العفو
كلمة (عفو) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعول) وتعني الاتصاف بصفة...
العربية
المؤلف | عبد الله بن راضي المعيدي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
إن التوكل عبادة قلبية من أجلِّ العبادات، وقربة من أعظم القربات، وهو فريضة يجب إخلاصه لله تعالى، وهو من أجمع أنواع العبادة، وأعلى مقامات التوحيد وأعظمها وأجلِّها؛ لما ينشأ عنه من الأعمال الصالحة، فإن العبد إذا اعتمد على الله في جميع أموره الدينية والدنيوية دون كل ما سواه، صحّ إخلاصه ومعاملته مع الله؛ ولذلك أمر الله به في غير آية من كتابه، بل جعله شرطًا في الإيمان والإسلام ..
أما بعد: إن التوكل عبادة قلبية من أجلِّ العبادات، وقربة من أعظم القربات، وهو فريضة يجب إخلاصه لله تعالى، وهو من أجمع أنواع العبادة، وأعلى مقامات التوحيد وأعظمها وأجلِّها؛ لما ينشأ عنه من الأعمال الصالحة، فإن العبد إذا اعتمد على الله في جميع أموره الدينية والدنيوية دون كل ما سواه، صحّ إخلاصه ومعاملته مع الله؛ ولذلك أمر الله به في غير آية من كتابه، بل جعله شرطًا في الإيمان والإسلام؛ كما في قوله تعالى: (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ) [المائدة: 23]، وقوله تعالى: (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) [يونس: 84]، فالتوكل عبادة يجب صرفها لله تعالى، ومن صرف شيئًا منها لغير الله فقد وقع في الشرك إما الشرك الأصغر وإما الأكبر.
يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "والتوكّل نصف الدين، والنصف الثاني الإنابة، فإن الدين استعانة وعبادة، فالتوكل هو الاستعانة والإنابة هي العبادة. ومنزلته أوسع المنازل وأجمعها، ولا تزال معمورة بالنازلين لسعة متعلّق التوكل وكثرة حوائج العاملين، وعموم التوكل ووقوعه من المؤمنين والكفار والأبرار والفجار والطير والوحش والبهائم، فأهل السموات والأرض المكلفون وغيرهم في مقام التوكل وإن تباين متعلق توكلهم".
قال الإمام أحمد: "التوكل عمل القلب"، ومعنى ذلك: أنه عمل قلبي، ليس بقول اللسان ولا عمل الجوارح، ولا هو من باب العلوم والإدراكات.
ومعنى التوكل على الله تعالى هو الاعتماد على الله تعالى وتفويض الأمر إليه مع فعل الأسباب المشروعة، فمن فعل الأسباب ونسي الله فهو واقع في الشرك فاقد للتوحيد الخالص، ومن توكل على الله وترك السبب فهو فاقد للعقل، ومن جعل أكثر اعتماده على الأسباب نقص توكله على الله، وكأنه جعل السبب وحده هو العمدة فيما يصبو إليه من حصول المطلوب وزوال المكروه.
ومَنْ جعل أكثر اعتماده على الله ملغيًا للأسباب فقد طعن في حكمة الله؛ لأن الله جعل لكل شيء سببًا، فمن اعتمد على الله اعتمادًا مجردًا كان قادحًا في حكمة الله؛ لأن الله حكيم يربط الأسباب بمسبباتها، كمن يعتمد على الله في حصول الولد وهو لا يتزوج.
والنبي -صلى الله عليه وسلم- أعظم المتوكلين ومع ذلك كان يأخذ بالأسباب؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يأخذ الزاد في السفر، ولما خرج إلى أُحدٍ ظاهر بين درعيه -أي: لبس درعين اثنين-، ولما خرج مهاجرًا أخذ من يدُلُّه الطريق، وكان يتقي الحرّ والبرد، ولم ينقص ذلك من توكله. ويُذكر عن عمر -رضي الله عنه- أنه قدم ناس من أهل اليمن إلى الحج بلا زاد، فجيء بهم إلى عمر فسألهم، فقالوا: نحن المتوكلون على الله، فقال: "لستم المتوكلين، بل أنتم المتواكلون".
فالضابط في هذه المسألة أن تعرف أن الأخذ بالأسباب واجب وطاعة لله تعالى، ولكن مع ترك الاعتماد عليها، بل الاعتماد على الله وحده لا شريك له في حصول المقصود بعد الأخذ بالأسباب، وبهذا يتبين أن الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد.
وإن مما ينبغي أن يعلمه العبد تلك القاعدة الجليلة والتي ذكرها شيخ الإسلام وهي: "الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابًا نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، وإنما التوكل معنى يتألف من موجب التوحيد والعقل والشرع".
أيها الناس: إن المتأمل لحياتنا اليوم يجد أنواعًا وصورًا وأمثلةً كثيرة على ضعف توكلنا على الله، ومن ذلك أن البعض إذا كانت له حاجة دنيوية أو معاملة أو طلب أو وظيفة تجد أنَّ أول من يخطر في باله هو فلان بن فلان، وأنّه بيده، فتجده يتوجه إليه ويطلبه، وربما نافق له أو مدحه أو رشاه، ونسي الله الذي بيده كل شيء وهو على ما يشاء قدير. ومن ذلك أنّ من حصل له مرض أو مرض له أحدٌ أو كان عنده ظرف أو كرب فمن أول من يخطر في قلبه؟! الله أم الطبيب، الله أم فلان، الله أم المدير، مَن أولُ من يتوجه إليه القلب؟! فتجد أنّ الواحد يقضي في طلب الأمر الأيام وربما الشهور وربما الأعوام ويسأل هذا ويطلب هذا، وهنا تسأله: هل دَعوتَ الله؟! هل توجهتَ إلى الله؟! هل سألت ربك قضاء هذه الحاجة؟! (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) [النمل: 62]، إنه الله الذي لا إله إلا هو الذي بيده كل شيء وهو على ما يشاء قدير.
معاشر المؤمنين: إن فعل الأسباب ليس حرامًا، بل هو أمرٌ مطلوب قد أمر الله به، بل هو من التوحيد، ولكن المحذور الشرك؛ أن يلتفت القلب إلى السبب وحده أيًّا كان، سواء كان بشرًا أم دابةً أم طائرهً أم سيارةً، يلتفت القلب إليها وينسى الله، فهذا هو المحذور، بل الواجب على العبد أن يفعل السبب ثم ينساه ولا يلتفت إليه ويفوض أمره إلى الله تعالى ويعتمد على ربه وخالقه، وأن يعلم العبد أن البشر مهما بلغوا من العلو الدنيوي ومهما ملكوا فإنهم لا يَنفعون ولا يَضُرُّون ولا يُقدِّمون ولا يُؤخِّرون، وليس بيدهم شيء، وليس لهم من الأمر شيء، وأن يتذكر وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس -رضي الله عنه-: "واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعونك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضرّوك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعت الأقلامُ وجَفَّت الصُّحف".
نعم، هذا هو التوكل، وهذه هي حقيقة التوحيد؛ أن يعلم العبد أن الله هو الرازق وهو الباسط القابض الخافض الرافع، بيده كل شيء، وإليه يرجع كل شيء، له ما في السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى، فارج الهمِّ كاشف الكرب مجيب دعوة المضطرين ومَفْزَع الخائفين وإله العالمين، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
ومن الصور أيضًا ترك الواجب من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خوفًا من الناس وأذاهم، فنجد الواحد يرى المنكر فلا يغيِّره بما يستطيع من درجات إنكار المنكر، فإذا سألتَه قال لك: إني أخاف ولا أُحب أن أتدخل في شؤون الناس، وهذا سببه ضعف التوكل، وإلاّ فلو توكل العبد على الله حق توكله لما خشي أحدًا من الناس، ولأَمَر بالمعروف ونهى عن المنكر، ولو فُعل به ما فُعل، فالأذى في هذا السبيل يعتبر من الأذى في سبيل الله.
ولا يعني هذا أن الإنسان يأخذ عصًا يضرب بها الناس أو يشتمهم أو يتعدى عليهم أو على أموالهم أو حقوقهم، بل هذا راجع إلى ولي الأمر، ولكن المقصود أنّ الإنسان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بحسب طاقته وسعته وقدرته وحدود ما أذن به الشرع، والرجل في بيته يستخدم من درجات إنكار المنكر ما لا يستخدمه في غيره.
أيها المؤمنون: إن سبب ضعف التوكل عند كثير من الناس هو بُعدُهم عن طاعة الله؛ لأن العبد إذا بعد عن الله خلا قلبه من الإيمان، واستحوذ عليه الشيطان، وصار يخاف من غير الله؛ من الشيطان وأوليائه، فيترك طاعة الله وما أوجبه الله خوفًا من غير الله، وأما إذا أطاع العبد ربه واستقام على عبادته وترك معصيته امتلأ قلبه إيمانًا، فصار لا يخاف إلا من الله، ولا يرجو غيره، ولا يخشى سواه.
وإذا توكّل العبد على الله واعتمد عليه واستقام على طاعته حق الاستقامة كفاه الله كل شيء وحفظه ورعاه.
واسمع -يا عبد الله- هذه القصة: يقول طاوس بن كيسان -وهو تلميذ ابن عباس وأحد رواة البخاري ومسلم-، يقول: دخلت الحَرَم لأعتمر، قال: فلما أدَّيتُ العمرة جلستُ عند المقام بعد أن صليت ركعتين، فالتفتُّ إلى الناس وإلى البيت، فإذا بجَلَبَة الناس والسلاح والسيوف، فالتفتُّ فإذا الحجاج بن يوسف، يقول طاوس: فلما رأيت الحِرَاب جلستُ في مكاني، فبينما أنا جالس إذا برجل من أهل المدينة فقير زاهد عابد أقبل فطاف بالبيت، ثم جاء ليصلي ركعتين؛ فتعلّق ثوبه بحربة من حِراب جنود الحجاج، فوقعت الحربة على الحجاج، فاستوقفه الحجاج وقال له: من أنت؟! قال: مسلم، قال من أين أنت؟! قال: من اليمن، قال: كيف أخي عندكم؟! وكان أخوه أميرًا على اليمن، قال الرجل: تركته بدينًا بطينًا، قال الحجاج: ما سألتك عن صحته، لكن عن عدله، قال: تركته غشومًا ظلومًا، قال الحجاج: أما أتدري أنه أخي؟! قال الرجل: فمن أنت؟! قال: أنا الحجاج بن يوسف، قال الرجل: أتظنّ أنه يعتزّ بك أكثر من اعتزازي بالله؟! قال طاوس: فما بقيت في رأسي شعرة إلا قامت، قال: فتركه الحجاج. لماذا؟! لأنه توكّل على الله، (فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [يوسف: 64].
والعبد إذا عَبَد الله واستقام على دينه وتوكل عليه فلا يهمه أحد، فهو يطيع الله ويلتزم أمره ويدعو الله ولا يهمه كلام المنافقين ولا استهزاء مرضى القلوب ولا حرب أو سجن أو طرد أو أي شيء كان.
بارك الله لي ولكم في الوحيين...
الخطبة الثانية:
يا أهل الإيمان: اعتمدوا على ربكم وأخلصوا له التوكل، واجعلوا الاعتماد عليه، فالأمر من قبل ومن بعد له وإليه.
أيها المؤمنون: إن الواجب على المسلمين جميعًا أن يعتمدوا على الله في كل شيء، وأن يتوكلوا عليه في أمورهم كلِّها، وأن يُخلصوا له العبادة.
وإن كان المسلمون مُطَالَبين بذلك في كل وقت فهم في هذا الزمان مطالَبون به كثيرًا، فعلينا في هذه الأيام أن نعود إلى الله، وأن نتوكل عليه في وقتٍ نرى أمم الكفر قد أحاطت بالمسلمين، وظهر حقد اليهودية والنصرانية والصليبية، وأصبح كثير من ضِعاف الإيمان ومنافقي الأمة في خوف ووَجَل عظيم من رؤوس الكفر، ونسي أُولئك أن الأمر بيد الله، وأنه هو الذي نصر عبده وأنجز وعده وهزم الأحزاب وحده، فهو الذي أهلك عادًا الأولى، وثمود فما أبقى، وقوم نوحٍ من قبل، إنهم كانوا هم أظلم وأطغى، والمؤتفكة أهوى، فلا اله إلا الله.
إن الله ليس بعاجز عن نصر عباده المؤمنين وأوليائه المتقين، ولكن نصره قد يتأخر بسبب ذنوبنا وتقصيرنا، وحتى يظهر الصادق من الكاذب والمؤمنون من المنافقين، يقول تعالى في كتابه: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) [الأحزاب: 22].
وأما أهل النفاق ومرضى القلوب فاسمع ماذا يقولون: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا) [الأحزاب: 12].
نعم، قد يُبطئ النصر لأن بِنْيَة الأمة المؤمنة لم تنضج بعدُ نضجَها، ولم يتم بعدُ تمامها، ولم تحشد بعدُ طاقاتها، ولم تتحفز كلّ خلية وتتجمع لتعرف أقصى المذخور فيها من قوى الاستعدادت، فلو نالت النصر حينئذٍ لفقدته وشيكًا لعدم قدرتها على حمايته طويلاً.
وقد يبطئ النصر حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة، وآخر ما تملكه من رصيد، فلا تستبقي عزيزًا ولا غاليًا إلا تبذله هينًا رخيصًا في سبيل الله.
وقد يبطئ النصر لأن الأمة المؤمنة لم تتجرد بعدُ في كفاحها وبذلها وتضحيتها لله ولدعوته، فهي تقاتل لمغنم تحققه، أو تقاتل حميةً لذاتها، أو تقاتل شجاعةً أمام أعدائها، والله يريد أن يكون الجهاد له وحده وفي سبيله، بريئًا من المشاعر الأخرى التي تلابسه، وقد سُئل -صلى الله عليه وسلم-: الرجل يقاتل حَمِيَّة والرجل يقاتل شجاعة والرجل يقاتل ليُرى، فأيها في سبيل الله؟! فقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله".
كما قد يُبطئ النصر لأن في الشر الذي تكافحه الأمة المؤمنة بقية من خير يريد الله أن يجرد الشر منها ليتمحص خالصًا وحده هالكًا، لا تتلبس به ذرة من خير تذهب في الغمار.
وقد يبطئ النصر لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زَيفُه للناس تمامًا، فلو غلبه المؤمنون حينئذٍ فقد يجد له أنصارًا من المخدوعين فيه، لم يقتنعوا بعدُ بفساده وضرورة زواله، فتظلُّ له جذورٌ في نفوس الأبرياء الذين لم تنكشف لهم الحقيقة، فيشاء الله أن يبقى الباطل حتى يتكشف عاريًا للناس، ويذهب غير مأسوف عليه من ذي بقية.
من أجل هذا كله ومن أجل غيره مما يعلمه الله قد يبطئ النصر، فتتضاعف التضحيات، وتتضاعف الآلام، مع دفاع الله عن الذين آمنوا وتحقيق النصر لهم في النهاية.
فعلينا أن نتقي اللهَ وأن نتوكل عليه، وأن نعود إليه ونتوب إليه، وأن نعمل على أسباب النصر، وأن نعلم أن الصحابة والتابعين وأتباعهم بإحسان ما ملكوا الدنيا وفتحوا البلاد إلا يوم اتصلوا بالواحد الأحد وعرفوا الله تعالى حق معرفته، ومتى اعتمد العبد على ربه وتوكل عليه أفلح وأنجح، قال -صلى الله عليه وسلم-: "لو أنَّكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدُو خِماصًا وترجع بِطانًا".
فالواجب على المسلمين جميعًا أن يعتمدوا على الله في كل شيء، وأن يتوكلوا عليه في أمورهم كلِّها، وأن يُخلصوا له العبادة.
هذا، وصلوا وسلموا على خير خلق الله...