القوي
كلمة (قوي) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من القرب، وهو خلاف...
العربية
المؤلف | عبد الله آل طالب |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
غير أن العجب يبلغ مداه حين تسمع أو تبصر أمًّا تتخلى عن طفلها المحتاج إليها، أو ترمي فلذة كبدها بكل فظاظة، أو تضرب ابنتها بكل قسوة، أو تسعى لجلب النكد لوليدها، بزرع الأشواك في طريق سعادته الأسرية مع زوجته وأولاده، أو تجلب بخيلها ورجلها للتنكيد على ابنتها، أو الوقوف في سبيل سعادتها، أو الاعتذار لمن يتقدم لطلب يد ابنتها بأعذار واهية ..
الحمد لله الرحيم الرحمن، الذي وسعت رحمته كل شيء ووعد بكتابتها (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) [الأعراف: 156]، أحمده حق حمده، وأشكره على عظيم فضله ومجده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ند ولا مثيل، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم بتقوى الله، فاتقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، واعلموا أن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على غيره.
ومن صور الرفق المحمود: رفق الوالدين بأولادهما، ورفق الولد بوالديه، ورفق الزوج بزوجه، ورفق الجار بجاره، والصديق بصديقه.
ولقد عرفت الأم بأنها من أكثر الناس رفقًا بأولادها؛ فالأم مضرب المثل في الرقة والشفقة والحنان، الأم منبع الحب ومصدر العاطفة، ودفء الأمومة، الأم نهر دفاق، وشلال هادر، وطوفان هائج، من الحب والعطف والشفقة والدلال.
الأم بحر رقراق، وجدول منساب، وعاطفة جياشة، وسلسبيل عذب، الأم مصدر الأمان لأولادها، والترضية لهم، والتربيت على أكتافهم، هي التي تمسح الدمع عن عيونهم، وتربت على أكتافهم، وتدعمهم حين يقل الداعم، ويتخلى عنهم القريب والحبيب، تقف معهم ليتجاوزوا الأزمة، ويتغلبوا على المعضلة، ويطرحوا المشكلة والعوائق.
الأم جبلت على حب الولد لحظة لحظة، منذ كان نطفة في أحشائها، فجنينًا في رحمها، فمولودًا يصرخ فيملأ الدنيا عليها بهجة وغبطة، فطفلاً يلهو ويلعب ويبكي ويندب، فشابًا يافعًا، ثم رجلاً شديدًا، وهي كلما تراه تمتلئ جوانحها أنسًا وسرورًا، وانشراحًا وحبورًا.
ولذا فلا عجب أن يميل الطفل الغرير أو الشاب النظير، أو الرجل الكبير، إلى حنان أمه، وقلبها الكبير، ولا عجب كذلك من أم تحنو على ولدها، تمنحه محيطًا مائجًا وبحرًا هائجًا من الحب والعطف والحنان.
غير أن العجب يبلغ مداه حين تسمع أو تبصر أمًّا تتخلى عن طفلها المحتاج إليها، أو ترمي فلذة كبدها بكل فظاظة، أو تضرب ابنتها بكل قسوة، أو تسعى لجلب النكد لوليدها، بزرع الأشواك في طريق سعادته الأسرية مع زوجته وأولاده، أو تجلب بخيلها ورجلها للتنكيد على ابنتها، أو الوقوف في سبيل سعادتها، أو الاعتذار لمن يتقدم لطلب يد ابنتها بأعذار واهية، منتهاها أنها لا تريد لهذه البنت أن تسعد في ظل رجل يشبع رغبتها ويملأ قلبها حبًّا بالطريق المشروع.
لا يكاد ينتهي عجبي من أم تنكرت لأمومتها، وخلعت جلباب أنوثتها؛ بالوقوف لأولادها أو بعضهم بغرس الشوك في طريق سعادتهم، من خلال جلب النكد لهم والتسبب في سقي بذرة الشقاق فيما بينهم، تحت أي مبرر، سواء نكاية بوالدهم الذي قرر الاقتران بزوجة أخرى، أم نظرًا لعدم قناعة الابن بالاقتران من بعض قريباتها التي ترغب فيها وتقترحها له، أم لعدم طلاقه لزوجته وأم أولاده؛ لما يرى في الطلاق من هدم بيته، والجناية على أولاده، أم لعدم تحمله لأخطاء أخوته أو أخواته ونحو ذلك.
عباد الله: كيف يصح إطلاق وصف الأم على من هذه من صفاتها وهذه بعض سلوكياتها؟!
نعم أم، لكنها قاسية، والقسوة تتنافى مع هذا المسمى العظيم الذي يسيل رقة وعذوبة، فأحلى الألفاظ وأرقها وأنداها حين ينادي طفل امرأة بهذين الحرفين "ماما".
عباد الله: إن الله -عز وجل- قد أمر بالبر بالوالدين والإحسان إليهما وعدم الإساءة إليهما: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) [الإسراء: 23، 24].
وحذّره من الإساءة إليهما حتى لو أمراه بالشرك، فقال تعالى في سورة العنكبوت: (وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [العنكبوت: 8]، وقال في سورة لقمان: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [لقمان: 15].
ولكنه مع ذلك لا يسوغ للوالد المبالغة في القسوة، أو استغلال الأمر الشرعي بوجوب طاعته ووجوب البر به وعدم مخالفة أمره، ووجوب التعامل معه بالإحسان واللين، بأن يسيء إلى أولاده أو يتعامل معهم بقسوة وشدة وفظاظة، ولكن الرفق الرفق تفلحوا، وتأملوا قول الله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران: 159]، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية:
عباد الله: يستغرب كثير من الناس مثل هذا الكلام، وأنا معكم أستغربه كثيرًا، ولولا وقوفي على بعض الممارسات وسماعي لبعض القصص والحكايات لما أفضت في هذا الحديث، ولا طرقت هذا المجال، وإليكم بعض ما يقوله بعض الأبناء والبنات الذين يعانون من أمهاتهم الشدة والقسوة.
يقول أحدهم: إن زوجته من أقرب زوجات إخوانه إلى أمه، وأكثرها برًّا بها، ومع ذلك لا تجد منها سوى الجحود والنكران، وتسمعها على مشهد منه بعض الكلمات النابية، وقد تطلب منه أن يطلقها، ولما لم يستجب لها غضبت عليه وطردته من منزلها، ولم تعد ترحب به ولا بأولاده على العكس من إخوانه الآخرين الذين لا يسكنون عندها، ولا يأتون إليها إلا لمامًا.
وتقول إحداهن: في كل سنة تمر من عمري أجد حقد أمي وكرهها لي يكبر، لم أشعر يومًا بأنني أمتلك أمًّا حانية تستطيع أن تقدم لي العون إذا ما احتجت إليها، فقد حرمتني أمي من حقي الطبيعي في الحياة وهو الزواج؛ بسبب طبيعة وظيفتي التي تجعلني أدر عليها المال، لقد بلغ عمري أكثر من ثلاثين سنة، وهي مازالت ترفض الخاطب تلو الآخر، لأعذار واهية دون أن يكون لي الحق في إبداء رغبتي، عشت الكثير من المعاناة مع أمي في بيت واحد يجمعنا، لكنه كان سبب شعوري بالحكم عليّ بالسجن مع أم أنانية لا تهتم إلا بمصالحها ورغباتها، ولم يصل سوء الحال بيننا إلى هذا الحد، فقد حرمتني من أبسط حقوقي وهو الاختلاط مع الأهل وفي حفلات الزفاف إلا في حالة وضع الغطاء على وجهي حتى لا يراني أحد ويرغب في خطبتي، وقد بلغ بها الظلم أن أصبحت تجاهر بذلك أمام الجميع وأمام إخوتي.
وتقول أخرى: لم أشعر يومًا بقرب أمي مني، أو خوفها علي فهي تتعامل معي بكل قسوة من الصعب أن يصدقها أحد، ومن يقول بأن الأم لا يمكن أن تقسو على أبنائها فهو مخطئ، أمي هي سبب حزني وخوفي في الحياة؛ ذلك لأنها دائمة الضرب لي والتوبيخ أمام الجميع على الرغم من أنني أبلغ من العمر تسعة وعشرين عامًا.
وهذه فتاة وجهت هذا السؤال إلى أحد المفتين تقول فيه: أمي عصبية، كثيرة السب والشتم بألفاظ وقحة عندما تغضب، تعاملني بمعاملة غير لائقة تختلف عن أخواتي، فعلى الرغم من طيبها إلا أنها تحب أن تظهر نفسها بأنها قوية، وأن لها سلطة أمام الناس، ولو لم أفعل شيئًا يستوجب معاملتي بتلك الطريقة، وعندما يشتد غضبها تقول: سوف أدعو عليكم، ثم تقوم بالدعاء بأدعية جائرة، وكم مرة سرقت أغراضي دون علمي، وحاولت أن تسيء إلى سمعتي عند أخواتي، وأنا بصراحة لا أجد في نفسي شعورًا بمسامحتها على الرغم من كونها أمي، وأنا أعرف أني سوف أحاسب على ذلك، ولكن هل هي أيضًا محاسبة على ذلك، أم يسمح لها أن تفعل أي شيء في حقي؟!
أسئلة غريبة لكنها تحكي معاناة هذه الفتاة من أمها، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
عباد الله: إن كثيرًا من البيوت مغلق على كثير من المآسي، وصروف المعاناة، وكم تخفي المنازل خلف أسوارها من أسرار وأسرار لو وجدت مجالاً لتكشفت!! حقائق تدمي القلوب، وتقرح الأجفان.
وما يقال في حق الأمهات يتوجه بصورة أكبر وأعظم إلى بعض الآباء، فليس هذا الحديث خاصًّا بالنساء دون الرجال، فاتقوا الله -عباد الله- في أولادكم وأعينوهم على بركم بالقرب منهم، وإظهار محبتكم لهم ومراعاة مشاعرهم حين النقد أو التوجيه، فلا توجهوهم أمام زملائهم أو أقاربهم، ولا تهينوهم أمام الآخرين، ولا توحوا بتسخطكم من تصرفاتهم ووصفهم ببعض الأوصاف البذيئة، أو العبارات الجارحة، وأحسنوا التعامل وتلطفوا في العبارة، ولينوا الجانب، ومتنوا العلاقات، وتغاضوا عن الهفوات، واقتنعوا بالقليل، تدركوا الكثير، وأكثروا لهم من الدعوات الصالحات، وتجنبوا الدعوات الموبقات عليهم لا سيما حال الغضب، فلربما وافقت بابًا من أبواب السماء مفتوحًا فولجت منه واستجيب لكم فيهم فتندموا، ولات حين مندم!
هذا، وصلوا وسلموا...