العربية
المؤلف | حسان أحمد العماري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - أهل السنة والجماعة |
وهناك فتنة الشبهات والشهوات، وفتنة المال، والمنصب والجاه والأتباع؛ ومن هذه الفتن وأشدها خطراً على الأفراد والمجتمعات فتنة الصراعات وفساد ذات البين، واستحلال الدماء، وكثرت القتل، وذهاب الأمن؛ فالدماء التي تنزف اليوم، والأرواح التي تزهق من أي طرف أو فريق في أي مدينة أو بلد من أعظم الفتن ..
الحمدُ لله العظيم الشأن، الكبير السلطان، خلق آدمَ من طين ثم قال له كن فكان، أحسن كل شيء خَلْقه وأبدع الإحسان والإتقان، أحمده سبحانه وحمدُه واجبٌ على كل إنسان، وأشكره على ما أسداه من الإنعام والتوفيق للإيمان، لا راد لقضائه، ولا معقِّب لحكمه، أكرم مسؤول، وأعظم مأمول، عالم الغيوب، مفرّج الكروب، مجيب دعوة المضطر المكروب.
سَهِرَتْ أعينٌ وَنَامَتْ عُيُـونُ | فِي شُؤونٍ تكونُ أوْ لَا تَكُونُ |
فاطْرَح الهَـمَّ مَـا استَطَعْتَ بعيداً | إنَّ حِمـلانَكَ الهُمُومَ جُنُونُ |
إنَّ ربَّاً كفاك ما كان بالأمـ | ــسِ سيَكفيكَ في غدٍ مَا يكُونُ |
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كثير، الخير دائم السلطان، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله صاحب الآيات والبرهان، اللهمَّ صَلِّ على محمَّد وعلى آله وأصحابِهِ حمَلَة العلم والقرآن، وسلِّمْ تسليما كثيراً.
أمَّا بَعْد: لقد جُبِلت هذه الدنيا على كدر، فكم من مصائبَ وابتلاءاتٍ وفتنٍ يلاقيها المسلم في حياته، يعيش معها عند إقبالها وإدبارها، ويبحث عن أفضل الوسائل والطرق ليخرج منها ويتجاوزها وقد سلم منها دينه وعقيدته ودمه وماله وأهله.
والفتن والابتلاءات في حياة الأفراد والمجتمعات والدول سنة من سنن الله، يقضي بها على خلقه متى شاء، لحكمة هو يريدها، قال الله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَ تِ والأَرْضَ في سِتَةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَ يُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [هود:7]، وقال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِيْنَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَ يُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الكهف:7].
والفتن لها أثر في حياة الأفراد والأمم والشعوب؛ فلولاها ما عرف الحق من الباطل، والخير من الشر، ولولاها ماعُرف الرجال من أشباههم، قال تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءَامَنَّا وَهُمْ لاَيُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِ ينَ مِن قَبْلهِمْ فَليَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الكَذِبِينَ) [العنكبوت:2-3].
والمسلم ينبغي له أن يحذر من الفتن مهما كانت، وأن يتعامل معها وفق ضوابط الشرع، وقواعد الدين، وأن يستعيذ بالله منها، فعن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو فيقول: "اللهمَّ إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل والهرم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات" صحيح الجامع.
والمسلم لا يحب الفتن، ولا يتمنى أن تنزل بساحته، أو تحل بمجتمعه، فإذا ما نزَلَتْ عُرِفَ بإيمانه وتقواه، وبحلمه وصبره، وحكمته وعدم تسرعه؛ حتى لا تكون هذه الفتن سبباً لخسارته في الدنيا والآخرة.
ولقد وصف الله -سبحانه وتعالى- ذلك الصنف من الناس ممن لا يحسنون التعامل مع الفتن بقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلكَ هُوَ اْلخُسْرَانُ المُبِينُ )[الحج:11].
عباد الله: لقد كثرت الفتن في زماننا هذا، وتنوعت وتعددت، فأصبح المسلم لا يخرج من مصيبة أو فتنة إلا وجاءت أخرى أشدُّ وأقوى، روى مسلم في صحيحه من حديث عبدالله بن عمرو -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان من صحابته في سفر، فنادى منادي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: الصلاة جامعة؛ فاجتمع الأصحاب حول الرسول -صلى الله عليه وسلم- فخطبهم خطبةً عظيمة.
وكان مما قال فيها: "إنَّ أمتكم هذه جُعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرَها بلاءٌ وأمورٌ تنكرونها، وتجئ فتنةٌ فيرقق بعضها بعضا، وتجئ الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي؛ ثم تنكشف وتجئ الفتنة، فيقول المؤمن: هذه هذه! فمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ، وَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ".
وإن من أخطر الفتن، والتي ينبغي للمسلم أن يحذر منها أو أن يقع فيها فتنة الدين، والشرك برب العالمين، قال تعالى: (وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) [الحج:31].
وإن من صور هذه الفتنة بين الناس اليوم الطواف حول القبور، ودعوة الأموات، والذهاب للسحرة والمشعوذين، ولبس التمائم والحروز، وتحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل. عن عُدي بن حاتم -رضي الله عنه- أنه سمع النبى -صلى الله عليه وسلم- يقرأ هذه الآية: "(اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [التوبة:31]". فقلت له: إنا لسنا نعبدهم. قال: "أليس يحرِّمون ما أحل الله فتحرِّمونه، ويُحِلُّون ما حرَّم الله فتحلونه؟" فقلت: بلى. قال: "فتلك عبادتهم". رواه احمد والترمذى وحسنه.
وهناك فتنة الشبهات والشهوات، وفتنة المال، والمنصب والجاه والأتباع؛ ومن هذه الفتن وأشدها خطراً على الأفراد والمجتمعات فتنة الصراعات وفساد ذات البين، واستحلال الدماء، وكثرت القتل، وذهاب الأمن؛ فالدماء التي تنزف اليوم، والأرواح التي تزهق من أي طرف أو فريق في أي مدينة أو بلد من أعظم الفتن، فعن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تقوم الساعة حتى يكثر الهَرْج"، قالوا: وما الهَرْج يا رسول الله؟ قال: "القتل، القتل" رواه مسلم.
وفي رواية البخاري عن عبد الله بن مسعود: "بين يدي الساعة أيام الهَرْج، يزول العلم، ويظهر فيها الجهل"، قال أبو موسى: والهَرْج القتل. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده! لا تذهب الدنيا حتى يأتي على الناس يوم لا يدري القاتل فيم قَتَل، ولا المقتول فيم قُتل" رواه مسلم.
وقال -عليه الصلاة والسلام-: "لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم" رواه الترمذي وصححه الألباني؛ وقال -عليه الصلاة والسلام-: "لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن؛ لأكبَّهم الله في النار" رواه الترمذي وصححه الألباني؛ وقال تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) [النساء:93].
عباد الله: إن علينا أن نحذر من الفتن، وأن نحسن التعامل معها، متسلحين بالإيمان، والتقوى، ومراقبة الله؛ لأن الفتن تُعمي القلوب، ويخسر المرء بسببها دينه ودنياه وآخرته؛ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ستكون فتنة صماء (بكماء) عمياء، مَن أشرف لها استشرفت له، وإشراف اللسان فيها كوقع السيف" رواه أبو داود.
فبمجرد المشاركة في تأجيج هذه الفتن باللسان تقلب الحقائق، ويشهد بالزور، وينتشر الكذب، وتطمس القيم، ويصبح الحق باطلاً والباطل حقاً والخير شراً، يكون قد وقع في محظور عظيم، وارتكب ذنباً كبيراً، فكيف بمن يشارك فيها بيده وماله ووجاهته وسلطانه؟.
وعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن بين أيديكم فِتَناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي"، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: "كونوا أحلاس بيوتكم" رواه أبو داود والحاكم وصححه.
فإذا لم تساهم في حل المشكلة، ورأب الصدع، والبحث عن الحلول، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقول كلمة الحق، فعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ، ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلا يُسْتَجَابُ" رواه الترمذي وحسنه المنذري وصححه الألباني.
وعَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَانْهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ قَبْلَ أَنْ تَدْعُوا فَلا يُسْتَجَابَ لَكُمْ" رواه ابن ماجة وحسنه الألباني.
فاحذر أن تساهم في أي فتنة تكون سبباً في ذهاب الأمن، وانتشار الخوف، وسفك الدماء، والاعتداء على الأعراض، وترويع الآمنين، ومناصرة أهل البغي والظلم والجور؛ ولْنَسْعَ جميعاً إلى نشر الخير والتراحم والحب، ولْنقُمْ بحقوق الأخوّة فيما بيننا، وَلْنتذكَّرْ أنَّ ما عند الله خير وأبقى، وأن هذه الدنيا متاع زائل، يعقبها حساب شديد، وعذاب لا يطاق، وربّ ساخط وغضبان، إلا مَن اتَّقى وعمِلَ عَمَلا صالحا.
اللهم إنا نعوذ بك من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
عباد الله: عند حلول الفتن على المسلم أن يلجأ إلى الله بالتوبة والإنابة وطلب المغفرة، قال تعالى: (وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الأعراف:168]، ومن ذلك أنه يجب على المسلم أن يكثر من الدعاء فبه نزول الفتن، قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) [الأنعام:42].
وعلينا أن نكثر من العبادات، من صلاة وصيام وقراءة للقرآن، وذكر واستغفار وصدقة، لعل الله يفرج عنا وعلينا بصنائع المعروف، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وصدقة السر تطفيء غضب الرب".
فاللهم رُدَّنا إلى دينك رداً جميلاً، وقنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم احفظنا بحفظك الذي لا يرام، واحرسنا بعينك التي لا تنام، واحفظ بلادنا من كل سوء وفتنة وبلاء، أَلِّفْ على الخير قلوبنا، واجمع ما تفرق من أمرنا، وأرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واحفظ أولادنا وبناتنا وأهلينا، واحقن دماءنا ودماء المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وأصحابه الطيبين الطاهرين...