المؤمن
كلمة (المؤمن) في اللغة اسم فاعل من الفعل (آمَنَ) الذي بمعنى...
العربية
المؤلف | عبد الله بن علي الطريف |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - التاريخ وتقويم البلدان |
المنهج الرباني الذي يجب أن يسلكه الأثرياء وهم يتقلبون في الثراء: (لا تفرح) فرحَ الزهو المنبعث من الاعتزاز بالمال، والاحتفال بالثراء، والتعلق بالكنوز، والابتهاج بالملك والاستحواذ؛ لا تفرح فرح البطر الذي يُنسِي المنعِمَ بالمال، ويُنسي نعمته، وما يجب لها من الحمد والشكران؛ لا تفرح فرح الذي يستخفه المال، فيَشغل به قلبه، ويَطير له لبه، ويتطاول به على العباد ..
أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18].
أيها الإخوة: فلقد قص الله تعالى في كتابه الكريم مجموعة من القصص للاعتبار بها والإفادة منها فقال: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [يوسف:111]؛ أي قص الله علينا قصص الأنبياء والرسل مع قومهم حتى يعتبر بها أهلُ الخير وأهلُ الشر، وأن مَن فعل مثلَ فعلهم ناله ما نالهم من كرامة أو إهانة.
وهذه القصص ليست مفتراة ولا مختلقة، بل ذكرت في الكتب السماوية السابقة، وذِكرها في القرآن تأكيد لها، وشاهد بصحتها، وفيها تفصيل لكل شيء يحتاج إليه العباد من أصول الدين وفروعه، ومن الأدلة والبراهين، وفي ذكرها هُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ؛ فبسبب ما يحصل لهم بالذكر من العلم بالحق وإيثاره يحصل لهم الهدى، وبما يحصل لهم من الثواب العاجل والآجل تحصل لهم الرحمة.
أيها الأحبة: ومن القصص التي قصها الله تعالى علينا في كتابه الكريم قصة قارون، قال بعض أهل العلم: إن قارون كان من أبناء عم موسى -عليه السلام-، وقد آتاه الله مالاً كثيراً، تُصور كثرته بأنه كنوز، والكنز هو المخبوء المدخر من المال الفائض عن الاستعمال والتداول، وبأن مفاتيح هذه الكنوز تُعيي المجموعة من أقوياء الرجال، وقد قيل إنها كانت تُحمَل على ستين بغلا، فالله أعلم.
وقد وعظه النصحاء من قومه قائلين لا تفرح، أي لا تبطر بما أعطيت وتفخر على غيرك، (إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ) [القصص:76-77]، يقولون: لتكن همَّتُكَ مصروفةً لتحصيل ثواب الله في الدار الآخرة، فإنه خير وأبقى، ومع هذا (لَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) [القصص:77]، أي وتناول منها بمالك ما أحل الله لك، ومتع نفسك بالملاذ الطيبة الحلال (وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) [القصص:77]، أي: وأَحْسِنْ إلى خَلْق الله كما أحسن اللهُ خالقُهم وبارئهم إليك، (وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ) [القصص:77]، أي ولا تسئ إليهم، ولا تفسد فيهم، فتقابلهم بضد ما أمرت فيهم فيعاقبك ويسلبك ما وهبك، (إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمفْسِدِينَ) [القصص:77].
أيها الأحبة: ماذا كان موقفه من هذه النصيحة؟ وما كان جوابه لهذه النصيحة الصحيحة الفصيحة؟ (قَالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) [القصص:78]، يعني أنا لا أحتاج إلى استعمال ما ذكرتم، ولا أحتاج إلى ما إليه أشرتم؛ فإن الله إنما أعطاني هذا لعلمه أني أستحقه؛ وأني أهل له، ولولا أني حبيب إليه، وحَظِيٌّ عنده، لما أعطاني ما أعطاني، قال الله تعالى ردا عليه فيما ذهب إليه: (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) [القصص:78]، أي قد أهلكنا من الأمم الماضين بذنوبهم وخطاياهم من هو أشدُّ من قارون قوة وأكثر أموالا وأولادا.
فلو كان ما قاله قارون صحيحا لم يعاقب الله أحداً ممن كان أكثرَ مالاً منه، فما المال دليل على محبة الله له واعتنائه به، كما قال تعالى: (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً) [سبأ:56]، وقال تعالى: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ) [المؤمنون:55-56].
أيها الإخوة: ويتواصل السرد القرآني لقصته، قال الله تعالى: (فَخَرَجَ عَلَى قَومِهِ فِي زِينَتِهِ) [القصص:79]، ذكر كثير من المفسرين أنه خرج في تجمل عظيم من ملابس ومراكب وخدم وحشم، فلما رآه من يعظم زهرة الحياة الدنيا تمنوا أن لو كانوا مثله، وغبطوه بما عليه وله.
فلما سمع مقالتَهم العلماءُ ذوو الفهم الصحيح، الزُهَّادُ الألِبَّاءُ، قالوا لهم: (وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ) [القصص:80]، أي ثواب الله في الدار الآخرة خير وأبقى وأجل وأعلى، وما يُلقَّى هذه النصيحة وهذه المقالة وهذه الهمة السامية إلى الدار الآخرة العليَّة عند النظر إلى زهرة هذه الدنيا الدنية إلا من هَدى اللهُ قلبَه، وثَبَّتَ فؤادَه، وأيدَ لُبَّه، وحَقَقَ مُرَادَه؛ وما أحسن ما قال بعض السلف: إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، والعقل الكامل عند حلول الشهوات.
قال الله تعالى: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ) [القصص:81]، لما ذكر تعالى خروجه في زينته واختياله فيها، وفخره على قومه بها، قال: فخسفنا به وبداره الأرض كما روى البخاري عن ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "بينا رجل يجر إزاره إذ خُسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة"، أي: يغوص في الأرض حين يخسف به، والجلجلة: حركة مع الصوت.
وقوله تعالى: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ) لم يكن له ناصر من نفسه ولا من غيره، كما قال: (فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ) [الطارق:10].
ولما حل به ما حل من الخسف، وذهاب الأموال، وخراب الدار، وإهلاك النفس والأهل والعقار، ندم مَن كان تمنى مثل ما أوتي، وشكروا الله تعالى الذي يدبر عباده بما يشاء من حسن التدبير المخزون، ولهذا قالوا (لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) [القصص:82]. قال قتادة: ويكأن بمعنى ألم تر أن.
ثم قال تعالى مبينا أن الدار الآخرة وما فيها من النعيم المقيم لا تكون إلا لعباد الله المؤمنين المتواضعين، الذين لا يريدون ترفعا على الناس، ولا يحدثون شرًا ولا فسادا: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِين لا يُرِيدُونَ عُلُوًا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص:82].
روى مسلم في صحيحه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا؛ حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد".
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر.
الخطبة الثانية:
والمتأمل في هذه القصة المختصرة يرى فيها عدد من الدروس المستفادة، ومنها أن المنهج الرباني الذي يجب أن يسلكه الأثرياء وهم يتقلبون في الثراء: (لا تفرح) فرحَ الزهو المنبعث من الاعتزاز بالمال، والاحتفال بالثراء، والتعلق بالكنوز، والابتهاج بالملك والاستحواذ؛ لا تفرح فرح البطر الذي يُنسِي المنعِمَ بالمال، ويُنسي نعمته، وما يجب لها من الحمد والشكران؛ لا تفرح فرح الذي يستخفه المال، فيَشغل به قلبه، ويَطير له لبه، ويتطاول به على العباد؛ إن الله لا يحب الفرحين، فهم يردونه بذلك إلى اللهِ الذي لا يحب الفرحين المأخوذين بالمال، المتباهين المتطاولين بسلطانه على الناس.
ومن الدروس في قوله: وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا: هكذا يتمثل اعتدال المنهج الإلهي القويم. المنهج الذي يعلق قلب واجد المال بالآخرة. ولا يحرمه أن يأخذ بقسط من المتاع في هذه الحياة. بل يحضه على هذا ويكلفه إياه تكليفاً، كي لا يتزهد الزهد الذي يهمل الحياة ويضعفها.
لقد خلق الله طيبات الحياة ليستمتع بها الناس، وليعلموا في الأرض لتوفيرها وتحصيلها، فتنمو الحياة وتتجدد، وتتحقق خلافة الإنسان في هذه الأرض، على أن تكون وجهتهم في هذا المتاع هي الآخرة، فلا ينحرفون عن طريقها، ولا يُشغلون بالمتاع عن تكاليفها؛ والمتاع في هذه الحالة لون من ألوان الشكر للمنعم، وتقبُّلٍ لعطاياه، وانتفاع بها، فهو طاعة من الطاعات يجزي عليها الله بالحسنى.
وهكذا يحقق هذا المنهج التعادل والتناسق في حياة الإنسان، ويمكِّنه من الارتقاء الروحي الدائم من خلال حياته الطبيعية المتعادلة، التي لا حرمان فيها، ولا إهدار لمقومات الحياة الفطرية البسيطة.
وفي قوله -سبحانه- وأحسِنْ كما أحسن الله إليك بيانٌ أن هذا المال هبة من الله وإحسان، فليقابل بالإحسان فيه، إحسان التقبُّل، وإحسان التصرُّف، والإحسان به إلى الخلق، وإحسان الشعور بالنعمة، وإحسان الشكران.
وفي قوله: "إنما أوتيته على علم عندي" تتجلى لنا قولة المغرور المطموس الذي ينسى مصدر النعمة وحكمتها، ويفتنه المال، ويعميه الثراء؛ وهو نموذج مكرر في البشرية، فكم من الناس يظن أن علمه وكَدَّه هما وحدهما سبب غناه، ومن ثم فهو غير مسؤول عما ينفق وما يمسك، غير محاسب على ما يُفسد بالمال وما يصلح، لا يحسب لله حساباً، ولا ينظر إلى غضبه ورضاه!.
والإسلام يعترف بالملكية الفردية، ويقدر الجهد الفردي الذي بُذل في تحصيلها من وجوه الحلال التي يشرعها؛ ولا يهوِّن من شأن الجهد الفردي أو يلغيه، ولكنه -في الوقت ذاته- يفرض منهجاً معيناً للتصرف في الملكية الفردية، كما يفرض منهجاً لتحصيلها وتنميتها، وهو منهج متوازن متعادل، لا يحرم الفرد ثمرة جهده، ولا يطلق يده في الاستمتاع به حتى الترف، ولا في إمساكه حتى التقتير؛ ويفرض في هذا المال حقوقا، ويضع رقابته على طرق تحصيله، وطرق تنميته، وطرق إنفاقه، والاستمتاع به؛ وهو منهج خاص واضح الملامح، متميز السمات.
وصلوا وسلموا علي نبيكم.