الجواد
كلمة (الجواد) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فَعال) وهو الكريم...
العربية
المؤلف | فيصل بن عبد الرحمن الشدي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المهلكات - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
كثرت بسببه الخصومات! وعظمت الشكايات! دمّرت به أسر! ومزّقت به بيوت! وقطعت به أرحام! وأشعلت به فتن! وقامت بسببه محن! وزرعت بفعله إحن! رملت به نساء! وأريقت به دماء! خلقٌ يغضب الرحمن! ويفرق الإخوان! ويعمي الأبصار! ويصمّ الآذان. هو...
الخطبة الأولى:
الحمد لله اللطيف الرؤوف المنان، الغني القوي السلطان، الحليم الكريم الرحيم الرحمن، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المحيط علماً بما يكون وما كان، يعزّ ويذل، ويفقر ويغني، ويفعل ما يشاء، وبحكمته كل يوم هو في شأن، وأشهد أن محمداً عبده المبعوث إلى الإنس والجان، المؤيد بالقرآن، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما توالت الأزمان، وسلّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فها هي الدنيا غرارة غدّارة، خدّاعة مكّارة، مليئة بألوان البلايا، مترعة بصنوف الرزايا، في ظلمات بعضها فوق بعض، ومن بين حالكات الظلم شاع الإيمان والتقوى، فاز -ورب الكعبة- من استنار به في الطريق، وجعله في دربه هو الرفيق.
عباد الله: حديثنا اليوم عن خلق أحمق، وتصرف أهوج، وداء مزعج، وخطر محدق، وشيطان أخرس.
كثرت بسببه الخصومات! وعظمت الشكايات! دمّرت به أسر! ومزّقت به بيوت! وقطعت به أرحام! وأشعلت به فتن! وقامت بسببه محن! وزرعت بفعله إحن! رملت به نساء! وأريقت به دماء! خلقٌ يغضب الرحمن! ويفرق الإخوان! ويعمي الأبصار! ويصمّ الآذان! هو -والله- مفتاح لكثير من البلايا! وسبب لعظيم الرزايا! ماذا عنه أقول؟ وماذا أعدد؟
خلاصة قولي: إن آثاره أليمة، ونتائجه عظيمة، وعواقبه وخيمة.
نعم إنه الغضب، نعم الغضب الذي هو نار في الفؤاد، وجمرة في القلب وشرارة في العين، وجمرة في الوجه، وتوتر في الأعصاب، وانتفاخ في الأوداج، وحمق في التصرف، ومسارعة للانتقام، ومبادرة للتشفي.
نعم -يا رعاكم الله- إن الرائي لواقع الحياة يرى أني لم أسرف يوم أن وصفت الغضب بما وصفت.
وإلا -بالله عليك- لم قتل القاتلون؟ ولم جرح الجارحون؟ ولم طلق المطلقون؟ ولم لعن اللاعنون؟ ولم قطع القاطعون؟ ولم.. ؟ ولم؟
إن المجاري كلها تصب في نهر الغضب الأحمر القاني.
ويوم أن زادت متطلبات الحياة، وتعقدت أمورها، وتعددت شرورها أصبحنا نرى الغضب في النفوس يسري، وفي الدماء يجري، كم هم الناس الذين في غضب دائم وتوتر مزعج وقلق مرهق، يرعد ويزبد على الصغيرة، ويزمجر على الحقيرة، أهل بيته لا يعرفونه إلا محمّر العينين، مقطب الجبين، لا يعرفونه إلا لعّاناً شتّاماً سبّاباً، على أتفه الأسباب بركان يثور، ودمه يغلي ويفور.
نعم كم هي البيوت التي تعيش خصاماً نكداً، بل وتعيش جحيماً بين جدرانها، بسبب أب أو أم غضوب.
والعجب أن هذه الظاهرة أصبحت ترى حتى في الأطفال الصغار، وقد نقلت إليهم عدواه، وشملتهم بلواه.
ولقائل أن يقول: حجرت علينا أيها الخطيب، ومن الذي لا يغضب؟
فالجواب: أن الغضب أمر طبعي وخلق زرع في الإنسان، بل إن بعضه محمود، ولكن له حد معين يجب أن لا يتعداه، وقانون محدد يجدر أن لا يتخطاه.
والغضب صفة من صفات الله -تعالى-، لكن اقتضت حكمته ورحمته أن أن تسبق رحمته غضبه.
وقد امتدح الله عباده المؤمنين الذين يملكون أنفسهم عند الغضب، ينفرون ويصفحون، قال تعالى عنهم: (وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) [الشورى: 37].
وقال تعالى: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) [النــور: 22].
وانظر إلى نظرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للرجل الشديد والفارس الشجاع، ليس هو في نظره الذي يصرع الرجال، في الصحيحين يقول صلى الله عليه وسلم: "ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب".
وفي البخاري يأتيه أحد أصحابه: يا رسول الله أوصني؟ قال: "لا تغضب"، ثم قال: أوصني؟ قال: "لا تغضب"، وهذا يردد مراراً لعل من وصية أخرى، والجواب هو الجواب: "لا تغضب".
يا سبحان الله! إنها الوصية الموجزة، والموعظة المختصرة، لكنها الجامعة النافعة.
ولذا قيل لعبد الله بن المبارك -رحمه الله-: "اجمع لنا حسن الخلق في كلمة؟ قال: "ترك الغضب".
إخوة الإسلام: إن للغضب أسباباً، ولطرقه أبواباً، علّنا أن نعرفها فنجتنبها، إذ أن معرفة الداء نصف الدواء:
1- قلة المعرفة بسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وبهديه في الغضب وعلاجه، وكيف كان حلمه؟ وكيف كان رفقه صلى الله عليه وسلم مع المصائب العظام، والنوازل الضخام التي واجته في الحياة؟
2- قلة العقل وضيق التفكير ونفاد الصبر، فما أقل صبر الغضوب، يحدث جابر -رضي الله عنه- كما في صحيح مسلم ويقول: "سرنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة ورجل من الأنصار على ناضح له، فتلون عليه بعض التلون -أي توقف- فقال له: سر لعنك الله، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "انزل عنه، فلا تصحبنا بملعون، لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء، فيستجيب لكم" أو نحو ذلك.
الله أكبر! كم من الناس اليوم الذي يقيم الدنيا ويقعدها من أجل سيارة اعترضت طريقه، أو نحو ذلك؟ وكم هم اللاعنون اليوم لأولادهم، وبالذات النساء تجد الأم منهن إلا ما رحم الله تدعو على بنيها باللعن والشلل والموت والمرض، ولو استجيب دعاؤها لحزنت أشد الحزن -والله المستعان-!
3- المتكبر والمغرور، فتجده يتكبر بماله أو جاهه أو منصبه، أو نحو ذلك، فلا يرى الناس شيئاً، لا يتحمل زلة، ولا يقبل رأياً، ولا يسمع نصحاً، دائم القلق، لا يعرفه الناس إلا عبوساً.
4- نشدان الكمال دائماً، والرجل كذلك يريد الكمال من زوجته، والأب لا يريد أبداً الخطأ من أبنائه، وهل في الدنيا كمال دائما، إن طالبه دوماً له طالب مستحيل، ولذا تجد مثل هذا يغضب لأدنى تقصير، ويثور لأقل خطأ.
5- إثارة النعرات والعصبيات الجاهلية، والتي -والله- بسببها سفكت دماء ودماء، كل منهم ينادي بعشيرته وقبيلته، بسبب كلمة رماها أحدهم أو نحوها، في مشهد من مشاهد الجاهلية الأولى، ألا إن شرع الله قد كفل الحقوق، حتى الكلمة في شرع الله لها ميزان، وعلى سوئها عقاب.
6- وهي جماع ما مضى وغيره سوء الخلق، وعدم احترام الغير، عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به، وحسن الخلق يلين العتاة، فما بالك بعامة الناس؟ لكن اليوم أن لم يقدر بعض الناس الآخرين قدرهم، نشأت العداوات والحماقات والسفاهات.
اللهم بصرنا بالباطل، وارزقنا اجتنابه، وبصرنا بالحق وارزقنا العمل به، يا رب العالمين.
اللهم آمين، اللهم آمين، اللهم آمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه...
إخوة الإسلام: ولإطفاء جمرة الغضب الملتهبة، ولدفع أسبابها، فإن هناك مسكنات وعلاجات لذلك، منها:
1- أن يذكر الإنسان الله -عز وجل- وقدرته عليه، قال تعالى: (وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ) [الكهف: 24] قال عكرمة: "أي إذا غضبت".
ويروى أن بعض الملوك كتب كتاباً وأعطاه وزيراً له، وقال: إذا غضبت فناولنيه، وكان فيه: مالك وللغضب إنما أنت بشر، ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء.
2- أن يذكر ما أعده الله من الثواب العظيم لمن كظم غيظه وعفا وأصلح، قال تعالى: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) [الشورى: 40].
وقال تعالى عن المتقين: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: 134].
كانت جارية تصب الماء على يدي جعفر الصادق -رحمه الله- فوقع الإبريق من يدها، فانتشر الماء عليه، فاشتد غضبه، فقالت له: يا مولاي: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) قال: كظمت غيظي، قالت: (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) قال: عفوت عنك، قالت: (وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: 134]، قال: أنت حرّة!".
وفي الحديث الذي أخرجه الترمذي وحسنه الألباني يقول صلى الله عليه وسلم: "من كظم غيظاً وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره في أي الحور شاء".
3- التعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال تعالى: (وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [فصلت: 36].
وفي صحيح البخاري: استب رجلان عند النبي -صلى الله عليه وسلم- قد احمرّ وجه أحدهما، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم".
4- الوضوء، ففي سنن أبي داود يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ".
5- تغيير هيئته ووضعه، أخرج الإمام أحمد وأبو داود أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإذا ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع" [صححه الألباني].
6- السكوت، أخرج الإمام أحمد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "وإذا غضب أحدكم فليسكت" [صححه الألباني].
7- أن يتذكر ما يؤول إليه الغضب من الندم، كم من زوج غضب وطلّق زوجته، ثم تندم يوم أن رأى شمل أسرته يتمزق، فبدأ يطرق أبواب القضاة والمفتين، يتلمس من يفتي له بإرجاع زوجه، ولو حفظ لسانه لما تندم، وكم من أناس الآن خلف قضبان السجون تتوالى عليهم السنون وهم ينتظرون يوم قصاصهم، بسبب ساعة غضب قتلوا فيها نفساً على كلمة طائشة ونحوها.
قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "أول الغضب جنون، وآخره ندم، وربما كان العطب في الغضب".
8- الترفع عن الجهّال، والصبر عليهم وعد مجاراتهم، شتم رجل الشعبي فقال له: "إن كنت كما قلت فغفر الله لي، وإن لم أكن كما قلت فغفر الله لك".
9- اللجوء إلى المرح عند الغضب، فحين يحتدم النقاش ويطول الجدال فإن ابتسامة لبقة لها تأثيرها وبرها على القلب، وهكذا كان صلى الله عليه وسلم يواجه الخطأ عليه بالابتسامة.
10- الدعاء، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أسألك كلمة الحق في الغضب والرضا"، نعم إن شدة الغضب وزيادته مرض خطير يجلب لك أمراض الدنيا فسل الله دوماً أن يهبك الحلم في أمرك.
وختاماً تنبيهان مهمان:
الأول: كم من الناس اليوم إذا دعي لمثل هذا الحديث، قال: هذا طبع في الإنسان لا يستطيع تغييره، وأنا خلقت هكذا، وأتمنى أن أكون حليماً، لكن لا أستطيع.
وهذا الكلام غير صحيح وإلا ما فائدة ما تقدم، وألم يقل النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنما الحلم بالتحلّم"، فالأمر يحتاج إلى صبر ودربة ومجاهدة.
التنبيه الثاني: قد أشرنا في صدر الخطبة: أن من الغضب ما هو محمود، بل قد يكون واجباً وهو الغضب لله -عز وجل- إذا انتهكت حرماته، واقترفت سيئاته، وإنه -والله- مما يحزن الإنسان أن البعض يغضب إذا انتقصت دنياه، أو أُخذ شيء من حقوقه، لكن دينه ينتقص في بيته، وأبناؤه يتركون الصلاة، وفي مجتمعه يرى المنكر، ولا يتحرّك غضباً لدين الله، فالله المستعان-.