البحث

عبارات مقترحة:

المحسن

كلمة (المحسن) في اللغة اسم فاعل من الإحسان، وهو إما بمعنى إحسان...

الظاهر

هو اسمُ فاعل من (الظهور)، وهو اسمٌ ذاتي من أسماء الربِّ تبارك...

المقتدر

كلمة (المقتدر) في اللغة اسم فاعل من الفعل اقْتَدَر ومضارعه...

وقفتان بعد رحيل رمضان

العربية

المؤلف رياض بن يحيى الغيلي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك - الصيام
عناصر الخطبة
  1. فضلُ صيام الأيام التي يُستحب صومها بعد رمضان .
  2. فضل قيام الليل .
  3. أمورٌ تُيَسِّرُ قيام الليل .
  4. حال بعض السلف مع قيام الليل .

اقتباس

أيها الأخ المسلم، أيتها الأخت المسلمة: لم ننته بعد من صيام التطوع، فمازالت أمامنا الأيام القمرية من كل شهر هجري، وهي التي تسمى (الأيام البيض)، وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر، من صامها مع شهر رمضان كان حقاً على الله أن يرويه يوم الظمأ، إي وربي! كان على حقاً على الله أن يرويه يوم الظمأ، أتدرون ما يوم الظمأ؟ إنه يوم عسير، على الكافرين غير يسير..

الحمد لله رب العالمين، يا رب! يا من لا تراه العيون، ولا تخالطه الظنون، ولا يصفه الواصفون، ولا تغيره الحوادث، ولا يخشى الدوائر، ويعلم مثاقيل الجبال، ومكاييل البحار، وعدد قطر الأمطار، وعدد ورق الأشجار، وعدد ما أظلم عليه الليل وأشرق عليه النهار. 

يا من لا تواري منه سماءٌ سماءً، ولا أرضٌ أرضاً، ولا بحر ما في قعره، ولا جبل ما في وعره، أعِدْ علينا رمضان أعواما متتالية، وارزقنا الزهادة في الدار الفانية، وارفع منازلنا في جنة عالية.

اللهم ارزقنا الاستقامة على دينك في كل زمان، في رمضان وفي غير رمضان.

وأشهد ألَّا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، أوحى إلى حبيبه وخليله محمد -صلى الله عليه وسلم- فقال: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) [محمد:19].

وَاعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ رَبٌّ واحِدٌ

مُتَنَزِّهٌ عَنْ ثالثٍ أو ثَانِ

الأوَّلُ المبْدِي بِغَيْرِ بِدايةٍ

والآخِرُ المفْنِي وَلَيْسَ بِفَانِ

وَهُوَ المُحيطُ بِكلِّ شَيْءٍ عِلْمُهُ

مِن غَيرِ إغْفالٍ ولا نِسْيَانِ

سُبْحَانَهُ ملِكَاً عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى

وَحَوَى جميعَ الملْكِ والسُّلْطَانِ

وأشهد أن حبيبنا و نبينا ورسولنا وعظيمنا وقائدنا وقدوتنا محمداً رسول الله، كان دائم الصلة بالله، يصوم والناس مفطرون، يقوم والناس نائمون، يذكر الله والناس غافلون، يرتل القرآن الناس هاجرون؛ هو خير من صام وأفطر، وخير من سبح وذكر، وخير من هلل وكبر.

حبيبي يا رسول الله:

لي في مَديحِكَ يا رسولُ عَرَائسٌ

تُيِّمْنَ فيكَ وَشَاقَهُنَّ جَلَاءُ

هُنَّ الحِسانُ فإنْ قبِلْتَ تكرُّمَاً

فمُهُورُهُنَّ شفاعةٌ حسناءُ

ما جئتُ بابَكَ مادحاً بل داعِياً

ومن المديح تَضَرُّعٌ وَثَنَاءُ

يا مَنْ لهُ عِزُّ الشفاعةِ وحدَهُ

وَهُوَ المنَزَّهُ ما لَهُ شُفَعَاءُ

صلَّى عليك الله يا علَمَ الهدى ما هبَّت النسائم، وما ناحت على الأيك الحمائم.

أما بعد: فيا حملة القرآن، ويا حراس العقيدة: فقد رحل رمضان، رحل شهر الصيام، رحل شهر القيام، رحل شهر القرآن، رحلت لياليه العامرة، رحلت أيامه الزاهرة، كأنها لحظات عابرة، فارقْتَنَا يا سيد الشهور، وإنا لفراقك لمحزونون!.

دعِ البكاءَ على الأطلالِ والدَّارِ

و اذكر لمن بانَ مِن خِلٍّ ومِن جَارِ

ذرِ الدُّمُوعَ نحيباً و ابْكِ مِن أَسَفٍ

على فِراقِ ليالٍ ذاتِ أنوارِ

على ليالٍ لشَهْرِ الصَّوْمِ ما جُعِلَتْ

إلا لتمحيصِ آثامٍ و أوزارِ

يا لائمي في البُكا زِدْنِي به كَلفاً

واسْمَعْ غريبَ أحاديثٍ وأخبارِ

ما كان أحسننا! والشملُ مجتمعٌ

منَّا المصلِّي ومنَّا القانتُ القارِي

أيها المؤمنون الأعزاء: من كان يعبد رمضان فإن رمضان قد رحل، ومن كان يعبد الله فإن الله باق لا يرحل؛ نعم، رحل رمضان، فهل رحل الصيام؟ رحل رمضان، فهل رحل القيام؟ رحل رمضان، فهل رحل القرآن؟ رحل رمضان، فهل رحلت مناجاة الواحد الدَّيَّان؟.

أيها المؤمنون الأوفياء: بعد رحيل رمضان أقف مع حضراتكم وقفتين متأنيتين أسميهما: وقفتان بعد رحيل رمضان.

الوقفة الأولى: رحل رمضان، فهل رحل الصيام؟ لقد رحل رمضان بصيام الفريضة، ولكنه ترك لنا صيام التطوع، وأول صيام التطوع بعد رمضان، صيام ستة أيام من شوال، ولكي نعرف فضل صيام الست من شوال، أرتحل بكم إلى الحضرة المحمدية على صاحبها أزكى الصلوات الربانية، لنوجه هذا السؤال إلى الذي لا ينطق عن الهوى: يا رسول الله -بأبي أنت وأمي!- أخبِرْنا عن فضل صيام الست من شوال! فتأتي الإجابة واضحة المعاني، جلية المباني، ليقول لنا الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم-: "من صام رمضان، ثم أتبعه بسِتٍّ من شوال، فكأنما صام الدهر كله".

يا الله!! صام الهر كله؟ نعم أيها الأحبة، من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال، فكأنما صام الدهر كله، كيف ذلك؟ ألم يعدنا مولانا -جل جلاله- في محكم تنزيله: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) [الأنعام:160]، والصيام حسنة، بل صيام اليوم الواحد حسنة، والحسنة بعشر.

وعلى ضوء هذا الوعد الرباني؛ فإن صيام يوم من رمضان يعدل صيام عشرة أيام، ورمضان ثلاثون يوماً حتى وإن كان ناقصاً، وصيام رمضان بثلاثمائة يوم، وصيام يوم واحد من أيام شوال الست يعدل صيام عشرة أيام كذلك، فصيام الستة بستين يوماً.

والسنة القمرية الهجرية العربية: ثلاثمائة وستون يوماً، فإذا ما صمت رمضان والأيام الست من شوال، فكأنك صمت ثلاثمائة وستين يوماً، كأنك صمت السنة كلها، فإذا كنت على هذه الحال كل عام حتى تلقى الله، أعطاك ثواب من صام العمر كله، هذا وعد الله، والله لا يخلف الميعاد.

ثم تهل علينا نسمات مباركات، تحملها لنا الأيام العشر الأولى من شهر ذي الحجة، التي أقسم الله تعالى بها فقال: (وَالفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ) [الفجر:1-2]، قال المفسرون: المقصود بالليالي العشر العشر الأيام الأولى من شهر الحج. ومنها يستحب صيام تسعة أيام من أول ألشهر حتى اليوم التاسع منه، وهو يوم عرفة.

في الحديث، قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام" -يعني أيام العشر من ذي الحجة- قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء".

أما فضل صيام يوم عرفة فيكفي أن تعلم أن الحبيب محمداً -صلى الله عليه وسلم- قال فيه: "صيام يوم عرفة احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده".

سبحان الله الجواد الكريم! صيام يوم عرفة يكفر الذنوب التي ارتكبتها في السنة الماضية، والتي ترتكبها في السنة اللاحقة، إذا اجتنبت الكبائر.

وبعد يوم عرفة يأتي يوم عاشوراء، وما أدراكم ما عاشوراء؟ إنه اليوم الذي نجَّى الله فيه كليمه موسى، وأغرق فيه عدوه فرعون، وهو اليوم العاشر من شهر الله الحرام (محرم)، وقد جاء بيان فضل صيام يوم عاشوراء في حديث أبي قتادة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل عن صوم عاشوراء، فقال: "يكفِّر السنة الماضية"، وفي رواية:"صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله"، وفي حديث آخر: "ومن صام عاشوراء غفر الله له سنة".

قال البيهقي: وهذا فيمن صادف صومه وله سيئات يحتاج إلى ما يكفِّرها؛ فإن صادف صومه وقد كُفِّرت سيئاته بغيره انقلبت زيادة في درجاته، وبالله التوفيق.

بل إن صيامه يعدل صيام سنة، كما في رواية: "ذاك صوم سنة"، ويصور حبر هذه الأمة عبد الله بن عباس حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على صيامه فيقول: "ما رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يتحرَّى صيام يوم فضَّله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء، وهذا الشهر، يعني: شهر رمضان".

أيها الأخ المسلم، أيتها الأخت المسلمة: لم ننته بعد من صيام التطوع، فمازالت أمامنا الأيام القمرية من كل شهر هجري، وهي التي تسمى (الأيام البيض)، وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر، من صامها مع شهر رمضان كان حقاً على الله أن يرويه يوم الظمأ، إي وربي! كان على حقاً على الله أن يرويه يوم الظمأ، أتدرون ما يوم الظمأ؟ إنه يوم عسير، على الكافرين غير يسير.

إنه يوم يقول عنه المولى -جل جلاله، وتقدست أسماؤه-: (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا * يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ * وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا) [المعارج:1-10].

إنه يوم يشتد فيه الظمأ بالعباد، وتدنو الشمس من الرؤوس، وتتيبس الشفاه، وتتحجر الألسن، وتجف الحلوق، وليس هناك من يسقي الماء إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من حوضه الذي يصفه فيقول: "حوضي على مقدار مسيرة شهر، ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وريحه أطيب من ريح المسك، وطعمه أحلى من العسل، من شرِب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدا". فيا فوز من شرب من هذا الحوض! يا فوز من يسقيه الحبيب -صلى الله عليه وسلم- بيده الشريفة! يا فوز من يرد ذلك الحوض!.

أخي في الله، أختي في الله: هل تريدان أن تشربا من ذلك الحوض؟ هل تريدان أن يسقيكما الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم- بيده الشريفة؟ هل تريدان أن تشربا شربة هنيئة لا تظمآن بعدها أبداً؟ عليكما بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، عليكما بصيام الأيام البيض من كل شهر، التي يحث على صيامها سيد الخلق فيقول: "من صام ثلاثة أيام من كل شهر مع شهر رمضان كان حقاً على الله أن يرويه يوم الظمأ"، نعم: من صام ثلاثة أيام من كل شهر مع شهر رمضان كان حقاً على الله أن يرويه يوم الظمأ.

هذه الحقيقة وعاها أعرابي الحجاج، فاستعدَّ بها لذلك اليوم، أتدرون من أعرابي الحجاج؟ اسمعوا هذه القصة وستعرفونه جيداً! كان الحجاج بن يوسف الثقفي طاغية العراق رجلا سفاحاً، وكان أميراً على العراق، في عهد عبد الملك بن مروان، وكان الحجاج لا يأكل إلا إذا أرسل إلى رجل يأكل معه.

وذات يوم شديد الحر أراد أن يتناول طعام الغداء، فأرسل أحد جنوده ليحضر له من يأكل معه، وذهب الجندي في حر الهجير عندما قامت الشمس على الرؤوس تكوي وجه الأرض بحَرِّها، أخذ الجندي يبحث عن رجل يأكل مع الحجاج فلم يجد في هذا الحر القائض إلا أعرابياً ينام في ظل جبل.

فأيقظه الجندي، وقام الأعرابي مذعوراً: لم أيقظتني -يرحمك الله-؟ قال الجندي: لتتناول الغداء مع أمير العراق، أتدري من هو؟ قال الأعرابي: نعم، إنه الحجاج بن يوسف، فقاده الجندي نحو الحجاج بن يوسف.

ولما وقف الأعرابي أمام الطاغية، قال الحجاج: أتدري من أنا يا أعرابي؟ قال الأعرابي: نعم، أنت الحجاج بن يوسف. قال الحجاج: إذن تعال لتتناول الغداء على مائدة الحجاج يا أعرابي، قال الأعرابي بلسان العزة والشموخ: لقد دعاني من هو أفضل منك كي أتناول الطعام عنده. قال الحجاج المغرور: ومن أفضل مني يا أعرابي؟ قال الأعرابي: إنني اليوم صائم ومدعو على مائدة الله -جل في علاه-. الله أكبر! ما هذا الشموخ؟! ما هذه العزة؟!.

أيها الإخوة الأعزاء: عندما أقرأ هذه القصة أحني الجبين إكباراً وإجلالاً لله الذي وضع العزة في قلب من يحب من عباده؛ أعرابي وأمير طاغية، أعرابي حافي القدمين، فقير الحال، يقف أمام طاغية العراق الذي ملأ الأرض ظلماً، ولا يحكم العراق حتى هذا اليوم إلا كل طاغية أثيم، حجاج زنيم.

أعرابي مسكين يقف أمام ظالم مات في سجنه عشرون ألفا، وكان سجنه غير مسقوف لا صيفاً ولا شتاء، وإن سجون الطغاة الغاشمين في هذا الزمان أشد هولاً من سجن الحجاج، فلكلِّ زمان حَجاجه، وقد ابتلى الله أمة محمد في هذا الزمان في كل بلد من بلاد المسلمين بحَجَّاج غاشم، عميل خائن، لا يرقب في مؤمن إلا ولا ذمة.

الأعرابي يقول: يا حجاج، لقد دعاني من هو أفضل منك، إنني اليوم صائم ومدعو على مائدة الرحمن، فيجيب الحجاج: يا أعرابي أتصوم هذا اليوم وهو شديد الحرارة؟ فيقول الأعرابي المؤمن: يا حجاج، أصومه ليوم أشد منه حراً. فيجيب الحجاج: أفطر اليوم، وصم غداً. فيجيب الأعرابي وكله ثقة وإيمان: يا حجاج، هل اطَّلَعْتَ على الغيب فوجدتني سأعيش إلى الغد؟.

والله الذي لا إله إلا هو لو كان أحد علماء السلطان في موقف هذا الأعرابي ودعي إلى مائدة أحد المسؤولين وكان صائماً، لأفطر الدهر كله، حتى يفوز بمجالسة صاحب الجلالة، أو صاحب الفخامة، أو صاحب السمو، أو صاحب السعادة، أو صاحب المعالي! شاهت الوجوه، شاهت وجوه المنافقين، شاهت وجوه المتملقين، شاهت وجوه المتزلفين.

قال الأعرابي: ماذا تريد مني يا حجاج؟ قال الحجاج وقد بهت: لا أريد منك شيئاً، قال الأعرابي: إذن فدعني مع الذي رفع السماء وبسط الأرض، ثم انصرف.

أيها المؤمنون الأماجد، أيتها المؤمنات الفاضلات: ما زلت معكم في الوقفة الأولى بعد رحيل رمضان،
وهناك صوم يومي الاثنين والخميس، فقد كان الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يصومهما، ولما سئل -بأبي هو وأمي- عن ذلك قال: "إنهما يومان تعرض فيهما الأعمال على الله، وأنا أحب أن يرفع عملي إلى الله وأنا صائم".

و من أراد الزيادة فعليه بصيام نبي الله داوود -عليه السلام-، أتدرون ما صيام داوود؟ كان يصوم يوماً ويفطر يوماً؛ قال الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم-: "خير الصيام صيام داوود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً".

إلى هنا أستطيع التوقف عن عرض الوقفة الأولى، لنستريح قليلاً، قبل أن نستعرض الوقفة التالية.

أيها المؤمنون الأعزاء: هنا مدرسة محمد -صلى الله عليه وسلم-، يقول فيها الحبيب: "البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، اعمل ما شئت كما تدين تدان، كل ابن آدم خطَّاء، وخير الخطائين التوابون". فتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين؛ أشهد ألا إله إلا الله، ولي الصالحين، واشهد أن محمداً عبد الله ونبيه ورسوله، إمام المتقين، وخاتم الرسل أجمعين، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله الطيبين، وأصحابه أجمعين.

أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون، أيتها الأخوات المؤمنات: أعود لأقف مع حضراتكم وقفة ثانية بعد رحيل رمضان، ولولا ضيق الوقت لجعلتها وقفات.

الوقفة الثانية: رحل رمضان، فهل رحل القيام؟ لقد كان قيام الليل ديدن حبيبنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، فما ترك قيام الليل في غير رمضان، بل كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه الشريفتان، وكانت تقول له أمنا عائشة -رضي الله عنها-: هون عليك يا رسول الله! فقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فيجيبها بلسان الشكر والرضا: "أفلا أكون عبداً شكوراً". بأبي وأمي رسول الله! مَن أحسن منه أخلاقاً؟ وهو الذي أدَّبه ربه فقال: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4].

يَا سَيِّدَ العُقَلاءِ يَا خَيْرَ الوَرَى

يا مَن أتيتَ إلى الحياةِ مُبَشِّراً

وبُعِثْتَ بالقرآنِ فينا هادِيَاً

وطلَعْتَ في الأكوانِ بَدْرَاً نيِّراً

واللهِ ما خلَقَ الإلهُ ولا بَرَى

كمُحَمَّدٍ بَشَرَاً يُرَى بينَ الوَرَى

بل إن الله تعالى ينزل في الثلث الأخير من الليل نزولاً يليق بعظمته وجلاله ليس في رمضان فحسب، بل في سائر الليالي على مدار العام، فينادي ويقول: "مَن يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟". فهل تقر عينك بالنوم -يا عبد الله- وربك -جل وجلاله- يناديك، ويفتح لك أبواب رحمته، ويوسع لك أبواب عطائه؟.

كان السلف الصالح من هذه الأمة يحرصون على قيام الليل حرصهم على الصلوات المكتوبة، فقد كان سيدنا عثمان بن عفان -رضي الله عنه- يقوم الليل كله يقرأ فيه القرآن كاملاً في ركعة واحدة هي الوتر!.

وكان أبو حنيفة النعمان يقوم الليل كله، فيصلي الليل بوضوء العشاء، ثم يصلي الفجر بنفس الوضوء، استمر على هذا الحال نحواً من خمسين عاماً.

أما الحسن البصري -رحمه الله- فيصف صلاة الليل بقوله: لم أجد من العبادة شيئاً أشدَّ من الصلاة في جوف الليل؛ فقيل له: ما بال المتهجدين أحسن الناس وجوهاً؟ فقال: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره.

كيف لا وهم تلاميذ مدرسة محمد -صلى الله عليه وسلم- التي يقول فيها: "أيها الناس: أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام"، ويقول فيها أيضاً -صلى الله عليه وسلم-: "عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وهو قربة إلى ربكم، ومغفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم".

أيها الإخوة الأعزاء: نعم، قيام الليل صعب وليس بيسير، وهو شاق على النفس والجسم، لكن إذا أردت فعلاً قيام الليل فعليك بالأسباب الميسرة لذلك والتي منها:

أولاً: لا تكثر الأكل، في النهار أو في الليل، كان بعض الصالحين يقول: يا معشر المريدين، لا تأكلوا كثيراً، فتشربوا كثيراً، فتناموا كثيراً، فتخسروا كثيراً.

ثانياً: لا ترهق نفسك بالأعمال الشاقة في النهار.

ثالثاً: لا تترك القيلولة بالنهار فإنها تعين على قيام الليل.

رابعاً: تجنب الأوزار. قال الإمام الثوري: حرمت قيام الليل خمسة أشهر بذنب أذنبتُه.

خامساً: اجعل قلبك سليماً لجميع المسلمين، خالياً من البدع، معرضاً عن فضول الدنيا.

سادساً: اعرف فضل قيام الليل.

سابعاً: خف الله تعالى وأقصر من الأمل.

وفوق كل هذا فاعرف ربك يا عبد الله، فإنك إن عرفتَ ربك أحببته، وإذا أحببت ربك ناجيتَه، فإذا ناجيته حملتك مناجاته على طول القيام بين يديه.

قال أبو سليمان -رحمه الله-: أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا. الله الله! ما أجمل هذا الكلام! أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا!

فازَ مَن سبَّحَ والناسُ هُجُوعْ يسكُبُ العبْرَةَ مِن بَيْنِ الضُّلُوعْ

أيها المؤمنون الأعزاء: أختم وقفتي الثانية بهذه القصة: عامر بن عبد الله، تابعي جليل، يقول عنه علقمة بن مرثد: انتهى الزهد إلى ثمانية، في مقدمتهم عامر بن عبد الله التميمي.

من أخباره ما حدَّث به أحد أبناء البصرة، قال: سافرت مع قافلة فيها عامر بن عبد الله، فلما أقبل علينا الليل، نزلنا بغيضة (مكان يجتمع فيه الشجر والماء)، فجمع عامر متاعه، وربط فرسه بشجرة، وطول له زمامه، وجمع له من حشائش الأرض ما يشبعه وطرحه أمامه، ثم دخل الغيضة وأوغل فيها، فقلت في نفسي: والله لأتبعنه، ولأنظرن ما يصنع في أعماق الغيضة في هذه الليلة.

فمضى حتى انتهى إلى رابية ملتفة الشجر، مستورة عن أعين الناس، فاستقبل القبلة، وانتصب قائماً يصلي، فما رأيت أحسن من صلاته، ولا أكمل، ولا أخشع.

فلما صلى ما شاء له أن يصلي، طفق يدعو الله ويناجيه، فكان مما قاله: إلهي! لقد خلقتني بأمرك، وأقمتني في بلايا هذه الدنيا بمشيئتك، ثم قلت لي استمسك، فكيف أستمسك إن لم تمسكني بلطفك يا قوي يا متين؟!.

إلهي! إنك تعلم أنه لو كانت لي هذه الدنيا بما فيها، ثم طُلِبت مني مرضاة لك لوهبتها لطالبها، فهب لي نفسي يا أرحم الراحمين.

إلهي! إني أحببتك حباً سهل علي كل مصيبة، ورضاني بكل قضاء، فما أبالي مع حبي لك ما أصبحت عليه، وما أمسيت فيه.

قال الرجل البصري: ثم إنه غلبني النعاس، فأسلمت جفني إلى الكرى (النوم)، ثم ما زلت أنام وأستيقظ، وعامر منتصب في موقفه، ماض في صلاته ومناجاته، حتى تنفس الصبح.

فلما بدا له الفجر أدى المكتوبة، ثم أقبل يدعو فقال: اللهم ها قد أصبح الصبح، وطفق الناس يغدون ويروحون، يبتغون من فضلك، وإن لكل واحد منهم حاجة، وإن حاجة عامر عندك أن تغفر له، اللهم فاقض حاجتي وحاجاتهم يا أكرم الأكرمين.

اللهم إني سألتك ثلاثاً، فأعطيتني اثنتين، ومنعتني واحدة، اللهم فأعطنيها حتى أعبدك كما أحب وأريد يا رب العالمين.

ثم نهض من مجلسه، فوقع بصره عليَّ، فعلم بمكاني منه تلك الليلة، فجزع لذلك أشد الجزع، وقال لي في أسى: أراك كنت ترقبني الليلة يا أخا البصرة؟ فقلت: نعم. فقال: استر ما رأيتَ مني، سَتَرَ اللهُ عليك!.

فقلت: والله لتحدثني بهذه الثلاث التي سألتها ربك، أو لأخبرن الناس بما رأيته منك. فقال: ويحك، لا تفعل، فقلت: هو ما أقول لك. فلما رأى إصراري قال: أحدثك على أن تعطيني عهد الله وميثاقه ألا تخبر بذلك أحداً. فقلت: لك علي عهد الله وميثاقه ألا أفشي لك سراً ما دمتَ حيا.

فقال:لم يكن شيء أخوف علي في ديني من النساء، فسألت ربي أن ينزع من قلبي حبهن، فاستجاب لي حتى صرت ما أبالي امرأة رأيت أم جداراً.

قلت: هذه واحدة، فما الثانية؟ قال: الثانية أني سألت ربي ألا أخاف أحداً غيره، فاستجاب لي، حتى إني -والله- ما أرهب شيئاً في الأرض ولا في السماء سواه.

قلت: فما الثالثة؟ قال:سألت ربي أن يذهب عني النوم، حتى أعبده بالليل والنهار كما أريد، فمنعني هذه الثالثة.

فلما سمعت منه ذلك قلت له: رفقاً بنفسك! فإنك تقضي ليلك قائماً، وتقطع نهارك صائماً، وإن الجنة تُدرَك بأقلّ مما تصنع، وإن النار تُتقى بأقل مما تعاني. فقال: إني لأخشى أن أندم حيث لا ينفع الندم، والله لَأجتهدنَّ في العبادة ما وجدتُّ إلى الاجتهاد سبيلا، فإن نجوتُ فبرحمة الله، وإن دخلتُ النار فبتقصيري.

فَتَشَبَّهُوا إِنْ لَمْ تَكُونُوا مِثْلَهُمْ

إِنَّ التَّشَبُّهَ بالكِرامِ فَلَاحُ