الرحيم
كلمة (الرحيم) في اللغة صيغة مبالغة من الرحمة على وزن (فعيل) وهي...
العربية
المؤلف | سامي بن خالد الحمود |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الصيام |
في هذا الشهر الكريم ظهر رابحون وخاسرون وناجحون وفاشلون، فلقد أدرك الرابحون أهمية رمضان وفضله وجلالته، فعمروه بالخيرات والصالحات، وتقاعس الخاسرون فأرهقوه بضروب اللهو والسفه والضياع، فحصدوا الخيبة والندامة والحرمان..
أما بعد:
أيها الناس: العاقل لا يحب أن يفني جهده ويبذل وسعه في عمل تكون عاقبته الفشل والخسارة.
تصور أنك ساهمت بمائه ألف ريال في مشروع تجاري ثم لم تلبث أن خسر المشروع، وذهبت أموالك أدراج الرياح، فإن كنت ممن يحزن ويضجر لفوات ماله وتجارته وضياع ربحه وصفقته فاحزن على فوات رمضان، وما خلَّفه من ربح وخسارة وسعادة وشقاوة.
أيها الإخوة: إن فترة رمضان كانت تجارة عظيمة ومشروعًا ناجحًا وثروة كبيرة، لا تُضاهَى ولا تجارَى، فتأملوا أحوالكم وأحوال الناس في رمضان.
في هذا الشهر الكريم ظهر رابحون وخاسرون وناجحون وفاشلون، فلقد أدرك الرابحون أهمية رمضان وفضله وجلالته، فعمروه بالخيرات والصالحات، وتقاعس الخاسرون فأرهقوه بضروب اللهو والسفه والضياع، فحصدوا الخيبة والندامة والحرمان.
لما سمع الرابحون: "إذا جاء رمضان فُتِّحت أبواب الجنة" سبحت أرواحهم في الطاعة والخير، فتوّجوها بمحاسن الخصال وفضائل الأعمال, ولما سمع الخاسرون ذلك حجبت غشاوة الباطل سرج النور، فمرّ كأي حديث عابر لا تفكُّرَ ولا تفكير.
هل يتجاهل الرابحون: "رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ فلم يغفر له"؟! كلا، وهم أرباب التلاوة والخشوع والجود والخضوع, بينما الخاسرون طفحت بهم حلاوة الأسمار والأوتار، فباتوا على جيفة حمار، حالت دون ولوج الخير والأنوار.
أيقن الرابحون أن عمر رمضان عمر من أعمارهم، بفوزه يدركون شأن من سبقهم، ويعوّضون شيئًا مما فاتهم, وغفل الخاسرون فالتهمتهم أسباب الغواية ومشاهد الخنا والخلاعة، فها هم يقلِّبون أكفَّهم ويطوون باطلهم، مرضى القلوب، سود الوجوه، صفر الأجور، والعياذ بالله من ذلك.
باختصار، قفَل رمضان فكان الرابح هم أهل الذكر والقرآن والصلاة والإنفاق، وكان أهل الخسر أهل اللعب واللهو والسفه والباطل.
ربح خاتمو القرآن ختمات ومُديمو الذكر والصلوات وباذلو الخير والصدقات، خسر أهل النوم والغفلات وحارقو الشهر بالسهرات وهاجرو الذكر والخيرات.
الرّابحون تنعّموا بلذة القرآن وحلاوة الصلاة وأنوار الصدقات، فما شغلهم عنها مال يجمعونه ولا شغل يصنعونه، فها هو سيد الرابحين الفائزين نبينا –صلى الله عليه وسلم-، كانت الصلاة أنسَه وميدانَه، والذكر نزهته وبستانه، يقول صلى الله عليه وسلم: "أرحنا بها يا بلال"، وكان إذا حزبه أمر صلى، ويقول: "وجُعلت قرة عيني في الصلاة", يصلي ركعات فلا تسأل عن حُسْنهن وطولهن، وكان أجود الناس بالخير، فلرسول الله –صلى الله عليه وسلم- أجود بالخير من الريح المرسلة.
وفي ترجمة تميم الداري -رضي الله عنه-، قال محمد بن سيرين: كان يقرأ القرآن في ركعة، وقال مسروق: قال لي رجل من أهل مكة: هذا مقام أخيك تميم الداري، صلى ليلة حتى أصبح أو كاد، يقرأ آية يرددها ويبكي: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) [الجاثـية:21], وقال مجاهد: كان ابن الزبير إذا قام إلى الصلاة كأنه عود، وحدّث أن أبا بكر -رضي الله عنه- كان كذلك, وفي السير في ترجمة سُهيل بن عمرو خطيب قريش -رضي الله عنه-، قال الذهبي: "لما أسلم كان كثير الصلاة والصدقة، وخرج بجماعته إلى الشام مجاهدًا، ويقال: إنه صام وتهجد حتى شحب لونه وتغير، وكان كثير البكاء إذا سمع القرآن".
ومن خبر سيد التابعين سعيد بن المسيب -رحمه الله-، السيد في العلم والعمل، فقد كان كاسمه بالطاعات سعيدًا، ومن المعاصي والجهالات بعيدًا، متمكّنًا من الخدمة، حافظًا للحرمة، قال أبو حرملة عن سعيد قال: "ما فاتتني الصلاة في جماعة منذ أربعين سنة", وعن عثمان بن حكيم: سمعت سعيدًا يقول: "ما أذَّن المؤذن منذ ثلاثين عامًا إلا وأنا في المسجد".
وفي ترجمة أبي إسحاق السبيعي أنه قال: "يا معشر الشباب، اغتنموا، قال: ما مرت بي ليلة إلا وأقرأ فيها ألف آية، وإني لأقرأ البقرة في ركعة، وإني لأصوم الأشهر الحرم وثلاثة أيام من كل شهر والإثنين والخميس".
وفي ترجمة عثمان -رضي الله عنه- الإمام القانت الجواد أنه اشترى للمسلمين بئر رومة بأربعين ألف درهم، وأنفق في جيش العسرة عشرة آلاف درهم, ويروى أنه كان لعثمان على طلحة -رضي الله عنه- خمسون ألف درهم، فخرج عثمان يوما إلى المسجد فقال له طلحة: قد تهيأ مالك فاقبضه، فقال له عثمان -رضي الله عنه-: هو لك ـ يا أبا محمد ـ معونة على مروءتك.
وفي ترجمة طلحة الفياض -رضي الله عنه- قال الحسن: باع طلحة أرضًا له بسبعمائة ألف، فبات ذلك المال عنده ليلة، فبات أرِقًا من مخافة المال حتى أصبح ففرَّقه.
وفي ترجمة علَم المجاهدين وأبي المساكين جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه-، قال أبو هريرة: كنا نسمي جعفر أبا المساكين، كان يذهب بنا إلى بيته، فإذا لم يجد لنا شيئًا أخرج إلينا عكة أثرها عسل، فنشقّها ونلعقها, وفيه يقول أبو هريرة كما عند أحمد والترمذي بسند جيد: ما احتذى النعال ولا ركب المطايا بعد رسول الله أفضل من جعفر بن أبي طالب، يعني في الجود والكرم.
وقال الذهبي في ترجمة الأمير المجاهد قيس بن سعد بن عبادة -رضي الله عنهما سيد الخزرج وابن سيده-، قال: "وجود قيسٍ يُضرَب به المثل، قال يحيى بن سعيد: كان قيس بن سعد يطعم الناس في أسفاره مع النبي –صلى الله عليه وسلم-، وكان إذا نفد ما معه تديَّن، وكان ينادي في كل يوم: هلموا إلى اللحم والثريد، وقيل: وقفت مع قيسٍ عجوز فقالت: أشكو إليك قلة الجُرذان، فقال: ما أحسن هذه الكناية! املؤوا بيتها خبزًا ولحمًا وسمنًا وتمرًا, وروي أنه مرض -رضي الله عنه-، فاستبطأ إخوانه عن عيادته، فسأل عنهم فقيل: إنهم يستحيون مما لك عليهم من الدَّين، فقال: أخزى الله مالاً يمنع الإخوان من الزيارة، ثم أمر مناديا فنادى: من كان لقيس عليه دَين فهو في حلّ منه، فكُسرت درجته بالعشي لكثرة من عاده".
لو كان يَقعدُ عند الشمس من كرمٍ | قومٌ بآبائهم أو مجدهم قعدوا |
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بعبادتك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله...
أيها الصائمون: ما مضى من أخبار هي نماذج ربح وفلاح، حازها الرابحون المفلحون الذين قدَّروا الوقت والزمان، وحفظوا النفس والجنان، فضرب كل واحد منهم في باب يقربه إلى الله، فمنهم رابح في التلاوة، وآخر في الصلاة، وآخر في الجود والصدقة، طرقوا محاسن الأمور فبقيت محاسن لهم تحتذى وتروى.
أما القائمة الأخرى السوداء فهي بمثابة العار والشنار والمصائب على أربابها.
أما يحزنكم إعراض صائم عن ذكر الله والتفاته إلى ما يغضب الله؟! أما يحزنكم أن بعضهم لم يصلِّ التراويح، وفي وقت القيام تجده في مقهى أو ملعب أو سفاهة كأنه لا يعرف رمضان، ولا يعرف فضله وثوابه؟! ألم ير هؤلاء مصائر الناس، وكيف تخطفهم المنايا والنكبات؟! نعم صدق من قال:
الناس في غفلاتهم | ورحى المنية تطحَنُ |
وقول ربنا أبلغ وأجل: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) [الانبياء:1].
وفقنا الله وإياكم للخيرات، وجنبنا الغفلة والحسرات.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها, اللهم أعزّنا بطاعتك، ولا تذلنا بمعصيتك، اللهم وفقنا للخيرات، وجنبنا الغفلة والحسرات.