الوارث
كلمة (الوراث) في اللغة اسم فاعل من الفعل (وَرِثَ يَرِثُ)، وهو من...
العربية
المؤلف | محمد بن سليمان المهنا |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
فاعلم أن من طبيعة الإنسان ما دام يأمل الحياة فإنه لا ينقطع أمله من الدنيا، وقد لا تسمح له نفسه بالإقلاع عن لذَّاتها وشهواتها من المعاصي وغيرها، ويرجِّيه الشيطان بالتوبة في آخر عمره، فإذا أحسَّ الموت ويئس من الحياة أفاق من سكرته بشهوات الدنيا، فندم حينئذ على تفريطه ندمًا يكاد يقتل نفسه، وطلب الرجعة إلى الدنيا ليتوب ويعمل صالحًا، فلا يجاب إلى شيء من ذلك، فيجتمع عليه سكرة الموت مع حسرة الفوت ..
أيها المسلمون: عندما يصاب الإنسان بالأمراض والأعراض فإنه -ولا شك- يدرك ذلك، ويشعر به؛ فيبادر سريعًا للتداوي وطلب الشفاء.
غير أن أمراضًا كثيرة تصيب الإنسان من حيث لا يشعر حتى، لقد تستفحل وتتمكن إلى أن تصيب المـــَقاتل، وهذا المصاب لا يكاد يبالي بها، ولا يلتفت إليها؛ إنها أمراض القلوب المفسدة للأديان، المورثة للخسران في الدنيا والآخرة.
وقد قيل: إن القلب إنما سمي قلبًا لتقلُّبه، فتراه قلبًا صالحًا، ثم لا يلبث أن يدبّ إليه الشر والفساد:
وَمَا سُمِّيَ الإنْسَانَ إِلَّا لِنَسْيِهِ | وَلَا القلبَ إِلَّا أَنَّهُ يَتَقَلَّبُ |
ولذلك فلم يزل أهل الصلاح والتقى يتفقدون قلوبهم، ويُنقِّبون عن أحوالها، فيترقَّون بذلك إلى أرفع الدرجات، في الحياة وبعد الممات.
ولم يغفل أولئك الأبرار عن أسباب صلاح القلوب وزيادة الإيمان، بل دونوها وبيَّنوها ووعظوا بها الناس، فما على من أراد زيادة إيمانه، وتقوية يقينه إلا أن يستمع إلى تلك الأسباب المـــُعينة، بآذانٍ صاغيةٍ، وقلوب واعية؛ فلعل وعظًا أن يكون نافعًا، ولعل علاجًا أن يكون ناجعًا.
إن من أهم أدوية القلوب ومقويات الإيمان أن يحرص الإنسان على إزالة الجهل عن نفسه، وذلك بتعلم العلم الشرعي عن طريق مجالسة العلماء، وسؤالهم، وسماع دروسهم، أو قراءة كتبهم، إلى طرق كثيرة تُعِين على العلم النافع.
ولذلك تكاثرت الأدلة الشرعية الدالة على فضل طلب العلم، بل نص غير واحد على أن طلب العلم أفضل من نوافل العبادات كقيام الليل، وقراءة القرآن، وممـَّن نص على ذلك من الأئمة سفيان الثوري، والشافعي، وأحمد، رضي الله عنهم ورحمهم.
وليس من شَكٍّ في أَنَّ مَن عرف ربَّه، وتعلم أحكام دينه، فإنه ولا بد يحصل له من زيادة الإيمان بحسب علمه ومعرفته، وذلك إذا وافق نية صالحة، واتَّباعًا لسنة مأثورة، ودليل ذلك من كتاب الله عز وجل، إذ يقول عز وجل: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) [فاطر:28]، فجعل العلم سببًا لخشية الله سبحانه.
ومن أعظم أسباب زيادة الإيمان قراءة كتاب الله -عز وجل-، وتدبر معانيه، بل لو قال قائل: إن قراءة القرآن هي أعظم أسباب صلاح القلب وزيادة الإيمان لعُدَّ صادقًا فيما قال. كيف لا -يا عباد الله- والله سبحانه قد بين لنا أن كتابه شفاءٌ لأهل الإيمان، وأنه من أسباب هدايتهم وصلاحهم؟!.
استمع إلى قول -عز وجل-: (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ) [فصلت:44]، ويقول -عز وجل-: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا) [الإسراء:82].
ثم استمع بعد ذلك إلى نداء الله عز وجل وهو العالم بخلقه، الخبير بما يصلحهم، استمع إلى ندائه الكريم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ) [يونس:57].
فيا عبد الله: إن أردت شفاءَ قلبك، وصلاح حالك، فدونك كتابُ الله؛ اقرأه، تدبَّرْ معانيه، حَرِّكْ به قلبَكَ. وواللهِ! لَتَجِدَنَّ أثَرَ ذلك عاجلاً، إن ربك لا يخلف الميعاد.
ومن وسائل تقوية الإيمان أيضًا ذكر الله عز وجل بسائر الأذكار، يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله- في كتابه النافع (الوابل الصيب): وفي الذكر أكثر من مائة فائدة. ثم ذكر فوائد متعددة من فوائد الذكر. ثم قال: السادسة عشرة: أنه يورث حياة القلب، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: الذكر للقلب مثلُ الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء؟!.
ثم قال: وحضرت شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- مرةً صلى الفجر ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار، ثم التفت إليَّ وقال: هذه غدوتي، ولو لم أتغد الغداء سقطت قوتي. وقال لي مرة: لا أترك الذكر إلا بنية إجمام نفسي وإراحتها؛ لأستعد بتلك الراحة لذكر آخر، أو كلامًا هذا معناه. اهـ.
فينبغي على كل مسلم أن لا يغفل عن الذكر أبدًا، بل يذكر الله على كل أحيانه قائمًا وقاعدًا وعلى جنبه، في بيته ومسجده وسوقه ومكتبه وسيارته، فإن الذكر عمل يسير، رتب الله عليه الأجر الكبير.
عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟" فقال الصحابة -رضي الله عنهم-: بلى يا رسول الله، فقال: "ذكر الله عز وجل" حديث صحيح أخرجه أحمد وأهل السنن.
وليحرص المسلم دائمًا على كُلِّ سَبَبٍ يزيد الإيمان، وليدْعُ الله أن يصلح قلبه، ويرزقه الإيمان واليقين، فإن مَنْ أكثرَ طرْقَ الأبوابِ أوشَكَ أن يُفتَحَ لَه.
فاللهمَّ إنا نسألك قلوبًا صالحة، وأعمالاً خالصة، وتوفيقًا لكل ما يرضيك؛ اللهم حبِّب إلينا الإيمان، وزَيِّنْهُ في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، بفضلك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
الخطبة الثانية:
أما بعد: فاعلم -أيها العبد المسلم- أن من طبيعة الإنسان ما دام يأمل الحياة فإنه لا ينقطع أمله من الدنيا، وقد لا تسمح له نفسه بالإقلاع عن لذَّاتها وشهواتها من المعاصي وغيرها، ويرجِّيه الشيطان بالتوبة في آخر عمره، فإذا أحسَّ الموت ويئس من الحياة أفاق من سكرته بشهوات الدنيا، فندم حينئذ على تفريطه ندمًا يكاد يقتل نفسه، وطلب الرجعة إلى الدنيا ليتوب ويعمل صالحًا، فلا يجاب إلى شيء من ذلك، فيجتمع عليه سكرة الموت مع حسرة الفوت.
وقد حذر الله عباده من ذلك ليستعدوا له قبل الممات قبل نزوله بالتوبة والعمل الصالح، فقال: (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ) [الزمر:54].
سُمع بعض المحتضرين عند احتضاره يلطم وجهه ويقول: (أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) [الزمر:56]، وقال آخر عند احتضاره: سخرت بي الدنيا حتى ذهبت أيامي. وقال آخر عند موته: لا تغرنكم الحياة الدنيا كما غرَّتْنِي.
والناس في التوبة على أقسام: فمنهم من يعمل المعاصي والسيئات ثم يأتيه الموت من غير أن يتوب، بل قد يموت وهو مقيمٌ على المعاصي، كمن يموت وهو يقلب بصره في المحرمات في أجهزة الفساد، أو من يموت بحادث سيارة وهو يسمع الغناء، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقسم آخر يكون على الغفلة والمعاصي ثم يوفقه الله إلى توبة نصوح وعمل صالح، فيقلع عن معاصيه ويتوب إلى ربه ويعمل الصالحات حتى الممات، فيموت على خير حال بسبب إفاقته من رقدته وتركه لما يغضب مولاه.
وهذه الحال بحمد الله حالٌ طيبة، وقد أعان الله كثيرًا من العصاة على أنفسهم فتابوا وأنابوا فصاروا من الصالحين بعد أن كانوا ضالين مضلين، وسلكوا طريق الجنة بعد أن كادوا يصلون إلى قعر النار. فما أسعد من كانت خاتمته خاتمة الخير! وما أكبر حظ من وفق لتوبة صالحة قبل الممات!.
ذكر الواحدي أن رجلاً من أشراف أهل البصرة وكان مسرفًا على نفسه مفتونًا في شرب الخمر وسماع الغناء، فركب يومًا من الأيام سفينة وكان معه خمر ومغنية تنشده الأشعار، فشرب وغنته تلك المغنية فطرب وانتشى، ثم التفت إلى أناس معه وفيهم رجل صالح.
فقال للرجل الصالح: يا فتى، أتحسن مثل هذا؟ وكان هذا الرجل الصالح ذكيًا، فقال: نعم، أُحْسِن ما هو خير منه. فقال: وما هو؟ فقال: كلام الله، وابتدأ يقرأ بصوت حسن: (قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) [النساء:77].
فرمى الرجل كأس الخمر من يده وقال: إن هذا أحسن ما سمعت، فهل غير هذا؟ قال: نعم. فتلا عليه: (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا) [الكهف:29].
فوقعت في قلبه موقعًا، ورمى بالخمر في البحر، وكسر العود؛ ثم قال: يا فتى، هل ها هنا من فرج؟ قال: نعم، (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر:53]، فصاح الرجل صيحة عظيمة، فنظروا إليه فإذا هو قد مات رحمه الله!.
وروى ابن أبي الدنيا أن أحد الوعاظ، وهو صالح المري، رحمه الله، وعظ الناس موعظة بليغة، وذكر القيامة وأهوالها، والنار وأحوالها، وأطال في الوصف حتى بكى الناس.
فقام شاب قد أسرف على نفسه بالمعاصي فقال: أكل هذا في يوم القيامة؟! فقال الواعظ: نعم، وما هو أكبر منه، فتأثر الشاب وصاح قائلاً: وا غفلتاه عن نفسي أيام الحياة! وا أسفاه على تفريطي في طاعتك يا الله! وا أسفاه على تضييع عمري في الدنيا!.
ثم استقبل القبلة وقال: اللهم إني أعاهدك على توبة نصوح، ودعا الله أن يتقبل منه، وبكى طويلاً حتى غشي عليه، فحُمل من المجلس صريعًا، فأصبح صالح المري وأصحابه يعودونه أيامًا، ثم مات، فكان صالح يذكره كثيرًا في مواعظه ويقول: بأبي قتيل القرآن، بأبي قتيل المواعظ والأحزان.
اللهم وفقنا للتوبة النصوح، وتقبل منا يا أرحم الراحمين؛ اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وكفر عن سيئاتنا، وتوفنا مع الأبرار...