الكريم
كلمة (الكريم) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل)، وتعني: كثير...
العربية
المؤلف | مبارك بن عبد العزيز بن صالح الزهراني |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
هذه التحية إذا ألقاها المسلم بحقها وضمانها، وأجابه أخوه المسلم بمقتضاها، تلاقَتْ أنفُسُنا على الصفاء، وتعانقت أرواحنا بالإخاء، وذهب عنها الجفاء؛ بهذا السلام يتذكر الغنيُّ أخاه الفقير، ويرحم القويُّ الضعيفَ؛ بهذا السلام نعاف أن نكون مترفين وإخوة لنا فقراء معدمون، تأبى أعيننا المنام وإخوة لنا يعانون الآلامَ ..
أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هذه هي تحية الإسلام وأهل الإسلام، فالسلام شعارنا أهل الإسلام، تُذلل به ألستنا صباحاً ومساءً عند كل لقاء.
وا عجباً لتلك التحية العظيمة! كيف أصبحت بين بني الإسلام كلمة صماء لا روح بها، وسلاما لا سلام فيه؟ حتى أوشكَتْ أن تنعدم من حياتنا آثارُها، وكادت أن تغيب عن أنفسنا مقاصدُها؛ لغلبة العادة على أفعالنا، وغياب عقولنا عن حقائق شريعتنا؛ لئن كانت في الشريعة حقيقة، كلمتها السلام، وروحها الصفاء، ومقصدها الإخاء، فقد باتت عندنا كلمة مجردة، لا حقيقةً قائمة، تلقى عادة وحياء.
فما أحرانا أن نسعى جاهدين لنجددَ صفاءَ تحيتِنا، ورواءَ سلامِنا، ونراجعَ حالَنا فيها، ومصداقيتَنا في بذلها! حتى تكون كما هي في حقيقتها، حقيقة في كلمة لا كلمة بلا حقيقة، وكما أرادها الله تعالى حين أمرَنا بها وجعَلها شريعة وشعيرة بين المسلمين؛ ولذا كانت هذه التحية حديث جمعتنا هذه.
أيها المسلمون: إنَّه لا تخفى علينا عظمة هذه التحية العظيمة، وما جاء فيها من آيات وآثار تبين مكانتها، وتدل على ضرورتها في المجتمع المسلم، وإننا نجد أنَّ حاجتنا إلى بيانِ ما تحمله من معاني، وما تنطوي عليه من دلائل، أشد ضرورة، وأوجب بياناً.
فما معنى قولك أخي المسلم لأخيك: السلام عليكم ورحمة الله و بركاته؟ أهو مجرد عادة لا أثر لها؟ وكلماتٍ لا حقائق بها؟ وجُملٍ جرى بها اللسان دون برهان من الفعل والعلاقات الإيجابية؟ كلا؛
بل إنها جملةٌ عظيمةُ الدلالةِ، عميقة المعاني، جسيمةُ المسؤولية؛ فهذه التحية مكونة من ثلاثة أسماء جليلة، تسمي بها على أخيك وتلقيها إليه وعليه، هي: السلام، والرحمة، والبركة.
فما معنى السلام في تحية الإسلام؟! هل تعلم أن من معاني "السلام" في تحية الإسلام أنه الله تعالى؟ فـ"السلام" اسم من أسماء الله، قال ربنا سبحانه عن نفسه: (الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ) [الحشر:23]، وقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلاَمُ"، فما أجلَّه من اسم! وما أعظمه من حرف! فحين تلقيه على أخيك المسلم كأنَّك تقول له: "اسم الله السلام عليك"، يُسَلِّمُك من كل شر، ويدفع عنك كل بأس، فلا خوف عليك.
ومن معاني "السلام" أنه دعاء منك لأخيك بالسلامة، فلما تقول: السلام عليكم. كأنك تقول: أسأل الله لك السلامة في دينك، والسلامة في دنياك، والسلامة في مالك، والسلامة في أهلك والسلامة في ولدك، والسلامة لك من كل ما يؤذيك، وفي كل شيء من حياتك، فأحاطك الله في كل شيء بالسلامة، وحفظك من كل أذية. فالسلام في هذين المعنيين دعاء منك لأخيك.
ومن معاني "السلام" أنه مَوْثِقٌ منك، وعهد لأخيك أن يسلم منك، فكأنك تقول له حين تلقي عليه السلام: لك الأمان مني. و: لك العهد علي أن تكون في سلامة من أذيتي وخيانتي وغدري في نفسك وعرضك ومالك، فلا مخافة عليك مني، فلْتطمئنَّ أخي فلا أحمل لك إلا قلباً محباً صافياً سليماً، لا يبيت لك غدراً. الله أكبر! أرأيتم معاني السلام؟ كم هي جليلة!
أي سلام يجده الجائع والفقير والعاجز المريض من رجل يلقي السلام باللسان، ثم يمسك عنه فضلات ثروته فيؤثر بها المزابل والجمادات عليه، فيحرمه منها وفيها غذاؤه وعافية بدنه؟ أرأيتم كيف كانت تحية الإسلام تحمل العهود والمواثيق الغليظة منك لأخيك؟ إنها كلمة ذات مسؤولية بالغة، وتكاليفَ باهظةٍ شريفٌ على المسلم أن يتحملها.
أرأيتم كيف تُشِيعُ تحيةُ السلامِ السلامَ بين الناس، وتُجَذِّر في المجتمع علاقة السلم والمحبة والصفاء، فلا حرب ولا أغلال، ولا أحقاد، ولا كراهية، ولا بغضاء، ولا فجور، ولا غدر، ولا بغي، ولا نكث.
أما الكلمة الثانية في السلام فهي كلمة "الرحمة": "السلام عليكم ورحمة الله"، فهذا دعاء منك لأخيك بأن تنالَه رحمة الله تعالى، فأي قداسة لهذه الكلمة الجليلة العظيمة؟ إنك لم تقل: "رحمة من الله عليك"، وإنما عممت وأوسعت وأحطت، فقلت: يا أخي عليك رحمة الله من كل مكان، وفي كل آن، وعلى كل حال، تحيط بك من فوقك ومن تحتك، وعن يمينك وعن شمالك؛ في أهلك ومالك وأولادك وسائر حالك. يا الله! ما أعظم هذه التحية! وما أجل دلالاتها وآثارها!.
أي رحمة تلك التي تقليها على أخيك في هذه التحية بلسانك ثم لا يجد منك رحمة؟ إعراض عن بؤسه وفقره، فلا مددت يدك له بمال، ولا كففت لسانك عنه بمقال، ولا نهضت إليه بفعال.
أما الكلمة الثالثة في السلام فهي كلمة "البركة": السلام عليكم و رحمة الله وبركاته. والبركة هي الخير الكثير الواسع، وهذا دعاء بالبركة لأخيك تقول له: أكثر الله لك الخير، ونمَّى ما أعطاك، وبارك فيه، في عمرك ومالك، وأهلك، ودارك، وولدك، وكل شيء أعطاك الله، فبارك الله لك فيه سمعاً وبصراً، وعلماً وعملاً، وعافيةً وغنى. يا لها من كلمة! وأنعِم بِها من لفظة مباركة! أين تحققنا بها؟ إنها لتنفي من القلب الحسد و الحقد، فأين هذا منا اليوم؟!.
إنَّ هذه الكلمات الثلاث: الرحمة، والسلام، والبركة؛ نريد منها فعلا قليلا في الواقع، فقليل عملها خير من كثير تكراراها، بهذا السلام ينتشر بين المسلمين السلام والأمان، وتلتحم أنفسهم بعد الصفاء والإخاء.
هذه التحية لا تحمل جنسية، ولا تقيدها سحنة ولا لون، ولا يحبِسُها زمان، ولا مكان، ولا يخصِّصُها نَسَبٌ ولا مَقَام؛ هِي لكلِّ مُسلمٍ، مهما كانت بينك وبينه الفوارق.
أيها المسلمون: هذه معاني تحية الإسلام مجملة غير مفصلة، قصدت بها إعادة النظر في فهمنا وتعاملنا مع هذه التحية الجليلة؛ ها قد عرفنا حقيقة معانيها، فمتى نرى في واقعنا تحقيق حقيقتها، والقيام بسلامها، في زمن عظمت فيه الأحقاد، وعمَّت فيه الخيانات؟ وأصبح السلام مجردَ كلامٍ لا يحمل معنى ولا مسؤولية عند المسلمين.
عجيب شأن المسلمين اليوم أن تراهم يلقون على الواحد السلام فما يلبثوا إلاَّ ويخدعوه عن ماله أو يطعنوا في عرضه أو يحقروه أو يظلموه! وأصبح الإنسان منا لا يفهم منها عطفاً، ولا يرى فيها سلاماً، ولا يجد بها دفئاً ولا أماناً، وما يلبث أن يدير ظهره حتى تغمزه العينان، ويهمزه اللسان، ويحقره البنان.
ألا ما أقبح المرء حين تهون المروءة عنده، وتعلو الخديعة في نفسه! كم من مناظر البؤس والشقاء ستقضي عليها تحية الإسلام لو أنا صدقنا في القيام بحقيقتها؟ كم من صور الجور والظلم الذي يقع منا على إخواننا كانت تحية الإسلام كفيلة بشطبها من الحياة وتطهير دنيانا منها لو أننا حققنا مقصدها؟ وحين ندرك هذه المعاني في هذه التحية ونقوم بها سنجد الإنسان منا حين يلقيها نبعاً يفيض بالخير، وقلباً ندياً بالإحسان.
هذه التحية إذا ألقاها المسلم بحقها وضمانها، وأجابه أخوه المسلم بمقتضاها، تلاقَتْ أنفُسُنا على الصفاء، وتعانقت أرواحنا بالإخاء، وذهب عنها الجفاء؛ بهذا السلام يتذكر الغنيُّ أخاه الفقير، ويرحم القويُّ الضعيفَ؛ بهذا السلام نعاف أن نكون مترفين وإخوة لنا فقراء معدمون، تأبى أعيننا المنام وإخوة لنا يعانون الآلامَ؛ بهذا السلام لا نرضى أن يقاسي إخوتنا الأدواء دون أن نقاسمهم آلامها، هذا السلام يحيي في النفس حب الإنسان، ويدفع المرء إلى الإحسان، ويُشعِر الخائف بالأمان، ويجد به الضعيفُ الاحترام.
الخطبة الثانية:
إنَّ السلام علاقة شرعية، في إفشائه وإحيائه وإظهاره وإعلانه إزالة للوحشة والبغضاء، واجتثاث لها من جذورها، وإتيان على التدابر والتقاطع من قواعده، وإعلان للمحبة والمودة والعلاقات الأخوية، والروابط الإسلامية بين المسلمين.
ما أحرانا -وقد ذُلِّلَت به ألسنتنا- أن تذلل به قلوبنا، وتتحقق به جوارحنا، فيسلم إخواننا من حسد قلوبنا، وضغائن صدورنا، وأحقادنا، ويسلموا من احتقار نظراتنا، وإهانة جوارحنا، وغيبة ألسنتنا، وطعن كلامنا؛ فلا أكل لأموالهم، ولا حديث في أعراضهم، ولا تنقص لأحوالهم.
متى يكون السلام شعارنا في علاقاتنا وصلاتنا كما كان شعارا في تحايانا، إنَّ هذه الحفاوة بالسلام في شريعة ربنا السلام دليل على خطورته في شأن الحياة ونمائها وبقائها، فالسلام هو المناخ المناسب للبناء الحضاري، والتقدم العلمي والاقتصادي.
بالسلام يأمن الخائف، ويؤمَّن المتخفِّي بإسلامه: (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ) [النساء:94].
إنها حفاوة من ربنا تقول: يا أهل الإسلام والسلام! ليس السلام مجرد تحية تلقى باللسان، السلام نظام اجتماعي يضبط العلاقة في المجتمع على أساس من السلام ويربى الناس عليها، حفاوة تقول: يا أهل الإسلام و السلام! إن أساس العلاقة بينكم ليس المشاحة، ولا سوء الظن، ولا الاتهام؛ وإنما هو السلام.
إننا بحاجة جد ماسة إلى إشاعة السلم في كل حال ومكان و زمان، في بيوتنا مع أزواجنا ومع أولادنا، في وظائفنا، في طرقاتنا، في محاكمنا، في مساجدنا، في ملتقياتنا؛ و لا أشد منا حاجة إلى السلام في هذا الزمان الذي طغت فيه لغة الحرب، وأصبح الصراع والمناكفة والمشاحنة هي أساس العلاقة بين الناس، فلا ينقطع عن بصرك ولا عن سمعك مشاهد الصراع والمشاحنة من صراع بين الرجل والمرأة، وصراع بين الحاكم والمحكوم، وصراع بين قبيلة وأخرى، صراع بين حزب وآخر، وصراع بين اتجاه وآخر، وصراع بين الأخ وأخيه، والزوج و زوجته، والأب وابنه، وهكذا نيران تشتعل في كل مكان، تأكل قلب الإنسان، وتلتهم جسده، وتقضي على حياته، بعد أن قضت على نقائها.
ألا إنَّ السلام هو الماء الذي يطفئ هذه النيران، ويبرد هذه الصراعات، فهلم إليه! ألا إنَّ السلام هو بلسم الحياة! ألا إن السلام هو بهجتها وسكينتها وطمأنينتها! بغير السلام تبيت الحياة قاسيةً مكفهرةً، وصهريجاً لافحاً، وتنُّوراً حارقاً، يتمنى المرء متى يخرج منه، ويفارقه إلى الأبد، ولو كان بالموت.