه بذكر الأجل، فهو الموعد وإليه المورد. وقال شريح: إني أصاب بالمصيبة فأحمد الله تعالى أربع مرات أحمده إذ لم تكن أعظم منها، وأحمده إذ رزقني الصبر عليها، وأحمده إذ وفقني لاسترجاع ما أرجو فيه من الثواب، وأحمده إذ لم يجعلها في ديني. وقال حاتم الأصم: مصيبة الدين أعظم من مصيبة الدنيا، ولقد ماتت لي بنت فعزاني أكثر من عشرة آلاف وفاتتني صلاة الجماعة فلم يعزني أحد. وقال آخر: كن حذرًا من أربع غاراتٍ:الأولى: غارة ملك الموت على روحك. الثانية: غارة الورثة على مالك. الثالثة: غارة الدود على جسمك في قبرك. والرابعة: غارة الخصماء على حسناتك، فعليك في الاستعداد والاحتياط والإكثار من الباقيات الصالحات والمداومة على ذكر الله ليلاً ونهارًا وسرًا وجهاراً. كان محمد بن سيرين يدخل السوق نصف النهار يكبر ويسبح ويذكر الله، فقال له رجل: يا أبا بكر في هذه الساعة، قال: إنها ساعة غفلة ينبغي الذكر والتذكير فيها. وقال بعض العلماء: إني لأقرأ القرآن فأنظر في آية فيحار عقلي فيها وأعجب من حفاظ القرآن كيف يهنيهم النوم وهم يتلون كلام الرحمن، أما لو فهموا ما يتلون وعرفوا حقه وتلذذوا به واستحلوا المناجاة به لذهب عنهم النوم فرحًا وسروًا بما رزقهم الله وفقهم له. شعرًا :ففيهِ الهُدَى حَقًا ولِلْخَيْر جَاِمعُ فَشَمّرْ وَلُذْ بالله واحْفَظْ كِتَابَهومنه بلا شَكٍ تُنَالَ المنافِعُ هو الذُخْرُ لِلْملْهُوف والكَنْزُ والرَّجَابه يَتَسَلَّى مَن دَهَتْهُ الفَجَائعُ بِهِ يَهْتَدِي مَن تاهَ فِيْ مَهْمَهِ الهَوَىوالله أعلم وصلى الله على محمد وآله وسلم.فصلقال بعض العلماء على قول الله تعالى: فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ [الدخان: 29]، إن الأرض لتبكي على رجل وتبكي من رجل، تبكي على من يعمل على ظهرها بطاعة الله، وتبكي ممن يعمل على ظهرها بمعصية الله فقد أثقلها. وقال: من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق عنده مما في يده. وقال إبراهيم بن بشار: ما رأيت في جميع من لقيته من العباد والعلماء والصالحين والزهاد أحدًا يبغض الدنيا ولا ينظر إليها مثل: إبراهيم بن أدهم، وربما مررنا على قوم قد أقاموا حائطًا أو دارًا أو حانوتًا فيحول وجهه ولا يملأ عينيه من النظر إليه فعاتبته على ذلك، فقال يا بشار اقرأ ما قال الله تعالى: أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [هود: 7، الملك: 2]، ولم يقل أيكم أحسن عمارة للدنيا وأكثر حبا وذخرًا وجمالاً، ثم بكى، وقال: صدق الله عز اسمه فيما يقول: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]، ولم يقل إلا ليعمروا الدنيا ويجمعوا الأموال ويبنوا الدور ويشيدوا القصور ويتلذذوا ويتفكهوا، وجعل يومه كله يردد ذلك ويقول: فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ. هُمَا المِسْكُ مَا كَرَّرَتَهُ يَتَضَوَّعُ أَعِدْ ذِكْرَ قَالَ الله قال رَسُولُهُفائدة عظيمةكل علم لا يوافق الكتاب والسنة أو ما هو مستفاد منهما أو معين على فهمها أو مستند إليهما كائنًا ما كان فهو نقص وضرر ورذيلة وليس بفضيلة بل يزداد به الإنسان هوانًا ورذيلة في الدنيا والآخرة. وسئل بعض العلماء عن ما يذهب العلوم من قلوب العلماء بعد أن وعوها وعقلوها، فقال: الطمع وشره النفس وطلب الحوائج، وفسر أحد العلماء ما تقدم فقال: يطمع الرجل في الشيء فيطلبه فربما كان سببًا لذهاب دينه، وأما الشره فشره النفس في هذا، وفي هذا حتى لا تحب أن يفوتها شيء، ويكون لك إلى هذا حاجة وإلى هذا حاجة، فإذا قضاها لك خرم أنفك وقادك حيث شاء واستمكن منك وخضعت له وسلمت عليه وزرته وعدته إذا مرض ولولا حاجتك لتركته. شعرًا :فدَعْهُ لأِخُرْى يَنْفَتِحْ لَكَ بابها إذا سُدَّ بابٌّ عنكَ مِن دُونِ حَاجَةًويَكْفِيكَ سَؤآتِ الأمورِ اجْتِنَابُها فإنّ قِرَابَ الَبْطنِ يَكْفِيكَ مِلْؤُهُرُكُوَب المَعَاصِي يَجْتَنِبْكَ عِقَابُهَا ولا تَكُ مِبْذَالاً لِعِرْضِكَ واجْتَنِبْكان عمر بن الخطاب t يقول: رحم الله امرأً أهدى إلي عيوبي وكان يسأل سلمان عن عيوبه، فلما قدم عليه قال: ما الذي بلغك عني مما تكرهه. قال: أعفني يا أمير المؤمنين فألح عليه، فقال: بلغني أنك جمعت بين إدامين على مائدة وأن لك حلتين حلة بالنهار وحلة بالليل. قال: وهل بلغك غير هذا ؟ قال: لا، قال: أما هذان فقد كفيتهما، وكان يسأل حذيفة ويقول له: أنت صاحب رسول الله ﷺ في معرفة المنافقين فهل ترى علي شيئا من آثار النفاق. فهو على جلالة قدره وعلو منصبه هكذا كانت تهمته لنفسه رضي الله عنه.فكل من كان أرجح عقلا وأقوى في الدين وأعلى منصبًا، كان أكثر تواضعًا، وأبعد عن الكبر والإعجاب وأعظم اتهامًا لنفسه، وهذا يعتبر نادرًا يعز وجوده. فقليل في الأصدقاء من يكون مخلصًا صريحًا بعيدًا عن المداهنة متجنبًا للحسد يخبرك بالعيوب ولا يزيد فيها ولا ينقص وليس له أغراض يرى ما ليس عيبا عيبًا أو يخفي بعضها. قيل لبعض العلماء، وقد اعتزل الناس وكان منطويًا عنهم: لِمَ امتنعت عن المخالطة؟ فقال: وماذا أصنع بأقوام يخفون عني عيوبي. فكانت شهوة صاحب الدين في التنبيه على العيوب، عكس ما نحن عليه، وهو أن أبغض الناس إلينا الناصحين لنا والمنبهين لنا على عيوبنا، وأحب الناس إلينا الذي يمدحوننا مع أن المدح فيه أضرار عظيمة كالكبر والإعجاب والكذب. وهذا دليل على ضعف الإيمان فإن الأخلاق السيئة أعظم ضررًا من الحيات والعقارب ونحوها. ولو أن إنسانًا نبهك على أن في ثوبك أو خفك أو فراشك حية أو عقربًا لشكرته ودعوت له وأعظمت صنيعه ونصيحته واجتهدت واشتغلت في إبعادها عنك وحرصت على قتلها. وهذه ضررها على البدن فقط ويدوم ألمها زمن يسير وضرر الأخلاق الرديئة على القلب ويخشى أن تدوم حتى بعد الموت ولا نفرح بمن ينبهنا عليها ولا نشتغل بإزالتها. بل نقابل نصح الناصح بقولنا له: تبكيتًا وتخجيلاً وأنت فيك وفيك ناظر نفسك ولا عليك منا كلٌ أبصر بنفسه. ونشتغل بالعداوة معه عن الانتفاع بنصحه بدل ما نشكره على نصحه لنا بتنبيهه لنا على عيوبنا، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. اللهم ألهمنا رشدنا وبصرنا بعيوبنا وأشغلنا بمداواتها ووفقنا للقيام بشكر من يطلعنا على مساوينا بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وسلم.موعظة قال بعض العلماء: اعلم أن الذي يقضى منه العجب من حال الإنسان في غفلته عن الاهتمام بأمر الموت، وفي عدم الروعة منه مع تيقن أنه لا بد له منه وأنه في حال السعي إليه لا يفتر عن ذلك لحظة. وقال بعض العلماء: ما رأيت يقينا لا شك معه أشبه بالشك الذي لا يقين معه مثل الموت، وما هكذا حال كامل العقل والتمييز. عن ابن عباس أنه قرأ فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا فبكى وقال: آخر العدد خروج نفسك، آخر العدد فراق أهلك، آخر العدد دخول قبرك. وعن ابن السماك وقد قرأها: إذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد فما أسرع ما تنفذ. ويُدْنِي الْمَنَايَا لِلنُفُوْسِ فَتَقْرُبُ ومَاَ نَفَسٌّ إلاَّ يُبَاعِدُ مَوْلِدًايقال: إن أنفاس ابن آدم بين اليوم والليلة أربعة وعشرون ألف نفس «24000» في اليوم اثنى عشر ألفًا وفي الليل اثنى عشر ألفًا.والسبب في جميع ذلك أي عدم الاهتمام بأمر الموت وعدم الروعة منه وما بعده وحب الهوى وطول الأمل وقيل: السبب تركيب الإنسان تركيبًا يحتاج فيه إلى دفع المضار العاجلة قبل حضور وقت المشار الآجلة. فهو في العاجلة يدفع مضار الجوع والعطش والحر والبرد والخوف والسقم والغم والإهانة والاستخفاف والشماتة ونحوها من الأحوال ألا ترى تجرعه غصص الموت أهون من تجرعها فيهون الاهتمام به بالنظر إلى الاهتمام بها. وقد أثر عنه ﷺ إن أشق من الموت ما يتمنى الموت من أجله فلذلك هان في قلبه هم ما يعلمه مما يصير إليه في المستقبل من ضرر الموت. والأقرب، والله أعلم أن السبب الحقيقي هو سلب الله تعالى للخواطر المنصرفة إلى ذكر الموت، وتصور حقيقة أمره، وسلب الدواعي إلى الاشتغال به، لما في ذلك من اعتماد الدنيا وانتظام أمرها الذي هو مقصود للحكيم.ولو أن الناس نزلوا أمر الموت منزلته اللائقة به لاقتضى ذلك أن تخرب الدنيا ولا تعمر، ولكان المرء جديرًا بأن لا يعمل من أعمالها شيئًا، فإن من لا يثق بالحياة لحظة كيف يتعب نفسه ويسهر ليله في محاولة أمور يفتقر إليها من شأنه أن يخلد والله أعلم. ومثال حال الإنسان في تيقنه أنه يسهى كل يوم وليلة مرحلتين إلى الموت مع غفلته عن الاهتمام به والانزعاج لأجله حال رجل أذنب إلى ملك ذنبًا عظيمًا يوجب قتله، فأمر الملك بإحضاره لذلك من مسافة بعيدة. وقد رأى السيف مسلولاً أمامه وشاهد من استعد لقتله، فسار به المأمورون بإحضاره وهم يطعنونه في جوانبه بالشوك والمناخيس والمفاك والسكاكين أو نحو ذلك. ولا يسلم منها إلا ما اتقاه بترس أو نحوه مما يحول بينها وبين جسده، وما لم يتقه آلمه وأقلقه فصار مشغولاً مستغرق الذهن باتقاء تلك المطاعن عن اهتمامه بما هو ساع إليه من ضرب عنقه، وهان عليه ما هو ذاهب إليه في جنب ما قد صار فيه. وأما لو قطع مواد ما شغله عن الاهتمام بالموت من تلك المذكورة الممثلة بما يلحق المقدم للقتل في طريقه ليفرغ قلبه لإدراك هم الموت وما بعده لاشتغل به واستغرق في ذلك وسعه وجهده. فليستعن العبد على ذلك بما ورد في الحديث من الحث على ذكر الموت وقصر الأمل مثل حديث: «أكثروا ذكر هاذم اللذات فإنه ما كان في كثير إلا قلله ولا قليل إلا كثره». ولما كان الموت حتميًا لا بد منه لكل مخلوق على وجه الأرض فلا بد من تذكره دائمًا وأبدًا، ففي تذكره محاسبة النفس على ما قدمت من خير وشر فإن قدمت خيرًا فذكر الموت يريحها ويحثها على التزود من الأعمال الصالحة والابتعاد عن كل شر وإن فرطت وأهملت واستمريت على فعل المعاصي والشرور فذكر الموت يردعها عن غيها وطغيانها ويحول بينها وبين عبثها فإذا تيقن كل إنسان أن الموت لا بد وأن يأتيه وهذا أمر لا خلاف فيه قال الله جل وعلا وتقدس كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ.وقال الشاعر: عَلَيها القُدُوْمُ أوْ عَلَيْكَ سَتَقْدَمُ فَهُنَّ المَنَايَا أيَّ وَادٍ حَلَلْنَهُآخر: يَومًا عَلى آلةٍ حَدْبَاء مَحْمُوْلُ كُلٌّ ابْنِ أنْثَى وإنْ طَالَتْ سَلامتُهُوعلم أن التراب بعد الفرش مضجعه، وأن الدود والحشرات أنيسه، وأن القيامة الكبرى موعده، وأن الجنة أو النار مورده بعد ما يعاني من الأهوال والمزعجات اللاتي يشيب منها الولدان، فإذا جعل هذا نصب عينيه ليلاً ونهارًا سرًا وجهارًا وأمعن في التفكير فيه فلا بد أن يكون لذلك تأثير بإذن الله ويكون الموت وما بعده نصب عينيه إن قام أو قعد أو مشي أو اضطجع وتهون عليه الدنيا ومصائبها ويدعوه ذلك إلى ترك ما زاد على زاده إلى الآخرة وذكر الموت نوعان: نوع باللسان فقط والنوع الآخر: وهو النافع المجدي بإذن الله ذكره بالقلب لأنه المثمر للعمل الصالح. فإنَّ الموتَ مِيْعَادُ العِبَادِ تَأهَّبْ للَّذِي لاَ بُدَّ مِنْهُ لَهُمْ زادٌّ وأنْتَ بِغَيْرِ زَادِ يَسُرُكَ أن تكونُ رفيقَ قومٍ شعراً :بِدَمْعِ يُضَاهِي الوَبْلَ حَالَ مُصَابهِ ولا تَلْهُ عن تَذْكارِ ذَنْبِكَ وابْكهُوَرَوْعَةَ مَلْقَاةُ ومَطْعَمَ صَابِهِ ومَثّلْ لِعَيْنَيْكَ الحِمَامَ وَوَقْعَهسَيْنزِلُهَا مُسْتَنْزِلاً عَنْ قُبَابِهِ وَأنَّ قُصَارَى مَسْكَنِ الحَيّ حُفْرَةوقال آخر: لا نوم أثقل من الغفلة، ولا رق أملك من الشهوة، ولولا ثقل الغفلة لما طفرت بك الشهوة. قال أحد العلماء: اعلم أن من حقق النظر وراض نفسه على السكون إلى الحقائق وإن آلمتها في أول صدمةٍ كان اغتباطه بذم الناس إياه أشد وأكثر من اغتباطه بمدحهم إياه.لأن مدحهم إياه إن كان بحث وبلغه مدحهم له أسرى ذلك فيه العجب فأفسد بذلك فضائله وإن كان بباطل فبلغه فسره فقد صار مسرورًا بالكذب وهذا نقص شديد. وأما ذم الناس إياه فإن كان بحث فبلغه فربما كان ذلك سببًا إلى تجنبه ما يعاب عليه وهذا حظ عظيم لا يزهد فيه إلا ناقص العقل. وإن كان الذم له بباطل وبلغه فصبر اكتسب فضلاً زائدًا في الحلم والصبر وكان مع ذلك غانمًا لأنه يأخذ حسنات من ذمه بالباطل فيحظى بها في دار الجزاء أحوج ما يكون إلى النجاة بأعمال لم يتعب فيها ولا تكلفها وهذا حظ عظيم لا يزهد فيه إلا مجنون أو في غاية الحمق والجهل. وأما إن لم يبلغه مدح الناس إياه فكلامهم وسكوتهم سواء وليس كذلك ذمهم إياه ؛ لأنه غانم للأجر على كل حال بلغه ذمهم أو لم يبلغه. وقال آخر: اعلم أن الذام لك لا يخلو من إحدى ثلاث خصال: إما رجل ذمك نصحًا وإشفاقًا عليك فهو عظيم المنة واجب الطاعة فمم يكون غضبك من نصح المشفق عليك لقد عظمت مصيبتك أن تغضب على كل من نصحك. وأما الخصلة الثانية: فرجل غير ناصح لك فذمك بما عرفه فيك علمه منك وأظهره بسببك فوجب عليك قبول الحق إن كان صادقًا في مقالته ودع الحقد عليه وبادر بالإنابة قبل الفضيحة في الآخرة كما افتضحت بالدنيا.وأما الخصلة الثالثة: فرجل اجترأ على الله بباطل افتراه وبزور يقوله عليك ليسبك به فقد أتى البائس على نفسه.وأما الذي نلت منه من الأذى وقول الزور فيك فبما كسبت يداك وعقوبة الذنوب وكفارة المساوئ وأجر عظيم يساق إليك لم تتعب عليه لا في صيف ولا شتاء وهو أحسن من الذهب والفضة والفلل والعمائر وسائر أمتعة الدنيا التي ربما كانت عذابًا في الدنيا والآخرة. فعلى العاقل أن يغتنم نفع المذمة فغالبًا تكون الحسنات التي تأتيك من عدوك أكثر من الحسنات التي تأتيك من صديقك لأن صديقك يدعو لك. فإما أن يجاب أو لا وأما عدوك فيقع فيك ويغتابك وإنما هي حسنات يزفها إليك عفوًا صفوًا حلالاً كما قيل: ويُعْطِيكَ أجْرَي صَومِهِ وصَلاتِهِ يُشَاركُكَ المُغْتَابُ فِيْ حَسَنَاتِهِعن النُجْبِ مِنْ أبِنَائِهِ وبَنَاتِهِ ويَحَملُ وِزْرًا عَنْكَ ظَنَّ بحَمْلِهِيُعَاملُ عنه الله فِيْ غَفَلاتِهِ وغَيْرُ شقي مَن يَبْيتُ عَدُّوهُبإمْعانِهِ فِيْ نَفْع بَعْضِ عُدَاتِهِ فلا تعجبُوا مِن جَاهل ضَرَّ نَفْسَهُعلى رجل يُهْدِي له حَسَنَاتِهِ وأعْجَبُ منه عاقلٌّ باتَ سَاخِطًاويَهْلِكُ فِيْ تَخْلِيْصِهِ ونجاتِهِ ويَحْمِلُ مِن أوزَارِهِ وذُنُوبه والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وسلم.فوائدلا تحقر شيئا من عمل غد أن تحققه بأن تعجله اليوم وإن كان قليلا، فإن من قليل الأعمال يجتمع كثيرها وربما أعجز أمرها عند ذلك فيبطل الكل. ولا تحقر شيئا مما ترجو به تثقيل ميزانك يوم البعث والنشور أن تعجله الآن وإن قل، فإنه يحط عنك كثيرًا لو اجتمع لقذف بك في جهنم. الخوف والوجع والفقر والنكبة لا يحس أذاها إلا من كان فيها، ولا يعلمه من كان خارجًا عنها، وفساد الرأي والعار والإثم لا يعلم قبحها إلا من كان خارجًا عنها، وليس يراه من كان داخلاً فيها.الأمن والصحة والغنى لا يعرف حقها إلا من كان خارجًا عنها، وليس يعرف حقها من كان فيها، وجودة الرأي والفضائل وعمل الآخرة لا يعرف فضلها وفائدتها إلا من كان من أهلها، ولا يعرفه من لم يكن من أهلها. أول من يزهد في الغادر من غدر له الغادر، وأول من يمقت ويبغض شاهد الزور من شهد له به، وأول من تهون الزانية بعينه الذي يزني بها لأنه كشف سترها والعياذ بالله.لا شيء أضر على السلطان من كثرة المتفرغين حواليه، فاللبيب الحازم اليقظ يشغلهم بما لا يظلمهم فيه، فإن لم يفعل شغلوه بما يظلمون فيه، وأما مقرب أعدائه فذلك قاتل نفسه.احرص على أن توصف بسلامة الجانب ليودك الناس ويأمنون منك واحذر وتحفظ من أن توصف بالتجسس والدهاء والمكر والحيل والنميمة والكبر والحسد والخداع لغير المخادع لك والكيد لمن لا يكيد لك، واحذر أن تكون من الممثلين وأهل المقابلات.فيكثر المتحفظون منك والماقتون لك حتى ربما أضر ذلك بك ضررًا عظيمًا وربما قتلك كما ما قيل: كانت تخافه الشُجْعَانُ كم مِن قتيلِ لِسَانِهِظن بنفسك على ما تكره يقل همك إذا أتاك، ويعظم سرورك وفرحك، ويتضاعف إذا أتاك ما تحب مما لم تكن قدرته إذا تكاثرت الهموم سقطت كلها. الصبر على الجفاء ينقسم إلى ثلاثة أقسام:القسم الأول: صبر عمن يقدر عليك ولا تقدر عليه وهذا ذل ومهانة وليس من الفضائل، والرأي لمن خشى لما هو أشد مما يصير عليه المصارمة والمتاركة والمباعدة. والقسم الثاني: صبر عمن تقدر عليه ولا يقدر عليك فهذا فضل وبر وهو الحلم على الحقيقة وهو الذي يوصف به الفضلاء. والقسم الثالث: الصبر عمن لا تقدر عليه ولا يقدر عليك، وهذا ينقسم إلى قسمين: إما أن يكون الجفاء ممن لم يقع منه إلا على سبيل الغلط، ويعلم قبح ما أتى به ويندم عليه فالصبر عليه فضل وهم حلم على الحقيقة. وأما من كان لا يدري مقدار نفسه ويظن أن لها حقا يستطيل به فلا يندم على ما سلف منه فالصبر عليه ذل للصابر وإفساد للمصبور عليه لأنه يزيد شره. والمقارضة له سخف والأحسن إعلامه بأنه يقدر على أن ينتصر منه، وإنما تركه استرذالاً له فقط وصيانة عن مراجعته، وقديمًا قيل: وإن أنت أكرمتَ اللئيم تَمَرَّدا إذا أنَتَ أكرمتَ الكريم ملكتهمُضِرُّ كَوَضْعِ السَّيفِ فِيْ مَوْضِعِ النَّدَا فوضعُ النَّدا فِيْ مَوضِعِ السَّيْفِ بالعُلاآخر: وإن كانَ شَتْمِي فيه صَابٌّ وعَلْقَمُ وكم مِن لَئِيْم وَدَّ أنِّيْ شَتَمْتُهُأضَرُّ لَهُ مِن شَتْمِهِ حِيْنَ يُشْتَمُ ولَلْكَفُ عن شَتْمِ اللئِيْمِ تَكَرُّمًامن شغل نفسه بأدنى العلوم وترك أعلاها وهو يقدر عليه كان كمن يغرس الأثل والسدر ونحوهما في الأرض التي يزكو وينموا فيها النخيل والزيتون والتفاح والرمان ونحوها. نشر العلم عند من ليس من أهله مفسد لهم كإطعامك التمر والحلوى من به مرض السكر وكمن به حرق والفلفل لمن به قرحة. شعراً :ولا أنْثُر الدُّرَ النَّفِيْسَ عَلَى الغَنَمِ سَأكتُم عِلْمِي عن ذَوِي الجَهْل طَاقَتِيفَصَادَفْتُ أهلاً لِلْعُلُومِ ولِلْحِكَمْ فإنْ يَسَّرَ الله الكريمُ بفضلِهِوإلا فَمَخْزُوْنٌّ لَدَيَّ ومُكْتَتَمْ بَثَثْتُ مُفِيْدًا واسْتَفَدْتُ وِدَادَهُمومَن مَنَعَ المُسْتَوِجِبْينَ فقد ظلم فَمَنْ مَنَح الجُهَّالَ عِلْمًا أضَاعَهُالباخل بالعلم ألأم من الباخل بالمال لأن الباخل بالمال يخاف من فنائه وذهابه من يده والباخل بالعلم بخل بما لا يفنى على النفقة ولا يفارقه مع البذل بل يزيد ويثبت.حد البخل الامتناع عن أداء الواجبات أو بعضها.وحد الجود بذل الفضل في وجوه البر والإحسان إلى عباد الله المؤمنين. وسبب البخل غلبة الشهوة وطول الأمل ورحمة الولد وخوف الفقر وقلة الثقة بمجيء الرزق وعشق المال لذاته.من رأى نفسه تميل إلى علم من علوم الشريعة كالتفسير والتوحيد والحديث والفقه فليقبل عليه ولا يشتغل بغيره حتى يمهر فيه ثم ينتقل إلى الثاني. ولا بد لمن أراد العلم وعنده إقبال ونشاط من تغييب القرآن ومتن من كل فن من العلم الذي يريد تحصيله ليعينه على تثبيت المعلومات وسرعة استخراجها. وأجل العلوم ما قربك من الله وما أعانك على رضاه. من أضر ما على العلوم وأهلها الدخلاء فيها فإنهم يجهلون ويظنون أنهم يعلمون ويفسدون ويقدرون أنهم يصلحون. من أراد خير الآخرة وحكمة الدنيا وعدل السيرة والاحتواء على محاسن الأخلاق كلها ومكارم الشيم واستحقاق الفضائل بأسرها فليقتد بمحمدٍ ﷺ وليستعمل أخلاقه وسيرته ما أمكنه ذلك، قال الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: 21]. منفعة العلم في استعمال الفضائل عظيمة وهو أن يعلم حسن الفضائل فيأتيها، ويعلم قبح الرذائل فيجتنبها ويسمع الثناء الحسن فيرغب في مثله والثناء الرديء فينفر منه ويبتعد. انظر في المال والحال والصحة إلى من هو دونك، وانظر في العلم والدين والأخلاق الفاضلة إلى من هو فوقك. من استخف بحرمات الله تعالى فلا تأمنه على شيء مما تشفق عليه وكن على حذر منه دائمًا لأن من لا يخاف الله لا يؤمن على شيء. ولا تغتر بكلام المنافقين عمي البصائر الذي يصفون اليهود والنصارى بالوفاء والصدق والمسلمين بالغدر والخيانة، فالكفار لم يفوا مع الله جل وعلا بل خانوا الله ورسوله والمؤمنين وحذرنا الله عنهم فإياك أن تغتر بكلام المنافقين فتمدح أعداء الله ورسوله والمؤمنين فتهلك مع من هلك، والله أعلم. فصلالنصيحة مرتان: فالأولى فرض وديانة، والثانية: تنبيه وتذكير، وأما الثالثة: فتوبيخ وتقريع إن أمكن ولم يحصل عليك ضرر، والنصح سرًا لا جهرًا وبتعريض لا تصريح إلا أن لا يفهم المنصوح تعريضك فلا بد من التصريح، ولا تنصح على شرط القبول منك فإن تعديت فأنت مخطئ. من أردت قضاء حاجته بعد أن سألك إياها أو أردت ابتداءه بقضائها فلا تعمل إلا ما يريد هو لا ما تريد أنت وإلا فأمسك فإن تعديت هذا كنت مسيئًا لا محسنًا. لا تنقل إلى صديقك ما يؤلم نفسه ولا ينفع بمعرفته ولا تكتمه ما يستضر بجهله ولا يسرك أن تمدح بما ليس فيك ؛ لأنه نقصك ينبه الناس عليه بل الذي ينبغي لك غمك بذلك وقديمًا قيل: للْحُرّ ذِي اللَّبِ تَبْكِيْتٌ وَتَخْجِيْلٌ ومَدْحُكَ الشَّخْصَ بالأخلاق يَعْدمُهَاما شيء أضيع وأضعف من عالم ترك الناس علمه لفساد طريقته وما شيء أضيع وأضعف من جاهل أخذ الناس بجهله لنظرهم إلى عبادته. وروي أن عمر أتي بشاهد عنده فقال له: ائتني بمن يعرفك فأتاه برجل فأثنى عليه خيرًا، فقال له عمر: أنت جاره الأدنى الذي يعرف مدخله ومخرجه؟ قال: لا قال: فكنت رفيقه في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق؟ قال: لا، فعاملته بالدرهم والدينار، قال: لا. قال: أظنك رأيته قائمًا في المسجد يهمهم بالقرآن يخفض رأسه طورًا ويرفعه أخرى. قال: نعم قال: اذهب فلست تعرفه ثم قال للرجل: اذهب فأتني بمن يعرفك. من علامات الاستدراج العمي عن العيوب وصرف نعم الله في معاصيه وخير الرزق ما سلم من الإثم في الاكتساب والغش في الصناعة والسلامة من أثمان المحرمات كالمسكرات والدخان والتلفزيون والفيديو والكورة والورق التي يستعملها سخفاء العقول والبعيدون عن الدين، أراح الله المسلمين منها ومنهم وجميع آلات المعاصي والملاهي والسلامة من الربا بجميع أنواعه. من شغله طلب الدنيا عن الآخرة ذل، إما في الدنيا وإما في الآخرة، ومن نظر في سير السلف عرف تقصيره وتخلفه عن درجات الرجال. للإنسان المفرط موقفان يندم الإنسان فيهما على ضياع الوقت ندامة عظيمة حيث لا ينفع الندم، ولا يفيد التأسف والحزن. الأول: ساعة الاحتضار حين يستدبر الإنسان الدنيا ويستقبل الآخرة ويتمنى لو أمهل برهة من الزمن ليتلافى ويصلح ما أفسد وهيهات. قال تعالى: وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [المنافقون: 10]. والجواب على السؤال الذي قد فات أوانه: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون: 11]. الموقف الثاني: في الآخرة قال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة: 12] الآيات. وقال تعالى: وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ * وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ * وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ [سبأ: 52- 54]. وقال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام: 27] الآيات. وقال تعالى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ [فاطر: 37]. قال بعض العلماء: أفضل البكاء بكاء العبد على ما سلف من ذنوبه ومعاصيه وعلى ما فات من أوقاته في غير طاعة الله جل وعلا، وقال: إنما يخاف المؤمن الموت لخوفه من الذنوب والانقطاع عن الأعمال الصالحة من ذكر الله وما والاه من جميع أفعال الطاعات والقربات وإلا فأحب شيء إليه لقاء ربه جل وعلا الواجب على الإنسان العاقل أن يحافظ على وقته أكثر من محافظته على ماله وأن يحرص على الاستفادة منه فيما ينفعه ويقربه إلى الله عز وجل. ولقد كان السلف أحرص ما يكونون على أوقاتهم لأنهم يعرفون قيمتها ولذلك يقول الحسن البصري: أدركت أقوامًا كانوا على أوقاتهم أشد منكم حرصًا على دارهمكم ودنانيركم. وقال: يا ابن آدم إنما أنت أيام مجموعة كلما ذهب يوم ذهب بعضك. وقال آخر: الوقت إذا فات لا يستدرك ولا شيء أعز منه. وكانوا يحرصون كل الحرص ألا يمر زمن ولو يسيرًا دون أن يتزود فيه بعمل صالح أو علم نافع أو مجاهدة للنفس أو إيصال نفع إلى قريب أو بعيد. وقال ابن مسعود :t ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزدد فيه عملي. وقال آخر: كل يوم يمر بي لا أزداد فيه علمًا يقربني من الله عز وجل فلا بورك في طلوع شمس ذلك اليوم. وَلَمْ أَسْتَفِدْ عِلْمًا فَمَا ذَاْكَ مِنْ عُمْرِي إذا مر بي يومٌّ ولم أقْتَبِسْ هدى من جهل قيمة الوقت الآن فسيأتي عليه يوم يعرف فيه قيمة الوقت ولكن بعد فوات الأوان ويتمنى أنه شغل وقته الماضي بالباقيات الصالحات من تسبيح وتحميد وتهليل وتكبير وقراءة لكتاب الله وصلاة وصيام وزكاة وحج وبر وصلة رحم ونحو ذلك مما يجده موفرًا أحوج ما يكون إليه. نَدِمْتَ عَلَى الْتَفْريطُ فِيْ زَمَنِ الْبِذْرُ إذْا أَنْتَ لَمْ تَزْرَعَ وأبْصَرتَ زَارِعًا قيل لأحد العلماء: ما بال كتب السلف وكلامهم ومواعظم أنفع من كلامنا وكتبنا ومواعظنا؟، قال: لأنهم يتكلمون لعز الإسلام ونفع المسلمين ورضا الرحمن وإزالة ما يضر الإسلام والمسلمين. ونحن نتكلم لعز النفس وطلب الدنيا وقبول الخلق والشهرة والظهور والتصنع والرياء، وطلب المدح والثناء. قال أبو بكر الصدق : t اتق الله بطاعته وأطع الله بتقواه ولتخف يداك من دماء المسلمين وبطنك من أموالهم ولسانك من أعراضهم وحاسب نفسك في كل خطوة وراقب الله في كل نفس، والله أعلم. فصل وقال ابن القيم: دافع الخطرة فإن لم تفعل صارت شهوة فإن لم تفعل صارت عزيمة وهمة فإن لم تدافعها صارت فعلا فإن لم تداركه بصده صار عادة فيصعب عليك الانتقال عنها. واعلم أن كل علم اختياري هو الخواطر والأفكار فإنها توجب التصورات والتصورات تدعو إلى الإرادات والإرادات تقتضي وقوع الفعل وكثرة تكراره تعطي العادة. فصلاح هذه المراتب بصلاح الخواطر والأفكار وفسادها بفسادها وصلاح الخواطر بأن تكون مراقبة لوليها وإلهها صاعدة إليه دائرة على مرضاته ومحابه فإنه سبحانه به كل صلاح ومن عنده كل هدى ومن توفيقه كل رشد ومن توليه لعبده كل حفظ ومن تولي العبد عنه وإعراضه عنه كل ضلال وشقاء. واعلم أن الخطرات والوساوس تؤدي متعلقاتها إلى الفكر فيأخذها الفكر فيؤديها إلى التذكر فيأخذها التذكر فيؤديها إلى الإرادة فتأخذها الإرادة فتؤديها إلى الجوارح والعمل فتستحكم فتصير عادة فردها من مبادئها أسهل من قطعها بعد قوتها وتمامها. ومعلوم أن الإنسان لم يعط إماتة الخواطر ولا القوة على قطعها فإنها تهجم عليه هجوم النفس إلا أن قوة الإيمان والعقل تعينه على قبول أحسنها ورضاه به ومساكنته له وعلى دفع أقبحها وكراهته له ونفرته منه. وقد خلق الله النفس شبيهة بالرحى الدائرة التي لا تسكن ولا بد لها من شيء تطحنه فإن وضع فيها حب طحنته وإن وضع فيها تراب أو حصى طحنته فالخواطر والأفكار التي تجول في النفس هي بمنزلة الحب الذي يوضع في الرحى ولا تبقى تلك الرحى معطلة قط بل لا بد لها من شيء يوضع فيها. فمن الناس من تطحن رحاه حبا يخرج دقيقًا ينفع به نفسه وغيره وأكثرهم يطحن رملا وحصى وتبنا ونحو ذلك فإذا جاء وقت العجن والخبز تبين له حقيقة طحينه اهـ. قلت: وبعضهم من يطحن برحاه نجاسات كالزناة واللوطية واللصوص وأهل الملاهي وجميع الفسقة. وقال ابن مسعود : ارض بما قسم الله لك تكن من أغنى الناس واجتنب ما حرم الله عليك تكن من أورع الناس، وأد ما افترض الله عليك تكن من أعبد الناس. وقال ابن القيم رحمه الله: لله سبحانه على كل أحد عبودية بحسب مرتبته سوى العبودية العامة التي سوى بين عباده فيها. فعلى العالم من عبودية نشر السنة والعلم الذي بعث الله به رسوله ﷺ: ما ليس على الجاهل وعليه عبودية الصبر على ذلك ما ليس على غيره. وعلى الحاكم من عبودية إقامة الحق وتنفيذه وإلزامه من هو عليه به والصبر على ذلك والجهاد عليه ما ليس على المفتي وعلى الغني من عبودية أداء الحقوق التي في ماله ما ليس على الفقير. وعلى القادر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيده ولسانه ما ليس على العاجز عنهما. وقد غر إبليس كثيرًا من الخلق بأن زين لهم الاقتصار على القيام بنوع من الذكر والقراءة والصلاة والصيام والزهد في الدنيا والانقطاع عن الاختلاط بالناس وعطلوا القيام بالعبوديات المتعدي نفعها المتقدم ذكرها. وإذا قلت لأحدهم: كيف حالك قال: بخير وسرور وأي خير وسرور فيمن يرى محارم الله تنتهك وحدوده تضاع والمنكرات والملاهي في البيوت والأسواق وهو بارد القلب مداهن ساكت لا يشعر بهذا النقص العظيم وعند نقوص الدنيا يشتغل قلبه ولسانه وجسده ولله در القائل: وكُلَّ جَمْعِ عَليْهَا سَوفَ يَنْتَثِرُ مالِي أرىَ النَاسَ والْدُّنْياَ مُوَلّيَةٌ يَومًا وإن نُقِصَتْ دُنْيَاهُمُ شَعِرُوْا لا يَشْعُرونَ إذا ما دِيْنَهُم نُقِصُواآخر: وعِندَ مُرَادِ النَّفْس تُسْدِيْ وتُلْحِمُ وعِندَ مُرادِ الله تَفْنَى كَمَيْتٍآخر: وَليْسَ يُشّفِقُ مِن دِيْنٍ يُضَيْعُهُ تَراهُ يَشّفِقُ مِن تَضْييعِ دِرْهَمِهِآخر: وتَغْفَلُ عن نُقْصَانِ دِينِكَ والْعُمْرِ تُفَكْرُ فِيْ نُقْصَانِ مَالِكَ دَائِمًا وخِيْفَةُ حَالِ الْفَقْرِ شَرٌ مِنَ الفَقْرِ ويُلْهِيكَ خَوْفُ الْفَقْرِ عن كُلِّ طَاعَةٍقال بعض العلماء: الزم الأدب وفارق الهوى والغضب واعمل في أسباب التيقظ واتخذ الرفق حزبًا والتأني صاحبات والسلامة كهفا والفراغ غنيمة والدنيا مطية والآخرة منزلا. شعراً :إِلَىْ الْزُهْدِ فِيْ اَلْدُّنْياَ اَلْدَنيِة أَحْوَجَا وأَصْبَحْتُ فيما كُنتُ أَبْغِي مِنَ الْغِنَىوقد صِرْتُ مِثْلَ النَّسْرِ أَهْوَى اَلْتَّعَرُجَا وحَسَّبْتُ نَفْسِي بَيْنَ بَيْتِي ومَسْجِدِيوقال الحسن البصري: إن الله لم يجعل للمؤمن راحة دون الجنة، وقال فضيل: لَيْسَ الغَرِيْبُ مَنْ يشمي من بلد إلى بلد ولكن الغريب صالح بين فساق. قلت: إِنَّ الغَرِيْبَ تَقِىُ بَيْنَ فُسَّاقِ لَيْسَ الغَرِيْبُ غَرِيْبَ الشَّامِ واليَمَنِوقال آخر: احذر الغفلة ومخاتل العدو وطربات الهوى وأماني النفس وضراوة الشهوة. قال ابن القيم: واعلم أن الصبر على الشهوة أسهل من الصبر على ما توجبه الشهوة. فإن الشهوة إما أن تكون توجب ألمًا وعقوبة. وإما أن تقطع لذة أكمل منها. وإما أن تضيع وقتًا إضاعته حسرة وندامة. وأما أن تثلم عرضًا توفيره أنفع للعبد من ثلمه. وإما أن تذهب مالاً بقاؤه خير من ذهابه. وإما تضع قدرًا وجاهًا قيامه خير من وضعه. وإما أن تسلب نعمة بقاؤها ألذ وأطيب من قضاء الشهوة. وإما أن تطرق لوضيع إليك طريقًا لم يكن يجدها قبل ذلك. وإما أن تجلب همًا وغمًا وحزنًا وخوفًا لا يقارب لذة الشهوة. وإما أن تنسى علمًا ذكره ألذ من نيل الشهوة.وإما أن تشمت عدوًا وتحزن وليًا. وإما أن تقطع الطريق على نعمة مقبلة. وإما أن تحدث عيبًا يبقى صفة لا تزول، فإن الأعمال تورث الصفات والأخلاق اهـ. وقال المحاسبي رحمه الله: اطلب آثار من زاده العلم خشية والعمل بصيرة والعقل معرفة. واعلم أن في كل فكرة أدبا، وفي كل إشارة علمًا وإنما يميز ذلك من فهم عن الله مراده وجنى فوائد اليقين من خطابه وعلامة ذلك في الصادق إذا نظر اعتبر وإذا صمت تفكر. وإذا تكلم ذكر وإذا منع صبر وإذا أعطي شكر وإذا ابتلي استرجع وإذا جهل عليه حلم وإذا علم تواضع وإذا علم رفق وإذا سئل بذل. شفاء للقاصد وعون للمسترشد حليف صدق وكهف بر قريب الرضا في حق نفسه بعيد الهمة في حق الله تعالى نيته أفضل من عمله وعمله أبلغ من قوله، موطنه الحق ومعقله الحياء ومعلومه الورع وشاهده الثقة له بصائر من النور يبصر بها وحقائق من العلم ينطق بها ودلائل من اليقين يعبر عنها. يحسبه الجاهل صميتًا عييًا وحكمته أصمتته ويحسبه الأحمق مهذارًا والنصيحة لله أنطقته ويحسبه الجاهل غنيا والتعفف أغناه ويحسبه فقيرًا والتواضع أدناه. لا يتعرض لما لا يعنيه ولا يتكلف فوق ما يكفيه ولا يأخذ ما ليس بمحتاج إليه ولا يدع ما وكل بحفظه الناس منه في راحة وهو من نفسه في تعب قد أمات بالورع حرصه وحسم بالتقى طمعه وأمات بنور العلم شهواته. فهكذا فكن ولمثل هؤلاء فاصحب ولآثارهم فاتبع وبأخلاقهم فتأدب واعلم وسع الله بالفهم قلبك وأنار بالعلم صدرك وجمع باليقين همك أني وجدت كل بلاء داخل على القلب من نتاج الفضول وأصل ذلك الدخول في الدنيا بالجهل ونسيان المعاد بعد العلم. والنجاة من ذلك ترك كل مجهول في الورع وأخذ كل معلوم في اليقين اهـ. وإذا اشتبه عليك أمر من الأمور أو خفيت عليك كقضية فارجع إلى الكتاب والسنة ولا تحتكم فيها إلى العقل؛ لأنه يقوى ويضعف اهـ، ويتأثر بالمؤثرات. قال ابن المبارك: القلب مثل المرآة إذا طالت صدئت وكالدابة إذا غفل عنها عدلت عن الطريق. وقال أحد الحكماء: القلب مثل بيت له ستة أبواب ثم قيل: احذر ألا يدخل عليك من أحد الأبواب شيء فيفسد عليك البيت. والأبواب هي العينان واللسان والسمع والبصر واليدان والرجلان فمتى انفتح باب من هذه الأبواب بغير علم ضاع البيت. وفرض اللسان الصدق في الرضا والغضب وكف الأذى. وفرض البصر الغض عن المحارم وترك التطلع فيما حجب وستر. وفرض السمع تبع للكلام والنظر فكل ما لا يحل لك الكلام فيه والنظر إليه فلا يحل لك استماعه ولا التلذذ به والبحث عما كتم عنك تجسس. وسماع اللهو والغناء وأذى المسلمين حرام كالميتة، سئل القاسم عن سماع الغناء، فقال: إذا ميز الله بين الحق والباطل يوم القيامة أين يقع الغناء ؟ قيل: في حوز الباطل قال فأفتِ نفسك. وفرض اليدين والرجلين أن يكفهما ولا يبسطهما إلى محرم ولا يقبضهما عن حق وفرض الأنف أن ما لا يشم لا يجوز له شمه. قلت: وقد ترك بابًا وهو أهمها وأخطرها وهو الفرج وفرضه حفظه عما عدا الزوجة والمملوكة قال تعالى: إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [المؤمنون: 6]. واعلم أن أنجى الطريق العمل بالعلم والتحرز بالخوف والغنى بالله عز وجل فاشتغل بإصلاح حالك وافتقر إلى ربك وتنزه عن الشبهات وأقلل حوائجك إلى الناس فإن كثير الحاجات مملوك عند القريب والبعيد. فَيَحُولُ عَنْكَ كَماَ اَلْزَمَانُ يَحُولُ لا تَسْأَلَنَّ إِلَىْ صَدِيقٍ حَاجَةًمَا صَانَ عِرْضَكَ لا يُقَاُل قَلِيلُ واسْتَغْن بالْشّيء اَلْقَلِيلِ فإَّنهُ وَأخُو اَلْحَوَائِجِ وَجْههُ مَمْلوُلُ مَنْ عَفّ خَفّ عَلَى الصَّدِيقِ لِقَاؤهُومَتَى عَلِقْتَ بِهِ فَأنْتَ ثَقِيلُ وأَخُوكَ مَن وَفّرتَ مَا فِيْ كَفّهِقيل لأحد الفقراء ما أفقرك فقال: لو عرفت راحة الفقر لشغلك التوجع لنفسك عن التوجع لي فالفقر ملك ما عليك محاسبة وقيل له: لما لا يرى أثر الحزن عليك فقال لأنني لم أتخذ شيئا يحزنني فقده. وقال بعض الحكماء: من أحب أن تقل همومه ومصائبه فليقلل قنيته للخارجات من يده لأن أسباب الهم فوت المطلوب أو فقد المحبوب ولا يسلم منهما إنسان قال الشاعر: فلا يَتَّخِذْ شيئًا يَخَافُ لَهُ فَقْدا ومَنْ سَرَّه أَنْ لا يَرى مَا يَسُوْؤُهُوذكر أنه لما غرقت البصرة أخذ الناس يستغيثون لإخراج أموالهم فخرج الحسن t ومعه قصعته، وعصاه، فقال: نجا المخفون، وقيل لأحد الزهاد: أترضى من الدنيا بهذه الحالة ؟ فقال: ألا أدلك على من رضي بدون هذا ؟ قال: نعم. قال: من رضي بالدنيا بدلاً من الآخرة. وقيل لمحمد بن واسع رحمه الله: أترضى بالدون؟ فقال: إنما رضي بالدون من رضي بالدنيا بدلاً من الآخرة، وقال زاهد لملك: أنت عبد عبدي لأنك تعبد الدنيا لرغبتك فيها وأنا مولاها لرغبتي عنها وزهدي فيها. شعراً :حُطَامِها وطَرِيْقُ الحَقُ مَسْلُوكَ أنْتَ الأمِيْرُ عَلَى اَلْدُّنْيا لِزُهْدِكَ فيإن المُحِبَّ لمن يَهْواهُ مُمْلُوكُ وأنْتَ عَبْدٌ لَها ما دُمْتَ تَعْشِقُهاآخر: عَذَابًا كُلَّمَا كَثُرتْ لَدَيْهِ أَرَى اَلْدُنْيَا لِمَن هِيَ فِيْ يَدَيْهِوتُكْرِمُ كُلَّ مَن هَانَتْ عَلَيهِ تُهِيْنُ المُكْرِمِينَ لَها بِصُغْر َوَخُذْ مَا أَنْتَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ إذا اسْتَغْنَيْتَ عَنْ شَيء فَدَعهُآخر: على أنَّهُم فِيْهاَ عُراةٌ وجُوَّعُ أَرَى أَشْقياءَ اَلْنَاسِ لا يَسْأَمُونَهَاسَحَابَةُ صَيْفٍ عن قَليلٍ تَقَشَّعُ أراهَا وإن كانَتْ تُحَبُّ كأنّهَاوقال مالك بن أنس: كنا عند جعفر بن محمد فدخل سفيان الثوري فقال له: حدثني رحمك الله، فقال: يا أبا عبد الله أكثر من الحديث أعلمك ثلاثًا خير لك من مال كثير يا سفيان إذا أنعم الله عليك نعمة فأكثر من الحمد لله فإن الله تعالى يقول: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم: 7]. وإذا قلت نفقتك فعليك بالاستغفار فإنه يزيدك من المال والولد والنعمة قال الله تعالى: إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح: 10- 12]. وإذا اشتد بك الكرب فعليك بلا حول ولا قوة إلا بالله فإنها كنز من كنوز الجنة فجعل سفيان يقولها، ويعدها في يده ثلاثًا. وقال رجل لعمر بن عبد العزيز: عليك بما يبقى لك عند الله فإنه لا يبقى لك ما عند الناس فبلغ ذلك الزهري فقال: لقد وعظه بالتوراة والإنجيل والفرقان. من أصعب الأشياء على الإنسان معرفته بعيوبه والإمساك عن الدخول فيما لا يعنيه. قلت: والغيبة والكذب والرياء. مما يجب الابتعاد عنه والتحذير من مجالسة أهل الفساد ؛ لأنه يعلق بالإنسان من مجالستهم والاتصال بهم أضعاف ما يعلق به من مجالسة العقلاء ؛ لأن الفساد أشد التحامًا بالطباع والنفس والشيطان يساعدان على ذلك. إليْهَا ولَكِنَّ الصَّحِيْحَة تُجْرَبُ وما يَنْفَعُ الجَرْبَاءَ قُرْبُ صَحِيْحَةٍالعاقل حقيقة هو من آثار الطاعة على المعصية وآثر العلم على الجهل وآثر الدين على الدنيا وكف آذاه عن الناس والعالم حقيقة هو من خشي الله تعالى وعمل بما علم. قال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر: 28]. فائدةإحالة الأعمال الصالحة إلى وجود الفراغ من أمور الدنيا من الحمق لوجوه منها: إيثار الدنيا على الآخرة والله يقول: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى: 16- 17]. والثاني: أن تسويف العمل إلى أوان فراغه دليل على جهل الإنسان وغباوته ؛ لأنه قد لا يجد مهلةً فربما اختطفه الموت قبل ذلك وربما يزداد شغله؛ لأن أشغال الدنيا يجذب بعضها بعضًا ولا تنتهي غالبًا إلا بالموت. قال الشاعر: ولا انْتَهَى أرَبٌ إلاَّ إِلَىْ أرَبَ وما قَضَى أحدٌ مِنْها لُبَانَتَهُفالواجب على الإنسان المبادرة إلى الأعمال الصالحة على أي حال كان وأن ينتهز فرصة الإمكان قبل مفاجأة هادم اللذات وأن يتوكل على الله ويطلب منه العون في تيسيرها إليه وصرف الموانع الحائلة بينه وبينها. قال الشاعر على اغتتام الوقت: وشَمِرّ عَنِ السَّاقِ اجْتِهَادًا بِنَهْضَةِ وخُذْ مِن قَرِيبٍ واسْتَجِبْ واجْتَنِبْ غَدًاوإِيَّاكَ مَهْلاً فَهْيَ أخْطَرُ عِلَّةِ وكُنْ صَارِمًا كالْوَقْتِ فالمَقْتُ فِيْ عَسَىَبَطَالَةُ ما أخَّرْتَ عَزْمًا لِصِحَّةِ وسِرْ زَمِناً وانْهَضْ كَسِيْرًا فَحَظّكَ الـْتَجِدْ نَفَسًا فالْنَّفْسُ إنْ جُدْتَ جَدَّتِ وجُذَّ بِسَيْفِ اَلْعَزْمِ سَوْفَ فإن تَجُدْقال الفضيل بن عياض: لو أن أهل العلم أكرموا أنفسهم وشحوا على دينهم وأعزوا العلم وصانوه وأنزلوه حيث أنزله الله لخضعت لهم رقاب الجبابرة وانقاد لهم الناس وكانوا لهم تبعًا وعز الإسلام وأهله. ولكنهم أذلوا أنفسهم ولم يبالوا بما نقص من دينهم إذا سلمت لهم دنياهم فبذلوا علمهم لأبناء الدنيا ليصيبوا بذلك ما في أيدي الناس فذلوا وهانوا على الناس. انتهى. ولَوْ عَظَّمُوهُ فِيْ الْنُّفُوسِ لَعُظّمَا ولَو أنَّ أَهْلُ اَلْعِلمِ صَانُوهُ صَانَهُممُحَيَّاهُ بالأطْمَاعِ حَتَّى تَجَهَّمَا ولَكِنْ أهَانُوهُ فَهَانُوا وَدَنَّسُوْاكَبَى حَيْثُ لم تُحْمَ حِمَاهُ وَأظْلَمَا فإنْ قُلْتُ زَنْدَ اَلْعِلمِ كَابٍ فَإنَّما فائدةإذا علم العبد أن الله تعالى رحيم به ورءوف به وناظر إليه فكل ما يرد عليه من أنواع البلايا والرزايا والمصائب ينبغي له أن يصبر ويحتسب ولا يكترث بذلك فإنه لم يتعود من الله إلا خيرًا له. فليحسن ظنه بربه وليعتقد أن ذلك خيرًا له وأن له في ذلك مصالح خفية لا يعلمها إلا الله كما قال تعالى: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة: 216]، فقد يحب الإنسان الشهرة والعافية والغناء ويكون شرًا له كما في قصة قارون وثعلبة. بأنَّكَ أَنْتَ المُبْتَلي وَالمُقَدِّرُ وَخَفَّفَ عَنِيّ مَا أُلاقِي مِن العَنَاوليَسَ له مِنهُ الذي يَتَخَيّرُ وَمَا لاِمْرئ عَمَّا قَضَى الله مَعْدِلٌفائدةقيل: من علامات التوفيق دخول أعمال البر عليك من غير قصد لها، وصرف المعاصي عنك من السعي إليها، وفتح باب اللجاء والافتقار إلى الله تعالى في كل الأحوال، واتباع السيئة الحسنة، وعظم الذنب في قلبك وإن كان من صغائر الذنوب والإكثار من ذكر الله وشكره وحمده والاستغفار. ومن علامات الخذلان تعسر الطاعات عليك مع السعي فيها، ودخول المعاصي عليك مع هربك منها، وغلق باب الالتجاء إلى الله وترك التضرع له وترك الدعاء، واتباع الحسنة بالسيئات، واحتقارك لذنوبك وعدم الاهتمام بها وإهمال التوبة منها والاستغفار ونسيانك لربك. ذم الإنسان نفسه واحتقاره لها لما يتحققه من عيوبها وآفاتها مطلوب منه لأنه يؤديه إلى التفتيش عليها ومحاسبتها بدقة ويؤديه أيضًا إلى الحذر من غرورها وشرورها. فتصلح بسبب ذلك أعماله وتصدق أحواله وتستقيم بإذن الله أموره وإلا فسدت عليه واعتلت لدخول الآفات عليها ولا يصدنه عن ذلك مدح المادحين وثناء المتملقين ؛ لأنه يعلم من عيوب نفسه ما لا يعلمه غيره. المؤمن الحقيقي هو الذي إذا مدح وأثني عليه وذكر طرفا من محاسنه استحيا من الله تعالى استحيا تعظيم وإجلال أن يثنى عليه بصفة ليست فيه. فيزداد بذلك مقتًا لنفسه واستحقارًا لها ونفورًا عنها ويقوى عنده رؤية إحسان الله تعالى إليه وشهوده فضله عليه ومنته في إظهار المحاسن عليه ويشكر الله تعالى ويحمده على ما أولاه من نعمه التي لا تعد ولا تحصى. قيل: إن رجلاً أخرج من السجن وفي رجله قيد وهو يسأل الناس فقال لإنسان عاقل أعطني كسرة خبزة فقال: لو قنعت بالكسرة لما وضع القيد في رجلك، ورأى رجل رجلاً من الحكماء يأكل ما تساقط من البقل على رأس الماء. فقال: لو خدمت السلطان لم تحتج إلى أكل هذا، فقال الحكيم: وأنت لو قنعت بهذا لم تحتج إلى خدمة السلطان. وقال رجل لآخر: كيف حالكم مع السلطان؟ فقال: كما قال الله جل وعلا: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة: 42]. فائدة الأسباب الجالبة لمحبة الله لعبده المؤمن نذكر ما تيسر منها إن شاء الله: 1- قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه والتفطن لمراد الله منه. 2- الإحسان في عبادة الله والإحسان إلى عباد الله، قال الله تعالى: وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 134]. 3- التقوى، قال الله تعالى: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [التوبة: 7]. 4- طهارة الباطن والظاهر، قال الله تعالى: وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة: 108]. 5- التقرب إلى الله بالنوافل بعد أداء الفرائض فإنها توصل إلى محبة الله لعبده كما في الحديث: «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه» الحديث. 6- دوام ذكر الله على كل حال في كل مكان إلا في المحلات المستقذرة كالخلاء ونحوه ويكون ذلك باللسان والقلب والعمل. 7- إيثار محابه على محابك عند غلبات الهوى. 8- مطالعة القلب لأسمائه وصفاته وأفعاله ومشاهدتها وتقلبه في رياض هذه المعرفة ومبادئها فمن عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله أحبه لا محالة. 9- مشاهدة بره وإحسانه ونعمه الظاهرة والباطنة. 10- انكسار القلب بين يديه والتضرع والتذلل له وإظهار الافتقار إليه وإظهار العجز والمسكنة والتلهف إلى رحمته ورأفته ولطفه. 11- مجالسة التالين للقرآن العاملين به والذاكرين الله كثيرًا. 12- القتال في سبيل الله، قال تعالى: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ [الصف: 4]. 13- اتباع النبي ﷺ، قال الله جل وعلا: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ [آل عمران: 31]. 14- الصبر، قال تعالى: وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 146].15- الخلوة به سبحانه وقت النزول الإلهي أي وقت التجلي الإلهي، وهو في الأسحار قبل الفجر لمناجاته وتلاوة كلامه والوقوف بالقلب والقالب بين يديه ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة. 16- مباعدة العوائق والحوائل وكل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل. قال رجل لطاوس: أوصني قال: أوصيك أن تحب الله حبا حتى لا يكون شيء أحب إليك منه وخفه خوفًا حتى لا يكون شيء أخوف إليك منه وارج الله رجاء يحول بينك وبين ذلك الخوف وارض للناس ما ترضى لنفسك. المراقبة في ثلاثة أشياء: مراقبة الله في طاعته بالعمل الذي يرضيه ومراقبة الله عند ورود المعصية بتركها ومراقبة الله في الهم والخواطر والسر والإعلان قال تعالى: وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ [القصص: 69]. وقال النبي ﷺ: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنك يراك». قالت أسماء بنت عميس: إنا لعند علي بن أبي طالب t بعد ما ضربه ابن ملجم، إذ شهق ثم أغمي عليه، ثم أفاق فقال مرحبًا، مرحبًا، الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الجنة فقيل له: ما ترى؟ قال: هذا رسول الله ﷺ وأخي جعفر وعمي حمزة وأبواب السماء مفتحة والملائكة ينزلون يسلمون علي ويبشرون، وهذه فاطمة قد طاف بها وصائفها من الحور وهذه منازلي في الجنة: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ [الصافات: 61]. عن كثير بن زيد قال: كبر حكيم بن حزام حتى ذهب بصره ثم اشتكى فاشتد وجعه فقلت: لأحضرنه ولأنظرن ما يتكلم به فإذا هو يهمهم ويقول: لا إله إلا الله أحبك وأخشاك حتى مات. انتهى. ولما حضرت أبا هريرة الوفاةُ بكى. قالوا: ما يبكيك؟ قال: بعد السفر وقلة الزاد وضعف اليقين وخوف الوقوع من الصراط في النار. ولما حضرت معاذ بن جبل الوفاة قال: أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار. ثم قال: مرحبًا بالموت زائر مغيب وحبيب جاء على فاقة اللهم إني كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك. اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لكري الأنهار ولا لغرس الأشجار ولكن لطول ظمأ الهواجر وقيام ليل الشتاء ومكابدة الساعات ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر ثم قبض رحمه الله. ولما حضرت أبا الدرداء الوفاة جعل يجود بنفسه ويقول: ألا رجل يعمل لمثل مصرعي هذا ألا رجل يعمل لمثل يومي هذا ألا رجل يعمل لمثل ساعتي هذه ثم قبض رحمه الله. ثم اعلم: أن الألم المصيب للبدن إنما يدرك بواسطة الروح، وإذا وصل الألم إلى نفس الروح فلا تسأل عن كربه وألمه حتى قالوا: إنه أشد من ضرب بالسيوف ونشر بالمناشير وقرض بالمقاريض. والسبب في أنه لا يقدر على الصياح مع شدة الألم لزيادة الوجع والكرب حتى قهر كل قوة وضعف كل جارحة فلم يبق له قوة الاستغاثة والاستعانة. أما العقل فقد غشيه وشوشه، وأما اللسان فقد أبكمه وأما الأطراف فقد خدرها وضعفها فإن بقيت فيه قوة سمعت له خوارًا وغرغرة من صدره وحلقه حتى يبلغ بها إلى الحلقوم. فعند ذلك ينقطع نظره عن الدنيا وأهلها وتغلق أبواب التوبة قال ﷺ: «إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» رواه الترمذي، وقال: حديث حسن. فالموفق من يكون الموت نصب عينيه لا يغفل عنه ساعة فيستعد للموت. ويفتش على نفسه ويتفقدها من قبل الصلوات ومن قبل حقوق الله وحقوق خلقه هل أقام الصلاة على الوجه الأكمل هل أدى الزكاة كاملة مكملة هل أبرأ ذمته من حقوق الآدميين. هل أدى الأمانات إلى أهلها هل نفذ ما عنده من وصايا ووكالات هل عنده أشياء معارة كتب أو نحوها يرجعها هل عنده كتب زائدة يفرقها على طلبة العلم العاملين بعلمهم، ويتلف إن كان عنده آلات لهو لا تقبض روحه وهي عنده، قال بعضهم: إن علامة قصر الأمل المبادرة في العمل قبل حلول الأجل ومن ادعى قصر الأمل، وهو يعتني بالدنيا فهو كاذب في دعواه. فالتوفيق أن يكون الموت أمامه في كل لحظة لا يغفل عنه أبدًا إن أصبح أضمر أنه لا يمسى وإن أمسى قدر أنه لا يصبح. مديم العمل بطاعة الله شاكرًا له على توفيقه لذلك ملازمًا لذكر الله ليلا ونهارا سرا وجهارا. ولكن لا يتيسر هذا إلا من فرغ قلبه عن الغد وما يكون فيه وعن الدنيا وأشغالها وزخارفها وجميع متعلقاتها. إلا ما كان عونًا على الآخرة وأداء لما وجب عليه من حقوق نسأل الله الإعانة والتوفيق .والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.فصلفيا أيها الغافل المهمل المفرط وكلنا كذلك انتبه وتصور صرعة الموت لنفسك وتصور نزعه لروحك وتصور كربه وسكراته وغصصه وغمه وقلقه. وتصور بدو الملك لجذب روحك من قدميك ثم الاستمرار لجذب الروح من جميع بدنك فنشطت من أسفلك متصاعدة إلى أعلاك حتى إذا بلغ منك الكرب والوجع والألم منتهاه وعمت الآلام جميع بدنك وقلبك وجل محزون منتظر إما البشرى من الله بالرضا وإما بالغضب. فبينما أنت في كربك وغمومك وشدة حزنك لارتقابك إحدى البشريين إذ سمعت صوته إما بما يسرك وإما بما يغمك فيلزم حينئذ غاية الهم والحزن أو الفرح والأنس والسرور قلبك حين انقضت من الدنيا مدتك وانقطع منها أثرك وحملت إلى دار من سلف من الأمم قبلك. وتصور نفسك حين استطار قلبك فرحًا وسرورًا أو ملئ رعبًا وحزنا وعبرة وبزيارة القبر وهول مطلعه وروعة الملكين منكر ونكير وسؤالهما لك في القبر عن ثلاثة أسئلة ما فيها تخيير، الأول من ربك؟ والثاني ما دينك؟ والثالث من نبيك؟. فتصور أصواتهما عند ندائهما لك لتجلس لسؤالهما لك فيه فتصور جلستك في ضيق قبرك وقد سقط كفنك عن حقويك والقطن من عينيك. ثم تصور شخوصك ببصرك إليهما وتأملك لصورتيهما فإن رأيتهما بأحسن صورة أيقن قلبك بالفوز والنجاة والسرور وإن رأيتهما بأقبح صورة أيقنت بالعطب والهلاك. شعراً :ومَوْتٌ وَقَبْرٌ ضَيْقٌ فِيهِ يُوْلَجُ ولِلْمَرْءِ يَومَ يَنْقَضِي فِيهِ عُمْرُهُيَسُومَانِ بِالتَنْكِيل مَنْ يَتَلَجْلجُ ويَلْقَى نَكيْرًا فِيْ السُؤالِ ومُنْكَرًا آخر: ودَفْنِكَ بَعْدَ عِزِّك فِيْ التُرَابِ تَفَكَّرْ فِيْ مَشِيْبك والمَآبتُقِيْمُ بِهِ إِلَىْ يَوم الحِسِابِ إذا وَافْيتَ قَبْراً أَنْتَ فِيهِ مُقَطَّعَةً مُمَزَّقَةَ الإهَابِ وفِيْ أَوصَالِ جِسْمِكَ حِيْنَ تَبْقَىلأنْتَنَتِ الأبَاطِحُ والرَوَّابِي فَلْولا َاَلْقَبْرُ صَارَ عَلَيْكَ سِتْرًاوعُلِّمْتَ الفَصِيْحَ مِن الخِطَابِ خُلِقْتَ مِن التُرَابَ فَصْرِتَ حَيًّاوَبَادِرْ قَبلَ مَوْتِكَ بالْمَتَابِ فَطَلِّقْ هَذهِ اَلْدُّنْياَ ثَلاثًافَمِثْلُكَ قَدْ يُدَلُّ عَلَى الصَّوابِ نَصَحْتُكَ فَاسْتَمِعْ قَوْلي ونُصْحِيلَضَاق بِنَا الفَسِيْحُ مِن اَلْرِحَابِ خُلِقْناَ لِلْمَمَاتِ ولو تُركْنَالِدُوْ لِلْمَوْتِ وابْنُوْ لِلْخَرَابِ يُنَادَى فِيْ صَبِيْحَةِ كُلِ يَومثم تصور كيف يكون شعورك إن ثبتك الله جل وعلا ونظرت إلى ما أعد الله لك وقولهما لك هذا منزلك ومصيرك فتصور فرحك وسرورك بما تعاينه من النعيم وبهجة الملك وإيقانك بالسلامة مما يسوؤك. وإن كانت الأخرى فتصور ضد ذلك من انتهارك ومعاينتك جهنم وقولهما لك هذا منزلك ومصيرك فيا لها من حسرة ويا لها من ندامة ويا لها من عثرة لا تقال. ثم بعد ذلك الفناء والبلاء حتى تنقطع الأوصال وتتفتت العظام ويبلى جسدك ويستمر حزنك فيا حسرة روحك وغمومها وهمومها. حتى إذا تكاملت عدة الأموات وقد بقي الجبار الأعلى منفردًا بعظمته وجلاله وكبريائه ثم لم يفجأك إلا نداء المنادي للخلائق للعرض على الله جل وعلا. قال تعالى: وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ [ق: 41، 42]، يأمر الله ملكًا أن ينادي على صخرة بيت المقدس أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء. فتصور وقوع الصوت في سمعك ودعائك إلى العرض على مالك الملك فيطير فؤادك ويشيب رأسك للنداء لأنها صيحة واحدة للعرض على الرب جل وعلا قال تعالى: فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [النازعات: 13، 14]. فبينما أنت في فزع من الصوت إذ سمعت بانشقاق الأرض فخرجت مغبرًا من غبار قبرك قائمًا على قدميك شاخصا ببصرك نحو النداء قال تعالى: يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا، وقال: خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ. فتصور تعريك ومذلتك وانفرادك بخوفك وأحزانك وهمومك وغمومك في زحمة الخلائق خاشعة أبصارهم وأصواتهم ترهقهم الذلة قال تعالى: وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا، وقال تعالى: خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ. ثم تصور إقبال الوحوش من البراري منكسة رءوسها لهول يوم القيامة فبعد توحشها وانفرادها من الخلائق ذلت ليوم النشور قال تعالى: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ. وتصور تكوير الشمس وتناثر النجوم وانشقاق السماء من فوق الخلائق مع كثافة سمكها فيا هول صوت ذلك الانشقاق. والملائكة على حافات ما يتفطر من السماء قال الله تعالى: وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا، وقال تعالى: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ، وقال تعالى: إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ. قيل: تذوب كما تذوب الفضة في السبك وتتلون كما تتلون الأصباغ التي يدهن بها فتارة حمراء وتارة صفراء وزرقاء وخضراء وذلك من شدة الأمر وهول يوم القيامة وقال تعالى: يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ، قيل: كالفضة المذابة أو الرصاص المذاب، وقال تعالى: يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا. فتصور وقوفك مفردًا عريانًا حافيًا وقد أدنيت الشمس من رءوس الخلائق ولا ظل لأحد إلا ظل عرش رب العالمين، فبينما أنت على تلك الحال المزعجة اشتد الكرب والوهج من حر الشمس ثم ازدحمت الأمم وتدافعت وتضايقت واختلفت الأقدام وانقطعت الأعناق من شدة العطش والخوف العظيم. وانضاف إلى حر الشمس كثرة الأنفاس وازدحام الأجسام والعطش تضاعف ولا نوم ولا راحة وفاض عرقهم على الأرض حتى استنقع ثم ارتفع على الأبدان على قدر مراتبهم ومنازلهم عند ربهم بالسعادة والشقاوة. ثم تصور مجيء جهنم تقاد ولها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها قال تعالى: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى. فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا لركبته يقول: يا رب نفسي نفسي فتصور ذلك الموقف المهيل المفزع الذي قد ملأ القلوب رعبًا وخوفًا وقلقًا وذعرًا يا له من موقف ومنظر مزعج. وأنت لا محالة أحدهم فتوهم نفسك لكربك وقد علاك العرق والفزع والرعب الشديد والناس معك منتظرون لفصل القضاء إلى دار السعادة أو إلى دار الشقاء، قال تعالى: وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ. فتصور أصوات الخلائق وهم ينادون بأجمعهم منفرد كل واحد بنفسه ينادي نفسي نفسي قال الله تعالى: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا، وقال تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ الآية. فتصور نفسك وحالتك عند ما يتبرأ منك الولد والوالد والأخ والصاحب لما في ذلك اليوم من المزعجات والقلاقل والأهوال التي ملأت القلوب من الخوف والفزع والرعب والذعر. ولولا عظم هول ذلك اليوم ما كان من الكرم والمروءة والحفاظ أن تفر من أمك وأبيك وأخيك وبنيك ولكن عظم الخطر وشدة الكرب والهول اضطرك إلى ذلك فلا تلام على فرارك منهم ولا لوم عليهم إذا فروا منك قال الله تعالى: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ، وقال تعالى: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ. فبينما أنت في تلك الحالة مملوءًا رعبًا قد بلغت القلوب الحناجر من شدة الأهوال والمزعجات والخوف العظيم إذ ارتفع عنق من النار يلتقط من أمر بأخذه فينطوي عليهم ويلقيهم في النار فتبتلعهم ثم تصور الميزان وعظمته، وقد نصب لوزن الأعمال وتصور الكتب المتطايرة في الأيمان والشمائل وقلبك واجف مملوءًًا خوفًا متوقع أين يقع كتابك في يمينك أو في شمالك أو من وراء ظهرك. فالأتقياء يعطون كتبهم بأيمانهم والأشقياء بالشمال أو من وراء الظهر، قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا ، وقال: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا. وقال تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ الآيات، وقال: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ الآيات. فيا لها من مواقف ويا لها من أهوال ويا لها من خطوب مجرد تصورها يبكي المؤمن بها حقا. عن الحسن: «أن رسول الله ﷺ كان رأسه في حجر عائشة فنعس فتذكرت الآخرة فبكت فسالت دموعها على خد النبي ﷺ فاستيقظ بدموعها فرفع رأسه فقال: ما يبكيك؟ فقال: يا رسول الله ذكرت الآخرة، هل تذكرون أهليكم يوم القيامة». قال: والذي نفسي بيده في ثلاثة مواطن فإن أحدًا لا يذكر إلا نفسه: إذا وضعت الموازين ووزنت الأعمال حتى ينظر ابن آدم أيخف ميزانه أم يثقل وعند الصحف حتى ينظر أبيمينه يأخذ أم بشماله وعند الصراط. وعن أنس بن مالك، قال: يؤتى بابن آدم يوم القيامة حتى يوقف بين كفتي الميزان ويوكل به ملك فإن ثقل ميزانه نادى الملك بصوت يسمع الخلائق سعد فلان ابن فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدًا. إن خف ميزانه نادى بصوت يسمع الخلائق شقي فلان ابن فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدًا. وتصور بينما أنت واقف مع الخلائق الذين لا يعلم عددهم إلا الله جل وعلا وتقدس إذ نودي باسمك على رءوس الخلائق من الأولين والآخرين أين فلان ابن فلان، هلم إلى العرض على الله عز وجل. فقمت أنت لا يقوم غيرك لما لزم قلبك من العلم من أنك المطلوب فقمت ترتعد فرائصك وتضطرب رجلاك وجميع جوارحك وقلبك من شدة الخوف والذهول في أشد الخفقان مرتفعًا إلى الحنجرة. قال الله جل وعلا وتقدس وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ. فتصور خوفك وذلك وضعفك وانهيار أعصابك وقواك متغيرًا لونك مرعوبًا مذعورًا مرتكضًا مزعجًا قد حل بك الغم والهم والاضطراب والقلق والذهول لما أصابك ورأيت من الشدائد والكروب والمحزنات ما الله به عليم. قال الله جل وعلا وتقدس: وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ، فيا له من يوم قال الله جل وعلا وتقدس: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا والآية بعدها. وتصور وقوفك بين يدي بديع السموات والأرض قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه القوي العزيز وقلبك خائف مملوء من الرعب محزون وجل وطرفك خائف خفي خاشع ذليل. وجوارحك مرتعدة بيدك صحيفة محصًا فيها الدقيق والجليل لا تغادر صغيرة ولا كبيرة فقرأتها بلسان، كليل وقلب منكسر وداخلك من الخجل والجبن والحياء من الله الذي لم يزل إليك محسنا وعليك ساترًا. فبأي لسان تجيبه حين يسألك عن قبيح فعلك وعظيم جرمك وبأي قدم تقف غدا بين يديه وبأي طرف تنظر إليه وبأي قلب تحتمل كلامه العظيم الجليل ومساءلته وتوبيخه. وتصور نفسك بصغر جسمك بين يدي من السموات السبع والأرض كخردلة في كفه الكبير المتعالي شديد المحال الذي ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها وقلوب العباد بين إصبعين من أصابعه لا إله إلا هو القوي العزيز. وتصور نفسك بهذه الهيئة والأهوال محدقة بك من جوانبك ومن خلفك فكم من كبيرة قد نسيتها أثبتها عليك الملك وكم من بلية أحدثتها فذكرتها وكم من سريرة قد كنت كتمتها قد ظهرت وبدت. وكم من عمل قد كنت تظن أنه قد خلص لك وسلم فإذا هو بالرياء قد حبط بعد ما كان أملك فيه عظيمًا فيا حسرة قلبك وتأسفك على ما فرطت في طاعة ربك قال تعالى: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ، وقال تعالى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. حتى إذا كرر عليك السؤال بذكر البلايا ونشرت مخبآتك التي طالما أخفيتها وسترتها عن مخلوق مثلك لا يملك لنفسه ولا لغيره ضرًا ولا نفعا وقد ظهرت قلة هيبتك لله وقلة حيائك منه وظهرت مبارزتك له بفعل ما نهاك عنه. فما ضنك بسؤال من قد امتلأ سمعك من عظمته وجلاله وكبريائه وسائر صفات كماله وكيف بك إن ذكرك مخالفتك له وركوبك معاصيه وقلة اهتمامك بنهيه ونظره إليك وقلة اكتراثك في الدنيا بطاعته. وماذا تقول: إن قال لك يا عبدي ما أجللتني أما استحييت مني أما راقبتني استخففت بنظري إليك ألم أحسن إليك ألم أنعم عليك ما غرك مني. شبابك فيما أبليته وعمرك فيما أفنيته ومالك من أين اكتسبته وفيم أنفقته وعلمك ماذا عملت فيه. وورد عن النبي ﷺ أنه قال: «ليقفن أحدكم بين يدي الله تبارك وتعالى ليس بينه وبينه حجاب يحجبه ولا بينه وبينه ترجمان يترجم عنه فيقول ألم أنعم ألم آتك مالا فيقول: بلى. فيقول: ألم أرسل إليك رسولا فيقول: بلى ثم ينظر عن يمينه فلا يرى إلا النار ثم ينظر عن شماله فلا يرى إلا النار فليتق أحدكم النار ولو بشق تمرة فإن لم يجد فبكلمة طيبة» رواه البخاري. فأعظم به موقفًا وأعظم به من سائل لا تخفى عليه خافية وأعظم بما يداخلك من الخجل والغم والحزن والأسف الشديد. على ما فرطت في طاعته وعلى ركوبك معصيته وعلى أوقات ضاعت عند الملاهي والمنكرات، قال الله تعالى عن حال المجرمين المفرطين: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ وقال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ الآية. وكيف تثبت رجلاك عند الوقوف بين يديه وكيف يقدر على الكلام لسانك عندما يسألك الحي القيوم إلا أن يثبتك جل وعلا ويقدرك على ذلك فإذا تبالغ فيك الجهد من الغم والحزن والحياء والخجل بدا لك منه أحد أمرين إما الغضب أو الرضا عنك. فإما أن يقول: يا عبدي أنا سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم فقد غفرت لك كبير جرمك وكثير سيئاتك وتقبلت منك يسير إحسانك فيستطير قلبك بالبهجة والفرح والسرور فيشرق ويستنير لذلك وجهك. فتصور نفسك حين ما يقال لك: وتهدأ نفسك ويطمئن قلبك وينور وجهك بعد كآبته وتكسفه من الحياء من السؤال. وتصور رضاه عنك حينما تسمعه منه فثار في قلبك فامتلأ سرورًا وكدت أن تموت من الفرح فأي سرور أعظم من السرور والفرح برضا الله عز وجل. وتصور نفسك وقد بدا لك منه الرضا والرحمة والمغفرة فتكاد روحك أن تطير من بدنك فرحا فكيف لو سمعت من الله عز وجل الرضا عنك والمغفرة لك فأمن خوفك وسكن حذرك وتحقق أملك ورجاؤك بخلود الأبد وأيقنت بفوزك ونعيمك أبدا لا يفنى ولا يبيد وطار قلبك فرحا وأبيض وجهك وأشرق وأنار. ثم خرجت إلى الخلائق مستنير الوجه قد حل بك أكمل الجمال والحسن كتابك بيمينك وقد شخصت أبصار الخلائق إليك غبطة لك وتأسفا على أن ينالوا من الله عز وجل مثل ما نلت. وتصور نفسك إن لم يعف عنك ربك وأيقنت بالهلاك وذهب بك إلى جهنم مسود الوجه تتخطى الخلائق بسواد وجهك وكتابك في شمالك أو من وراء ظهرك تنادي بالويل والثبور والملك آخذ بعضدك ينادي هذا فلان بن فلان قد شقي شقاء لا يسعد بعده أبداً. وتصور الصراط وهو الجسر المنصوب على متن جهنم قدامك وتصور ما يحل بك من الوجل والخوف الشديد حين رفعت طرفك فنظرت إليه بدقته وحوضه وجهنم تضطرب وتتغيض وتخفق بأمواجها من تحته. فيا له من منظر ما أفظعه وأهوله وسماعك شهيقها وتغيضها وقصف أمواجها وجلبة ثورانها من أسفلها وقد اضطررت على المشي عليه وقد مرت عليك صفته. ثم قيل لك وأنت تنظر إلى الجسر بفضاظته وفضاعته وقيل للخلق معك اركبوا الجسر الذي هو الصراط فتصور حالتك وخفقان قلبك ورجفان جسمك مما عاينت من المزعجات والكروب والشدائد والأهوال وعظائم الأمور وقلة المأكل والمشرب والراحة. ولما قيل اركب طار عقلك رعبا وخوفا ثم إذا رفعت رجلك وأنت تنتفض لتركب الجسر فوقع قدمك على حدته ودقته فازداد فزعك وازداد رجفان قلبك ورفعت رجلك الأخرى وأنت مضطرب تتمروج من شدة الخوف العظيم وقد أثقلتك الأوزار وأنت حاملها على ظهرك وأنت تنظر إلى الناس يتهافتون من بين يديك ومن ورائك. فتصور مرورك عليه بضعفك وثقلك وأوزارك وقلة حيلتك وأنت مندهش مما تحتك وأمامك ممن يئنون ويزلون وقد تنكست هاماتهم وارتفعت أرجلهم وآخرون يختطفون بالكلاليب وتسمع العويل والبكاء والأصوات المزعجات المناديات بالويل والثبور. فيا له من منظر فظيع ومرتقي ما أصعبه ومجاز ما أضيقه ومكان ما أهوله وموقف ما أشقه وكأني بك مملوءًا من الذعر والرعب والقلق ملتفتًا يمينًا وشمالاً إلى من حولك من الخلق وهم يتهافتون قدامك في جهنم وأنت تخشى أن تتبعهم إلى قعر جهنم. فتصور هذا بعقلك ما دمت في قيد الحياة قبل أن يحال بينك وبينه فلا يفيدك التفكير لعلك أن تتلافى تفريطك وتحاسب نفسك قبل أن يفوت الأوان فتبوأ بالفشل والخيبة والحرمان. وتصور حالتك إن بؤت بالخسران وزلت رجلك عن الصراط ووقعت فيما كنت تحاذر وتخاف وطار عقلك ثم زلت رجلك الأخرى فنكست على هامتك وعلت رجلاك فلم تشعر إلا والكلوب قد دخل في جلدك ولحمك. فجذبت به وبادرت إليك النار ثائرة غضبانة لغضب مولاها وقد غلب على قلبك الندم والتأسف على أوقات ضيعتها فيما يسخط الله. وتصور سماعك لنداء النار بقوله عز وجل: هَلِ امْتَلَأْتِ وسمعت إجابتها له هَلْ مِنْ مَزِيدٍ وهي تلتهب في بدنك لها قصيف في جسدك ثم لم تلبث أن تفطر جسمك وتساقط لحمك وبقيت عظامك. ثم اطلعت النار على ما في جوفك فأكلت ما فيه وأنت تنادي وتستغيث فلا ترحم حتى إذا طال فيها مكثك واشتد بك العطش. فذكرت الشراب في الدنيا فزعت إلى الجحيم فتناولت الإناء من يد الخازن الموكل بعذابك فلما تناولته تمزعت كفك من تحته واحترقت من حرارته ثم قربته إلى فمك والألم بالغ منك كل مبلغ فشوى وجهك وتساقط لحمه. ثم تجرعته فسلخ حلقك ثم وصل إلى جوفك فقطع أمعاءك قال الله جل وعلا وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ وقال جل وعلا وتقدس: وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ. ثم ذكرت شراب الدنيا وبرده ولذته فبادرت إلى الحميم لتبرد به كبدك كما تعودت في الدنيا فسقيت فقطع أمعاءك والحميم شراب كالنحاس المذاب يقطع الأحشاء والأمعاء ثم بادرت إلى النار رجاء أن تكون أهون منه ثم اشتد عليك حريق النار فرجعت إلى الحميم قال الله تعالى: يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ وقال في الآية الأخرى: إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ. فقدر نفسك مع الضائعين والخاسرين لعلك أن تلحق بالأبرار والمقربين وتصور حالتك لما اشتد بك الكرب والعطش وبلغ منك كل مبلغ وذكرت الجنان وما فيها من النعيم المقيم والعيش السليم. وهاجت الأحزان وهاجت غصة في فؤادك إلى حلقك أسفًا على ما فات من رضى الله عز وجل وحزنا على نعيم الجنة. ثم ذكرت شرابها وبرد مائها وذكرت أن فيها بعض القرابة من أب أو أم أو ابن أو أخ أو غيرهم من القرابة أو الأصدقاء في الدنيا فناديتهم بقلب محزون محترق تطلب منهم ماء أو نحوه فأجابوك بالرد والخيبة فتقطع قلبك حسرة وأسفا. قال الله جل وعلا وتقدس: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ فيا خيبة من هذا حاله وهذا مآله. لقد تقطع قلبك حزنا إذ خيبوا أملك فيهم وبما رأيت من غضبهم عليك لغضب ربك عز وجل ففزعت إلى الله بالنداء بطلب الخروج منها فبعد مدة الله أعلم بها جاء الجواب اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ. فلما سمعت النداء بالتخسئة لك ولأمثالك بقي نفسك من شدة الضيق والألم والحسرة مترددًا في جوفك لا مخرج له فضاقت نفسك ضيقًا شديدًا لا يعلم مداه إلا الله. وبقيت قلقًا تزفر ولا تطيق الكلام ثم أتاك زيادة حسرة وندامة حيث أطبق أبواب النار عليك وعلى أعدائه فيها فانقطع الأمل كليا. فيا إياسك ويا إياس سكان جهنم حين سمعوا وقع أبوابها تطبق عليهم قال الله جل وعلا وتقدس: إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ . فعلموا عند ذلك أن لا فرج أبدًا ولا مخرج ولا محيص لهم من عذاب الله خلود فلا موت وعذاب لا زوال له عن أبدانهم ودوام حرق قلوبهم. أحزان لا تنقضي وهموم وغموم لا تنفد وسقم لا يبرأ وقيود لا تحل وأغلال لا تفك قال تعالى: إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ. وقال تعالى: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ. لا يرحم بكاؤهم ولا يجاب دعاؤهم ولا يغاثون عند تضرعهم ولا تقبل توبتهم ولا تقال عثرتهم غضب الله عز وجل عليهم فلا يرضى عنهم أبدا فمثل نفسك بهذا الوصف إن لم يعف عنك ربك لعلك أن تستيقض فتستدرك. فلو رأيت المعذبين وقد أكلت النار لحومهم ومحت محاسن وجوههم واندرس تخطيطهم فبقيت العظام محترقة مسودة وقد قلقوا من شدة تكرر العذاب الأليم قال تعالى: وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ. وهم ينادون بالويل والثبور ويصرخون بالبكاء والعويل قال الله جل وعلا وتقدس: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ وقال: وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا. فلو رأيتهم لذاب قلبك فزعا ورعبا من سوء خلقهم ولخرجت روحك من نتن رائحتهم فكيف لو نظرت نفسك وأنت فيهم وقد زال من قلبك الأمل والرجاء ولزمك القنوط والإياس فمثل نفسك لعلك أن تتأثر فتستعد للقاء الله. ونظرت إلى النار وهي تشتعل في أجزاء بدنك فتدخل أذنيك وعينيك ولا تقدر على إبعادها عنك لملازمتها لك قال الله تعالى: إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا، فهناك يغلب على قلبك التأسف والحسرات والندامة قل جل وعلا وتقدس: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ الآية. فتصور تلك الأهوال والعظائم بعقل فارغ وعزيمة صادقة وراجع نفسك ما دمت في قيد الحياة وتب إلى الله توبة نصوحًا عن ما يكرهه مولاك وتضرع إليه وابك من خشيته لعله يرحمك ويقيل عثرتك فإن الخطر عظيم والبدن ضعيف والموت منك قريب، انتهى، بتصرف، من كلام المحاسبي رحمه الله. مُسْتَعْطِفاِ قَلِقَ الأحْشَاءِ حَيْرَانَا مَثِّلْ وقُوْفَكَ يَومَ الحَشْرِ عُرْيَانَاعلى العُصَاةِ وتَلْقَ اَلْرَّبَّ غَضْبَانَا النْاَرُ تَزْفُر مِنْ غَيْظٍ ومِن حَنَقٍوانْظُرْ إليهِ تَرَى هَلْ كَانَ مَا كَانَا اقْرَأْ كِتَابَكَ يا عَبْديْ عَلَى مَهَلِ حَرْفًا ومَا كَانَ فِيْ سِرٍّ وَإعْلاَنَا لَمَّا قَرَأتُ كِتَابًا لا يُغَادرُ لِيْ ُمُرُوْا بِعَبْدِي إِلَىْ النِيّرانِ عَطْشَانَا قَالض الجَلْيِلُ خُذُوْهُ يَا مَلائِكَتيتَجْعَلْ لِنَارِكَ فينا اليَوْمَ سَلْطَانَا يَا رَبِّ لا تُخْزِنَا يَوْمَ الحِسَابِ وَلااللهم ارزقنا أنفسًا تقنع بعطائك، وترضى بقضائك، وتصبر على بلائك، وتوقن بلقائك وتشكر لنعمائك وتحب أوليائك وتبغض أعداءك واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين. فصل في ذكر بعض الفوائد والمواعظ ستة خصال يرفع الله بها العبد: العلم النافع، والأدب المستفاد من الكتاب والسنة، والأمانة، والعفة والصدق، والوفاء. من علامة المعرفة بالله القيام بحقوق الله والتخلص من حقوق العباد ومن علامات محبة العبد لله اتباع محمد ﷺ. سئل أحد العلماء ما بال الإنسان يحتمل من معلمه ما لا يحتمل من أبويه؟ فقال: لأن أبويه سبب حياته الفانية ومعلمه سبب حياته الباقية. احتياج الأخيار للأشرار فتنة للطائفتين. واحتياج الأشرار للأخيار صلاح للطائفتين. بصحة الإيمان وكمال التقوى، يفتح الله تعالى على العبد خير الدنيا والآخرة، قال الله عز وجل: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ. عمارة القلب في أربعة أشياء في العلم، والتقوى، وطاعة الله، وذكر الله. وخراب القلب من أربعة أشياء من الجهل، والمعصية، والاغترار، والغفلة. الخشوع في الصلاة علامة فلاح المصلي قال الله جل وعلا: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ. من علامات موت القلب عدم الحزن على ما فاتك من الطاعات وترك الندم على ما فرط منك من الزلات قال ﷺ: «من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن». من نتائج المعصية، قلة التوفيق وفساد الرأي، وخفاء الحق، وفساد القلب، وخمول الذكر، وإضاعة الوقت، ونفرة الخلق، والوحشة مع الرب، ومنع إجابة الدعاء، وقسوة القلب، ومحق بركة العمر ولباس الذل، وضيق الصدر. سئل الحسن البصري عن مسألة فأجاب عنها فقال السائل: إن الفقهاء يخالفونك فقال للسائل ثكلتك أمك وهل رأيت فقيهًا بعينك: إنما الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة. البصير بدينه المداوم على عبادة ربه الورع الكاف نفسه عن أعراض المسلمين العفيف عن أموالهم الناصح لجماعتهم المجتهد في العبادة المقيم على سنة رسول الله ﷺ الذي لا ينبذ من فوقه ولا يسخر ممن دونه ولا يأخذ على علم علمه الله له حطامًا من الدنيا. قلت: هذا يعز وجوده في زمننا. وقلت: هذا في زمنه رحمه الله فكيف لو رأى أهل زماننا وما دهاهم من أنواع المعاصي والشرور والتكالب على الدنيا والزهادة في الآخرة. وعن سفيان بن عيينة قال: جاء ابن لسليمان بن عبد الملك فجلس إلى جنب طاوس فلم يلتفت إليه. فقيل له: جلس إليك ابن أمير المؤمنين فلم تلتفت إليه، قال: أردت أن يعلم أن لله عبادًا يزهدون فيما في يديه. وعن ميمون بن مهران. قال: بعث الحجاج بن يوسف إلى الحسن وقد هم به فلما دخل عليه وقام بين يديه قال: يا حجاج كم بينك وبين آدم من أب قال كثير قال فأين هم قال: ماتوا قال: فنكس الحجاج رأس وخرج الحسن. وعن جعفر بن سليمان قال: سمعت مالك بن دينار يقول: إن العالم إذ لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما تزل القطرة عن الصفاء. ووأسفاه على وقت كان فيه العلماء العاملون بعلمهم أعز من الملوك نفوسًا وأوطأ جانبًا من الفقراء وأغير الناس على الدين وأزهدهم في حطام الدنيا وأشد أخذا لأحكام الله ورغبة فيما أعده لأوليائه فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. حكي عن بعض المتقدمين أنهم كانوا يختبرون المتعلم مدة في أخلاقه فإن وجدوا فيه خلقا رديئا منعوه من العلم، وقالوا: إنه يستعين بالعلم على مقتضى الخلق الرديء فيصير العلم آلة شر في حقه. وقد قالت الحكماء: زيادة العلم في الرجل السوء كزيادة الماء في أصول الحنظل المر كلما ازداد ريا ازداد مرارة. وفي قول الله تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ تنبيه على أن حفظ العلم عن من يفسده ويستضر به أولى. وقال بعض العلماء وهذا كله صحيح مجرب فينبغي للعالم أن يتبنه لهذا ولا يهمله بل يراعيه ويمتثله ولا عبرة بما يتوهمه في تعليمهم من وجود مصالح على تقدير حصول توفيق الله تعالى لهم ؛ لأن يعملوا ببعض ما يتعلمونه من العلم الصحيح إن كانت لهم ولاية حكم أو غير ذلك. فإن المفاسد التي تقع بسبب ذلك لهم في خاصة أنفسهم والمفاسد التي تتعدى إلى غيرهم أكثر. ومن القواعد المقررة (أن درء المفاسد أولى من جلب المصالح). أما المفاسد التي تختص بهم فهي تقوية صفاتهم الذميمة وأخلاقهم الفاسدة اللئيمة بما يطلبونه من العلم لأنهم يتوسلون به إلى مطالبهم الدنيوية على غاية الكمال والتمام، فهم بالحقيقية يجعلونه كالشبكة والفخ يصطادون به حطام الدنيا. فإذا استشعروا بذلك توجهوا بهممهم إليه وعكفوا بالجد والاجتهاد عليه ولولا هذا الاستشعار لم يتصور منهم ذلك فإذا حصلوا على شيء من ذلك وظهر مخايل وصولهم إلى أغراضهم الدنيوية فرحوا بذلك. وهذا الفرح والاغتباط في غاية الذم منهم ؛ لأن ذلك متعلق بأسباب الدنيا وهي بمنزلة السم القاتل الذي يوجب موت قلوبهم وبعدها عن التأثر المواعظ والحكم كما قيل:كالأرضِ إنْ أسْبَخَتْ لم يَنْفَعِ المَطَرُ إذا قَسَى القَلْبُ لم تَنْفَعْهُ مَوْعِظَةٌوعند ذلك تنتعش نفوسهم وتتقوى صفاتها الذميمة وتظهر آثار ذلك على ظواهرهم من التكالب على الدنيا والركون إليها وإلى من هي عنده من المترفين وليس لهم ما يتوسلون به إليهم سوى علمهم فيحتالون على تحصيل إقبالهم عليهم وصرف وجوههم إليهم بالتفنن عندهم بأنواع الحيل. ولا يسلمون في ذلك من الرياء والنفاق والتصنع والدهان والكذب والغيبة ويجرهم ذلك إلى أنواع من المحرمات وصنوف من العصيان مع ما يحل بهم من الذل والإهانة ونحو ذلك. وأما الفساد الذي يتعدى منهم إلى غيرهم فهو وقوع الاغترار للجهلة والأغمار والمغفلين بمشاهدة حالهم فإنهم يشاهدونهم قد حازوا من رتب الدنيا ما أرادوه ويتوهمون أنهم نالوا شرف الآخرة بما أفادوه واستفادوه فيقتدي بهم الجهلة والأغمار والمغفلون. فيقعوا فيما وقعوا فيه من المهالك أو يؤديهم ذلك إلى تعظيمهم ومحبتهم وموالاتهم واتخاذهم أربابًا يسمعون منهم ويطيعونهم في أوامرهم ونواهيهم. ثم يخرج بهم استحسان حالهم إلى الداء الدفين وهو مسارقة طباعهم الدنيئة وأخلاقهم الرديئة فإن نفوس العامة قابلة لذلك ومهيأة له بمنزلة الصبي الذي ترسخ فيه الأخلاق عن قصد وعن غير قصد. قال عبد الله بن المبارك: وأَحْبَارُ سُوءٍ ورُهْبَانُهَا وهَلْ أَفْسَدَ الدّينَ إلاَّ المُلُوكْولم تَغْلُ فِيْ البَيْعِ أثمانُهَا فَبَاعُوا اَلْنُفُوسِ ولم يَرْبَحُوايَبْينُ لِذِي العَقْل إنْتَانُهَا لَقَد رَتَع القَومُ فِيْ جِيْفَةٍفصلمجامع الهوى خمس وهي في قول الله جل وعلا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ. والأعيان التي تحصل منها هذه الخمسة ستة يجمعها قول الله جل وعلا وتقدس: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. فائدةقال علي بن أبي طالب t من هوان الدنيا وحقارتها أن الله أخرج أطايبها من خسائسها فالدنيا سبعة أشياء: مأكول ومشروب وملبوس ومشموم ومنكوح ومسموع ومبصر. أما المأكولات فأشرفها العسل وهو لعاب ذباب وأطيب المشروبات الماء ويستوي في شربه الآدمي والكلب والخنزير والحمار. وأفضل الملبوسات الحرير والإبريسم وهو لعاب دودة وأشرف المناكح النساء وحقيقتها مبال في مبال وأشرف المشمومات المسك وهو دم غزال والمسموع والمبصر مشترك بين ذلك وبين البهائم. أَكْلٍ وشُرْبٍ ومَلْبُوسٍ وَمَنْكُوحٍ قَدْ أوْلعَ الناسُ فِيْ الدُّنياَ بأرْبَعَةٍرَوْثٍ وبَولٍ ومَطْرُوحٍ ومَفْضُوحٍ وَغَايَةُ الكُلٌ إنْ فَكّرْتَ فِيهِ إِلَىْ فإن قيل: ما السبب في حب الدنيا والتعلق بها والتكالب عليها مع كثرة همومها وغمومها وأنكادها فالجواب قلة المعرفة بعيوبها فلو كشف الغطاء لهربوا منها فإن قيل: ما سبب زهد الأمراء في أبواب العلماء ورغبة العلماء فيما عند الأمراء. قيل: سبب زهدهم لقلة رغبتهم ومعرفتهم بالعلم وأما رغبة العلماء فلمعرفتهم بفضيلة المال عند الحاجة إليه. عمر الإنسان ميدان لأعماله الصالحة المقربة له إلى الله تعالى، والموجبة له الثواب في الدار الآخرة، وهذه هي السعادة التي يكدح العبد ويسعى من أجلها وليس له منها إلا ما سعى كما قال تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى. فكل جزء يفوت من العمر خاليا من العمل الصالح يفوته من السعادة بقدره ولا عوض له منه ولهذا عظمت مراعاة السلف الصالح لأنفاسهم ولحظاتهم وبادروا إلى اغتنام أوقاتهم وساعاتهم ولم يضيعوا أعمارهم في البطالة والتقصير ولم يقنعوا من أنفسهم لمولاهم إلا بالجد والاجتهاد والتشمير. ولا تُغْبَنَنْ بالنِّعْمَتيْن بَل اجْهِدِ ولا يَذْهَبَنَّ العُمْرُ مِنْك سَبَهْلَلاأكَبَّ عَلَى اللّذَاتِ عَضَّ عَلَى اليدِ فَمَنْ هَجَر اللّذَاتِ نالَ المُنَى وَمَنْوقال رجل لعامر بن قيس وهو يريد الجمعة قف حتى أكلمك فقال: لولا أني أبادر لوقفت لك. قال: وما تبادر قال أبادر خروج روحي وجلس آخر إلى رجل ممن عرفوا قيمة الوقت يريد أن يتحدث معه فقال: أنا في شغل اذهب إلى أمثالك ممن لا يعرفون قيمة الوقت فانصرف. عليه مِنْ الإنْفَاقِ فِيْ غَيرِ وَاجِبِ إذا كَانَ رَأسُ المالِ عُمْرِك فاحْتَرِزْوقال علي بن أبي طالب t: (بقية عمر المرء ما لها ثمن يدرك فيها ما فات ويحيى ما أمات)، وفي هذا المعنى قال الناظم:وإنْ غَدًا لَيْسَ مَحْسُوبًا مِن الزَّمَنِ بَقِيَّةُ العُمرِ عِنْدِي مَا لَهَا ثَمَنٌ مِن الزَّمَانِ ويَمْحُو السُّوْء َبالحَسَنِ يَسْتَدْركُ المَرْءُ فِيْهَا كُلّ فَائِتةٍ سب رجل الشعبي بقبائح نسبها إليه فقال الشعبي: إن كنت كاذبا فغفر الله لك، وإن كنت صادقا فغفر الله لي. وقال رجل للأحنف بن قيس: إن قلت لي كلمة أسمعتك عشرا فقال الأحنف: لكنك لو قلت لي عشرا لم تسمع مني واحدة. وقال رجل لأبي بكر لأسبنك سبا يدخل معك في قبرك فقال أبو بكر يدخل معك ولا يدخل معي. وقال رجل لبعض الصالحين: إن فلانًا يقع فيك ويذكر فيك أشياءَ حتى رحمتك منها فقال: هل سمعتني أذكره بشيء؟ قال: لا قال: فإياه فارحم. ووقع فخر الملك في قصة رجل سعى برجل: السعاية قبيحة ولو كانت صحيحة فلئن كنت أخرجتها بالنصح فخسرانك فيها أكثر من الربح وإنا لا ندخل في محظور ولا نسمع قول مهتوك في مستور. ولولا أنك في خفارة شيبك لقابلناك على جريرتك مقابلة تشبه أفعالك وتروع أمثالك فاستر على نفسك هذا العيب واتق من يعلم الغيب فإن الله تعالى للصالح والطالح بالمرصاد. وكتب بعض الناس إلى محمد بن جعفر إن فلانًا قد توفي وخلف خمسين ألف دينار وعقارًا بخمسين ألف دينار وخلف طفلا فإن رأى الوزير أن يستقرض هذا المال إلى وقت بلوغ الصبي ويحفظ عليه ضياعه فعل فكتب على ظهر السعاية: «أما المتوفى رحمه الله والطفل جبره الله والمال ثمره الله والساعي لعنه الله ولا حاجة لنا إلى مال الأيتام». وسب رجل بعض العلماء. فقال: إياك أعني. فقال: وعنك أغضي. وقال الفضيل: الرجل يقول سبحان الله وأخشى عليك بذلك وهو الذي يستمد الغيبة إذا سمعها. قلت: ولأنه جعل اسم الله وتنزيهه آلةً في تحقيق خبثه، ولأن في ذلك تنبيه للغافل عن الغيبة وزيادة نشاط للمغتاب. وقيل: إذا رأيت الذي يغتاب الناس ويقع في أعراضهم فاحرص على أنه لا يعرفك فأشقى الناس به من عرفه والسالم من لا يعرفه الغياب. ولا بَيْنَه وُدٌّ به نَتعَرَّفُ جَزَى الله عَنَّا الخَيْرَ مَن لَيْس بَيْنَنَامِن اَلْنَاسِ إلاَّ مَنْ نَودُّ وَنَعْرِفُ فَمَا سَامَنَا ضَيْمًا ولا شَفَّنا أذَىفائدة في معالجة حب الدنيا المستغرق للوقتاعلم أن حب الدنيا يندر من يسلم منه وهو ينبعث من طول الأمل؛ لأن الإنسان يقول الأيام بين يدي وأفعل غدًا كذا، وبعد غدٍ سأفعل وأتمتع بالدنيا والتوبة مفتوح بابها وتتمادى به الأيام في جمع الأموال وبناء القصور ونحو ذلك وتتشعب آماله إلى أن ينسى أن النفس الواحد يبعده من الدنيا ويدنيه من الآخرة. ويُدْنِي الْمَنَايَا لِلنُّفوسِ فَتَقْرُبُ وما نَفَسٌ إلاَّ يُبَاعِدُ مَوْلِدًا ولكن من العلاج النافع أن يقول الموت ليس بيدي فكيف اعتمد على الحياة فربنا قضى والموت لا يتأخر بكراهتي قال الله جل وعلا فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ، وقال عز من قائل: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا. ومن ذلك أن يقول: هبني جمعت الدنيا أليس عند الموت أترك ذلك وأسأل عنه ويتمتع فيه غيري فلما لا أفكر في ذلك أجمع الدنيا لغيري وأبوء بحسابها وأضرارها، وأكون كما قال الشاعر: ويَهْلِكُ غَمَّاً وَسْط ما هُوَ نَاسِجُ كَدُوْدٌ كَدُود القَزِّ يَنْسِجُ دَائِمًا آخر: لِوَارثِهِ ويَدْفَعُ عن حِمَاهُ وذِي حِرصِ تَرَاهُ يُلمُّ وَفرًا فَرِيْسَتَهُ لِيأْكُلَها سِوَاهُ كَكلْبِ الصَّيَّد يُمْسِكُ وهُو طَاوٍومن العلاج أن يعلم أن من كانت دنياه أكثر حسرته أشد وخوفه أعظم بخلاف من كان أخف منه دنيا فأمره أسهل فصاحب الألفين أشد حسابًا من صاحب الألف وهلم جرا. ومن العلاج زيارة المقابر والنظر في مصارع الآباء والأمهات والأخوة والأخوات وسائر القرابات والأقران والزملاء والأصدقاء ويزور المستشفيات والمرضى والسجون والمستوصفات ليشكر الله على نعمه العظيمة.وَبَادِرْ فإنَّ الْمَوتَ لا شَكَّ نَازِلُ تَزَوَّدْ مِن الدُنَيا فإنكِ رَاحِلٌآخر: وَسَاقَهُمُ نحو المنايَا الْمَقَادِرُ خَلَتْ دُورُهُم منهم وَأَقْوَتْ عِرَاصُهُموَضَمَّهُمُ تَحْتَ التُّرَابِ الْحَفَائِرُ وخَلَّوْا عَن الدُّنْيَا وما جَمَعُوا لهاآخر: وَأَصْحَابُهَا تَحْتَ التُّراب خُفُوتُ وَعَضَتَكَ أجْدَاثٌ وهُنَّ صُمُوْتلِمَنْ تِجْمَعِ الدُّنْيَا وأنْتَ تَمُوتُ أيَا جَامِعَ الدُّنْيَا ومُهْمِلَ نَفْسِهِومن العلاج أن ينظر الإنسان إلى جسمه وانحلال قواه واشتعال الشيب الذي هو بريد الموت وضعف نظره وسمعه وتقارب خطاه وسقوط أسنانه. وتَقْصُرُ خُطْواتٌ ويَثْقُلُ مَسْمَعُ تسَاقَطُ أسْنِانٌ ويَضْعُفُ ناظِرٌومن العلاج أن تقول الرسل أعلم مني قنعوا بالقوت ورضوا بالكفاف وما طلبوا الدنيا فلماذا أنهمك فيها وأحرق نفسي وأغفل عن ما قدامي من الأهوال والعظائم التي أنا مقبل عليها في الآخرة. أين الملوك أين الجبابرة أين الطغاة وأعوانهم انظري يا نفس هل بقي منهم أحد قال تعالى: هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا. ومن العلاج أن تقول نفرض أنك ملكت الدنيا بأسرها وصفا لك عذبها ولالها وأدركت الأماني أليس آخر ذلك الموت وعاقبته الفوت فلماذا تحرق نفسك في طلب ما هو عارية ووديعة ولا تذهب إلا بالكفن فقط. وما قَدْ حَوَاهُ مِنْ زَخَارِفَ تَخْدَعُ فَقُلْ لِلَّذي قد غَرَّهُ طول عُمْرِِهتَجِدْ كُلَّ ما فِيْهَا وَدَائعَ تَرْجِعُ أَفِقْ وانظُرْ الدُّنيا بعَيْنِ بَصِيْرَةٍآخر: وَلا بُدَّ يَومًا أنْ تُردَّ الوَدَائِعُ وما المالُ والأَهْلُونَ إلاَّ وَدَائِعٌآخر: وَإِنَّمَا أَنْتَ مِثْلَ النَّاسِ مَغْرُورُ هَوِّنْ علَيْكَ فَمَا الدُّنيا بِدَائِمَةٍلم يُمْسِ منهُمْ لَبيبٌ وَهْوَ مَسْرُورُ وَلَو تَصَوَّرَ أهلُ الدهْرِ صُورَتَهُآخر: يَكُون بكاء الطِّفْلِ سَاعَةَ يُوْلَدُ لَمَا تُؤْذِنُ النُّيابه مِنْ صُرُوْفِهَاآخر: رِدَاءانِ تُطْوى فِيْهِمَا وحَنُوطُ نَصِيْبُكَ مِمَّا تَجْمَعُ الدَّهْرَ كُلَّهُفصلعن إبراهيم التيمي قال: ينبغي لمن لا يحزن أن يخاف أن يكون من أهل النار لأن أهل الجنة قالوا: «الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن» وينبغي لمن لم يشفق أن يخاف أن لا يكون من أهل الجنة لأنهم قالوا: «إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين». وعن الفضيل بن عياض قال: قيل لسليمان التيمي أنت وأنت أي يثنون عليه. قال: لا تقولوا هكذا فإني لا أدري ما يبدو لي من ربي عز وجل سمعت الله عز وجل يقول: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وإني أخشى أن يبدو لي من الله ما لم أكن أحتسب. وعن عكرمة عن محمد بن المنكدر أنه جزع عند الموت فقيل له: لِمَ تجزع فقال: أخشى آية من كتاب الله عز وجل. قال الله تعالى: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وإني أخشى أن يبدو لي من الله ما لم أكن أحتسب. قلت: وفيه آيات أخرى ينبغي أن تكون نصب عيني العاقل اللبيب وذلك قوله تعالى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وقوله تعالى: هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ، وقوله: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ وقوله جل وعلا وتقدس: لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ. وقال عبد الأعلى التيمي شيئان قطعا عني لذة الدنيا ذكر الموت والوقوف بين يدي الله عز وجل. وعن أبي إسحاق قال: أوى أبو ميسرة عمرو بن شرحبيل إلى فراشه فقال: يا ليت أمي لم تلدني فقالت له امرأته: أبا ميسرة أليس الله قد أحسن إليك هداك للإسلام وفعل بك كذا قال بلى ولكن الله أخبرنا أنا واردون على النار ولم يبين لنا أنا صادرون عنها. وقال الحسن: إن المؤمن يصبح حزينًا ويمسي حزينًا وينقلب باليقين في الحزن ويكفيه ما يكفي العنيزة الكف من التمر والشربة من الماء. وقال حبيب ابن أبي ثابت ما استقرضت من أحد شيئا أحب إلي من نفسي أقول لها أمهلي حتى يجيء من حيث أحب. شعراًعلى شَهَواتِ النَّفْسِ فِيْ زَمَنِ العُسْرِ إذا رُمتَ أنْ تَسْتَقْرِضَ المالَ مُنْفِقًاعَلَيْكَ وإنْضَارا إِلَىْ زَمَن اَلْيُسْرِ فَسَلْ نَفْسَكَ الإنْفَاقَ مِن كَنْزِ صَبْرِهافَكُلّ مَنَوُع بَعْدَها وَاسِعُ اَلْعُذْرِ فَإنْ فَعَلَتْ كُنْتَ الغَنيَّ وإنْ أبَتْ وقال الثوري: ما ضرهم ما أصابهم في الدنيا جبر الله لهم كل مصيبة بالجنة. وسأل رجل سفيان الثوري فلم يكن معه ما يعطيه فبكى سفيان فقال له مسعر بن كدام: ما يبكيك؟ قال: وأي مصيبة أعظم من أن يؤمل فيك رجل خيرًا فلا يصيبه عندك. وبكى ثابت حتى كادت عينه تذهب فجاءوا برجل يعالجها فقال الرجل أعالجها على أن تطيعني قال: وأي شيء؟ قال: على أن لا تبكي قال: فما خيرهما إن لم تبكيا وأبى أن يعالجها. وكان شقيق بن سلمة إذا صلى في بيته ينشج -أي يخشع ويبكي- ولو جعلت له الدنيا على أن يفعله وأحد يسمعه أو يراه ما فعله - أي يخشى من الرياء-. روى شداد بن أوس أن النبي ﷺ قال: «أخوف ما أخاف على أمتي الرياء». وكان عمرو بن عتبة بن فرقد يخرج على فرسه ليلا إلى المقبرة فيقف على القبور فيقول: يا أهل القبور قد طويت الصحف وقد رفعت الأعمال ثم يبكي ويصف قدميه حتى يصبح فيرجع فيشهد صلاة الصبح. وقالت امرأة حسان بن سنان كان يجيء فيدخل معي في فراشي ثم يخادعني كما تخادع المرأة صبيها فإذا علم أني نمت سل نفسه فخرج ثم يقوم فيصلي قالت: فقلت له: يا أبا عبد الله كم تعذب نفسك أرفق بنفسك فقال: اسكتي ويحك فيوشك أن أرقد رقدة لا أقوم منها زمانًا.عن عبد الله بن المبارك قال: حدثنا وهيب قال: ما اجتمع قوم في مجلس أو ملأ إلا كان أولاهم بالله الذي يفتتح بذكر الله حتى يفيضوا في ذكره وما اجتمع قوم في مجلس أو ملأ إلا كان أبعدهم من الله الذي يفتتح بالشر حتى يخوضوا فيه، وفي الحديث: «طوبى لمن كان مفتاحًا للخير مغلاقًا للشر وويل لمن كان مفتاحًا للشر مغلاقًا للخير». فصلكتب عمر بن عبد العزيز إلى سالم بن عبد الله أن اكتب إلي بشيء من رسائل عمر بن الخطاب فكتب أن يا عمر اذكر الملوك الذين تفقأت أعينهم الذين كانت لا تنقضي لذاتهم وانفقأت بطونهم التي كانوا لا يشبعون بها وصاروا جيفًا في الأرض وتحت أكنافها أن لو كانت إلى جنب مسكين لتأذى بريحهم. وقال بلال بن سعد رب مسرور مغبون ورب مغبون لا يشعر فويل لمن له الويل ولا يشعر يأكل ويشرب ويضحك ويلعب وقد حق عليه في قضاء الله أنه من أهل النار. عن عون بن عبد الله بن عتبة أنه كان يقول يا ويح نفسي كيف أغفل ولا يغفل عني أم كيف تهنيني معيشتي واليوم الثقيل ورائي أم كيف يشتد عجبي بدار في غيرها قراري. وكان داود الطائي في دار واسعة خربة ليس فيها إلا بيت وليس على بيته باب فقال بعض القوم أنت في دار وحشة فلو اتخذت لبيتك هذا بابا أما تستوحش فقال حالت وحشة القبر بيني وبين وحشة الدنيا. وقال محمد بن كعب: الدنيا دار فناء منزل بلغة رغبت عنها السعداء وأسرعت من أيدي الأشقياء فأشقى الناس بها أرغب الناس فيها وأسعد الناس فيها أزهد الناس بها هي المعذبة لمن أطاعها المهلكة لمن اتبعها الخائنة لمن انقاد لها علمها جهل وغناؤها فقر وزيادتها نقصان وأيامها دول. وعن بكر بن محمد قال: قلت لداود الطائي أوصني، قال: عسكر الموتى ينتظرونك. وقال أبو حازم: من عرف الدنيا لم يفرح فيها برخاء ولم يحزن على بلوى. وقال ابن المبارك: أهل الدنيا خرجوا من الدنيا قبل أن يتطعموا أطيب ما فيها. قيل له: وما أطيب ما فيها. قال المعرفة بالله عز وجل. وقال شداد بن أوس t: إنكم لم تروا من الخير إلا أسبابه ولم تروا من الشر إلا أسبابه الخير كله بحذافيره في الجنة والشر كله بحذافيره في النار وإن الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر والآخرة وعد صادق يحكم فيها ملك قاهر ولكل بنون فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا. وقال عمر بن ذر: اعملوا لأنفسكم رحمكم الله في هذا الليل وسواده فإن المغبون من غبن خير الليل والنهار والمحروم من حرم خيرهما وإنما جعلا سبيلا للمؤمنين إلى طاعة ربهم ووبالاً على الآخرين للغفلة عن أنفسهم فأحيوا لله أنفسكم بذكره. فإنما تحيا القلوب بذكر الله كم من قائم في هذا الليل قد اغتبط بقيامه في حفرته وكم من نائم في هذا الليل قد ندم على طول نومه عند ما يرى من كرامة الله عز وجل للعابدين غدًا فاغتنموا ممر الساعات والليالي والأيام. وقال رجل لداود الطائي أوصني فدمعت عيناه ثم قال له: يا أخي إنما الليل والنهار مراحل تنزل بالناس مرحلة مرحلة حتى ينتهي بهم ذلك إلى آخر سفرهم فإن استطعت أن تقدم في كل يوم مرحلة زادا لما بين يديك فافعل. فإن انقطاع السفر عن قريب والأمر أعجل من ذلك فتزود لسفرك واقض ما أنت قاض من أمرك فكأنك بالأمر قد بغتك إني لأقول هذا وما أعلم أحدًا أشد تضييعًا مني لذلك ثم قام. وجاء داود الطائي أحد أصحابه بألفي درهم وقال: هذا شيء جاء الله به لم تطلبه ولم تشره له نفسك. قال داود: إنه لمن أمثل ما يأخذون قال فما يمنعك منه قال: لعل تركه أن يكون أنجى. وقال محمد بن واسع: لقد أدركت رجالاً كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة قد بل ما تحت خده من دموعه لا تشعر به امرأته ولقد أدركت رجالاً يقوم أحدهم في الصف فتسيل دموعه على خده ولا يشعر به الذي إلى جنبه. وقال سلمان الفارسي t أضحكني ثلاث وأبكاني ثلاث: ضحكت من مؤمل الدنيا والموت يطلبه وغافل لا يغفل عنه وضاحك ملء فيه لا يدري أمسخط ربه أم مرضيه؟!وأبكاني ثلاث: فرقة الأحبة محمد وحزبه وهول المطلع عند غمرات الموت والوقوف بين يدي رب العالمين حين لا أدري إلى النار انصرافي أم إلا الجنة. وقال أحد السلف: لأن أعلم أن الله تقبل مني مثقال حبة من خردل أحب إلي من الدنيا وما فيها لأن الله تعالى يقول: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. وقال إبراهيم التيمي: مثلت نفسي في النار أعالج أغلالها وسعيرها وآكل من زقومها وأشرب من حميمها فقلت: يا نفسي أي شيء تشتهين؟ قالت: أرجع إلى الدنيا أعمل عملا أنجو من هذا العذاب. ومثلت نفسي في الجنة مع حورها ألبس من سندسها وإستبرقها وحريرها فقلت: يا نفس أي شيء تشتهين؟ قالت: أرجع إلى الدنيا فأعمل عملا أزداد به من هذا الثواب، فقلت: الآن أنت في الدنيا، وفي الأمنية. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وسلم.فصلكان الفقهاء يتواصون بينهم بثلاث ويكتب بذلك بعضهم إلى بعض من عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته ومن أصلح فيما بينه وبين الله أصلح الله تعالى فيما بينه وبين الناس. وقال محمد بن كعب القرظي: إذا أرد الله تعالى بعبد خيرًا جعل فيه ثلاث خلال: فقه في الدين وزهادة في الدنيا وبصر بعيوبه. وقال الحسن بن صالح: العمل بالحسنة قوة في البدن ونور في القلب وضوء في البصر والعمل بالسيئة وهن في البدن وظلمة في القلب وعمى في البصر. وكتب الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز يعظه: احتمال المؤنة المنقطعة التي تعقبها الراحة الطويلة خير من تعجل راحة منقطعة تعقبها مؤنة باقية وندامة طويلة. واعلم أن الهول الأعظم أمامك ومن وراء ذلك داران إن أخطأتك هذه صرت إلى هذه وكأنك بالدنيا لم تكن وبالآخرة لم تزل. وكتب أحد عمال عمر بن عبد العزيز إليه: "إن مدينتنا قد تهدمت فإن رأى أمير المؤمنين، أن يقطع لنا مالا نرمها به فعل فكتب عمر إليه إذا قرأت كتابي هذا فحصنها بالعدل ونق طرقها من الظلم فإنه عمارتها". وقيل الدين والملك أخوان توأمان لا قوام لأحدهما إلا بصاحبه لأن الدين أساس الملك ثم صار الملك بعد حارسًا للدين فلا بد للملك من أساس ولا بد للدين من حارس وما لا حارس له فهو ضائع وما لا أساس له فهو مهدوم. كان جماعة من الملوك يوعظون فيؤثر الوعظ في قلوبهم فيخرجون من ملكهم ودنياهم ويزهدون وكان فيهم من يتفكر في نفسه ويعلم انقطاع الدنيا عنه وقرب رحيله منها ويخاف شدة الحساب وأهوال القيامة وما إلى ذلك فينفر من الدنيا ويزهد في الولاية وكل من تدبر القرآن وتأمل أحوال من مضى لا بد أن يتأثر ويتجافى عن الدنيا ولكن مقل ومكثر إلا من عميت بصيرته. شعراً :وُسِّدْتَ بَعْدَ الْمَوتِ صُمَّ الجَنْدَلِ يَا خَدُّ إنَّكَ إنْ تُوَسْدَ لَيِّنًافَلْتَنْدَمَنَّ غَدًا إذا لم تَفْعَلِ فَامْهَدْ لِنَفْسِكَ صَالِحًا تَسْعَدْ بِهِقال تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، وقال تعالى: أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ وقال: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ. قال تعالى: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا، وقال: وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ. روى ابن مسعود t قال: بينما رجل ممن كان قبلكم في مملكته تفكر فعلم أن ذلك منقطع عنه، وأن الذي هو فيه قد شغله عن عبادة ربه تعالى فخرج ذات ليلة من قصره فأصبح في مملكة غيره فأتى ساحل البحر وكان يضرب اللبن بالأجرة فيأكل ويتصدق بالفضل من قوته فلم يزل كذلك حتى رفع أمره إلى ملك تلك الناحية. فأرسل الملك إليه أن يأتيه فأبى فأعاد إليه الرسول فأبى وقال: مالك وإياي فركب الملك فلما رآه الرجل ولى هاربًا فلما رأى ذلك الملك جد في أثره فلم يدركه فناداه يا عبد الله إنه ليس عليك مني بأس فأقام حتى أدركه. فقال له: من أنت يرحمك الله قال فلان ابن فلان صاحب كذا وكذا فقال: وما شأنك؟ فقال: تفكرت في أمري فعلمت أن ما أنا فيه منقطع عني لا محالة وأنه قد شغلني عن عبادة ربي فتركته وجئت هنا أعبد ربي عز وجل. فقال: ما أنت بأحوج إلى ما صنعت مني فنزل عن دابته فسيبها وإلى ثيابه فألقى بها ثم أتبعه فكانا جميعًا فدعوا الله تعالى أن يميتهما جميعًا فماتا قال ابن مسعود ولو كنت برملية مصر لأريتكم قبريهما بالنعت الذي نعت لنا رسول الله ﷺ رواه أحمد وأبو يعلى بنحوه. على الخَير قد أضْنَى فُؤادِي عِلاَجُهَا إِلَىْ الله أَشكْوُ لَوَمَ نَفْسٍ شَحِيْحَةأَدَامَتْ سُؤالي وَاسْتَمَرَّ لِجَاجُهَا إذا سَألَتْنِي شَهْوة قَدْ مَنَعْتُهَاغَدًا نَفَرتْ مِنّي وَدَامَ انْزِعَاجُهَا وإنْ سُمْتُهَا خَيْرًا تَفْوزُ بِنَفْْعِهِعليَّ الأراضِي الوَاسِعَاتِ فِجَاجُهَا فَقَدْ ضِقْتُ يا مَولاَي ذَرْعًا وَأَظْلَمَتْيُضيْءُ لِعَيْني فِيْ السُلُوكَ سِرَاجُهَا فَهَبْ ليَّ يا نُوار اَلْسَمَواتِ فِطْرةًوالله أعلم وصلى الله على محمد وآله وسلم.فصلثم اعلم أن الدنيا بأسرها وبجميع لذاتها لا تساوي في باب السعادة واللذة الروحية شيئا. قال الإمام علي t: أصاب الدنيا من حذرها وأصابت من أمنها، وقال الدنيا لا تصفو لشارب ولا تبقي لصاحب ولا تخلو من فتنة ولا تنكشف إلا عن محنة. فأعرض بقلبك عنها قبل أن تعرض عنك واستبدل بها خيرًا منها قبل أن تستبدل بك فإن نعيمها متحول وأحوالها متنقلة ولذاتها فانية وتبعاتها باقية. واعلم أن مثل الدنيا كمثل الحية لين مسها قاتل سمها فاقتصد فيما يعجبك فيها لقلة ما يصحبك منها وكن أحذر ما تكون لها وأنت آنس بها فإن صاحبها كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصه ذلك إلى مكروه أو غرور. وقال آخر: وجملت الأمر أنك إذا نظرت بعقلك أيها الرجل فعلمت أن الدنيا لا بقاء لها وأن نفعها لا يفي بضرها وتبعاتها من كد البدن وشغل القلب في الدنيا والعذاب الأليم والحساب الطويل في الآخرة الذي لا طاقة لك به. فإذا علمت ذلك جدًا زهدت في فضول الدنيا فلا تأخذ منها إلا ما لا بد لك منه في عبادة ربك وتدع التنعم والتلذذ إلى الجنة دار النعيم المقيم في جوار رب العالمين الملك القادر الغني الكريم وعلمت أن الخلق لا وفاء لهم، قال الواصف لحال أهل وقته: وأعْوَزَ الصِّدْقَ فِيْ الأخْبَار والقَسَم غَاضَ َاْلوَفَاءُ فَما تَلْقَاهُ فِيْ عِدَّةًوعلمت أن مؤنة الخلق أكثر من معونتهم فيما يعنيك وتركت مخالطتهم إلا فيما لا بد لك منه تنتفع بخيرهم وتجتنب من ضرهم وتجعل صحبتك لمن تربح في صحبته ولا تخسر ولا تندم على خدمته، وأنسك بكتابه وملازمتك إياه. فَفْيهِ الهُدَى حَقًا ولِلْخَيْرِ جَامِعُ فَشَمِّرْ وَلُذْ بالله واحْفَظْ كِتَابَهُومِنْهُ بِلا شَكٍ تُنَالُ المَنَافِعُ هُوَ الذَّخْرُ لِلْمَلْهُوفِ والكَنْزُ والرَجَابِهِ يَتْسَلَّى مَنْ دَهَتْهُ الفَجَائِعُ بِهِ يَهْتَدِي مَنْ تَاهَ فِيْ مَهْمَهِ الهَوىفترى منه كل جميل وإفضال وتجده عند كل نائبة في الدنيا والآخرة كما في الحديث: «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك»، وفي رواية: «تجده أمامك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة» الحديث. واعلم أن الشيطان خبيث قد تجرد لمعاداتك فاستعذ بربك القادر القاهر من هذا الكلب اللعين ولا تغفل عن مكائده فتطرده بذكر الله والاستعاذة من شره. فإنه يسير إذا ظهرت منك عزيمة صادقة وأنه كما قال الله تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. وقال آخر: ما الدنيا وما إبليس، أما الدنيا فما مضى منها فحلم وما بقي فأماني، وأما الشيطان فوالله لقد أطيع فما نفع بل ضر، ولقد عصي فما ضر. وعلمت جهالة هذه النفس وجماحها إلى ما يضرها ويهلكها فنظرت إليها رحمة لها نظرة العقلاء والعلماء الذي ينظرون في العواقب. لأنظر الجهال والصبيان الذين ينظرون في الحال ولا يفطنون لغائلة الأذى وينفرون من مرارة الدواء فألجمها بلجام التقوى بأن تمنعها عما لا تحتاج إليه بالحقيقة من فضول الكلام والنظر والتلبيس بخصلة فاسدة من طول أمل أو حسد أو كبر أو نحو ذلك. ثم اعلم أن الشيطان قاسم أباك وأمك حواء إنه لهما لمن الناصحين، وقد علمت كذبه وغشه ورأيت فعله بهما وأما أنت فقد أقسم أن يغويك قال: فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ فاحذره وشمر عن ساق الجد في الفرار عن مكائده والعجب ممن يصدق في عداوته ويتبع غوايته. حُبِّ الرَّضَاعِ وإنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِمِ والنَّفْسُ كَالْطِفْلِ إنْ تُهْمِلْهُ شَبَّ عَلىوإنْ هي اِسْتَحْلَتْ المَرْعَى فَلا تُسِمِ وَرَاعِهَا وهي فِيْ الأعْمَالِ سَائِمَةًمِنْ حَيثُ لم يَدْرِ أنْ السُّمَّ فِيْ الدَّسَمِ كَمْ حَسَّنَتْ لَذّةً لِلْمَرْءِ قَاتِلَةً وإن هما مَحَّضاكَ النُّصْحَ فَاتَّهِمِ وخَالِفِ النَّفْسَ والشَيْطَان َواعْصِهِمَامِنْ الْمَحَارِمِ والْزَمْ حِمْيَةَ النَّدَمِ واَسْتَفْرِغِ الدَّمْعَ مِنْ عَينِ قَدْ امْتَلأتْقال في الفنون: من عجيب ما نقدت من أحوال الناس كثرة ما ناحوا على خراب الديار وموت الأقارب والأسلاف والتحسر على الأرزاق بذم الزمان وأهله وذكر نكد العيش فيه. وقد رأوا من انهدام الإسلام وشعث الأديان وموت السنن وظهور البدع وارتكاب المعاصي وتقضي العمر في الفارغ الذي لا يجدي والقبيح الذي يوبق ويؤذي فلا أجد منهم من ناح على دينه ولا بكى على فارط عمره ولا آسى على فائت دهره.وما أرى لذلك سببًا إلا قلة مبالاتهم بالأديان وعظم الدنيا في عيونهم ضد ما كان عليه السلف الصالح يرضون بالبلاغ وينوحون على الدين. قلت: فكيف لو رأى أهل هذا الزمن الذي كثرت فيه المعاصي والملاهي وانفتحت فيه الدنيا على كثير من الناس فلا حول ولا قوة إلا بالله. ومن عجيب ما رأيت أنا أن أحدنا إذا ناداه أمير أو وزير أو مساعد أو مدير يبادر ويقوم بسرعة لداعي الدنيا ولا يتأخر ويسمع داعي الله يدعوه إلى الصلاة التي هي الصلة بينه وبين ربه جل وعلا وتقدس فيتثاقل ولا يهتم لها، وإن قام بعد التريث فكأنه مكره يدفع إليها دفعًا عكس ما عليه السلف الصالح من المبادرة والمرابطة وترك الأعمال فورًا عند ما يسمعون «حي على الصلاة حي الفلاح»، وكثير من المساجد عندهم تجد الصف الأول يتم قبل الأذان وقد ازداد الطين بلة بما حدث عندنا من المنكرات قتالة الأوقات، مفرقة النفوس والأبدان، ومشتت القلوب، وذلك كالتلفزيون والمذياع والفيديو والجرائد والمجلات ومخالطة المنحرفين والفاسقين والمنافقين والكافرين والمجرمين أبعدهم الله. فَمَا تَبيْنُ ولا يَعْتاقُها نَصَبُ سَيْرُ المَنَايَا إِلَىْ أَعْمَارِنا خَبَبُبِذَبْحِنَا بِمُدىَّ ليْسَتْ لهَا نُصُبُ كَيْفَ النَّجَاُء وأيِديهَا مُصَمِّمَتٌسَفَرٌ لَهُمْ كُلّ يَوْمٍ رِحْلَةٌ عِجِبُ وهَلْ يُؤمِّلُ نَيْلَ الشَّمْلِ مُلْتَئمًافِيهِ بِنَا مُذْ سَكَنَّا رَبْعَهُ نُوَبُ ومَا إقَامَتُنَا فِيْ مَنْزلٍ هَتَفَتْبِأَنْهُ عَنْ قَرِيبً دَاثِرٌ خَرِبُ وآذَنْتَنَا وَقَدْ تمَّت عِمَارَتُهُإلا لِرَيْبِ اَلْمَنَايَا عِنْدَهُ أرَبُ أزْرَت بنا هذِهِ الْدُّنْيا فَمَا أمَلٌ وَهَلْ تَطِيشُ سِهَامٌ كُلُّهَا نُصُبُ هذا وليسَتْ سِهَامُ اَلْمَوْتِ طَائِشةًقَبْلَ اَلْمَمَاتِ فَمَرمِي ومُرْتَقِبُ ونَحْنُ أَغْرَاضُ أَنْوَاعِ البَلاء بهاصَاحتْ بِهِمْ نَائِباتُ الدَّهْرْ فانْقَلبُوْا أَيْنَ الذِينَ تَنَاهَوْا فِيْ ابْنِتَائِهِمُواقال ابن القيم رحمه الله: كل آفة تدخل على العبد فسببها ضياع القلب وفساد القلب يعود بضياع حقه من الله تعالى ونقصان درجته ومنزلته عنده. ولهذا أوصى بعض الشيوخ فقال: احذروا مخالطة من تضيع مخالطته الوقت وتفسد القلب فإن ضاع الوقت وفسد القلب انفرطت على العبد أموره كلها وكان ممن قال الله فيه: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا. ومن تأمل حال هذا الخلق وجدهم كلهم إلا أقل القليل ممن غفلت قلوبهم عن ذكر الله تعالى الذي به تحيا القلوب وتطمئن واتبعوا أهواءهم وصارت أمورهم ومصالحهم فرطًا، أي فرطوا فيما ينفعهم ويعود عليهم بمصالحهم، واشتغلوا بما لا ينفعهم بل بما يعود بضررهم عاجلا وآجلا.وهؤلاء قد أمر الله سبحانه رسوله ألا يطيعهم فطاعة الرسول ﷺ لا تتم إلا بعدم طاعة هؤلاء لأنهم إنما يدعون إلى ما يشاكلهم من اتباع الهوى والغفلة عن ذكر الله. والغفلة عن ذكر الله والدار الآخرة متى تزوجت باتباع الهوى تولد بينهما كل شر وكثيرًا ما يقترن أحدهما بالآخر ولا يفارقه. ومن تأمل فساد أحوال العالم عمومًا وخصوصًا وجده ناشئا عن هاذين الأصلين فالغفلة تحول بين العبد وبين تصور الحق ومعرفته والعلم به فيكون بذلك من الضالين، واتباع الهوى يصده عن قصد الحق وإرادته واتباعه، فيكون من المغضوب عليهم. وأما المنعم عليهم فهم الذين من الله تعالى عليهم بمعرفة الحق علما وبالانقياد إليه وإيثاره عما سواه عملا وهؤلاء هم الذين على سبيل النجاة ومن سواهم على سبيل الهلاك. ولهذا أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نقول كل يوم وليلة عدة مرات: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ . فإن العبد مضطر كل الاضطرار إلى أن يكون عارفًا بما ينفعه في معاشه ومعاده وأن يكون مؤثرًا مريدًا لما ينفعه مجتنبا لما يضره فبمجموع هذين قد هدي إلى الصراط المستقيم فإن فاته معرفة ذلك سلك سبيل الضالين. وإن فاته قصده واتباعه سلك سبيل المغضوب عليهم وبهذا تعرف قدر هذا الدعاء العظيم وشدت الحاجة إليه وتوقف سعادة الدنيا والآخرة عليه. وقال آخر : حافظ على الأوقات فإن الوقت رأس المال ولا تضعيها بالفراغ واملأها بالإفادة أو الاستفادة أو بهما جميعًا واعرف ما يذهب به ليلك ونهارك وجدد توبتك في كل وقت. وقسم وقتك ثلاثة أقسام قسم لطلب العلم وقسم للعمل الذي تستعين به على مصالح دنياك وآخرتك وقسم لحقوق نفسك وما يلزمك واعتبر بمن مضى وتفكر في منصرف الفريقين بين يدي الله جل وعلا وتقدس فريق في الجنة وفريق في السعير. واستحضر قرب الله منك كما في الحديث «فإن لم تكن تراه فإنه يراك» وأكرم الكتبة الحافظين فقد أوصى رسول الله ﷺ بالجار من الناس الذي بينك وبينه جدار وأحجار فكيف بالجار الكريم الذين قال الله فيهم: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ. وقال جل وعلا وتقدس: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ. فرعاية جواره أحق وإكرامه قربه أوجب ؛ لأنه أسبق وألصق وليس بينك وبينه جدار ولا أحجار ولا حائل ومع الأسف الشديد أن الأذية لهما لا تفتر على مر الساعات ولكن مقل ومكثر. شعراً :كَرَمًا ولا تَكُ لِلْمُجاوِرِ عَقْرَبا كُنْ لَيِّنًا لِلْجارِ واحْفَظْ حَقْهُأبَدًا وعمًّا سَاءهُ فَتَجنَّبَا واحْفَظْ أمانَتَهُ وكُنْ عِزًا لَهُعلامة صحة الإرادة أن يكون هم المريد رضاء ربه واستعداده للقائه وحزنه على وقت في غير مرضاة ربه وأسفه على قربه والأنس به وجماع ذلك أن يصبح ويمسي وليس له هم غيره. وقال: أعظم الإضاعات إضاعتان هما أصل كل إضاعة: إضاعة القلب وإضاعة الوقت، فإضاعة القلب من إيثار الدنيا على الآخرة وإضاعة الوقت من طول الأمل. فاجتمع الفساد كله في اتباع الهوى وطول الأمل والصلاح كله في اتباع الهدى والاستعداد للقاء الله والله المستعان. الناس منذ خلقوا لم يزالوا مسافرين وليس لهم حط عن رحالهم إلا في الجنة أو النار والعاقل يعلم أن السفر مبني على المشقة وركوب الأخطار. ومن المحال عادة أن يطلب فيها نعيم ولذة وراحة إنما ذلك بعد انتهاء السفر ومن المعلوم أن كل وطأة قدم أو كل آن من آنات السفر غير واقفة ولا المكلف واقف. وقد ثبت أنه مسافر على الحال التي يجب أن يكون المسافر عليها من تهيئة الزاد الموصل وإذا نزل أو نام أو استراح فعلى قدم الاستعداد للسير. قال بعض العلماء: يا إخواني اجتهدوا في العمل فإن يكن الأمر كل نرجو من رحمة الله وعفوه كانت لنا درجات في الجنة وإن يكن الأمر شديدًا كما نخاف ونحاذر لم نقل: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ نقول: قد عملنا فلم ينفعنا. وقال رجل لمحمد بن المنكدر: الجَدَّ الجَدَّ والحذرْ الحذرْ فإن يكن الأمر على ما ترجون كان ما قدمتم فضلاً وإن يكن الأمر على غير ذلك لم تلوموا أنفسكم. فأنت أكْرَمُ مَنْ يَعْفُوْ ومَن صَفَحَا يارَبِّ صَفْحَكَ يَرجُو كُلُّ مُقْتَرِفٍ إلاّ رجَاءً ولُطْفًَا مِنْكَ إنْ نَفَحَا يارَبِّ لا سَبَبٌ أرْجُو الخَلاصَ بِهِإلاّ وجَدْتُ جَنابَ اللُطْفِ مُنْفَسِحَا فَمَا لَجَأتُ إِلَىْ رَبِّ بِمُعْضِلَةٍإلاّ تَفَرَّجَ بَابُ الضِيْقِ وانْفَتَحَا ولا تَضَايَقَ أمْرٌ فاسْتَجَرْتَ بِهِوقال بعضهم لبعض الفقراء مرة وقد رأى عليه أثر الجوع والضر: لِمَ لا تسأل الناس ليعطوك، قال: أخاف أن أسألهم فيمنعوني فلا يفلحوا، وقد بلغني عن النبي ﷺ أنه قال: «لو صدق السائل ما أفلح من منعه». المراحل التي يمر بها الخلق ستة: السفر الأول: سفر السلالة من الطين. السفر الثاني: سفر النطفة من الظهر إلى البطن. السفر الثالث: من البطن إلى الدنيا. السفر الرابع: من الدنيا إلى القبور. السفر الخامس: من القبور إلى العرض للحساب. السفر السادس: من العرض إلى منزل الإقامة. وقد قطعنا نصف السفر نسأل الله الإعانة والسداد على الباقي والله أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. فصلاختار أحد الحكماء أربع كلمات من أربع كتب من التوراة: من رضي بما أعطاه الله استراح في الدنيا والآخرة، ومن الإنجيل: من هدم الشهوات عز في الدنيا والآخرة، ومن الزبور: من تفرد عن الناس نجا في الدنيا والآخرة، ومن الفرقان: من حفظ اللسان سلم في الدنيا والآخرة. وعن عبد الله بن المبارك قال: إن رجلا حكيمًا جمع الأحاديث فاختار منها أربعين ألفا ثم اختار منها أربعة آلاف ثم اختار منها أربعمائة ثم اختار منها أربعين، ثم اختار منها أربع كلمات إحداهن لا تثقن بامرأة على كل حال، والثانية لا تغتر بالمال على كل حال، والثالثة لا تحمل معدتك ما لا تطيقه، والرابعة لا تجمع من العلم ما لا ينفعك. وروي عن عبد الله بن مسعود t قال: أربعة من ظلمة القلب، بطن شبعان من غير مبالاة وصحبة الظالمين، ونسيان الذنوب الماضية وطول الأمل. وأربعة من نور القلب، «بطن جائع من حذر» أي خشية أن يكون مما لا يحل له وصحبة الصالحين، وحفظ الذنوب الماضية، وقصر الأمل. وروي أن رجلاً خرج من بني إسرائيل إلى طلب العلم فبلغ ذلك نبيهم فبعث إليه فقال له يا فتى، أعظك بثلاث خصال، فيها علم الأولين والآخرين، خف الله في السر والعلانية، وأمسك لسانك عن الخلق لا تذكرهم إلا بخير، وانظر خبزك الذي تأكله حتى يكون من الحلال فامتنع الفتى عن الخروج، كان من قبلنا يتواصون بثلاث خصال من عمل لآخرته كفاه الله أمر دينه ودنياه، ومن أحسن سريرته أحسن الله علانيته، ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس. روي عن النبي ﷺ أنه خرج ذات يوم على أصحابه فقال: «كيف أصبحتم؟» فقالوا: أصبحنا مؤمنين بالله فقال: «وما علامة إيمانكم؟» قالوا: نصبر على البلاء ونشكر على الرخاء ونرضى بالقضاء فقال عليه الصلاة والسلام: «أنتم مؤمنون حقًا ورب الكعبة». شعراً:فَمَا لَهُم هِمَمٌ تَسْمُوا إِلَىْ أحَدِ قَوْمٌ هُمُومُهُمُوا بالله قَدْ عَلِقَتْيَا حُسْنَ مَطْلَبِهِمْ للواحِدِ الصَّمَدِ فَمَطْلبُ القَومِ مَوْلاهُمْ وسَيّدُهُمْمن الْمَطَامِعِ واَلْلذّاتِ واَلْوَلَدِ ما إن تَنَازَعَهُم دُنْيَا ولا شَرَفٌ ولا لِرَوْح سُرُورٍ حَلّ فِيْ بَلدِ ولا لِلُبْسِ نفيسٍ فائقٍ أنِقٍ يَحْظَى بِهَا مُخْلِصٌ لِلْواحدِ الأحَدِ إلا مُسَارَعَةً فِيْ نَيْلِ مَنْزلَةٍقيل لإبراهيم بن أدهم: بما وجدت الزهد ؟ قال: بثلاثة أشياء: رأيت القبر موحشًا وليس معي مؤنس ورأيت طريقًا طويلاً وليس معي زاد، ورأيت الجبار قاضيًا وليس معي حجة. حصون المؤمنين ثلاثة، المسجد حصن، وذكر الله حصن، وقراءة القرآن حصن. وسئل ابن عباس ما خير الأيام، فقال يوم الجمعة، قيل: وما خير الشهور قال: شهر رمضان، قيل: وما خير الأعمال؟ قال: الصلوات الخمس لوقتها. وقال علي: t خير الأعمال ما يقبل الله منك، وخير الشهور ما تتوب فيه إلى الله توبة نصوحًا، وخير الأيام ما تخرج فيه من الدنيا إلى الله تعالى مؤمنًا بالله. وكان t يتعوذ بالله من ألسنة تصف وقلوب تعرف وأعمال تخالف روي عن النبي ﷺ أنه قال: «حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء، وجعلت قرت عيني في الصلاة»، وكان معه أصحابه جلوسًا. فقال أبو بكر: صدقت يا رسول الله، وحبب إلي من الدنيا ثلاث النظر إلى وجه رسول الله وإنفاق مالي على رسول الله ﷺ وأن تكون ابنتي تحت رسول الله ﷺ. فقال عمر: صدقت يا أبا بكر، وحبب إلي من الدنيا ثلاث: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والثوب الخَلَق. فقال عثمان: صدقت يا عمر، وحبب إلي من الدنيا ثلاث، إشباع الجيعان وكسوة العريان، وتلاوة القرآن. فقال علي: صدقت يا عثمان وحبب إلي من الدنيا ثلاث الخدمة للضيق، والصوم في الصيف، والضرب بالسيف. فبينما هم كذلك إذ جاء جبريل، وقال: أرسلني الله تبارك وتعالى لما سمع مقالتكم وأمرك أن تسألني عما أحب إن كنت من أهل الدنيا فقال: إرشاد الضالين، ومؤانسة الغرباء القانتين، ومعاونة أهل العيال المعسرين. وقال جبريل: رب العزة جل جلاله يحب من عباده ثلاث خصال: بذل الاستطاعة والبكاء عند الندامة، والصبر عند الفاقة. وعن علي t أن أصعب الأعمال أربع خصال: العفو عند الغضب والجود في العسرة، والعفة في الخلوة، وقول الحق لمن يخافه، أو يرجوه. وفي الزبور أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: أن العاقل الحكيم لا يخلو من أربع ساعات، ساعة فيها يناجي ربه، وساعة فيها يحاسب نفسه، وساعة يمشي فيها إلى إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه، وساعة يخلي بين نفسه وبين لذاتها الحلال. وروي عن رسول الله ﷺ أنه قال: لأبي ذر الغفاري: «يا أبا ذر جدد السفينة فإن البحر عميق، وخذ الزاد كاملا، فإن السفر بعيد، وخفف الحمل فإن العقبة كوود، وأخلص العمل فإن الناقد بصير». شعراًوَلَمْ تَدْرِ فِيْ أيِّ المَكَانَيْنِ تَنْزِلُ وكَيْفَ تَنَامُ العَيْنُ وهي قَرِيْرَةٌآخر: يَطُولُ الثَّوى فِيْهَا ودَارُ شَقَاءِ أمامَكَ يا نَوْمَانُ دَارُ سَعَادَةٍ وكُنْ بَيْنَ خَوْفٍ مِنْهُمَا ورَجَاءِ خُلِقْتَ لإحْدى الغايَتَيْنِ فَلا تَنَمْوقال علي بن أبي طالب t: عليكم بخمس كلمات: لا يرجون أحدكم إلا ربه ولا يخافن إلا ذنبه ولا يستحي إذا لم يعلم شيئًا أن يتعلمه ولا يستحي إذا سئل عما لم يعلم أن يقول الله أعلم وعليكم بالصبر فإنه من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد. اعلم أنه يقدم الأهم فالأهم الأهم أمر الدين فليقدمه على أمر الدنيا والمقدم من أمر الدين صحة العقيدة بتوحيد الله وتحميده وتنزيهه وتقديسه واعتقاد انفراده واختصاصه بصفات الكمال. وتجرده عنه النقائص والعيوب كلها المتصلات والمنفصلات وتنزيهه عنها وأنه ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله وأنه له الأسماء الحسنى والصفات العلا والكمال المطلق من كل الوجوه. وعن بعض الحكماء أربعة حسن ولكن أربعة أحسن منها الحياء من الرجال حسن ولكنه من النساء أحسن، والعدل من كل أحد ولكنه من القضاة والأمراء أحسن. والتوبة من الشيخ حسن ولكنها من الشباب أحسن، والجود من الأغنياء حسن ولكنه من الفقير أحسن. وعند أحد الحكماء أربعة قبيح، لكن أربعة منها أقبح، الذنب من الشاب قبيح، وهو من الشيخ أقبح، والاشتغال بالدنيا من الجاهل قبيح، ومن العالم أقبح، والتكاسل في الطاعة من جميع الناس قبيح ومن العلماء وطلبة العلم أقبح، والتكبر عن الأغنياء قبيح ومن الفقراء أقبح. وعن علي :t من اشتاق إلى الجنة سارع إلى الخيرات، ومن تيقن الموت انهدمت عليه اللذات، ومن عرف الدنيا هانت عليه المصيبات. ومن أشفق من النار انتهى عن الشهوات. وقال عمر :t الهوى بحر الذنوب، والنفس بحر الشهوات، والموت بحر الأعمار، والقبر بحر الندامات. ونَسْكُنُ حِينَ تَخْفَي ذاهِباتِ نُرَاعُ إذا الجَنَائِزُ قَابَلَتْنَافَلَمَّا غَابَ عَادَتء رَاِتعاتِ كَرَوْعةِ ثُلّةٍ لِظُهورِ ذِئْبٍ وعن عثمان :t وجدت حلاوة العبادة في أربعة أشياء: أولها: في أداء فرائض الله، والثاني: في اجتناب محارم الله، والثالث: في الأمر بالمعروف ابتغاء ثواب الله، والرابع: في النهي عن المنكر اتقاء غضب الله. وقال أيضاً: أربعة ظاهرهن فضيلة وباطنهن فريضة، مخالطة الصالحين فضيلة والاقتداء بهم فريضة، وتلاوة القرآن فضيلة والعمل به فريضة، وزيارة القبور فضيلة والاستعداد للموت فريضة، وعيادة المريض فضيلة واتخاذ الوصية منه فريضة. وعن علي :t لا يزال الدين والدنيا قائمين ما دام أربعة أشياء، ما دام الأغنياء لا يبخلون بما خولوا، وما دام العلماء يعملون بما علموا، وما دام الجهلاء لا يستكبرون عما لم يعلموا، وما دام الفقراء لا يبيعون آخرتهم بدنياهم. وعن أبي بكر الصديق :t الظلمات خمس، والسرج لها خمس، حب الدنيا ظلمة والسراج له التقوى والذنب ظلمة والسراج له التوبة والقبر ظلمة والسراج له لا إله إلا الله محمد رسول الله، والآخرة ظلمة والسراج لها العمل الصالح، والصراط ظلمة والسراج له اليقين. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما خمس من كن فيه سعد في الدنيا والآخرة، أولها أن يذكر لا إله إلا الله محمدًا رسول الله وقتًا بعد وقت. وإذا ابتلي ببلية قال: إنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وإذا أعطي نعمة قال: الحمد لله رب العالمين شكرًا للنعمة. وإذا ابتدأ في شيء قال: بسم الله الرحمن الرحيم. وإذا أفرط منه ذنبًا قال: أستغفر الله العظيم وأتوب إليه. وعن سفيان الثوري أنه قال: اختار الفقراء خمسًا واختار الأغنياء خمسًا، اختار الفقراء راحة النفس، وفراغ القلب، وعبودية الرب، وخفة الحساب، والدرجة العليا. واختار الأغنياء تعب النفس وشغل القلب وعبودية الدنيا وشدة الحساب والدرجة السفلى. وقال بعضهم: العجلة تحسن في تجهيز الميت، وتزويج البنت إذا بلغت، وقطف الثمرة إذا استوت وقضاء الدين إذا وجب، والتوبة من الذنب إذا فرط، وإطعام الضيف إذا نزل. وقال عثمان :t إن المؤمن في ستة أنواع من الخوف، أحدها: من قبل الله تعالى أن يأخذ منه الإيمان، والثاني: من قبل الحفظة أن يكتبوا عليه ما يفتضح به يوم القيامة. والثالث: من قبل الشيطان أن يبطل عمله، والرابع: من قبل ملك الموت أن يأخذه في غفلة بغتة، والخامس: من قبل الدنيا أن يغتر بها وتشغله عن الآخرة، والسادس: من قبل الأهل والعيال أن يشتغل بهم فيشغلونه عن ذكر الله تعالى. وقال أيضًا: أضيع الأشياء عشرة: عالم لا يسأل عنه، وعلم لا يعمل به، ورأي صواب لا يقبل، وسلاح لا يستعمل ومسجد لا يصلى فيه، ومصحف لا يقرأ فيه، ومال لا ينفق منه، وخيل لا تركب، وعلم الزهد في بطن من يريد الدنيا، وعمر طويل لا يتزود صاحبه فيه لسفره. وقال إبراهيم بن أدهم حين سألوه عن قول الله تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ، وإنا ندعوه فلم يستجب لنا؟ فقال: ماتت قلوبكم من عشرة أشياء: أولها: أنكم عرفتم الله ولم تؤدوه حقه، وقرأتم كتاب الله ولم تعملوا به، وادعيتم عداوة إبليس وواليتموه. وادعيتم حب الرسول ﷺ وتركتم أثره وسنته، وادعيتم حب الجنة، ولم تعملوا لها، وادعيتم خوف النار ولم تنتهوا عن الذنوب، وادعيتم أن الموت حق ولم تستعدوا له، واشتغلتم بعيوب غيركم وتركتم عيوب أنفسكم وتأكلون رزق الله ولا تشكرونه، انتهى بتصرف يسير والله أعلم. موعظةقال بعضهم: يا أيها الناس اعملوا على مهل وكونوا من الله على وجل ولا تغتروا بالأمل ونسيان الأجل ولا تركنوا إلى الدنيا فإنها غدارة خداعة، قد تزخرفت لكم بغرورها، وفتنتكم بأمانيها، وتزينت لخطابها فأصبحت كالعروس المجلية، العيون إليها ناظرة، والقلوب عليها عاكفة، والنفوس لها عاشقة، فكم من عاشق لها قتلت. سِوَى مُوْمِسٍ أَفْنَتْ بِمَا سَاءَ عُمْرُهَا ولو كانَتِ اَلْدُّنْيَا مِن الإنْسِ لَمْ تَكُنْ آخر: بِمَا قَتَلتْ أوْلادَهَا لا تَزَوَّجُ ولو كانَتِ اَلْدُّنْيَا عَرُوسًا وجَدتَهَاوكم مطمئن إليها خذلت فانظر إليها بعين الحقيقة فإنها دار كثير بوائقها وذمها خالقها دار نفاد لا دار أخلاد ودار عبور لا دار حبور ودار فناء لا بقاء ودار انصرام لا دار دوام جديدها يبلى وملكها يفنى وعزيزها يذل وكثيرها يقل ودها يموت وخيرها يفوت. وقد تطابق على ما ذكر دلالات قواطع النقول وصحاح العقول والطغام وقضى به الحس والعيان حتى لم يقبل لوضوحه إلى زيادة في العرفان. إذا احْتَاجَ اَلْنَّهارُ إِلَىْ دَليلِ ولَيْس يَصحُ فِيْ الأذْهَان شيءولما كانت الدنيا بهذه الحال التي ذكرت والعظة التي تقدمت جاء في القرآن الكريم من التحذير عن الاغترار بها والركون إليها والاعتماد عليها ما هو أعرف من أن يذكر وأشهر من أن يشهر. وكذلك جاءت الأحاديث النبوية والآثار الحكيمة فلهذا كان الأيقاظ من أهلها هم العلماء العقلاء الزهاد. العاملون بعلمهم الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم لم يركنوا إلى الدنيا بل اتخذوها مطية إلى الآخرة. لا علماء الألسن الذين يلبسون للناس جلود الظأن من اللين وقلوبهم قلوب الذئاب الذين يتخللون بألسنتهم كما تتخلل البقرة بلسانها، قال بعضهم وأجاد في وصف الدنيا. وطُلاّبُهَا مثْلُ الكِلابِ الهَوَامِسِ أَلاَ إنِّما اَلْدُّنْيَا كَجِيَفِة مَيتَةٍبها شَغفًا قَومٌ طِوَالُ القَلاَنُسِ وأَعْظَمُهُمْ ذَمًا لهَا وأشدُّهُموختامًا فاستيقظوا رحمكم الله من غفلتكم وانتبهوا من رقدتكم قبل أن يقال: فلان مريض أو مدنف ثقيل فهل من دليل يدل على الدواء لهذا العليل أو هل إلى الطبيب من سبيل. فتنقل إلى المستشفى وتدعى لك الأطباء ولا يرجى لك الشفاء ثم يقال: فلان أوصى ولماله أحصى ثم يقال: قد ثقل لسانه وما يقدر على أن يكلم إخوانه. وها هو في سكرات الموت لا يعرف من عنده من أولاده وإخوانه وجيرانه وعرق عند ذلك جبينك وتتابع أنينك وثبت يقينك وارتفعت جفونك وصدقت ظنونك. وتلجلج وتحير لسانك وبكى أولادك وإخوانك، وقيل لك: هذا ابنك فلان وهذا أخوك فلان وهذه أمك وهذا أبوك وبصرك شاخص وعيونك غرقى من الدمع ولا تقدر على الكلام. فتصور نفسك يا مسكين وأنت ملقى على الأرض التي خلقت منها جثة تتصاعد روحك والناس من حولك يبكون ولكن دون جدوى لأن قضاء الله وقدره لا بد أن ينزل بك. ثم ختم على لسانك فلا ينطق ثم حل بك القضاء وانتزعت نفسك من الأعضاء ثم عرج بها إلى السماء فاجتمع عند ذلك أولادك وإخوانك وأحضرت أكفانك وجيء بالنعش والمغسل. فجردك من الثياب وغسلك وجيء بالكفن فكفنوك وحنطوك فانقطع عوادك واستراح حسادك وانصرف أهلك إلى مالك وبقيت مرتهنا بأعمالك فيا لها من رحلة وياله من قدوم. رِدَاآن تُلْوَى فِيْهُمَا وحَنُوْطُ نَصِيْبُكَ مِمَّا تَجْمَعَ الدَّهْرَ كُلَّهُآخر: خَرَجْتْ إِلَىْ اَلْدُّنْيَا وأنْتَ مُجَرَّدُ تَجَرَّدْ مِن اَلْدُّنْيَا فَإنَّكَ إنَّمَا آخر: سِوَى حَنُوْطٍ غَدَاة اَلْبَيْن فِيْ خِرَقِ فَمَا تَزَوَّدَ مِمّا كَانَ يَجْمَعُهُوقلَّ ذلكَ مِنْ زَادٍ لِمُنْطَلِقِ وغَيْرَ نَفْحَةِ أَعْوَادٍ تُشَبُّ لَهُاللهم وفقنا للاستعداد لما أمامنا واهدنا سبيل الرشاد ووفقنا للعمل الصالح ليوم المعاد واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. فصلاعلم أن المقصود بالصلاة إنما هو تعظيم المعبود وهو الله جل جلاله، وتعظيمه لا يكون إلا بحضور قلب. وقد كان السلف رحمهم الله فيهم من يتغير لونه إذا حضرت الصلاة ويقول: أترون بين يدي من أريد أن أقف. فإذا أردت استجلاب حضور قلبك الغائب في أودية الدنيا ففرغه من الشواغل كلها مهما استطعت. واعلم أن إضاعتها أعظم من إضاعة خزائن الأموال والضيعات وجميع أمتعة الدنيا، ولقد أحسن القائل: وما لِكَسْرِ قَناةِ اَلْدِّينِ جُبْرانُ وكُلَّ كَسْرٍ فَإنّ الله يَجْبُرُهُوقد كان السلف أرباب التفكر يشاهدون في كل شيء عبرة فيذكرون بالأذان نداء العرض على الجبار، وبطهارة البدن تطهير القلب من الكبر والحسد والغل والحقد والرياء والظن السيئ. ويذكرون بستر العورة ستر القبائح من عيوب الباطن مما تقدم ونحوه وباستقبال القبلة صرف القلب إلى مقلب القلوب، فمن لم تكن صلاته كذلك فهو غافل. ولذلك ينبغي الاعتناء بالصلاة؛ لأنها الصلة بين العبد وبين ربه، فيقدم القيلولة ليستعين بها على الاستعداد للصلاة وإن كان له قيام في الليل أو سهر في أعمال الخير فإن فيها معونة على قيام الليل.ويحرص على أن يستيقض قبل دخول وقت صلاة الظهر ويتوضأ ويحضر للمسجد ويصلي تحية المسجد وينتظر المؤذن فيجيبه ثم يصلي أربع ركعات بتسليمتين الرواتب التي قبل الصلاة. ثم يصلي الفرض مع الإمام ثم يصلي بعد الفريضة ركعتين فهما من الرواتب الثابتة. وينبغي أن لا يشتغل إلى العصر إلا بتعليم علم أو إعانة مسلم أو قراءة قرآن أو مطالعة في كتب العلم تفسير أو توحيد أو حديث أو فقه أو سعي في معاش يستعين به على دينه. ثم يصلي أربع ركعات قبل العصر وهي سنة مؤكدة فقد قال ﷺ: «رحم الله امرأً صلى قبل العصر أربعًا» فاجتهد واحرص أن ينالك دعاؤه ﷺ. ولا تشتغل بعد صلاة العصر إلا بمثل ما سبق من قراءة قرآن أو تعليم علم نافع وهو ما جاء عن النبي ﷺ أو سعي فيما تستعين به على دينك. ولا ينبغي أن تكون أوقاتك مهملة بل احرص كل الحرص على أن تكون مملوءة بالأعمال الصالحة وحاسب نفسك ورتب أعمالك وأورادك في ليلك ونهارك. وعين لكل وقت شغلاً لا تتعداه ولا تؤثر فيه سواه مما تقدم ذكره من أعمال الآخرة فبذلك تظهر بركة أوقاتك وتصون عمرك من الضياع. وإما إذا أهملت نفسك سدى إهمال البهائم لا تدري بماذا تشتغل كل وقت فينقضي أكثر أوقاتك ضائعًا وأوقات عمرك هي رأس مالك ولقد أجاد القائل شعرًا: بِأَنَّ حَيَاْتِيْ تَكُوْنُ كَسَاْعَةٍ إذا كُنْتُ أعْلَمُ عِلْمًا يَقْيِنًا وَأَجْعَلُهَا فِيْ صَلاَحٍ وَطَاْعَةٍ فَلِمَ لاَ أَكُوْنُ بِهَاْ ظَنِيْنًاآخر: عَلَيْهِ مِنْ الإِنْفَاْقِ فِيْ غَيْرِ وَاْجِبِ إِذَاْ كَاْنَ رَأْسُ الْمَالِ عُمْرَكَ فَاحْتَرِزوعليه تجارتك وبه وصولك إلى نعيم دار الأبد في جوار الله تعالى فكل نفس من أنفاسك جوهرة لا قيمة لها لأن نفسك لا بدل له فإذا فات فلا يعود أبدًا. ولكن لا ينتبه لهذا إلا من وفقه الله لحفظ عمره عن الضياع فلا تكن كالحمقى الجهلة المغرورين الذين تذهب أعمارهم فرطا الذين يفرحون كل يوم بزيادة أموالهم مع نقصان أعمارهم. فأي خير في مال يزيد وعمر ينقص في غير طاعة فلا تفرح إلا بزيادة علم أو عمل صالح قال الله تعالى: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا وقال تعالى: وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا. فإنهما رفيقاك يصحبانك في القبر حيث يتخلف عنك أهلك ومالك وولدك وأقاربك وأصدقاؤك ثم إذا بقي على الغروب مقدار نصف ساعة أو ثلث أو ربع تقدم إلى المسجد واشتغل بالتسبيح والاستغفار. قال جل وعلا: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ. وقال عز من قائل: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا. واحرص على أن تغرب وأنت تلهج بالتسبيح والاستغفار. وإذا سمعت المؤذن فأجبه وقل بعده: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدًا الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته. فصل ثم إذا أقام الصلاة قم عند قوله قد قامت الصلاة ثم صلِّ الفرض مع الإمام وصل بعده ركعتين وهما راتبة المغرب. وإن أحييت ما بين العشائين بصلاة فحسن فقد ورد أن ناشئة الليل هي ما بين المغرب والعشاء لأن معنى نشأ ابتدأ. وكان زين العابدين علي بن الحسين رضي الله عنهما يصلي بين المغرب والعشاء ويقول: هذه ناشئة الليل وقال عطاء وعكرمة هي بدء الليل. وقيل في قوله تعالى: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ إنه التنفل ما بين المغرب والعشاء قاله قتادة وعكرمة. فإذا دخل وقت صلاة العشاء فصلها مع الإمام وصل بعدها الراتبة ركعتين. ثم ركعتين تقرأ في الأولى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى، وفي الثانية: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ثم أوتر واقرأ بعد الفاتحة سورة الإخلاص قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ، فإن كنت ممن يقوم ويصلي بالليل فأخر الوتر ليكون آخر صلاتك بالليل وترًا. ثم اشتغل بعد ذلك بقراءة القرآن أو مطالعة في كتب توحيد أو تفسير أو فقه أو تجويد أو أصول تفسير أو أصول فقه أو قواعد. واحذر أن تشتغل بعلوم تعود عليك بالضرر أو تجلس عندما يلهي فيكون ذلك خاتمة أعمالك قبل نومك فإن الأعمال بخواتيمها وربما قبضت روحك. وإذا أردت النوم فانفض الفراش وابسطه مستقبل القبلة ونم على يمينك على هيئة وضع الميت في القبر. واعلم أن النوم أخو الموت مثله واليقظة مثل البعث ولعل الله تعالى يقبض روحك في ليلتك فكن مستعدًا للقائه وإن حصل أن تكون على طهارة ووصيتك مكتوبة عند رأسك فأفضل. وتنام تائبًا توبة نصوحًا من الذنوب تلهج بالاستغفار عازمًا جازمًا على أن لا تعود إلى معصية واعزم على الخير ومحبته لجميع المسلمين إن بعثك الله تعالى. وتذكر عند اضطجاعك في فراشك أنك ستضطجع في اللحد كذلك وحيدًا فريدًا ليس معك إلا عملك ولا تجزى إلا بسعيك ولا تستجلب النوم تكلفا بتمهيد الفراش الوطيئة فإن النوم تعطيل الحياة إلا إن كانت يقظتك وبالاً عليك فنومك بلا شك أحسن؛ لأنه سلامة لدينك. واعلم أن الليل والنهار أربع وعشرون ساعة فلا يكن نومك بالليل والنهار أكثر من ثمان ساعات فيكفيك إن عشت ستين سنة مثلا أن تضيع منها الثلث وهو عشرون سنة. وأعد عند النوم سواكك وطهورك وانو العزم على قيام الليل إن الله أحياك وركعتان في جوف الليل كنز من كنوز البر فاستكثر من كنوزك ليوم فقرك. فلن تغني عنك كنوز الدنيا إذا مت فالرصيد الصحيح الباقي النافع رصيد الآخرة، الباقيات الصالحات. وقل عند النوم باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك أرفعه فاغفر لي اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك اللهم باسمك أحيا وأموت. أعوذ بك اللهم من شر كل ذي شر ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء. اللهم أنت خلقت نفسي وأنت تتوفاها لك مماتها ومحياها إن أمتَّها فاغفر لها وإن أحييتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين اللهم إني أسألك العفو والعافية. اللهم أيقظني في أحب الساعات إليك واستعملني في أحب الأعمال إليك. ثم اقرأ آية الكرسي. وآخر سورة البقرة: آمَنَ الرَّسُولُ إلى آخر السورة. واقرأ سورة الإخلاص. والمعوذتين. وسورة تبارك. والواقعة. واحرص كل الحرص أن يأخذك النوم وأنت تلهج بذكر الله وعلى طهارة فكم من إنسان انتهت حياته بعد ما نام وجدوه قد مات. فإذا استيقظت فداوم على هذا الترتيب بقية عمرك فإن شقت عليك المداومة فاصبر صبر المريض على ألم العلاج ومرارة الدواء انتظارًا للشفاء. وتفكر في قصر عمرك وإن عشت مائة سنة أو أزيد فهي قصيرة بالإضافة إلى مقامك في الدار الآخرة وهي أبد الآباد. وتصور تحملك للمشقة والهوان والذل في طلب متاع الحياة الدنيا أشهر أو سنين رجاء أن تستريح بقية عمرك فكيف لا تتحمل أيامًا قلائل رجاء الاستراحة الأبدية. ولا تطول أملك فيثقل عليك عملك وقدر قرب الموت في كل ساعة وقل لنفسك إني أتحمل المشقة اليوم فلعلي أموت بالليل وأصبر الليل فلعلي أموت غدًا. فإن الموت لا يهجم في وقت مخصوص أو حال مخصوص أو سن مخصوص ولا بد من هجومه فالاستعداد له أولى من الاستعداد للدنيا. وأنت تعلم أنك لا تبقى في الدنيا إلا مدة قليلة ولعله لم يبق من أجلك إلا يوم واحد أو نفس واحد لا سيما في زمننا الذي كثرت فيه الحوادث بأسباب السيارات والقزوز والطائرات ونحو ذلك. وكم من إنسان خرج من عند أهله صحيحًا ولم يشعر أهله بعد قليل إلا وخبر موته يفجؤهم فقدر هذا في قلبك كل يوم لعله يدفعك إلى الاستعداد للموت. وكلف نفسك الصبر على الطاعة يومًا يومًا فإنك لو قدرت بقاءك خمسين سنة وألزمت نفسك الصبر على طاعة الله تعالى نفرت نفسك واستصعبت عليك وربما استعصت عليك. وتصور سرورك وفرحك عند الموت إن فعلت ما تقدم وإن سوفت وتساهلت جاء الموت في وقت لا تحتسبه وندمت وتحسرت تحسرًا لا آخر له وعند الصباح يحمد القوم السرى وعند الموت يأتيك الخبر اليقين. انتهى. قال الناظم: فَمَا مِنْهُ مِنْ مَنْجَاْ وَلاَ عَنْه عُنْدَد خُذُوا أَهِبَة فِيْ الزَّاْدِ فَالْمَوتُ كَاْئِنٌوَلَكِنَّهَا دَارُ اِبْتِلاٍ وَتَزَوُّدٍ وَمَا دَارِكُم هِذي بِدَارِ إِقَامَةٍفَمَاْ عُذْرُ مِنْ وَافاهُ غَير مُزَوَّد أَمَا جَاءكم مِنْ رَبِّكُم وَتزوُّدَواتُقَرِّبُ مِن دَارِ الَّلُقَا كُلّ مُبْعَدِ وَمَا هَذه الأيامُ إلاَّ مَرَاحِلٌفَقدء حَانَ منهُ المُلْتَقى وكأَنْ قَدِ ومَن سَارَ نحو اَلْدَارِ سِتّينَ حِجةًمُقِيم لِتَهْويمٍ عَلَى إثْرِ مُقْعَدِ ومَاْ اَلْنَاسُ إلاَّ مِثْل سَفْرٍ تَتَابَعُوامُيَقِّظةٍ ذا اللَّب عِنْدَ اَلْتَفَقَّدِ وفِيْ السُقْمِ والآفَاتِ أَعْظَمْ حِكْمَةٍ عن اَلْمَنْزِلِ الغَثِّ الكثيِر التَّنَكُدِ يُنَادِي لِسَاُن اَلْحَالِ جُدُّوا لِتَرحَلُوابأنَّكَ تَتْلو القَومَ فِيْ اليَومِ أو غَدِ أَتَاكَ نَذيرُ اَلشَّيب وَالسُقْم مُخْبِرًاإذا فَاتَهُ فِيْ اليومَ لَمْ يَنْجُ فِيْ غَدِ ومَنْ كَانْ عَزْرَائِيلُ كَافِلَ رَوحِهِفهَيْهَاتَ أَمْنٌ يُرتَجَى مِنْ مُرَدِّدِ ومَنْ رَوحُهُ فِيْ الجِسْمِ مِنْهُ وِدِيعِةٌبِلاَ كَتْبِ إِيصَاءٍ وإشْهَادِ شُهَّدِ فَمَا حَقُ ذِي لُب يَبَيْتُ بِلَيْلَةٍتَفُوزُ غَدًا يَوْمَ القِيَامَةِ واَجْهدِ فَبَادِرْ هُجُومَ الموتِ فِيْ كَسْبِ مَاْ بِهِ لِسَفْرة يَوْمِ الحشرِ طَيبَ التَّزودِ وَنَفْسُكَ فَاجْعَلها وَصِيِّكَ مُكْثِرًالِنَفسكَ نَفاعا فقَدِّمهُ تَسْعَدِ وَمَثِّلْ وُرُودِ القَبْرِ مهما رأيْتَهُبِيَومِ يَفِر المرءُ مِنْ كُلِ مُحتدِ فَمَا نَفْعُ الإنسانِ مِثْلَ اِكْتِسَابَهُاللهم ارحم ذلنا يوم الأشهاد وأمن خوفنا من فزع المعاد ووفقنا لما تنجينا به من الأعمال في ظلم الإلحاد ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. موعظةقال الله جل ذكره: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ، وقال جل وعلا: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى، وقال عز من قائل: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ، وقال تبارك وتعالى: فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ. وقال تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وقال جل وعلا: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ، وقال جل وعلا وتقدس: يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا. وكان النبي ﷺ يتخول أصحابه بالموعظة فالوعظ والتذكير فريضتان واجبتان ماضيتان على أهلهما بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ. وقد أمر الله الموعوظين بالاستماع والإصغاء للموعظة لما فيها من المنافع العظيمة. فعلى كل إنسان مهما جل قدره وعظم خطره أن يحرص ويجتهد على استماع الموعظة وقبول النصيحة لأنه إذا فعل ذلك فاز بقسطه الأوفر وحظه الأجزل واستحق من الله البشرى في العاجل والثواب في الآجل ومن عقلاء خلقه الثناء الحسن والمدح والإكرام والدعاء. فإن الله جل ذكره يقول: فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، ثم قال: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ. وقد شبه الله الكفرة المعرضين عن القرآن الذي هو مشتمل على التذكرة الكبرى والموعظة العظمى بالحمر قال تعالى: فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ، فليحذر المسلم أن يتشبه بهم ويعرض عن الموعظة. وقد جعل الله جل ذكره الخير في الاعتبار والاعتبار بالتفكير وحث عليه في عدة مواضع من كتابه قال تعالى: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ، وقال: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الأَبْصَارِ. وقال جل وعلا أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى، وقال جل وعلا وتقدس: إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. وقال عز من قائل: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وقال جل وعلا: إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. فمن قريب ما يجب أن يفكر فيه اللبيب ويتدبره أن يتذكر أحوال الأمم والقرون الماضية والملوك الأولين الذي كانوا من أشد خلق الله قوة وأكثر جمعًا وأبين آثاراً وأطول أعمارًا الذين بنوا المدائن وجمعوا الخزائن وحفروا الأنهار وعمروا الديار وشيدوا القصور. ودبروا الأمور وجمعوا الجموع وقادوا الجيوش وساقوا الخيول ودوخوا البلاد وأذلوا العباد ومشوا في الأرض مرحًا واختالوا بما أوتوا فرحا فأخذهم الله بما كانوا يكسبون. فأصبحوا بعد العز والمنعة والملك والرفعة والصيت والسطوة والذكر والصولة عظامًا رميمًا ورفاتًا هشيما وأصبحت منازلهم خاوية وقصورهم خالية وأجسادهم بالية وأصواتهم هادئة. تخبرك آثارهم معاينة وتقرع سمعك أخبارهم مجاهرة فلم يصحبهم من الدنيا ما جمعوا ولم يدفع عنهم الردى ما كسبوا ولعلهم ندموا حيث لم تنفعهم الندامة وتلهفوا حيث لا يغني عنهم التلهف شيئًا. وإن الباقي عمَّا قليل كالفاني والغابر عما قليل كالماضي وما بينهما إلا أنفاس معلومة وأيام معدودة سريعة الانقضاء قريبة الانتهاء. فليحذر المغتر بملكه والمتمتع بعزه هذه الصرعة وليستعد لهذه الوجبة ولينته لهذه الموعظة فإن الله جعلها في أوائل مواعظه. وكررها في مواضع من كتابه حيث جل وعلا وتقدس يقول: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ. وقال تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ. وقال جل وعلا وتقدس: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ وَاقٍ. وعد جل وعلا كثيرًا منهم في كتابه ووصفهم وسماهم في خطابه حيث يقول: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ. وقال: وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا، هذا خبر أصدق القائلين وهذا قول حق وقد جعل الله بكل ما شوهد في أيامه وعوين في زمانه ممن رفعوا ثم وضعوا وعلوا ثم صرعوا ودارت عليهم الدوائر ونابتهم النوائب ما في بعضه مقنع لمعتبر وبلاغ لمدكر. قالوا: وأشرف أبو الدرداء صاحب رسول الله ﷺ على أهل حمص فقال: يا أهل حمص أتبنون ما لا تسكنون وتأملون ما لا تدركون وتجمعون ما لا تأكلون. إن من كان قبلكم بنوا شديدا وأملوا بعيدًا وجمعوا كثيرًا فأصبحت اليوم مساكنهم قبورًا وأملهم غرورا وجمعهم بورا.وقد قال أحد فصحاء الملوك في خطبته: ألم تروا مصارع من كان قبلكم كيف استدرجتهم الدنيا بزخارفها ونفتهم ثم تركتهم وقد تخلت عنهم فهم في حيرة وظلمة مدلهمة تركوا الأهلين والأولاد والعيال والأموال. مساكنهم القبور وقد خلت منهم الدور وتقطعت منهم الأوصال والصدور وصاروا ترابًا باليًا وكان الله لهم ناهيًا قال تعالى: فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ، إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ. شعراً :جَمَعَتْهُم الدُّنيا فَلَم يَتفرَّقوا نَبْكِي عَلَىْ الدُّنْيَا وَمَا مِنْ مَعْشَركنزُوا الكنوزَ فَمَا بقينَ ولا بَقُوا أَينَ الأكاسرةُ الجبابرةُ الأولىحَتَّى ثَوى فحواهُ لَحْدٌ ضَيِّقُ مِنْ كُلِ مَنْ ضَاقَ الفَضَاءُ بجيشِهِأَنَّ الكَلامَ لَهُم حَلالٌ مُطْلَقُ خُرُسٌ إذا نُوُدُوا كأن لم يفهَمُواوَالْمُسْتَغِرُ بِمَا لَدَيْهِ الأحمَقُ فَالمَوتُ آتٍ والنُّفُوسُ نَفَائِسٌ آخر: وهَلْ هِي إِلاَّ جَمْرَةٌ تَتَوقّدُ أَجِدُكَ مَا الدُّنيا ومَاْذَا نعيمهاوصاحبنَي فِيْهَا مَسوْدٌ وَسَيّدُ لَعَمريِ لقد شاهدتُ فِيْهَا عَجائباوَقَدْ طَابَ عَيْشٌ وَالسُرورِ يُجَدَّدُ رَأيتُ بها أهلَ المواهِبِ مَرَّةًعَلَيهم وَقامَت فِيْ أَذاهم تُحْشِّدُ فَمَا رَاعَهمُ إِلاَّ الرَّزاديا ثَوابِتٌوَكَانَ لَهُم فَوقَ السِّمَاكَينِ مَقْعَدُ وَأسْقَتْهُمُوْا كَأسًا مِنْ الذُّلِ مُتْرَعًاعَلَى نكَدٍ فِيْ كُلِّ يومٍ يُجَدَّدُ وَدانَتْ لِمَنْ ناوَاهُمُ بَعْض بُرهَةٍاللهم ثبت قلوبنا على الإيمان ووفقنا لصالح الأعمال، اللهم تفضل علينا بالقبول والإجابة وارزقنا صدق التوبة وحسن الإنابة، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. كتب بعضهم إلى أخ له فقال له: أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله سبحانه والعمل بما علمك الله تعالى والمراقبة حيث لا يراك إلا الله عز وجل والاستعداد لما ليس لأحد فيه حيلة ولا ينتفع بالندم عند نزوله. فاحسر عن رأسك قناع الغافلين وانتبه من رقدة الموتى وشمر للسباق غدًا فإن الدنيا ميدان المتسابقين ولا تغتر بمن أظهر النسك وتشاغل بالوصف وترك العمل بالموصوف. واعلم يا أخي أنه لا بد لي ولك من المقام بين يدي الله عز وجل يسألنا عن الدقيق الخفي والجليل الخافي ولست آمن أن يسألني وإياك عن وسوسة الصدور ولحظات العيون والإصغاء للاستماع. واعلم أنه لا يجزئ من العمل القول ولا من البذل العدة ولا من التوقي التلاوم. قال نافع: خرجت مع ابن عمر في بعض نواحي المدينة ومعه أصحابه فوضعوا سفرة لهم فمر بهم راعي فقال عبد الله بن عمر يا راعي هلم فاصب من هذه السفرة. فقال: إني صائم فقال عبد الله في مثل هذا اليوم الشديد حره وأنت بين هذه الشعاب في آثار هذه الغنم وبين هذه الجبال ترعى هذه الغنم وأنت صائم. فقال الراعي: أبادر أيامي الخالية فعجب ابن عمر وقال: هل لك أن تبيعنا شاة من غنمك نجتزرها نطعمك من لحمها ما تفطر عليه ونعطيك ثمنها. قال: إنها ليست لي إنها لمولاي قال: فما عسيت أن يقول مولاك إن قلت: أكلها الذئب. فمضى الراعي وهو رافع إصبعه إلى السماء وهو يقول: فأين الله ! فقال: فلم يزل ابن عمر يقول. قال الراعي: فأين الله! فما عدا أن قدم المدينة فبعث إلى سيد الراعي فاشترى منه الراعي والغنم فأعتق الراعي ووهب له الغنم. ودعا قوم رجلا إلى طعام في يوم قائظ شديد حره فقال: إني صائم. فقالوا: أفي مثل هذا اليوم ؟ قال: أفأغبن أيامي. ونزل روح بن زنباع منزلاً بين مكة والمدينة في يوم صائف وقرب غداءه فانحط راع من جبل فقال: يا راع هلم إلى الغداء قال: إني صائم. قال له روح بن زنباع أوتصوم في هذا الحر الشديد؟ قال الراعي: أفأدع أيامي تذهب باطلاً فأنشأ روح يقول: إذْ جَادَ بِهَا رَوْحُ بنُ زِنْبَاعِ لَقَدْ ضَنَنْتَ بأيَّامِكَ يَا رَاعِيودعا قوم رجلاً إلى طعام فقال: إني صائم، فقالوا: أفطر وصم غدًا قال: ومن لي بأن أعيش إلى غدٍ. روي أن الحسن رأى رجلا متعبدًا فقال: يا عبد الله ما يمنعك من مجالسة الناس ؟ قال: ما شغلني عن الناس قال: فما منعك أن تأتي الحسن؟ فقال: ما أشغلني عن الحسن. قال: فما الذي أشغلك عن الحسن؟ قال: إني أمسي وأصبح بين ذنب ونعمة فرأيت أن أشغل نفسي بالاستغفار للذنب والشكر لله تعالى على النعمة فقال: أنت عندي أفقه من الحسن. قال بعض العلماء حاثًا على شكر الله جل وعلا فقال: إخواني اشكروا الله على ما أنعم عليكم به من الألسن بكثرة التلاوة لكتاب الله وذكره. فإن فرطتم في ذلك فاستحيوا من الله أن تخوضوا بالألسن في فنون الآثام فقد ورد عن النبي ﷺ أنه قال: «وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم». فالرجل العاقل المستقيم لا يستخدم لسانه إلا في الحق والخير من ذكر الله والثناء عليه وتلاوة كتابه الكريم والنصح لله ولرسوله وللمؤمنين ولأئمة المسلمين وعامتهم ويجتنب الكذب والافتراء والغيبة والنميمة ويجتنب القبيح وتقبيح الحسن والتملق والنفاق والرياء قال ﷺ: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده كل هذه من آفات اللسان». ألا واشكروا الله على ما أنعم به عليكم من الأبصار بالنظر إلى الحق بالاعتبار شكرًا له فإن رغبتم عن ذلك فراقبوا الله أن تنظروا بالأبصار إلى الحرام فتغضبوا الله بنعمه كفعل الكثير من الناس فاتقوا الله عباد الله. ألا فراقبوه واشكروه على ما أنعم به عليكم من السمع بالاستماع إلى القرآن الكريم وكلام سيد المرسلين والمواعظ الحسنة. فإن ضيعتم ذلك وفرطتم فيه فاستحيوا من الله أن تنصتوا بأسماعكم إلى الهوى والملاهي والأغاني وجميع المنكرات فإنكم عن جميع ذلك مسئولون. واشكروا الله على ما أنعم به عليكم من الأيدي ببسطها إلى الخيرات فإن قصرتم عن ذلك فاستحيوا أن تبسطوها إلى الظلم والأذى كفعل كثير من الناس فإن الظلم ظلمات يوم القيامة قال الله جل وعلا وتقدس: وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ألا فاتقوا الله عباد الله واشكروه على ما أنعم به عليكم من الأرجل بالسعي بها إلى الطاعات فإن قصرتم في ذلك فراقبوا الله ولا تسعوا بها إلى الآثام. فالرجل المستقيم لا يستخدم سمعه وبصره وجميع حواسه ومشاعره إلا فيما أحل الله له، وقد جمع الله كثيرًا من صفات المؤمنين المستقيمين وعدهم مفلحين مستحقين للخلود في جنات النعيم في قوله عز وجل: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ إلى قوله: هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، قال الله جل وعلا وتقدس: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فكيف بك والأكبال في الأقدام والأغلال في الأعناق، قال الله جلا وعلا: إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ. ألا فاتقوا الله عباد الله واشكروه على ما أنعم به عليكم من الأقوات فلا تتقووا بها على معاصي الله ألا يا عباد الله فاتقوا الله على ما أنعم به عليكم من اللباس وذلك بأن تبلوه في رضى الله فإن قصرتم عن ذلك فاستحيوا أن تبلوا لباسكم في ما يكره الله. ألا فاتقوا الله عباد الله واشكروه على ما وهبكم من الأموال وذلك بأن تبلوها في سبيل الله فإن بخلتم عن ذلك فاستحيوا من الله أن تفقوا ما وهبكم من المال في معاصيه. واشكروا الله على نعمته العظمى وهو ما أنعم به عليكم من الإيمان به وبكتبه وملائكته ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره. واشكروه على ما أنعم به عليكم من العقل بالتفكير والتدبر واعتقاد حسن النية والاعتبار وشدة الخوف والحزن وسلامة الصدر للعامة. واشكروا الله على ما أنعم به عليكم من العقل بأن تعظموا الله عز وجل وتجلوه وتستحيوا منه وتهابوه وتتقوه وتطيعوه على حسب ما عقلتم من عظمته وكبريائه وعظيم قدره سبحانه وتعالى. فإن قصرتم في ذلك فراقبوا الله تعالى، ولا تكونوا كالذين لا يعظمونه ولا يجلونه ولا يهابونه ولا يستحيون منه ولا يتقونه ولا يطيعونه ولا يقدرونه حق قدره بل يستهينون بكثير من أمره. فاتقوا الله عباد الله أن تعودوا بعد العلم جهالاً وبعد المعرفة والفهم ضلالا ويعود العقل والعلم عليكم وبالا. وهب الله لنا ولكم القيام بطاعته ووفقنا وإياكم شكر نعمه وحسن عبادته إنه جواد كريم رءوف رحيم وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين. موعظة إن العجب كل العجب من إنسان عاقل أخبر أنه سيسلك طريقًا شائكا وعرا مليئا بالمخاوف والمزعجات والمهالك وأن عليه أن يتصور هذه المخاوف والمخاطر والمهالك ويتصور آثارها على مستقبله الأبدي والذي أخبره أصدق القائلين وأوفى الواعدين الذي أحاط بكل شيء علمًا. ومع ذلك تراه غافلا لا اهتمام له بذلك منصرفا عن الابتعاد عن هذه المهالك والمزلات الفظيعة ومشتغلا بالدنايا والأمور التافهة من شئون الدنيا الملعونة الملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه. وما أصيب الإنسان بمرض أشد من الغفلة الذي ربما تحول إلى جمود وقسوة ثم إلى لجاج وعناد ثم إلى كفر وجحود نسأل الله تعالى العافية. ومن أكبر الأدلة على حمق الإنسان وغباوته وجهله أنه يكد ويشقى من أجل مستقبل مهما طال فلن يجاوز الثمانين غالبًا وإن تجاوزها فهو كالمعدوم. ومع هذا فيهمل إهمالا كليا أو جزئيا العمل من أجل مستقبل لا نهاية له مستقبل الأبد مستقبل الخلود فيالها من خسارة لا عوض لها ولا جبر منها ولا أمل في تلافيها. فيا أيها الغافل انتبه واستعد لما أمامك وتصوره تصورًا صحيحاً يظهر أثره في جدك واجتهادك فيما يقربك إلى الله لا يفاجئك الأمر وأنت غافل فيفوتك زمن الأمكان وتندم وتحسر قال تعالى وتقدس: أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ. وقال الله جل وعلا: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ، وقال تعالى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، وقال تعالى: هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ، وقال تعالى: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ الآيات. إن الذين غمر الإيمان قلوبهم واستحوذت معرفتهم على مشاعرهم ووجدانهم هم الذين أيقنوا بلقاء ربهم وسماع الحكم منه في مصائرهم، هؤلاء هم الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفًا وطمعًا ومما رزقهم الله ينفقون. الذين قال الله تعالى مخبرًا عنهم: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ إلى قوله: أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ. الذين إذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق الآية: الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الآيتين. الَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا الآيات، هؤلاء هم الذين رعوا للدين حرمته واحترموا آدميتهم وكرامتهم ووفقهم الله جل وعلا فبنوا لأنفسهم صروح المجد الخالد والعز الباقي والسعادة الأبدية. ولا يبعد أن يكون من هؤلاء المذكورين الموصوفين بالصفات الحميدة القائل: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف ومنهم الباكي حين حضرته الوفاة القائل: إني لم أبك جزعًا من الموت حرصًا على الدنيا ولكن أبكي على عدم قضاء وطري من طاعة ربي وقيام الليل أيام الشتاء. ومنهم الباكي عند ما تفوته تكبيرة الإحرام مع الجماعة ومنهم الذي يمرض إذا فاتته الصلاة مع الجماعة. ومنهم القائل: لم أصل الفريضة منفردًا إلا مرتين وكأني لم أصلهما مع أنه قارب التسعين سنة. ومنهم من لم تفته صلاة الجماعة أربعين سنة إلا مرة واحدة حين ماتت والدته اشتغل بتجهيزها. والقائل حين ما قال له رجل: أراك تكثر من حمد الله وشكره مع أنه ابتلاك ببلاء ما ابتلى أحدًا بمثله الجذام في أطرافك وتمزقت الثياب على جسدك ولا زوجة لك ولا ولد ولا دار ولا أهل فما شأنك فقال المبتلى:شعراً :إِلَىْ الإسلام والدين الحنيفِي حَمِدْتُ اللهَ رَبِّي إذْ هَدَانيوَيعْرفُه فوآدِي باللَّطَيْفِ فَيذْكُرهُ لِسَاني كُلَّ وَقْتٍوكان بعض الموفقين المحاسبين لأنفسهم يكتب الصلوات الخمس في قرطاس ويدع بين كل صلاتين بياضًا. وكلما ارتكب خطيئة من كلمة غيبةٍ أو استهزاءٍ أو كذب كذبة أو تكلم فيما لا يعنيه أو نظر إلى ما لا يحل نظره إليه أو استمع إلى ما لا يحل الاستماع إليه أو أكل مشتبها أو مشى إلى ما لا يحل أو مد يده إلى ما لا يجوز مدها إليه ذكره في هذا البياض ليعتبر ذنوبه ويحصيها حسب قدرته لتضيق المحاسبة مجاري الشيطان والنفس الأمارة بالسوء. ومقام محاسبة النفس يقلل الكلام فيما لا يعني ويحمل الإنسان على تقليل الذنوب وعلى الإكثار من الطاعات لمقابلة ما صدر منه ولكن هذا الطراز يعز وجوده في زماننا هذا. نقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا وتزينوا للعرض الأكبر على الله: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ. فالمحاسبة تكون بضبط الحواس ورعاية الأوقات وإيثار المهمات وحفظ الأنفاس والحرص على أداء العبادات كاملة وبالأخص الصلاة فيكملها بشروطها المذكورة وأركانها وواجباتها وسننها بخشوع وخضوع وطمأنينةٍ وسكون. والعبد يحتاج إلى السنن الرواتب لتكميل الفرائض ويحتاج إلى النوافل لتكميل السنن ويحتاج إلى الآداب لتكميل النوافل ومن الآداب ترك ما يشغل عن الآخرة. قال بعضهم: إن الرجل ليشيب عارضاه في الإسلام وما أكمل لله صلاة قيل: وكيف ذاك؟ قال: لا يتم خشوعها وتواضعها وإقباله على الله فيها. روي عن بعض أهل العلم في قول الله جل جلاله: وَقُومُوا للهِ قَانِتِينَ. قال: القنوت الخشوع في الركوع والسجود وغض البصر وخفض الجناح من رهبة الله عز وجل. وكان العلماء إذا قام أحدهم للصلاة هاب أن يلتفت أو يعبث أو يحدث نفسه بشيء من شئون الدنيا إلا ناسيًا. وبلغنا عن بعض أهل العلم أنه قال: ركعتان خفيفتان مقتصدتان في تفكر وتدبر وتفهم لما يقوله ويفعله خير من قيام ليلةٍ والقلب ساهٍ في أودية الدنيا. فالواجب على الإنسان إذا كان في الصلاة أن يجعلها همه ويقبل عليها مفرغًا قلبه وفكره من كل ما يشتته ليؤديها كاملة مكملة. فإنه ليس له منها إلا ما عقل منها من معاني الفاتحة وما يقرأ من القرآن ومعاني الركوع والسجود والقيام بين يدي الله ومعاني العبودية والمناجاة ومعاني التحيات والتكبيرات. فكم بين رجلين: أحدهما قد أشعر قلبه عظمة خالقه الذي هو واقف بين يديه فامتلأ قلبه من هيبته وذلت له عنقه واستحى من ربه أن يقبل على غيره أو يلتفت عنه. وآخر قد انصرف قلبه إلى الدنيا يفكر فيها ملتفتا يمينًا وشمالاً ولا يفهم ما يخاطب به ؛ لأن قلبه ليس حاضرًا معه فبين صلاتيهما كما قال بعض أهل العلم. إن الرجلين ليكونان في الصلاة الواحدة وإن ما بينهما في الفضل كما بين السماء والأرض وذلك أن أحدهما مقبل على الله عز وجل بقلبه والآخر ساهٍ غافل يفكر في البيوع والخصومات والأماني والخسارات قد ذهب قلبه كل مذهب في أودية الدنيا. وروي أن بعض الصحابة رضي الله عنهم كان يصلي في نخل له فشغل بالنظر إلى النخل فسها في صلاته فاستعظم ذلك وقال: أصابني في مالي فتنة فجعل النخيل في الأرض صدقة في سبيل الله فبلغ ثمن النخيل خمسين ألفًا. فلو أن الواحد منا إذا فاتته الصلاة مع الجماعة تصدق في عشرة فقط لما فاتتنا الصلاة مع الجماعة إلا نادرًا ورأيت ما يسرك من المحافظة على الصلاة وكثرة الجماعة وهذا علاج من أحسن العلاجات. وينبغي استعماله عندما يصدر كذب أو غيبة أو نظر محرم أو سماع محرم أو نحو ذلك مما يقوله الإنسان أو يفعله عمدًا أو سهوًا ليتأدب ويستقيم ويقتدى به والله الموفق. نصيحةيسمو قدر الإنسان وتعلو درجته ومنزلته عند الله جل وعلا وعند خلقه بقدر ما يكون له من استقامة وطهارة قلب وسلامة صدر وحب للخير لجميع المسلمين وبعد عن الشر والأذى وتضحية بالنفس والمال في سبيل الله وما يقرب إلى الله وقد امتدح الله إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام على ما وهبه له من سلامة قلب وعزة نفس وصدق عزيمة وقوة إيمان. قال تعالى لما ذكر نوحًا عليه السلام وأثنى عليه أعقبه بذكر الخليل فقال: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ. ومن إبراهيم عليه السلام: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ. وسلامة القلب خلوصه من الشرك، وقيل: هو القلب الصحيح وهو قلب المؤمن لأن قلب الكافر والمنافق مريض وقيل: هو القلب السالم من البدعة المطمئن إلى السنة انتهى. قلت: والذي أرى أن السلامة الكاملة للقلب هي خلوصه من الشرك والشك والنفاق والرياء وخلوه من الكبر والحقد والحسد والعجب والمكر السيئ والغل والخيلاء. ونقاؤه من الأمراض التي تكدر الصفو وتشتت الشمل وتخل بالأمن وتقطع الروابط والصلات بين المسلمين وتورث الضغائن والأحقاد وتولد العداوة والبغضاء بين المؤمنين. وكان ﷺ يقول في دعائه: «اللهم إني أسألك قلبا سليما» فالقلب السليم هو السالم من الآفات والمكروهات كلها وهو القلب الذي ليس فيه سوى محبة الله وخشيته وخشية ما يباعد عنه. وقد اكتفى إبراهيم عليه الصلاة والسلام بذكر سلامة القلب ؛ لأن القلب إذا صلح صلح الجسد كله كما في الحديث، وإذا فسد فسد الجسد كله. ولأن القلوب إذا سلمت سلمت الجوارح -اليد واللسان- من الأذى والشرور وسلمت أموال الناس وأرواحهم وأعراضهم، وقلت الشرور والجرائم والآثام، وقيل: إن لقمان كان عبدًا حبشيًا فدفع إليه سيده شاة وقال: اذبحها وائتني بأطيب مضغتين منها فأتاه بالقلب واللسان ثم بعد أيام أتاه بشاة أخرى. وقال له: اذبحها وائتني بأخبث مضغتين منها فأتاه بالقلب واللسان فسأله سيده عن ذلك. فقال هما أطيب شيء إذا طابا وأخبث شيء إذا خبثا. وذكر العلماء أن صلاح القلب: 1- في قراءة القرآن بالتدبر والتفكر فيه وفيما صح عن النبي ﷺ. 2- في تقليل الأكل. 3- قيام الليل وإحياؤه بالعبادة. 4- التضرع عند السحر. 5- مجالسة الصالحين. 6- الصمت عما لا يعني. 7- العزلة عن أهل الجهل والسفه ومن فرطت أعمارهم. 8- ترك الخوض مع الناس فيما لا يعني. 9- أكل الحلال وهو رأسها فإنه ينور القلب ويصلحه فتزكوا بذلك الجوارح وتدرأ المفاسد وتكثر المصالح فأكل الحرام والمشتبه يصدي القلب ويظلمه ويقسيه وهو من موانع قبول الدعاء. وقد قيل: يخاف على آكل الحرام والشبهة أن لا يقبل له عمل ولا يرفع له دعاء لقوله تعالى: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، وآكل الحرام والمسترسل مع المشتبهات ليس بمتق على الإطلاق. روي عن بعض أهل العلم أن الشيطان يقول: خصلة من ابن آدم أريدها ثم أخلي بينه وبين ما يريد من العبادة أجعل كسبه من غير حل إن تزوج تزوج من حرام وإن أفطر أفطر على حرام، وإن حج حج من حرام اهـ. فالحذر الحذر من الحرام في طلب القوت، فقد ورد عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله ﷺ: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ. ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء ويقول: يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنَّى يستجابُ لذلك». وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: تليت هذه الآية عند رسول الله ﷺ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا. فقام سعد بن أبي وقاص t فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة فقال له النبي ﷺ: «يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه عمل أربعين يومًا وأيما عبد نبت لحمه من سحت فالنار أولى به» رواه الطبراني في الصغير. وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: من اشترى ثوبًا بعشرة دراهم وفيه درهم من حرام لم يقبل الله عز وجل له صلاة ما دام عليه قال: ثم أدخل أصبعيه في أذنيه ثم قال: صمتا إن لم يكن النبي ﷺ سمعته يقول رواه أحمد. وروى أبو داود في المراسيل عن القاسم بن مخيمرة قال: قال رسول الله ﷺ: «من اكتسب مالا من إثم فوصل به رحمه أو تصدق به أو أنفقه في سبيل الله جمع ذلك كله جميعًا فقذف به في جنهم». وروي عن أبي هريرة t عن النبي ﷺ قال: «من اشترى سرقة وهو يعلم أنها سرقة فقد اشترك في عارها وإثمها» رواه البيهقي. اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك .والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.فصلقال الله جل وعلا وتقدس: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ. وقال عز من قائل: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ. وقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ، وقال تبارك وتعالى: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ. وقال جل وعلا: وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ. وعن أبي هريرة t عن النبي ﷺ فيما يرويه عن ربه جل وعلا أنه قال: «وعزتي وجلالي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين إذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة وإذا أمنني في الدنيا أخفته في الآخرة»، رواه ابن حبان في صحيحه. وقال إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تحاتت عنه خطاياه كما يتحات عن الشجرة البالية ورقها. وقال الحسن :t إن الرجل ليذنب فما ينساه ولا يزال متخوفًا حتى يدخل الجنة وقال ابن جبير الخشية هي أن تخشى الله حتى تحول خشيته بينك وبين معاصيه. وعن أبي هريرة t أن رسول الله ﷺ قال: «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من رحمته» رواه مسلم. وعنه قال قرأ رسول الله ﷺ: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ثم قال: «أتدرون ما أخبارها؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها تقول: عمل كذا وكذا في يوم كذا وكذا فهذه أخبارها» رواه الترمذي وقال: حديث حسن. عن أنس t قال: قال رسول الله ﷺ: «يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيرًا قط هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب. ويؤتى بأشد الناس بؤسًا في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة فيقال: يا ابن آدم هل رأيت بؤسًا قط هل مر بك شدة قط فيقول: والله يا رب ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط». وعنه t قال: خطب رسول الله ﷺ خطبة ما سمعت مثلها قط. فقال: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا» فغطى أصحاب رسول الله ﷺ وجوههم لهم خنين، رواه البخاري ومسلم. وعن أنس قال: «إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله ﷺ من الموبقات»، رواه البخاري. وعن أبي يعلى شداد بن أوس t عن النبي ﷺ قال: «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني» رواه الترمذي. وعن أبي هريرة t قال: قال رسول الله ﷺ: «قاربوا وسددوا واعلموا أنه لن ينجوا أحد منكم بعمله» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة وفضل» رواه مسلم. فيا عباد الله من خاف الله جل وعلا في دنياه أمنه الله في أخراه ولو آمن الإنسان حقا بالله الواحد الأحد الفرد الصمد وجزم يقينًا بما بعد الحياة من الجنة والنار وما أعد الله لأهلهما إجمالاً وتفصيلاً. ولو خاف وعيد الله كما يخاف وعيد أحد الأشرار لما اجترأ يومًا أن يتخطى شريعة الله أو ينتهك محارم الله التي حذره من تخطيها بقوله عز وجل: وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ. وقوله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. فاتق الله أيها المسلم وعظ نفسك في كل وقت بما بعده من الشدائد والكروب والعقبات وحاسب نفسك على كل ما تقترفه وتفعله من السيئات واتخذ من تقوى الله سترًا يقيك من غضب الله وعذابه. فما أسعد من جعل التقوى رأس ماله وما أرشد من راقب الله في جميع أحواله فيا ويح من نسي الآخرة وأجهد نفسه في طلب الدنيا وكان بها جل اشتغاله. أما وعظه من رحل من أعمامه وأخواله فالعجب ممن أفصحت له العبر وليس عنده سمع ولا بصر أيبكي فاقد الإلف وينسى نفسه، أين مضى رفقاؤنا أين ذهب معارفنا وأصدقاؤنا، هذه دورهم فيها سواهم، وهذا محبهم قد نسيهم وجفاهم. فتفكروا إخواني في الراحلين واعتبروا بالسالفين وتأملوا في البصائر حال الدفين وتأهبوا فأنتم في أثر الماضين. فيا مطلقًا اذكر قيودهم ويا متحركًا قد عرفت همودهم فخلص نفسك من أسر الذنوب وتأهب لخلاصك فإنك مطلوب وتذكر بقلبك يوم تقلب القلوب. واحذر حسرات الموت عند انقضاء المدة واحذر تسويف الذين ذهبوا وما تأهبوا. فكأني بك أيها الغافل في لهوه ولعبه الرافل في أثواب غيه وطربه الساعي في معصية ربه وغضبه فلم يشعر إلا وقد نزل به من الموت أسباب عطبه. فدبت الأمراض في جسده وأبدل من لذيذ العيش بمر السقم ونكده وانتزعته المنون من ماله وأهله وولده. فزود من ماله كفنًا واعتاظ عن القصور محلة الأموات وطنًا يتمنى الرجعة إلى الدنيا ليجتهد في الأعمال الصالحات فيقال له: هيهات هيهات حيل بينك وبين الأعمال النافعات. ألم يأتك خبر هذا المصير ألم تسمع قول أصدق القائلين أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فاحذر أن تكون ممن يتمنون الرجعة فلا يقدرون ولا يجابون. قال بعضهم: وَوَجَّهْتُ وَجْهِي نَحْوَهُ وَمَآرِبي صَرَفْتُ إِلَىْ رب الأنامِ مَطَالبيمَليْكٌ يُرَجَّى سَيْبُهُ فِيْ المتَاعِبِ إِلَىْ المَلِكِ الأعْلَى الذَي ليسَ فَوقَهُوَعَمَّ الوَرَى طُرًا بجَزْلِ المَوَاهِبِ إِلَىْ الصَّمَد البِّرِ الذي فَاضَ جُوْدُهُوأسْمَحَ غَفَّارٍ وَأكْرامَ وَاهِبِ مُقِيْليْ إذا زَلَّتْ بِي النَّعْلُ عَاثرًاوَيَدْفَعُ عَنِّي فِيْ صُدُورِ النَّوائِبِ فَمَا زَالَ يُوْلِيْني الجَمِيْلَ تَلَطُّفًاجَنِيْنًا ويحْمِيْنِي وَبَّي المكاسِبِ وَيَرْزُقُنِي طِفْلاً وَكَهْلاً وقَبْلَهَاوَنَهْنَهَ عَنْ غِيْشَانِهم زَجْرُ حَاجِبِ إِذَا أغْلَقَ الأمْلاَكُ دُوْنِي قُصُورَهُممُدِلاً أُنَادِي بِاسْمِهِ غَيْرَ هائِبِ فَزعْتُ إِلَىْ بَابِ المُهيْمِنِ طَارِقًاوَلو كَان سُؤْلِيْ فَوْقَ هَامِ الكَوَاكِبِ فَلم ألِف حُجَّابًا وَلم أخْشَ مِنْعَةًنَهَارًا وَلَيْلا فِيْ الدُّجَى والغَياهِبِ كَرَيْمٌ يُلَبِّيْ عَبْدَهُ كُلَّمَا دَعَاتَسِحُّ دِفاقًا باللُّهَى والرَّغَاْئِبِ سَأسْألهُ مَا شِئْتُ إنَّ يَمِيْنَهُوَحِرْزًا إِذا خِيْفَتْ سِهِاُم النَّوائِبِ فَحَسْبِيَ رَبِيْ فِيْ الهَزَاهِزِ مَلْجَأاللهم هب لنا ما وهبته لعبادك الأخيار وأنظمنا في سلك المقربين والأبرار وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين. فصلقال الله عز من قائل: وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا، وقال تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا الآية. فالعاقل من يأخذ أهبته للمستقبل ويتهيأ للأمر قبل وقوعه قال الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ. فلا بد للإنسان من نظر إلى الماضي بعين الاعتبار والاستفادة والمحاسبة، ولا بد له من نظر إلى المستقبل لإعداد العدة وتهيئة الزاد ولا بد من توجيه اهتمامه إلى الحاضر إلى الساعة التي هو فيها ليغتنمها قبل أن تفلت وتضيع مع ما فرط وضاع. إِنَّ الحَيَاةَ دَقَائِقٌ وثَوَانِي دَقَّاتُ قَلْبِ المرءِ قَائِلةٌ لَهُ فساعات العمر ثلاث: ساعة مضت، وساعة مستقبلة، لا يدري أيعيش إليها أم لا يدري ما يقضي الله فيها، وساعة راهنة ينبغي أن يجاهد نفسه في تعبئتها في الطاعة في الباقيات الصالحات سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. فإن لم تأته الساعة الثانية لم يتحسر على فوات هذه الساعة، وإن أتته الساعة استوفى حقه منها وليحذر طول الأمل بل يجعل نفسه ابن وقته كأنه في آخر أنفاسه. ويحرص جهده على أن يكون على حالة لا يكره أن يدركه الموت وهو عليها وليجعل ما رواه أبو ذر نصب عينيه من قول النبي ﷺ: «لا يكون المؤمن ظاعنا إلا في ثلاث: تزود لمعاد أو مرمة لمعاش أو لذة في غير حرام». وليحذر الآفات القاتلة للوقت ومن أعظم الآفات: الغفلة وهي مرض يصيب عقل الإنسان بحيث يفقد الحس الواعي بالأحداث واختلاف الليل والنهار ويفيد الانتباه اليقظ إلى معاني الأشياء وعواقب الأمور. وقد حذرنا الله سبحانه وتعالى من الغفلة أشد التحذير وبين عاقبة الذين غفلوا عن الله وآياته فقال لرسوله ﷺ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ. وقال تبارك وتعالى: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا. وقوله تبارك وتعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ. وقال جل وعلا وتقدس: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ، وقال: فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بَآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ. وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ الآيات فعلى اللبيب العاقل أن يحذر كل الحذر عن مقاربة الغافلين لئلا يصيبه هذا المرض الفتاك. الآفة الثانية: وهي أيضا من أعظم الآفات ومن أشدها خطرًا على قتل الوقت وهي آفة التسويف والتأخير حتى ربما صارت كلمة سوف شعارًا له وطابعًا لسلوكه. وقيل لبعض العقلاء أوصنا فقال: احذروا سوف، فمن حق يومك عليك أن تعمره بطاعة الله وذلك بالنافع من العلم والصالح من العمل. وقال الحسن البصري إياك والتسويف فإنك بيومك ولست بغدك، إن يكن غد لك فكن في غد كما كنت في اليوم، وإن لم يكن لك لم تندم على ما فرطت في اليوم. وكتب بعضهم إلى آخر له: إياك وتأمير التسويف على نفسك وإمكانه من قبلك، فإنه محل الكلال وموئل التلف وبه تنقطع الآمال وفيه تنقطع الآجال وبادر يا أخي فإنه مبادر بك وأسرع فإنه مسرع بك وجد فإن الأمر جد وتيقظ من رقدتك وانتبه من غفلتك. وتذكر ما أسلفت وقصرت وفرطت وجنيت وعملت فإنه مثبت محصى فكأنك بالأمر قد بغتك فاغتبط بما قدمت أو ندمت على ما فرطت. ثم اعلم أن التسويف وتأخير الواجب آفات منها: أنك لا تضمن أن تعيش إلى الغد ولا سيما في هذا العصر الذي كثرت فيه الحوادث برغم تقدم الطب وتوفر النعم وتقدم العلم. ولكن لا يمنع ذلك الموت بسبب الحوادث التي لا تحصى كل يوم من أسباب أدوات الحضارة: السيارات والطائرات والآلات والأجهزة الميكانيكية والكهربائية والقز والنفط وغيرها بل العلم هو الذي نشأت عنه هذه الأسباب بإذن الله حيث كان الإنسان قبل حصول هذه في أمان منها. ثانيًا: إنك إن بقيت إلى الغد لا تأمن من المعوقات من مرض طارئ أو شغل عارض أو بلاء نازل به فلهذا ينبغي للعاقل الحازم أن يبادر إلى اغتنام الفرص وفعل الخيرات وأداء الواجبات وكان العجز أن تؤخر وتؤجل حتى تفوتك الفرصة وتشكو من الغصة، وقد قيل: فَهُمْ يَقولُونَ لِلتَّأخير آفَاتُ وَلاَ تُؤَخِّرْ إِذا مَا حَاجَةٌ عَرَضَتْآخر: فَمَن لغَدٍ مِنْ حَادثٍ بكَفِيلِ عَليكَ بأمْرِ اليومِ لا تَنْتَظِرْ غَدًاآخر: إِلَىْ غَدٍ إن يَومَ العَاجزينَ غَدُ وَلا أُأَخِرُ شُغْل اليَومَ عَنْ كَسَلٍوقال النبي ﷺ لرجل: «اغتنم خمسًا قبل خمسٍ: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك وغناك قبل فقرك». وقال أحد العلماء لبعض الشباب: اعمل قبل أن لا تستطيع أن تعمل فأنا أبغي أن أعمل اليوم فلا أستطيع وكانت حفصة بنت سيرين تقول: يا معشر الشباب اعملوا فإنما العمل في الشباب. ثالثًا: أن لكل يوم عمله ولكل وقت واجباته فليس وقت فارغ من العمل ولما قيل لعمر بن عبد العزيز رحمه الله، وقد بدا عليه الإرهاق والتعب من كثرة العمل أخر هذا إلى الغد فقال: أعياني عمل يوم واحد فكيف إذا اجتمع علي عمل يومين. وقال آخر: حقوق في الأوقات يمكن قضاؤها وحقوق الأوقات لا يمكن قضاؤها إذ ما من وقتٍ إلا ولله عليك في حقٌ جديدٌ وأمر أكيد فكيف تقضي حق غيره وأنت لم تقض حق الله. رابعًا: تأخير الطاعات والتسويف في فعل الخيرات يجعل النفس تعتاد تركها والعادة إذا رسخت أصبحت طبيعية يصعب قلعها. حتى إن الإنسان يقنع بوجوب المبادرة إلى الطاعات وعمل الصالحات لكنه لا تساعده الإرادة بل يجد كسلا وتثاقلا عن العمل وإعراضًا عنه ومثل هذا يوجد في التسويف في التوبة من المعاصي. فإن النفس إذا اعتادت ارتكاب المعاصي يعسر منعها منها ففي كل يوم تزداد حبًّا لها وتزدد ضخامة المعصية ويكثر أثرها في القلب حتى يعمه ظلامها فلا ينفذ إليه الهدى وانظر إلى الغيبة والكذب والرياء ونحوها كيف يعجز المرء عن قهر نفسه عنها. وفي الحديث الذي رواه الترمذي: «إن المؤمن إذا أذنب ذنبًا كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه فإن زاد زادت حتى تعلق قلبه وذاك الران الذي ذكره الله في القرآن الكريم: كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ». اللهم اغفر لنا وارحمنا ووفقنا للعمل بطاعتك وأصلح لنا شأننا كله وتقبل منا وأدخلنا الجنة ونجنا من النار وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. فوائد متنوعةاعلم أن الدين شطران أحدهما: ترك المناهي والآخر: فعل الطاعات، وترك المناهي هو الأشد فإن الطاعات يقدر عليها كل أحد وترك الشهوات لا يقدر عليها إلا الصديقون ولذلك المهاجر من هجر ما نهى الله عنه والمجاهد من جاهد نفسه وهواه. واعلم أنك إنما تعصي الله بجوارحك وإنما هي نعمة من الله عليك وأمانة عندك فاستعانتك بنعمة الله على معصيته كفر للنعمة وخيانة في أمانةٍ أودعك الله إياها. فأعضاؤك تحت رعايتك فانظر كيف ترعاها فقد قال رسول الله ﷺ: «كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته وأعضاؤك ستشهد عليك يوم القيامة». ثم اعلم أن من أمهات المعاملة ما يلي: الأولى: معاملة الله تبارك وتعالى وهي بالالتجاء إليه ورؤية أن لا سواه وأن يكون العمل كله خالصًا له ولا طريق سوى الاعتراف بالعجز عن بلوغ أداء ما يستحقه جل وعلا وتقدس. وليحذر العبد أن يفقده الله حيث أمره أو يراه حيث نهاه وليثق به غاية الثقة لا بغيره فمن عامله جل وعلا ربح وأفلح ورشد وأصلح. الثانية: معاملة النفس الأمارة بالسوء وذلك منعها عن هواها، قال الله جل وعلا وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى. وإذلالها ورد جماحها بالطاعة وكسرها فإنها في الحقيقة أكبر الأعداء وذلك بأن ينظر في القلب فيطهره من الأخلاق المذمومة كالرياء والكبر والحسد والعجب. والبخل والحرص والطمع والمكر والخديعة والغش وحب الثناء والولوع بالشهوات ومحبة الدنيا والغفلة عن الآخرة وغير ذلك من الغرائز المذمومة. وبأن يغرس فيه الإخلاص والتواضع والنصيحة والشفقة وحسن الخلق والتهاون بالذم ؛ لأن الذي يذمك يهدي لك الحسنات. فلا ينبغي لك أن تأنف من المذمة بل افرح بها إنما يأنف منها الرجل المتكبر المتعاظم في نفسه الجاهل بأسوائه وإنما مثله كمثل الكناس للقاذورات إذا قيل: إنك متلطخ بالنجاسة فاغسلها فاستعظم ما قيل له واشمأز وأنف منه وغضب على القائل. والمتلوث بالذنوب والأخلاق الفاسدة أقذر وأسوأ حالا من الكناس المتلطخ بالنجاسة فلماذا يغضب وقد استوجب الذم سرًا وجهرًا وهو أخسر منه لو تفكر وأبصر وعقل وفهم. ومما ينبغي الاعتناء به اعتماد الشكر والسخاء ومحبة الآخرة وما يقرب إليها من الأقوال والأعمال والإعراض عن الدنيا وشهواتها المحرمة بكل حال. ويسعى في طلب الحلال ما أمكنه إلى غير ذلك من الأخلاق المحمودة. ثم ليطهر لسانه من الكذب والغيبة النميمة وقول الزور وسائر فضلات الألسنة. ثم يطهر يده وبطنه وفرجه وسمعه وبصره وسائر جوارحه وينظر في حل مطعمه وملبسه وسائر تصرفه ولا يطيع نفسه في شيء من هواها إلا اللهم أن يخشى النفور الكلي. فإنه يرفه عليها بشيء من المباحات مع استحضار النية الحسنة والإقلال ما أمكن ويبنى نفسه على الإتيان بالطاعة واجتناب المعصية ما أمكن. فصلعلم الأخلاق هو علم بأصول يعرف بها أنواع الفضائل وكيفية اكتسابها وأنواع الرذائل وكيفية اجتنابها وفائدة علم الأخلاق تخلق الإنسان بالأخلاق المحمودة وتجنبه الأخلاق المذمومة كما قيل: ليَفوحَ مِسْكُ ثَنَائِكَ العَطِر الشَّذِي بِمَكارم الأخلاقِ كُنْ مُتَخَّلِقًاوَادْفَعْ عَدُوَّكَ بِالَّتِي فإذَا الَّذِيْ واصْدُقْ صَدِيْقَكَ إِنْ أَرَدْتَ صدَاقةًوروي أن لقمان الحكيم أوصى ولده بأربع حكم ٍ اختارها من حكمه فقال له: تذكر اثنتين وانس اثنتين فأما اللتان أوصاه بتذكرهما فالذنب والموت وأما اللتان أوصاه بنسيانهما فإحسانه للناس وإساءة الناس عليه، وقد نظمها بعضهم فقال: وعَقْلُكَ مَوْفُوٌر يَزِيْدُ وَيَكْمُلُ إذَا شِئْتَ أنْ تَحْيَا ودِيْنُكَ سَالِمٌمَعَ الناسِ والسُوْءِ الَّذِي بِكَ يُعْمَلُ فَكُنْ مُعْرِضًا عَنْ كُلِّ بِرٍ صَنَعْتَهُبِمَا اخْتَارَ لُقْمَانُ الحَكِيمُ المُفَضَّلُ وكُنْ ذَاكِرًا لِلذَّنْبِ وَالموتِ تَعْمَلَنْ الثالثة: معاملة الشيطان وذلك بأن يبني ويعتقد أنه عدوه اللدود الناصب له العداوة ليلا ونهارًا وسرًا وجهارًا، قال الله تعالى وتقدس: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ. وقال جل وعلا: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً، وقال سبحانه وتعالى: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. الرابعة: معاملة الدنيا وهي كل ما لا نفع فيه في الآخرة فهو دنيوي وما فيه نفع فأخروي، وإن كان من أعمال الدنيا. ومعاملة الدنيا بأن يعرف العبد أنه لا راحة فيها فلا يطلبها ولا يتعلق قلبه بالتنعم والترفه والرياسة فيها وليس له منها إلا الكفاية فلا يطلب منها إلا ما يطلبه المسافر مما يبلغه منزله. وهذا لا يتم إلا بالبناء على قرب الأجل وسرعة الموت فإنه من أطال الأمل أساء العمل. الخامسة: معاملة الخلق وقد عظمت البلوى بهم فإن لهم حقوقًا ومنهم وبسببهم تنشأ أكثر الشرور فليقم العبد بحقوقهم ويسقط حقه ما أمكن وليبعد عنهم جهده إن صلحت له العزلة. وإن لم تصلح فلا يجالس إلا من فيه خير فجليس الخير خير من الوحدة والوحدة خير من جليس السوء. ويحب لإخوانه المسلمين ما يحب لنفسه لحديث: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه». ويكره لهم ما يكره لها وتكون محبته في الله وبغضه في الله وموالاته ومعاداته كذلك. ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر على ما توجبه الشريعة بقدر طاقته. ويملك نفسه عند الشهوة والغضب ولا يعجل في شيء من الأمور فيخطئ فإن العجلة تكنى أم الندامة ولا يتوانى فيبطل ولا يداهن على المعصية. ولا يخل بالمدارات الجائزة عند خوف المضرة وليحسن الظن بهم ما أمكنه وينظر إلى من فوقه في الدين فيقتدي به وإلى من دونه في الدنيا. فيأمن من احتقار نعمة الله عليه ويكثر شكر الله تعالى على أن فضله على كثير من خلقه. وبالجملة فما عرف رشده اتبعه وما عرف قبحه اجتنبه وما التبس عليه توقف في الحكم واجتهد في طلب معرفته. ثم يعمل بمقتضاها وما تعارض فيه مرجح للفعل ومرجح للترك فليكن ميله إلى الترك كالكلام والصمت إلا أن يكون مرجح الفعل أقوى وللأمور قرائن ودواعي ومرجحات. احفظ لسانك من ثمانية: الأول: الكذب في الجد والهزل ولا تعود نفسك الكذب هزلاً فيدعوك إلى الكذب في الجد والكذب من أرذل الرذائل إذا عرف به الشخص واشتهر عنه سقطت عدالته. وإذا أردت أن تعرف قبح الكذب من نفسك فانظر إلى كذب غيرك وإلى نفرت نفسك عنه, واستحقارك لصاحبه واستقباحك لكذبه. وكذلك فافعل في جميع عيوب نفسك فإنك لا تدري قبح عيوبك من نفسك بل من غيرك فما استقبحته من غيرك يستقبحه غيرك منك بلا شك فلا ترض لنفسك ذلك. الثاني: الخلف في الوعد فإياك أن تعد بشيء ولا تفي به بل ينبغي أن يكون الإحسان منك إلى الناس فعلا بلا قول فإن اضطررت إلى الوعد فإياك أن تخلف إلا لعجز أو ضرورة. فإن ذلك من علامات النفاق قال عليه الصلاة والسلام: «أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» متفق عليه. الثالث: حفظ اللسان من الغيبة، والغيبة ذكرك أخاك بما يكرهه لو سمعه، ويدخل فيها التمثيليات ومحاكات الهيئات. الرابع: المراء والجدال ومناقشة الناس في الكلام؛ لأن فيه إيذاءً للمخاطب وتجهيلاً له وطعنًا فيه وفيه ثناء على النفس وتزكية لها بمزيد الفطنة والعلم ثم هو أيضا مشوش للعيش فإنك لا تماري سفيها إلا يؤذيك ولا تماري حليما إلا يقليك ويحقد عليك ويسعى في أذيتك غالبًا. الخامس: تزكية النفس قال الله تعالى: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى. قيل لبعض الحكماء: ما الصدق القبيح؟ فقال: ثناء المرء على نفسه فإياك أن تتعود ذلك، واعلم أن ذلك ينقص قدرك حتى عند الناس. فإذا أردت أن تعرف أن ثناءك على نفسك لا يزيد في قدرك عند غيرك فانظر إلى أقرانك وزملائك إذا أثنوا على أنفسهم بالفضل والجاه والمال. وكيف يستنكره قلبك عليهم ويستثقله طبعك وكيف تذمهم عليه إذا فارقتهم فاعلم أنهم مثلك بالضبط بالكراهة والذم. السادس: اللعن فإياك أن تلعن شيئا مما خلق الله من حيوان أو طعام أو إنسان بعينه ولا تقطع على أحد من أهل القبلة بشرك أو نفاق أو كفر فإن المطلع على السرائر هو الله جل وعلا فلا تدخل بين العباد وبين الله تعالى. السابع: الدعاء على الخلق فاحفظ لسانك عن ذلك، وإن ظلمك فكل أمره إلى الله تعالى واحتسب الأجر من الله. الثامن: المزاح والسخرية والاستهزاء بالناس فاحفظ لسانك منه في الجد والهزل فإنه يريق ماء الوجه ويسقط المهابة ويستجلب الوحشة ويؤذي القلوب. وهو مبدأ الشر واللجاج والغضب ومفتاح العداوة والتصارم والتدابر ويغرس الحقد في القلوب فاحذر أن تمازحهم وإن مازحوك فلا تجبهم. وأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وكن من الذين إذا مروا باللغو مروا كرامًا. وعليك بالابتعاد عن من اتصفوا بهذه الصفات التي هي السخرية والمزح والاستهزاء ونحوها كالغيبة والكذب والنميمة والتجسس على المسلمين. وهذه سجايا الأراذل والسفل والأنذال والساقطين وسخفاء العقول والبعيدين عن الدين وتعاليمه. عافانا الله وإياكم وجميع المسلمين .والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين. فصل في فوائد منوعةوإليك بعض الآداب: لا تقف ما ليس لك به علم، ولا تنظر في عطفيك ولا تكثر الالتفات، ولا تقف على الجماعات، وإذا جلست فلا تستوفز، ولا تشبك أصابعك. ولا تعبث لحيتك وخاتمك، ولا تخلل أسنانك تؤذي من حولك بما يفوح من فمك، ولا تدخل أصابعك في أنفك فتخرج الأوساخ. ولا تكثر البصاق والتمطي والتثاؤب، ولا تقلم أظفارك أمام الجلوس، فكل هذه تكره ولا تنام عند الجلوس، ولا تجلس عند النيام، ولا تنام في سطح ما له حجا، ولا تنام حول النار، ولا بالطريق. واحذر قتالات الأوقات التلفزيون والفيديو والمذياع والكرة والجرائد والمجلات. وليكن مجلسك هادئا وحديثك منتظمًا مرتبا مفتتحا بذكر الله والصلاة على رسول الله ﷺ وبين للناس ما يعود عليهم بالمنافع الأخروية. ويشغلهم بما هم محتاجون إليه من أمور دينهم ودنياهم، وليكن مجلسك ما يخلو من الفوائد أو من تخفيف الشرور ودفعها بحسب القدرة. ولا تلح في الحاجات ولا تعلم أحدًا من أهلك وولدك فضلا عن غيرهم مقدار مالك فإنهم إن رأوه قليلا هنت عليهم وسقطت من أعينهم، وإن رأوه كثيرًا لم تبلغ رضاهم. واحذر أن تقسمه عليهم وأنت حي فتندم كما ندم من فعل ذلك واجفهم من غير عنف ولن لهم من غير ضعف. ولا تهازل أولادك ولا خدامك فيسقط قدرك عندهم وإذا خاصمت فتوقر وتحفظ من جهلك وعجلتك وتفكر في حجتك. ولا تكثر الإشارة بيدك ولا تكثر الالتفات إلى وراءك ولا تجث على ركبتيك وإذا هدأ غضبك فتكلم خشية أن يفرط منك ما تندم عليه ولا في إمكانك استدراكه. وإياك وصديق العافية فإنه أعدى الأعداء ولا تجعل مالك أكرم من عرضك. وإذا أردت معاملة أحد من الناس أو أردت مصاهرته فاسأل أولا عنه المعاملين له والجيران والقرابة أو من سافروا معه. واجتنب مصاحبة الكذاب فإنه مثل السراب يلمع ولا ينفع، واحرص على أن لا تعادي أحدًا من المسلمين ولا تكون منك إساءة إلى من عاداك وأضر بك بل ادفع بالتي هي أحسن كما أرشد إليه الله في القرآن. وأحسن إليه ولين له القول فإن من أفضل أعمال العلماء ثلاثة أشياء: أن يبدلوا العدو صديقًا والجاهل عالمًا والفاجر برًا قال الله جل وعلا: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وأصغ إلى الكلام الحسن ممن حدثك ولا تسأله إعادته. واسكت عن المضاحك والحكايات التي لا تعود عليك إلا بالضرر، ولا تحدث عن إعجابك بولدك وكلامك وتصنيفك وسائر ما يخصك. ولا تتصنع تصنع المرأة في التزين، ولا تتبذل تبذل العبد ولا تسبل ثيابك واحذر أن تحلق لحيتك أو توفر شاربك، ولا تشجع أحدًا على ظلم. وألق صديقك وعدوك بعين الرضا من غير مذلة ولا هيبة وتوقر من غير كبر وتواضع من غير مذلة وكن في أمورك في أوساطها فكلا طرفي الأمور ذميم. قال الشاعر: كَلا طَرَفَىْ قَصْدِ الأمُورِ ذَمِيْمُ وَلا تَغْلُ فِيْ شيءٍ مِنْ الأمرِ وِاقْتَصَدْوقال آخر: طَرِيقٌ إِلَىْ نَهْج الصرِاط قويْمُ عَلَيك بأوساطِ الأمُورِ فَإنَّهَافَإنَّ كَلا حَالٍ الأمُورِ ذَميمُ وَلا تَكُ فِيْهَا مُفْرِطًا أَوْ مُفَرِّطًاأمسك المعروف عن ثلاثة: عن اللئيم فإنه كالأرض السبخة لا تنبت وتغير الماء الحلو إلى المرارة. وأمسكه عن الفاحش البذيء بالقول والفعل فإنه يرى ما أعطيته خوفًا من لسانه ويده. وأمسكه عن الأحمق وهو الجاهل فإنه لا يعرف قدر المعروف فلا قيمة له عنده. من كفارات الذنوب العظام إغاثة الملهوف والتنفيس عن المكروب. إذا رأيت الله سبحانه وتعالى يتابع النعم عليك وأنت تعصيه فاحذره. وقال علي :t من أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن أصلح أمر آخرته أصلح الله أمر دنياه، ومن كان له من نفسه واعظ كان عليه من الله حافظ. وشتم أحد العقلاء رجلٌ فلم يغضب فقيل له: لما لا تغضب؟ فقال: لا يخلو هذا الذي شتمني إما أن يكون صادقًا فلا ينبغي لي أن أغضب عليه من أجل الحق وإن كان كاذبًا فالأحرى أني ما أغضب عليه إذ لم أكن على ما قال. قال أحمد بن عاصم الأنطاكي: إني أدركت من الأزمنة زمانًا عاد فيه الإسلام غريبا كما بدأ وعاد وصف الحق فيه غريبًا كما بدا إن ترغب فيه إلى عالم وجدته مفتونا بحب الدنيا يحب التعظيم والرياسة ويكره لا أدري إذا سئل. وإن ترغب فيه إلى عابد وجده جاهلا في عبادته مخدوعا صريعًا غدره إبليس قد صعد به إلى أعلى درجات العبادة وهو جاهل بأدناها فكيف بأعلاها. وسائر ذلك من الرعاع همج وذئاب مختلسة وسباغ ضارية وثعالب ضواري هذا وصف أهل زمانك من حملة العلم والقرآن ودعاة الحكمة، أخرجه أبو نعيم في "الحلية". أتى ملك إلى زاهد في الدنيا وقال له: بلغني شدة زهدك فأتيتك فقال له: ألا أدلك على من هو أزهد مني. قال: بلى، قال: أنت لأني زهدت في الدنيا الفانية، وزهدت أنت في الجنة الباقية. وسئل ابن المبارك من الناس ؟ قال: العلماء العاملون بعلمهم وسئل من الملوك ؟ قال: الزهاد، وسئل من السفلة؟ قال: المراءون الذين يعيشون بدينهم. كان أبو حازم يمر على الفاكهة بالسوق ويقول: موعدك الجنة فلا يأكلها. قال الخليفة هشام بن عبد الملك لسالم بن عبد الله بن عمر عند الكعبة: سلني حاجتك، فقال: والله إني لأستحي أن أسأل في بيته غيره. فلما خرج من المسجد قال هشام الآن خرجت من بيت الله فاسألني، فقال: من حوائج الدنيا أم الآخرة؟قال: من حوائج الدنيا، فقال سالم: ما سألتها ممن يملكها، فكيف أسالها ممن لا يملكها. فَهْوَ الَّذي يُرتَجَى مِنْ عِنْدِه الأمُل سَلِ الإلَهَ إِذا نَابَتْكَ نَائَبةٌوَإنْ رُدِدْتَ فَلا ذلٌ وَلا خَجَلُ فَإنِّ مُنِحْتَ فَلا مِنْ وَلا كَدَرٌسئل الشعبي عن مسألة فقال: لا أدري فقيل له فبأي شيء تأخذ رزق السلطان فقال: لأقول: لا أدري لما لا أدري. وقيل: أما تستحي من كثرة ما تقول: لا أدري؟ فقال: لكن الملائكة المقربين لم يستحيوا حين سئلوا عما لا يعلمون أن يقولوا: لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. كان عبد الله بن المبارك في غزوة فنزل عند نهر ونصب رمحه وربط فرسه وتوضأ وشرع يصلي فلما سلم وجد فرسه أنها انفلتت وأكلت من الزرع. فقال: أكلت فرسي حرامًا فلا ينبغي لي أن أغزو عليها فتركها لصاحب الزرع واشترى غيرها وغزا عليها. وروي عن عائشة رضي الله عنها قالت: لم يمتلئ جوف النبي ﷺ شبعًا قط ولم يبث شكوى إلى أحد. وكانت الفاقة أحب إليه من الغنى وإن كان ليظل جائعًا يلتوي طول ليلته من الجوع فلا يمنعه صيام يومه. ولو شاء سأل ربه جميع كنوز الأرض وثمارها ورغد عيشها فأعطي ولقد كنت أبكي له رحمة مما أرى وأمسح بيدي على بطنه مما به من الجوع، وأقول نفسي لك الفداء لو تبلغت من الدنيا بما يقوتك فيقول: «يا عائشة ما لي وللدنيا إخواني من أولي العزم من الرسل صبروا على ما هو أشد من هذا فمضوا فقدموا على ربهم. فأكرم مآبهم وأجزل ثوابهم فأجدني أستحي إن ترفهت في معيشتي أن يقصر بي غدًا دونهم. وما من شيء أحب إلي من اللحوق بإخواني وأخلائي»، قالت: فما أقام بعد إلا شهرًا حتى توفي ﷺ. أطعم أبو الدرداء ضيوفه ولما ناموا لم يكن عنده لحف تغطيهم فأتاه أحدهم فوجد أبا الدرداء وأهله بدون غطاء فسأله أين متاعكم؟ فقال أبو الدرداء لنا دار هناك (يريد الآخرة)، نرسل إليها تباعًا كل ما نحصل عليه. ولو استبقينا في هذه الدار شيئا لأرسلناه إليكم إن الطريق إلى تلك الدار عقبة كؤود، المخف فيها خير من المثقل فأردنا أن نخفف لعلنا نتجاوزها. أرسل سليمان بن عبد الملك وهو في مسجد رسول الله ﷺ إلى العالم صفوان -وهو يصلي- غلامه بخمسمائة دينار في كيس فقال له الغلام: ألست صفوان؟ قال: بلى، قال: خذ هذا المال من الخليفة. قال صفوان: هذا المال ليس لي أنت مخطئ فاذهب وتثبت من الخليفة قال: أمسك الكيس حتى أعود قال: لا إن أمسكته فقد أخذته. اذهب به معك فذهب الغلام، وأخذ صفوان نعليه وخرج من المسجد ولم يعد إلى المسجد حتى سافر الخليفة. لله دره هذا من رقم (1) في الزهد.أَدْنَى مِنْ النَّاسِ عطْفًا خَالِقُ النَّاسِ قَالوا تَعَطّفْ قُلُوبَ النَّاسِ قُلْتُ لَهْمْقَبَضْتُهَا عَنْ بَنِي الدُّنْيَا عَلَى اليَأْسِ وَكَيْفَ أَبْسُطُ كَفِّي للسُّؤَال وَقَدْ مِن اسْتِلامِي كَفَّ البَرِّ وَالقَاسِي تَسْلِيمُ أَمْرِي إِلَىْ الرحمنِ أَمثلُ بِي ذكر عن الإمام أحمد أنه سمع بحديث عند عالم في دمشق فسافر من بغداد إليه فلما وصل دمشق سأل أحمد عنه فدل عليه فلما قرب من بيته وجده خارجًا من بيته يقود حماره. وقد كان حمالا فرفض الحمار أن يمشي فحاول جره أو سوقه فأبى بجمع جبته ورفعها للحمار ليوهم الحمار أن فيها شعيرًا أو نحوه فتبعه الحمار. فتبين للإمام أحمد أن الجبة خالية ما فيها شيء فترك أحمد هذا العالم ولم يسأله عن الحديث حيث تبين له كذبه على الحمار. اللهم لبابك قصدنا وقبولك أردنا وعلى رحمتك وفضلك وجودك اعتمدنا وإلى عزك استندنا وفي مرضاتك اجتهدنا وبهدايتك استرشدنا. فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين وأصلح لنا شأننا كله، اللهم إنا بك مستنصرون وبعزتك مستظهرون ولغناك مفتقرون ومن تقصيرنا مستعيذون. ومن ذنوبنا مستغفرون ولشامل عفوك منتظرون وفي خفي ألطافك مستبصرون ولعظيم انتقامك مستحضرون ولعميم صفحك مستشعرون. ولغفرانك وعفوك ورحمتك منتظرون فآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين. فصلكتب المنصور إلى جعفر الصادق يقول له: ألا تزورنا كما يزورنا الناس، فأجابه: ليس لنا من الدنيا ما نخافك عليه، ولا عندك من الآخرة ما نرجوه منك، ولا أنت بنعمة فنهنيك بها، ولا في نقمة فنعزيك. فكتب إليه المنصور: تصحبنا لتنصحنا فقال: من يطلب الدنيا لا ينصحك، ومن يطلب الآخرة لا يصحبك. شكى عامل لعمر بن عبد العزيز كثرة العمل وأنه يسهر الليل لذلك، فكتب عمر إليه يا أخي أذكر طول سهر أهل النار مع خلود الأبد. وإياك أن ينصرف بك العمل عن الله فيكون آخر العهد بك وانقطاع الرجاء منك، فلما قرأ الكتاب قدم على عمر، وقال خلعت قلبي بكتابك لا أعود إلى ولاية حتى ألقى الله عز وجل. مر أحد الناس بجماعة يترامون بالنبل ورجل جالس بعيدًا عنهم، فأراد أن يكلمه، فقال: ذكر الله أشهى علي، فقال له: أنت وحدك في هذا. فقال: معي ربي جل وعلا وملكاي. فقال له: من سبق من هؤلاء؟ فقال: من غفر الله له ذنوبه، فقال له: أين الطريق؟ فأشار بيده إلى السماء، وقال: ومشى، وقال: يا رب أكثر خلقك مشغول عنك. قيل: إنه مرض يعقوب بن ليث مرضًا أعيا الأطباء فاستنجد بسهل بن عبد الله الزاهد، وقال له: ادع الله لي أن يشفيني. فقال: كيف يستجاب دعائي لك والمظلومون ما فرج عنهم فأطلق الأمير المظلومين فقال سهل: اللهم كما أريته ذل المعصية فأره عز الطاعة وفرج عنه فقيل: إنه عوفي بإذن الله فعرض على سهل مالا فرفضه وقال: لا حاجة لي فيه، وهذا من رقم (1) في الزهد. حبس بعض الملوك شخصًا ظلمًا بضع سنين فلما حضرت الوفاة المظلوم المسجون كتب رقعة. وقال للسجان: إذا أنا مت فأوصل هذه الرقعة إلى الملك فمات الرجل. وإذا مكتوب في الرقعة: أيها الغافل إن الخصم قد تقدم، والمدعي عليه بالأثر والمنادي جبريل، والقاضي الذي سيحكم بيننا لا يحتاج إلى بينة ؛ لأنه أحاط بكل شيء علمًا، وهو أحكم الحاكمين وأعدل العادلين. من أعجب حالات الإنسان أنه يحسب لكل شيء حسابًا ويستعد له يخشى الفقر فيدخر له المال ويخشى البرد فيستعد له والحر كذلك. ويخشى الشيخوخة والكبر فيسعى في تحصيل الأولاد لعلهم يخدمونه عند العجز ويخلفونه في شؤونه الدنيوية والأخروية، وهكذا. لكنه لا يدخل الموت الذي ربما فاجأه في حسابه فلا يستعد له مع أنه يشاهد الموتى يذهبون ولا يعودون. وهو مهدد بالموت في كل ساعة خصوصًا في زمننا الذي كثرت فيه أسباب موت الفجأة نسأل الله أن يوقظ قلوبنا للاستعداد له. وقال علي :t أيها الناس اتقو الله الذي إن قلتم سمع وإن أضمرتم علم، وبادروا الموت الذي إن هربتم عنه أدرككم، وإن أقمتم أخذكم، وإن نسيتموه ذكركم. وقال :t إذا كنت في إدبار والموت في إقبال فما أسرع الملتقى. وقال آخر: الدنيا كطريق فيه شوك مغطى بالتراب يدوسه من لا يعرف مسلكه فينخسه ويضره ويؤلمه ويقف عنه من استراب به فيسلم من شره. وقال: من مال إلى الدنيا تعجل التعب فيها، وكان على يقين من فنائه. وقال: ما أغفل من تيقن بالرحيل عن الدنيا وهو منهمك مجتهد في عمارتها والجدير بالعاقل أن يجعل جل أوقاته للآخرة ولا ينسى نصيبه من الدنيا. فمن جعل همه كله للدنيا ضيع نفسه، وفعل السبب لا ينافي التوكل قال ﷺ: «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا» رواه الترمذي. ففي الحديث دلالة على طلب الرزق الكفاف وعمارة الآخرة تفيد الراحة في الدنيا والنعيم في الآخرة وعمارة الدنيا تكسب التعب فيها والشقاء بعد مفارقتها. والآخرة صبر قليل وسرور طويل. وقال آخر: الموت راحة لمن كان عبد شهوته ومملوك هواه لأنه كلما طالت حياته كثرت سيئاته وانبثت في العالم جناياته. وقال: الموت محمود على كل حال للبر والفاجر، فأما البر فيصل إلى ما قدم من صالح أعماله وجميل أفعاله، وأما الفاجر فيستريح العالم من فجوره وشروره ويقل تزيده من الأوزار. وختامًا فإن الإنسان عند موته ينكشف له الحجاب فإن كان ممن t ينكشف له من سعة رحمة الله وجلاله ما تكون الدنيا بالإضافة إليه كالسجن المضيق. يفتح له باب إلى الجنة ويأتيه من روحها وريحانها ويوسع له قبره مد بصره. وإن كان من أهل الشقاء فيرى نفسه محفوفة بالمخازي والفضائح والأنكال ويضيق عليه قبره، ويفتح له باب إلى النار ويأتيه من حرها وسمومها نعوذ بالله من ذلك. والعجب من غفلتنا وهذه العظائم بين أيدينا وأعجب من ذلك فرحنا بأموالنا وأهلينا وأولادنا وأصدقائنا مع العلم أننا سنفارق الجميع ولكننا في غفلة ولو لم يكن للعاقل هم ولا غم إلا التفكر والتأمل في خطر تلك الحالة، وهول المطلع لكان كافيًا في استغراق جميع العمر، ولكن ما عرف قدر العمر وعرف الدنيا حقيقة إلا أفراد من الآلاف الذين تمسكوا بسيرة النبي ﷺ وأصحابه الذين جعلوا الدنيا مطية للآخرة نسأل الله العظيم أن يوفقنا لسلوك طريقهم وأن يجزيهم عنا وعن جميع المسلمين خيرًا. اللهم طهر قلوبنا من النفاق والحسد والكبر والعجب والرياء وأعيننا من الخيانة فإنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين وارحمنا برحمتك الواسعة يا رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. فصلقيل لرسول الله ﷺ في المنام: «إن سيدًا بنى دارًا ووضع مأدبة وأرسل داعيًا، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة ورضي عنه السيد ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يطعم من المأدبة وسخط عليه السيد فالله السيد ومحمد الداعي والدار الإسلام والمأدبة الجنة». الكلام أيسر الأعمال وأكثرها أهمية فكم من كلمة أتت بخير عظيم لا يقدر قدره إلا الله وكم من كلمة أزالت نعمًا ورءوسًا عن أعناقها. وعن أبي هريرة t أنه سمع النبي ﷺ يقول: «إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها إلى النار أبعد مما بين المشرق والمغرب» متفق عليه. وقال ﷺ: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه. وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه» رواه مالك في الموطأ والترمذي. الكلام ينقسم قسمين: نافع وضار، فالنافع: مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتبيان الحق والدفاع عنه والدعوة إلى الله وإرشاد الضال والتنبيه على الخطر ونحو ذلك. والكلام الضار: مثل القذف ومثل البهتان وهو أن تجعل للإنسان مسلم صفة مذمومة هو خال منها ومن الكلام الضار، الدفاع عن الباطل وأعظم الكذب الكذب على الله وعلى رسله. ولا يجوز حتى على سائر الناس إلا ما استثني وذلك في الإصلاح بين الناس وفي الحرب وفي حديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها. وما عدا ذلك فهو حرام بجميع أنواعه ومنه دحض الحق وشهادة الزور ويكون في السباب واللعن والبذاءة والفحش ومنه النفاق والرياء والسخرية بالمسلمين حتى المزاح والتمثيليات ونحو ذلك. كان لأبي حنيفة دين على أحد الناس ولما رأى المديون أبا حنيفة في الطريق فزع منه وهرب فناداه أبو حنيفة وقال له: أنا سامحتك بالدين لأنني روعتك فقد قال رسول الله ﷺ: «لا يحل لمسلم أن يروع مسلمًا» رواه أبو داود. أين الورعون هل يوجد في زمننا منهم أحد؟ وَجَرَّبْتُ أَقْوَامًا بَكَيْتُ عَلَى عَمْرِو عَتِبْتُ عَلَى عَمْروٍ فَلَمَّا فَقَدْتُهُ أكيس الناس رجل وفقه الله لطاعته فعمل بها ثم دل الناس عليها. العارف لا يفتر عن ذكر الله ؛ لأن الله يقول: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ، ولا يمل من أداء حقوق الله ولا يأنس بغيره. من علم أن الله أرحم به من نفسه وأنصح له منها وأعلم بمصالحه وأن كل ما من الله نعم فقد شكر الله. من عرف الله حقيقة صفا له العيش وطابت له الحياة وهابه كل شيء وذهب عنه خوف المخلوقين وأنس بالله تعالى. ومن عرف الله حق المعرفة أحبه ؛ لأن مصدر الخير والنعمة منه جل وعلا يعطي الإنسان كل ما يريد وفوق ما يريد إذا شاء. قال تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا، وقال تعالى: إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ، فهو أكرم الأكرمين وأجود الأجودين. أحب المحبون ربهم حبًّا شعروا معه أن الله معهم يراهم دائمًا فتأدبوا أدبًا أصبحوا معه لا يقولون إلا أحسن القول. ولا يعملون إلا أحسن العمل لأنهم متيقنون أن الله معهم بعلمه وإحاطته واطلاعه أينما كانوا واستحيوا من الله حق الحياء وخافوا غضبه وإعراضه عنهم فاستقاموا كما أمروا. قال بعضهم: علامة محبة الله إيثار طاعته ومتابعة نبيه ﷺ، وقال آخر: أحببت الله حبا سهل علي كل مصيبة ورضاني في كل قضية فما أبالي مع حبي إياه ما أصبحت عليه وما أمسيت. وَمَالِيْ سِوَى رُوْحِي تَقدَّمْتُ أَشْتَرِي وَأَنتَ الِذيْ لَوْ بِيْعَ بالرُوْحِ وُدُّهُليس بصادق من ادعى محبة الله ولم يحفظ حدوده ويؤدي فرائضه. وقال آخر: إن الله سبحانه خبأ أربعًا في أربع، رضاه في طاعته فلا تحقروا منها شيئا فلعل رضاه فيه، وخبأ غضبه في معصيته فلا تحقروا منها شيئا فلعل غضبه فيه، وخبأ ولايته في عباده فلا تحقر منهم أحدًا فلعله ولي لله وخبأ إجابته في دعائه فلا تترك الدعاء فربما كانت الإجابة فيه. - الصالحون يبنون أنفسهم والمصلحون يبنون الجماعات. - إذا رغب الملك عن العدل رغبت الرعية عن الطاعة. ما ذل قوم حتى ضعفوا، وما ضعفوا حتى تفرقوا وما تفرقوا حتى اختلفوا وما اختلفوا حتى تباغضوا وما تباغضوا حتى تحاسدوا فاستأثر بعضهم على بعض. لا شيء أضر على الدين والدنيا من إشراك العامة فيما هو شأن الخاصة ومن تصدر الصغير مكان الكير وإنزال الجاهل مكان العالم. لا تفرحك الطاعة لأنها برزت منك وافرح لأن الله وفقك لفعلها ويسرها عليك وأعانك عليها. التوكل اعتماد القلب على الله في جلب المنافع ودفع المضار مع الثقة بالله وفعل الأسباب. وقال آخر: التوكل هو أنك إذا أردت أن تعمل عملا عملته بجد وإتقان مع اعتقادك أن التوفيق فيه يأتيك من الله لا من عملك ؛ لأنه هو الذي علمك وألهمك ما يجب أن تعمل وأعانك عليه وسهل لك سبيله ثم وفقك فيه لهذا فإنك تطلب من الله التوفيق والنجاح. ليس التوكل ترك الأسباب والتخلي عنها بل معناه انحصار الأمل في الله وحده والالتجاء إلى تدبيره وحكمته. وعدم تعلق القلب بالأسباب لأنها وحدها لا تغني من الله شيئا. قيل لأبي حازم: غلت الأسعار. فقال: ما يهمكم من ذلك إن الذي يرزقنا في الرخص هو الذي يرزقنا في الغلاء. من الكرامات أن تبدل خلقا ذميمًا بخلق حسن. ومن أ عظم الكرامات الاستقامة على شرع الله تعالى. من أخلاق المؤمن حسن الحديث إذا حدث وحسن الاستماع إذا حُدث وحسن البشر إذا لقي ووفا بالوعد إذا وعد، والله أعلم. فصلالدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي مهنة الأنبياء والمرسلين والعلماء العاملين بالكتاب والسنة. لهذا كانت أشرف مهنة وأحسن مهنة وأعظم المهن وأكثرها ثوابًا عند الله وأكثرها لزومًا. فالأمة التي لا توجد فيه أمة ضائعة يتولاها إبليس لعنه الله فيفسدها. هذه الطاعة لها أصول وإمكانيات فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب على القائم بهما أن يكون عارفًا ماذا يقول وماذا يفعل. وأن يبدأ بنفسه فيأمرها بالمعروف وينهاها عن المنكر ثم يأتي الناس فيأمرهم بالصدق بعد ما يتصف به. وينهى عن الغيبة بعد ما يتوب منها. وينهى عن الملاهي بعد ما ينظف بيته منها ويتجنبها وهلم جرا. ثم يجب أن يبتغي بذلك وجه الله تعالى لا يريد بذلك رياء وشهرة ولا سمعة. وأن يكون بذلك لبقا لطيفًا حكيمًا عملاً بقوله تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. ولا بد أن يكون واسع الصدر صبورًا حليما داعيًا للناس بالتوبة والتوفيق ويدعوهم برفق وشفقة ولطف بهم. وقد يصاب الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر بأذى أو مهانة أو سجن أو قتل فليصبر ويحتسب الأجر والثواب من الله تعالى. وقد بينها ربنا بقوله عن لقمان: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ. ومن أمثلة بدء الإنسان بنفسه أولا أن ولدا كان يدخن فجاء والده إلى الأستاذ الذي كان يدرس للولد، وقال: إن ابني يدخن وقد حاولت منعه منه فلم أقدر وأود أنك تنصحه. فوعده أن ينصحه فأتاه بعد مدة وأخبره أن الولد مستمر على حاله ثم عاوده بعد مدة فوعده خيرًا ثم ترك الولد التدخين فجاء أبوه إلى الأستاذ يتشكر منه. فقال الأستاذ: إن تأخري عن المبادرة بنصحه لأني كنت أدخن فلذا بدأت بنفسي وحاولت تركه فلما قدرت على تركه نصحته فنفعت النصيحة بإذن الله اهـ. شعراً :هَلاَّ لِنَفْسِكَ كَانَ ذَاْ التَّعْلَيْمُ يَاْ أَيُّهَا الرَّجلُ المعلمُ غَيرَهُفَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيْمُ اِبْدَأْ بِنَفْسِكَ فَاْنَهَهَا عَنْ غَيِّهَابِالرأيِ مِنْكَ وَيَنْفَعُ التَّعْليِمُ فَهُنَاكَ يُقْبَلُ مَا تَقُولُ وَيقُتَدَىكَيمَا يَصِحُ بِهِ وَأَنْتَ سَقِيْمُ تَصِفُ الدَّواء لِذِي السِقَامِ مِنْ الضِنىعِظتَ وَأَنْتَ مِنْ الرَّشادِ عَدِيْمُ مَا زِلْتَ تلقحُ بالرَّشادِ عُقُولِنَاويقول آخر: وَتزْعُمُ أَنَّ قَلبَكَ قَدْ عَصَاكَا أَتَطمَعُ أَنْ يُطِيْعَكَ قَلب سُعْدَىوإياك والغلظة والشدة في النصيحة فإنهما يسببان الرد والتشاتم والسباب والاستمرار على الحالة السيئة أو أسوأ. قال الله جل وعلا لموسى حين أرسله لفرعون: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى.والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.فصلالبخيل يستعجل الفقر الذي هرب منه ويفوته الغنى الذي هو يطلبه فيعيش في الدنيا عيش الفقراء ويحاسب حساب الأغنياء. البخيل هو الرجل الوحيد الذي يستبشر ورثته بمرضه وموته. لا تغتر بالمال وإن كثر فالآفات كثيرة وربما يكون في كثرته هلاكك. كان إبراهيم بن أدهم ولي عهد في إيران فترك المملكة واشتغل بالعبادة بدمشق وعمل حارسًا في بستان ليكسب عيشه من الحلال. وفي يوم أتى إليه وكيله لما كان في الإمارة وقدم إليه ثلاثين ألف درهم وقال له: توفي عبد لك في إيران وخلف هذه الدراهم فأتيت بها إليك فقال: لا حاجة لي بها. قال: فماذا أعمل بها ؟ قال: خذ لك عشرة آلاف وأعط صاحب البستان عشرة آلاف. وأنفق على فقراء إيران عشرة آلاف. هكذا كانوا يخافون الغنى كما يخاف الناس من الفقر. سئل ابن مرثد ما لك لا تجف عينك من البكاء؟ فقال: إن الله توعدني إن أنا عصيته أن يسجنني في النار والله لو لم يتوعدني إلا أن يسجنني في الحمام لكنت حريا ألا تجف عيني من البكاء. وسئل إبراهيم بن أدم فقيل له: لما لا تخالط الناس ؟ فقال: إن صحبت من هو دوني آذاني بجهله وإن صحبت من فوقي تكبر علي وإن صحبت من هو مثلي حسدني فاشتغلت بمن ليس في صحبته ملال ولا في وصله انقطاع ولا في الأنس به وحشة. مصاحبة الأحمق الجاهل كمصاحبة الحية لا تدري متى تلدغك: مِنْ حُرْقِةِ النَّارِ أَمْ مِنْ فُرِقْةِ العَسَلِ مَاْلِي أِرِى الشَّمَعَ يَبْكِي فِيْ مَوَاقِدِهِمَا ضَرَّ بالشَّمْعِ إِلاَّ صُحْبَةُ الفَتَل مَن لاَ تُجَانِسَهُ اِحْذَرْ تُجَالسَهُلأن الفتيلة من قطن أو نحوه والشمع من دهن أو نحوه فهما متباينان بعيد أحدهما عن الآخر فلهذا احترق الشمع لما صاحبته الفتيلة وكذلك الأحمق بعيد عن العاقل في المعنى فلا ينبغي له صحبته والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. فصل البشارات التي بشر الله تعالى بها المتقين في القرآنالأولى: البشرى بالكرامات: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى الآية. الثانية: البشرى بالعون والنصرة إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا الآية. الثالثة: البشرى بالعلم والحكمة إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا الآية. الرابعة: البشرى بكفارة الذنوب وتعظيم المتقي بتعظيم أجره وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا. الخامسة: التوفيق للعلم: وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ الآية. السادسة: البشرى بالمغفرة وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. السابعة: اليسر والسهولة في الأمر وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا. الثامنة: الخروج من الغم والمحنة وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا. التاسعة: رزق واسع بأمن وفراغ: وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ. العاشرة: النجاة من العذاب والعقوبة: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا. الحادية عشرة: الفوز بالمراد وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ الآية، إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا. الثانية عشرة: التوفيق والعصمة وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ إلى قوله: وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ. الثالثة عشرة: الشهادة لهم بالصدق أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ. الرابعة عشرة: بشارة الكرامة والأكرمية إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ. الخامسة عشرة: بشارة المحب إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ. السادسة عشرة: الفلاح وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. السابعة عشرة: نيل الوصال والقربة وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ. الثامنة عشرة: نيل الجزاء بالمحنة إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. التاسعة عشرة: قبول الصدقة إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. العشرون: الصفاء والصفوة فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ. الحادية والعشرون: كمال العبودية اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ. الثانية والعشرون: الجنان والعيون إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. الثالثة والعشرون: الأمن من البلية إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ. الرابعة والعشرون: عز الفوقية على الخلق وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. الخامسة والعشرون: زوال الخوف والحزن من العقوبة إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا الآيات. السادسة والعشرون: قرب الحضرة واللقاء والرؤية: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ. السابعة والعشرون: أن لا عداوة بينهم: الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ. الثامنة والعشرون: إصلاح أعمالهم ومغفرة ذنوبهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ. التاسعة والعشرون: تقريب الجنة لهم قال تعالى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ. شعراً :بِهِ وَجَلٌ مِمَّا بِهِ أَنَتَ عَارِفُ أَسِيْرُ الخَطَايَا عِنْدَ بَابِكَ وَاقِفٌوَيَرْجُوْكَ فِيْهَا فَهْوَ رَاجٍ وُخَائِفُ يَخَافُ ذُنُوبًا لَمْ يَغِبْ عَنْكَ غَيْبُهَاوَمَا لَكَ فِيْ فَصْلِ القَضَاءِ مُخَالِفُ فَمَنْ ذَاْ الذِيْ يُرْجَى سِوَاكَ وَيُتَّقَىإِذَا نُشِرَتْ يَوْمَ الحِسَابِ الصَّحَائِفُ فَيَا سَيِّدِيْ لاَ تُخْزِنِيْ فِيْ صَحِيفَتِييَصُدُّ ذَوُوْ القُرْبَى وَيجْفُوْ المُؤَآلِفُ وَكُنْ مُؤنِسِيْ فِيْ ظُلْمَةِ القَبْرِ عِنْدَمَاأُرجِىّ لإِسْرَافِيْ فَإِنِّيْ لَتَالِفُ لَئِنْ ضَاقَ عَنِّيْ عَفْوُكَ الوَاسِعُ الذِيْعصمنا الله وإياكم من الزلل ووفقنا لصالح العمل وهدانا بفضله سبيل الرشاد وطريق السداد إنه جل شأنه نعم المولى ونعم النصير وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين. اللهم إنا نعوذ بك من شر أسماعنا ومن شر أبصارنا ومن شر ألسنتنا وشر قلوبنا وشر منينا. اللهم عافنا في أبداننا وفي أسماعنا وفي أبصارنا اللهم إنا نعوذ بك من الفقر والكفر، اللهم إنا نعوذ بك من عذاب القبر لا إله إلا أنت. اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع وعمل لا يرفع ودعاء لا يسمع. اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجأة نقمتك، اللهم أنفعنا بما علمتنا وعلمنا ما ينفعنا وزدنا علما الحمد لله على كل حال وأعوذ بالله من حال أهل النار. اللهم أغننا بالعلم وزينا بالحلم وأكرمنا بالتقوى وجملنا بالعافية. اللهم إنا نسألك صحة في إيمان وإيمانا في حسن خلق ونجاحًا يتبعه فلاح، ورحمة منك وعافية ومغفرة منك ورضوانا. اللهم إنا نعوذ بوجهك الكريم واسمك العظيم من الكفر والفقر. اللهم إنا نسألك رحمة من عندك تهدي بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا، وتلم بها شعثنا، وترد بها إلفتنا، وتصلح بها ديننا، وتحفظ بها غائبنا، وترفع بها شاهدنا، وتزكي بها علمنا، وتبيض بها وجوهنا وتلهمنا بها رشدنا وتعصمنا بها من كل سوء. اللهم أعطنا إيمانًا صادقًا ويقينًا ليس بعده كفر ورحمة ننال بها شرف كرامتك في الدنيا والآخرة. اللهم إنا نسألك الفوز عند القضاء ومنازل الشهداء وعيش السعداء والنصر على الأعداء ومرافقة الأنبياء. اللهم ما قصر عنه رأينا وضعف عنه عملنا ولم تبلغه نيتنا وأمنيتنا من خير وعدته أحدا من عبادك وخير أنت معطيه أحدًا من خلقك فإنا نرغب إليك فيه ونسألكه يا رب العالمين. اللهم ارزقنا أعينًا هطالة تشفيان القلب بذروف الدموع من خشيتك قبل أن تكون الدموع دمًا والأضراس جمرًا. اللهم اجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين حربا لأعدائك وسلما لأوليائك نحب بحبك الناس ونعادي بعداوتك من خالفك من خلقك. اللهم إنا نسألك الأمن يوم الوعيد من العذاب الشديد ونسألك الجنة دار الخلود مع المقربين الشهود والركع السجود والموفين بالعهود والوعود إنك غفور رءوف ودود. اللهم إنا نسألك باسمك الطاهر الطيب المبارك الأحب إليك الذي إذا دعيت به أجبت وإذا سئلت به أعطيت وإذا استرحمت به رحمت وإذا استفرجت به فرجت. يا حي يا قيوم يا علي يا عظيم يا واحد أحد يا فرد صمد يا من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد يا ذا الجلال والإكرام أن تفتح لدعائنا باب القبول والإجابة. وأن ترزقنا صدق التوبة وحسن الإنابة وأن تغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين. وكان الفراغ من تأليف هذا الكتابيوم السبت الموافق 2/4/1406هـ الساعة العاشرة والنصف(عبد العزيز بن محمد بن سلمان)