البحث

عبارات مقترحة:

الشكور

كلمة (شكور) في اللغة صيغة مبالغة من الشُّكر، وهو الثناء، ويأتي...

المؤمن

كلمة (المؤمن) في اللغة اسم فاعل من الفعل (آمَنَ) الذي بمعنى...

الغفار

كلمة (غفّار) في اللغة صيغة مبالغة من الفعل (غَفَرَ يغْفِرُ)،...

السحاتون

العربية

المؤلف إبراهيم بن صالح السويد
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المعاملات
عناصر الخطبة
  1. الأدلة الشرعية على حرمة الرشوة .
  2. ما يجوز دفعه من الرشوة .
  3. الفرق بين الرشوة والهدية .
  4. المجالات التي تدخل فيها الرشوة .
  5. الآثار السيئة المترتبة على أخذ الرشوة .
  6. جملة من فتاوى الشيخ ابن باز -رحمه الله- في الرشوة .

اقتباس

هل حدثتكم عن أي بحر يركبون؟! إنهم يركبون سفينة المقت والرذيلة، لتجري بهم على بحر النار، تدفعها رياح السحت، وتحركها مجاديف الأمن من مكر الله، لبئس ما كانوا يفعلون، أشبه الناس باليهود، وأقرب الناس حالاً إلى النصارى؛ حينما يتركون تعاليم شرعهم ويتصفون بصفات أولئك الكفار. أتدرون من هؤلاء ولا كرامة لهم؟! إنهم أكلةُ الرشوة ودافعوها وكاتبوها وشاهدوها ..

 

 

 

 

أمّا بعد: اتقوا الله، وكلوا من الطيبات لعلكم تفلحون، واحذروا أكل السحت والرشا، فبه أُهلكت القرون.

أيها الكرماء: سأحدثكم عن أمر سار وطار سعاره، واشتد أوار ناره، تعس مقترفوه، ولعن فاعلوه، شياطين بؤساء، لم يؤمنوا بيوم الدين، ولم يصدقوا المرسلين، يصلي وهو ملعون، يقرأ القرآن وهو ملعون، يضحك وهو ملعون، لعنه جاء في الشريعة، الخسّة والدناءة صَريعُه، والفقر ضجيعه.

أيها الفضلاء الأجلاء: بل سأحدثكم عن شجرة أصلها في الخبث ثابت، وفرعها في الإجرام قائم، طلعها كأنه رؤوس الشياطين، شجرة زقوم، يستظل بظلها ويأكل من طلعها أفاكون خونة من بني جلدتنا، (نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [الحشر: 19].

استحوذ عليهم إبليس والهوى والرجس والإثم بما كانوا يصنعون، يدعون ولا يستجاب لهم، أغلق دونهم باب السماء، ولعنتهم ملائكة الرب، ولهم عذاب الهون. ناقتهم التي يحلبون ضرعها جرباء سائبة، ترعى حشائش المكر والبذاءة، طعامها كل نجس وخسيس، وشرابها جحيم الفجور، وحليبها أسود منتن، لا يذوقه سوى قتلة الأحلام وسراق الحقوق وبائعي الذمم.

أيها الأخيار: هل حدثتكم عن أي بحر يركبون؟! إنهم يركبون سفينة المقت والرذيلة، لتجري بهم على بحر النار، تدفعها رياح السحت، وتحركها مجاديف الأمن من مكر الله، لبئس ما كانوا يفعلون، أشبه الناس باليهود، وأقرب الناس حالاً إلى النصارى؛ حينما يتركون تعاليم شرعهم ويتصفون بصفات أولئك الكفار.

أتدرون من هؤلاء ولا كرامة لهم؟! إنهم أكلةُ الرشوة ودافعوها -بلا ضرورة شرعية يقدرها أهل العلم الذين يحددون قدر الضرر- وكاتبوها وشاهدوها.

أما الذين يأكلونها وهم يعلمون حرمتها فليس لنا حديث معهم؛ لأنهم اتخذوا آيات الله هزوا، ولن يجدي حديثنا معهم بجنب ما في كتاب الله من الزواجر عن هذا الإثم النجس، وما لجرح ميت إيلام.

سوى أن حديثنا منصب إلى الذين يفعلون، فنقرع أسماعهم لعلهم يعون، كما أن حديثنا شديد على من يدفع الرشوة للوصول إلى أهدافه ومصالحه على حساب المجتمع، فإنه ملعون على لسان محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأما الوسطاء كمن يهيئ الأجساد لنشر هذا السرطان الخبيث في مجتمع الإسلام فهم ملعونون أيضًا، كمن يشهد أو يكتب بين الدفع والأخذ.

إخوة الإسلام: قال الباري سبحانه: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) [المائدة: 42]. قال ابن مسعود: "السحت الرشوة"، وقال عمر بن الخطاب: "رشوة الحاكم من السحت". وقال بعض أهل العلم: "من السحت أن يأكل الرجل بجاهه؛ وذلك أن يكون له جاه عند السلطان فيسأله إنسان حاجة فلا يقضيها إلا برشوة يأخذها، ولا خلاف بين السلف على أن أخذ الرشوة على إبطال حق أو ما لا يجوز سُحت حرام".

وقال تعالى: (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 188]، قال الذهبي -رحمه الله تعالى-: "لا تُدلوا بأموالكم إلى الحكام، أي: لا تصانعوهم بها ولا ترشوهم؛ ليقتطعوا لكم حقًّا لغيركم وأنتم تعلمون أن ذلك لا يحل لكم".

والأدلة على حرمة المسلم وماله كثيرة، منها قول الله تعالى: (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ) [البقرة: 188]، وقال تعالى: (مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) [المائدة: 32]، وقال -جلَّ شأنه-: (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ * فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ) [النمل: 35، 36]، قال ابن كثير: "قوله تعالى: (أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ)، أي: الذي أعطاني الله من الملك والمال والجنود خير مما أنتم فيه، وأنتم الذين تنقادون للهدايا والتحف، وأما أنا فلا أقبل منكم إلا الإسلام أو السيف".

وقد جاءت السنة -يا عباد الله- في وصف هؤلاء الأنجاس بأنهم ملعونون، يعني مطرودون ومبعدون عن رحمة الله، فوا أسفاه على من باع أخراه بفاني دنياه، فعن عبد الله بن عمرو قال: لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الراشي والمرتشي، أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه الألباني. وفي رواية: "ولعن الرائش"، وهو الساعي بينهما.

وعن أبي حميد الساعدي قال: استعمل النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلاً من الأزد يقال له: ابن اللتبية على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي لي، فخطب النبي -صلى الله عليه وسلم- فحمد الله وأثنى عليه، وقال: "أما بعد: فإني استعمل رجالاً منكم على أمور مما ولاني الله، فيأتي أحدكم فيقول: هذا لكم وهذا هدية أهديت لي، فهلا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه فينظر أيهدى له أم لا؟! والذي نفسي بيده، لا يأخذ أحد منه شيئًا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيرًا له رغاء، أو بقرًا له خوار، أو شاة تيعر"، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه، ثم قال: "اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت". متفق عليه.

قال الخطابي: "وفي قوله: "هلا جلس في بيت أمه أو أبيه فينظر أيهدى إليه أم لا؟!"، دليل على أن كل أمر يتذرع به إلى محظور فهو محظور، وكل دخل في العقود ينظر هل يكون حكمه عند الانفراد كحكمه عند الاقتران أم لا؟".

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه". رواه مسلم. وعن السائب بن يزيد عن أبيه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يأخذنّ أحدكم متاع أخيه جادًا ولا لاعبًا، وإذا أخذ عصا أخيه فليردها عليه". رواه أحمد وأبو داود والترمذي. وعن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه". رواه الدارقطني وغيره.

وقد بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عبد الله بن رواحة إلى اليهود ليقدّر ما يجب عليهم في نخيلهم من خراج، فعرضوا عليه شيئًا من المال يبذلونه له، فقال لهم: فأما ما عرضتم من الرشوة فإنها سحت، وإنا لا نأكلها. وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "الرشوة في الحكم كفر، وهي بين الناس سحت". رواه الطبراني موقوفًا بإسناد صحيح، وقال الألباني: "صحيح لغيره موقوف".

وقال ابن قدامة -رحمه الله- في المغني: "إذا قبل القاضي الرشوة بلغت به الكفر؛ لأنه مستعد للحكم بغير ما أنزل الله، (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) [المائدة: 44]"، وهذا معنى قوله: كفر.

وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كل لحم أنبته السحت فالنار أولى به"، قيل: وما السحت؟! قال: "الرشوة في الحكم". وعن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما من قوم يظهر فيهم الربا إلا أخذوا بالسنة، وما من قوم يظهر فيهم الرشا إلا أخذوا بالرعب".

أيها المسلمون: لقد أجمع الصحابة والتابعون وعلماء الأمة على تحريم الرشوة بجميع صورها، كما أن الأعذار لمن يحتج بفتوى بعض أهل العلم من المحققين ويجعلها متكأً لأكله الرشوة، وأن هذه الفتوى صحيحة، وقد بنيت على أسس علمية، لكنها مختصة في حالة واحدة أوضحها في كلمات قليلة حتى لا تُنسى: "يجوز دفع الرشوة من الدافع وذلك في حالة الضرورة الشرعية التي يقدرها أهل العلم عند الرجوع إليهم، ولا تجوز مطلقًا للأخذ". هكذا قال أهل العلم.

وممن قال بجوازها عند الضرورة ابن الأثير -رحمه الله- حيث يقول في كتابه النهاية (2/226): "فأمّا ما يُعطى توصلاً إلى أخذ حق أو دفع ظلم فغير داخل فيه... وروى عن جماعة من أئمة التابعين قالوا: لا بأس أن يصانع الرجل عن نفسه وماله إذا خاف الظلم". وقال الخطابي -رحمه الله- في المعالم (5/207): "إذا أَعطى ليتوصل به إلى حقه أو يدفع عن نفسه ظلمًا فإنه غير داخل في هذا الوعيد". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الفتاوى (31/187): "ويجوز للمهدي أن يبذل في ذلك ما يتوصل به إلى أخذ حقه أو دفع الظلم عنه، هذا هو المنقول عن السلف والأئمة الكبار. وهذا من دقائق فقه السلف وعظيم علمهم، فهذا الباب فيه حاجة من جهة، وصعوبة الاجتناب من جهة أخرى، فاستدعى النظر تجويز ذلك مراعاة لمصالح العباد ودفع الضرر عنهم، والصبر في مثل هذه المسائل فيه خير كثير وفضل عظيم".

والظاهر من الأدلة الصريحة أن الرشوة حرام بجميع ضروبها وأشكالها وألوانها إذا كان يتوصل بها إلى إبطال حق أو إقرار ظلم؛ لما يترتب على ذلك من المفاسد والأضرار، وهذا حرام شرعًا.

والإسلام راعى أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، والتسامح بجواز الرشوة يعوّد الناس على أكل الحرام وعدم الشعور بالمسؤولية؛ لما يترتب على ذلك من تعطيل مصالح المسلمين وتأخير أعمالهم وعدم إنجازها إلا بالرشوة، فتنعدم الثقة بين الناس، وتقل أواصر المودة والمحبة بينهم، وهذا مما حذر منه القرآن الكريم ونهى عنه النبي الأمين -صلوات الله وسلامه عليه-.

وفي هذه الحالة -حالةِ الضرورة- لا بد من ملاحظة أمور:

أولاً: أن لا يدفعها إلا إذا كانت في حالة ضرورة متحققة يقدرها أهل العلم.

ثانيًا: أن لا تدفع إلا بعد استقصاء كافة السبل واستنفادها، ولا ينبغي عندها إلا أن يدفعها.

ثالثًا: يجب عليه أن يبين لآخذ الرشوة حرمتها ويعظه ويزجره عن فعلته، ولا يجوز السكوت أبدًا.

رابعًا: يسعى سعيًا حثيثًا إلى تبليغ ولي الأمر عنه، ويكون قصده هو كفّ شره عن الناس لا أن يكون انتقامًا لما أخذه منه من شيء.

أيها الرجال النزهاء: أضحت ظاهرة الرشوة مستشرية في العديد من المجالات، لتصبح سرطانًا ينخر دواليب الاقتصاد والإدارة ومختلف الهيئات والمؤسسات، ولو أردنا أن نوضح بشكل دقيق معنى الرشوة فإننا نقول: الرشوة هي ما يُعطى لإبطال حق أو إحقاق باطل، سواء كان مالاً أو تسهيلات أو أي مصلحة تستفاد أو تدفع شيئًا عن المرتشي، والراشي من يُعطي المال لإبطال حق أو إحقاق باطل، والمرتشي الآخذ، وقد شمله اللعن؛ لأنه شريك للراشي ومعين على الظلم والفساد.

ولعل من المهم ذكر الطرف الثالث في جريمة الرشوة وهو الرائش، وهو الوسيط والساعي بين الراشي والمرتشي.

والرشوة -أيها الفضلاء- من الأمراض الموروثة عن المفسدين في الأرض، وقد لعن النبي -صلى الله عليه وسلم- الراشي والمرتشي. صححه الترمذي (1337) من حديث عبد الله بن عمرو، وصححه ابن حبان والحاكم وغيرهما.

وقد تأخذ الرشوة أشكالاً ووجوهًا عدة، كلها على صورة إبليس، يجمعها أكل أموال الناس بالباطل، فتارة تكون بالمال، وتارة تكون بالوجاهة، وتارة تكون بتقديم أي نفع كان أو وعد بدفع ضر، فإذا كان لا يستطيع أن يصل إلى حقه ويمنع منه حتى يدفع أو يقدم شيئًا، فحينئذ تحقق جرم الرشوة إذا تمت، ولا تتم إلا في الظلام الدامس وفي الخفاء، وقد تكون علنًا كما في بعض البلدان التي انتشرت فيها في جميع مناحي الحياة.

عباد الله: ولعله من الأجدى أن نذكر الفرق بين الرشوة والهدية؛ وذلك لما يتطلبه المقام من توضيح الأمر وتجليته، فهما وإن اشتبها في الصورة فالفرق راجعٌ أساسًا إلى القصد؛ إذ إن القصد في الرشوة هو التوصل إلى إبطال حق أو تحقيق باطل، أما المُهدي فقصده استجلاب المودة والمعرفة والإحسان.

وتدخل الرشوة في مجالات شتى؛ فقد تكون الرشوة في الحكم كي يقضي له القاضي أو يحكم له، أو ينهي له عملاً أو يقدمه على غيره، أو يخالف أمرًا لا يمكن تجاوزه من أجل الرشوة.

وقد تكون الرشوة في الوظائف أيضًا، حيث يقوم الشخص بدفع الرشوة للمسؤول عن الوظيفة فيعينه رغم استحقاق غيره، وهذا بالإضافة إلى أنه أكلٌ للحرام والسحت فإنه كذلك خيانة للأمانة؛ حيث ينبغي أن يوظف الأصلح والأكفأ، وكذلك تكون الرشوة في التعليم، وفي مجالات البناء والتشييد، أو لدى شركات الكهرباء أو الاتصالات أو البلديات وغيرها من المجالات التي يطول المقام بذكرها، واللبيب بالإشارة يفهم.

أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم...

 

 

 

 

 

الخطبة الثانية:
 

 

 

 

الحمد لله ذي البطش الشديد، يبدئ ويعيد، والصلاة والسلام على من بعث رحمة للعبيد، وعلى آله وأصحابه أولي النهى والتسديد.

وبعد:

فإن كافة العقلاء ينهون عن الرشوة؛ وذلك لآثارها على جميع الأصعدة، وإذا انتشرت دمرت بقاع الأرض، وقد وقع نظري على نداءات واستصراخات من بعض ساسة العالم ممن لا يدينون بالإسلام، يقولون عن هذه الجريمة ويصفونها بأنها الفساد والدمار الاقتصادي، ولعلي أذكر بعضًا من أقوالهم:

يقول ستيوارت -وهو وكيل وزارة الخارجية للشؤون الاقتصادية والتجارية والزراعية-: "إن الفساد يلحق ضررًا بالتنمية الاقتصادية والإصلاح".

ويقول إيليانور روبرتس لويس -رئيس قسم المستشارين لشؤون التجارة الدولية في وزارة التجارة الأمريكية-: "إن الفساد والمحسوبية كانا عاملين مهمين في الأزمة الاقتصادية الآسيوية".

ويقول ج. براين أتوود -مدير الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية-: "إن الفساد تحدٍّ متواصل للتنمية".

ويقول دونالد سترومبوم: "إن الرشوة في عقود المشتريات الحكومية تشكل لب الفساد".

فإذا كان هؤلاء ينادون بالحفاظ على النظام الاقتصادي لديهم، فإن أمة الإسلام أولى بالاستجابة لنداء ربها ودعوة رسولها بأكل الطيب والبعد عن أكل السحت وهجر آكليه وعدم ملاقاتهم ومؤاكلتهم ومشاربتهم حتى يرعووا عن إفكهم وما كانوا يأكلون.

أيها الفضلاء: ومما يحمد في هذا المقام ذكر آثار هذه الآفة وهذا السم الزعاف وأضرارها، وهي كما ستسمعون، فإن لجريمة الرشوة آثارًا خطيرة وعواقب وخيمة على الفرد والمجتمع، ويمكن أن نجمل بعضها فيما يلي:

توسيد الأمر لغير أهله: إن الإنسان حين يدفع رشوة للحصول على وظيفة معينة لا تتوافر فيه مقوماتها وشروطها فهو ليس أهلاً لهذه الوظيفة، ما يترتب عليه قصور في العمل والإنتاج وإهدار للموارد.

تدمير المبادئ والأخلاق الكريمة: إن انتشار ظاهرة الرشوة في مجتمع من المجتمعات يعني تدمير أخلاق أبناء هذا المجتمع، وفقدان الثقة بين أبنائه، وانتشار الأخلاقيات السيئة كالتسيب واللامبالاة، وفقدان الشعور بالولاء والانتماء، وسيطرة روح الإحباط.

إهدار الأموال وتعريض الأنفس للخطر: فلو تخيلت أن الرشوة قد سادت في مجتمع حتى وصلت إلى قطاع الصحة وإنتاج الدواء، فكيف ستكون أحوال الناس الصحية حين يستعملون أدوية رديئة أُجيز استعمالها عن طريق الرشوة؟!

ثم تخيل أنك تسير على جسر من الجسور التي بها عيوب جسيمة، تجعل منها خطرًا على أرواح الناس وممتلكاتهم، وقد حصل المقاول على شهادات إتمام العمل والبناء عن طريق الرشوة، كم سيترتب على انهيار هذا الجسر من خسائر في الأرواح والأموال؟! وغيرها من الآثار الخطيرة.

ومن آثارها وبؤسها على صاحبها أنها تمنع استجابة الدعاء، وروى مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)". ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام، وغذي بالحرام، "فأنى يستجاب له". وقال ابن عباس: "لا يقبل الله صلاة امرئ في جوفه حرام".

وقال وهب بن الورد: "لو قمت لله مقام هذه السارية -أي: مقام العمود- لم ينفعك شيء حتى تنظر ما يدخل في بطنك".

وقد قيل: إنه إذا خرج العبد حاجًّا بنفقة طيبة ووضع رجله في الغرز فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه مناد من السماء: لبيك وسعديك، زادك حلال وراحلتك حلال. وإذا نادى المحرم وماله حرام: لبيك اللهم لبيك، ناداه مناد من السماء: لا لبيك ولا سعديك، زادك حرام ونفتقك حرام، وحجك غير مبرور. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تُقْبَلُ صَلاةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ وَلا صَدَقَةٌ مِنْ غُلُولٍ". صححه الألباني. والغلول هو السرقة من الغنيمة قبل تقسيمها، أي: لا يقبل الله الصدقة من المال الحرام، فلا ينتظر الرحمة مَنْ يظلم ويسرق ويزوّر ويحتال ويكذب.

أيها المسلمون: وفي خاتمة حديثي إليكم أسوق لكم طرفًا من رسالة للعلامة المحدث سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله تعالى-، وقد جاء فيها: "من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يراه أو يسمعه من إخواني المسلمين، سلك الله بي وبهم صراطه المستقيم، ووقاني وإياهم عذاب الجحيم. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فإن مما حرّمه الإسلام وغلظ في تحريمه الرشوة، وهي دفع المال في مقابل قضاء مصلحة يجب على المسؤول عنها قضاؤها بدونه. ويشتد التحريم إن كان الغرض من دفع هذا المال إبطال حق أو إحقاق باطل أو ظلمًا لأحد. والرشوة أعم من أن تكون مالاً أو منفعة يمكنه منها أو يقضيها له، كالقاضي وغيره ممن يرجى عنده قضاء مصلحة الراشي، سواء كان من ولاة الدولة وموظفيها أو القائمين بأعمال خاصة، كوكلاء التجار والشركات وأصحاب العقارات ونحوهم، والمراد بالحكم للراشي حماس المرتشي على ما يريده الراشي، وتحقيق رغبة الراشي ومقصده، سواء كان ذلك حقًّا أو باطلاً".

وإليكم بعض الفتاوى في هذه الآفة السامة:

وأولها: يقول السائل: هل يجوز أن أدفع رشوة لأحد الموظفين أو المسؤولين الذين يحكمون في القضايا مثل القضاة، أو رؤساء اللجان التي تقوم بالكشف على أراضٍ، أم ذلك حرام في حالة إذا لم يثبت حق الشخص إلا بتلك الرشوة، وإذا لم يدفعها فإنه يضيع حقه، وإذا دفعها فإنه يحصل على حقه من غير ظلم لشخص آخر، فهل يجوز هذا الأمر؟! وأين نذهب من حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي قال فيه: "لعن الله الراشي والمرتشي والرائش"؟!

فأجاب فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-: "لا يجوز دفع الرشوة لأحد من المسؤولين، سواء كانوا قضاة أو أمراء أو لجانًا تفصل بين الناس، ولا شك أن ذلك حرام وأنه من كبائر الذنوب للحديث المذكور، ولأن ذلك وسيلة إلى ظلم وإضاعة حق من لم يدفع الرشوة".

وثانيها: سئل الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- بما نصه: نحن موظفون حكوميون، تأتينا في رمضان إكراميات وزكوات من بعض رجال الأعمال، ولا نستطيع التفرقة بين الزكوات والإكراميات؛ لعدم علمنا بذلك، والسؤال: إذا أخذنا هذه الأموال ونحن في غنى عنها وأنفقناها على الأرامل والأيتام والفقراء ما الحكم؟! وإذا أنفقنا منها على أسرنا وأكلنا منها ما الحكم؟!

فأجاب فضيلته بقوله: "هدايا العمال من الغلول؛ يعني إذا كان الإنسان في وظيفة حكومية وأهدى إليه أحد ممن له صلة بهذه المعاملة فإنه من الغلول، ولا يحل له أن يأخذ من هذا شيئًا ولو بطيب نفس منه.

مثال ذلك: لنفرض أن لك معاملة في دائرة ما، وأهديت لمدير هذه الدائرة أو لموظفيها هدية، فإنه يحرم عليهم قبولها؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث عبد الله بن اللُّتْبيَّة على الصدقة، فلما رجع قال: هذا أهدي إلي وهذا لكم، فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- فخطب الناس وقال: "ما بال الرجل منكم نستعمله على العمل فيأتي ويقول: هذا لكم وهذا أهدي إلي، فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا؟!". فلا يحل لأحد موظف في دائرة من دوائر الحكومة أن يقبل الهدية في معاملة تتعلق بهذه الدائرة، ولأننا لو فتحنا هذا الباب وقلنا: يجوز للموظف قبول هذه الهدية لكنا قد فتحنا باب الرشوة الذي يرشي بها صاحب الحق من يلزمه الحق، والرشوة خطيرة جدًا، وهي من كبائر الذنوب. فالواجب على الموظفين إذا أهدي لهم هدية فيما يتعلق بعملهم أن يردوا هذه الهدية، ولا يحل لهم أن يقبلوها، سواء جاءتهم باسم هدية أو باسم الصدقة أو باسم الزكاة، ولا سيما إذا كانوا أغنياء، فإن الزكاة لا تحل لهم كما هو معلوم".