السميع
كلمة السميع في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل) أي:...
العربية
المؤلف | ناصر بن محمد الغامدي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
وَالقَسْوَةُ في القَلْبِ هِي غِلْظَتُهُ ونَبْوَتُهُ عَنِ اتِّبَاعِ الحَقِّ، وَإِعْرَاضُهُ عَنْهُ، وَهِي عِقَابٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى يَصُبُّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَلَى المُعْرِضِينَ عَنْ شَرْعِهِ، المُبْتَعِدِينَ عَنْ هَدْيِهِ وَدِينِهِ؛)فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمْ الأَنْبِيَاءَ بِغَيرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً). قَالَ مَالِكُ بنُ دِينَارٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: مَا ضُرِبَ عَبْدٌ بعُقُوبَةٍ أَعْظَمُ مِنْ قَسْوَةِ قَلْبٍ، ومَا غَضِبَ اللهُ عَلَى قَوْمٍ إِلاَّ نَزَعَ الرَّحْمَةَ مِنْ قُلُوبِهِم.
أمَّا بَعْدُ: فَيَا أَيُّهَا النَّاسُ، أوصِيكُم وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ اتَّقُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَقَّ التَّقْوَى، وَاسْتَمْسِكُوا مِنَ الإِسْلاَمِ بالعُرْوَةِ الوُثْقَى، حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ، وَزِنُوا أَعْمَالَكُم، وتَزَيَّنُوا للعَرْضِ الأَكْبَرِ عَلَى اللهِ، (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنْكُم خَافِيَةٌ) [الحاقة:18]، العَاقِلُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ المَوْتِ، والعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وتَمَنَّى عَلَى اللهِ الأَمَانِيَّ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: القَلْبُ أَشْرَفُ أَعْضَاءِ الإِنْسَانِ، جَعَلَهُ اللهُ تَعَالَى وِعَاءً للخَيرِ وَالرَّشَادِ، ذَاكِرًا للهِ، عَامِلاً لَهُ، سَاعِيًا إِلَيهِ، قَائِدًا للجَوَارِحِ وَالأَرْكَانِ؛ أَوْ وعَاءً للشَّرِّ وَالفَسَادِ، غَافِلاً عَنِ اللهِ، عَامِلاً للشَّيطَانِ، سَاعِيًا إِلَيهِ؛ وَلِذَا كَانَ مِنْ أَكْثَرِ دُعَاءِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ" رواه الترمذيُّ وحسَّنه وأحمدُ.
وَللقُلُوبِ -عباد الله- حَيَاةٌ كَحَيَاةِ الجَسَدِ، بَلْ أَعْظَمُ مِنْهَا وَأَجْمَلُ، وَلَهَا أَمْرَاضٌ كَأَمْرَاضِ الجسَدِ، بَلْ أَعْتَى مِنْهَا وَأَقْسَى، وَعَلَى قَدْرِ حَيَاةِ القَلْبِ تَكُونُ حَيَاةُ الجَسَدِ وَالرُّوحِ، وَتَصْلُحُ الأَعْمَالُ، وَتُنَالُ الدَّرَجَاتُ، وَتُغْفَرُ الخَطِيئَاتُ؛ وَبِقَدْرِ فَسَادِ القَلْبِ وَاسْتِحْكَامِ أَمْرَاضِهِ تَكُونُ عَاهَةُ الجَسَدِ، وَفَسَادُ الرُّوحِ، وَطَلاَحُ الأَعْمَالِ، وَالعَبُّ مِنَ السَّيِّئَاتِ.
رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنْ حُذَيفَة بنِ اليَمَانِ -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَينِ: عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا، فَلاَ تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا، لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلاَّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ".
عِبَادَ اللهِ: وَأَخْطَرُ أَمْرَاضِ القُلُوبِ وَأَعْتَاهَا عَلَى ابْنِ آدَمَ مَرَضُ القَسْوَةِ الذِي يَنْتَظِمُ عَدَدًا مِنَ الأَخْلاَقِ القَبِيحَةِ، وَالأَدْوَاءِ الرَّذِيلَةِ، المُتَمَثِّلَةِ في العُنْفِ والغِلْظَةِ والفَظاظَةِ والإِعْرَاضِ عَنِ الحَقِّ، وَعَدَمِ الخُشُوعِ للهِ، وعَدَمِ الإحْسَاسِ بِآهَاتِ المُسْلِمِينَ، وَآلاَمِ الضُّعَفَاءِ وَالمَسَاكِينَ؛ وَتِلْكَ جَمِيعًا وَيلاَتٌ وَمِحَنٌ وَبَلاَيَا عَلَى الأَفْرَادِ وَالمُجْتَمَعَاتِ، تُزِيلُ النِّعَمَ، وتَجْلِبُ النِّقَمَ، وَتَقُودُ إِلَى الزَّوَالِ وَالفَنَاءِ، ثُمَّ الجَحِيمِ والسَّعِيرِ، نَعُوذُ باللهِ مِنْ حَالِ أَهْلِ النَّارِ وَمَآلِهِم. قَالَ أَنَسُ بنُ مَالِكٍ -رضي الله عنه-: أَرْبَعٌ مِنَ الشَّقَاءِ: جُمُودُ العَينِ، وَقَسَاوَةُ القَلْبِ، وَطُولُ الأَمَلِ، وَالحِرْصُ عَلَى الدُّنْيَا.
القَسْوَةُ -عِبَادَ اللهِ- مُنَاقَضَةٌ صَرِيحَةٌ للرَّحْمَةِ وَاللِّينِ والعَطْفِ وَالشَّفَقَةِ، تَتَفَاوَتُ في القُلُوبِ وَالنُّفُوسِ ارْتِقَاءً وهُبُوطًا، وَقِلَّةً وكَثْرَةً؛ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ صَارَ قَلْبُهُ أَقْسَى مِنَ الصَّخْرِ الصَّلْدِ، لاَ يَحِنُّ لِمُسْتَصْرِخٍ، وَلاَ يَعْطِفُ عَلَى مُتَأَلِّمٍ، وَلاَ يَلِينُ لِمُتَوَجِّعٍ، يَقَعُ أَمَامَهُ مِنَ المَوَاقِفِ العَظِيمَةِ التِي تَنْهَدُّ لِمِثْلِهَا الجِبَالُ الرَّاسِيَاتُ، وتَتَفَطَّرُ لَهَا الأَفْئِدَةُ السَّلِيمَةُ، فَلاَ يُحَرِّكُ سَاكِنًا، قَدِ انْعَدَمَتْ في نَفْسِهِ عَاطِفَةُ الإحْسَاسِ بآلام الآخَرِينَ وَحَاجَاتِهِم، حَتَّى أَوْرَثَتْهُ جَفَافًا نَفْسِيًّا، يَنْعَدِمُ مَعَهُ الشُّعورُ بالوَاجِبِ الإِنْسَانِيِّ الفِطْرِيِّ نَحْوَ الخَلْقِ أَجمَعِينَ. (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الزمر:22]. قَالَ أبُو هُرَيرَةَ -رضي الله عنه-: شَكَا رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَسْوَةَ قَلْبِهِ، فَقَالَ لَهُ: "إِنْ أَرَدْتَ تَلْيِينَ قَلْبِكَ فَأَطْعِم الْمِسْكِينَ، وَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ " رواه أحمدُ.
وَالقَسْوَةُ في القَلْبِ هِي غِلْظَتُهُ ونَبْوَتُهُ عَنِ اتِّبَاعِ الحَقِّ وَإِعْرَاضُهُ عَنْهُ، وَهِي عِقَابٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى يَصُبُّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى المُعْرِضِينَ عَنْ شَرْعِهِ، المُبْتَعِدِينَ عَنْ هَدْيِهِ وَدِينِهِ؛(فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمْ الأَنْبِيَاءَ بِغَيرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً) [المائدة:13]. قَالَ مَالِكُ بنُ دِينَارٍ رَحِمَهُ اللهُ: مَا ضُرِبَ عَبْدٌ بعُقُوبَةٍ أَعْظَمُ مِنْ قَسْوَةِ قَلْبٍ، ومَا غَضِبَ اللهُ عَلَى قَوْمٍ إِلاَّ نَزَعَ الرَّحْمَةَ مِنْ قُلُوبِهِم.
فَالقَسْوَةُ إِذًا هِي ذَهَابُ الرَّحمَةِ واللِّينِ والخُشُوعِ مِنَ القَلْبِ، إِذِ اللِّينُ هُوَ سُهُولَةُ الانْقِيَادِ والتَّلَطُّفُ مَعَ النَّاسِ مُعَامَلَةً وتَحَدُّثًا، وَرِفْقًا بِهِمْ وَالْتِمَاسًا للعُذْرِ لَهُم والبُعْدِ عَنْ تَعْنِيفِهِم؛ (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) [آل عمران:159].
وَاللِّينُ مِنْ صِفَاتِ القُلُوبِ المُؤْمِنَةِ البَرَّةِ الرَّحِيمَةِ، يُورِثُ الدَّرَجَاتِ العُلاَ، ويَحُطُّ الخَطَايَا، ويُوجِبُ الجَنَّةَ؛ قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "حُرِّمَ عَلَى النَّارِ كُلُّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ قَرِيبٍ مِنَ النَّاسِ" رواه أحمدُ والترمذيُّ وإسنادُهُ صحيحٌ. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ الإِيمَانِ وقُوَّةِ الإِسْلاَمِ، يَعْطِفُ قُلُوبَ النَّاسِ وَيَجْمَعُهُم حَوْلَ مَنْ يُلِينُ لَهُم جَانِبَهُ، وهُو أَدْعَى للإِجَابَةِ والقَبُولِ وَالسَّمَاحَةِ والمَوَدَّةِ، وَتِلْكَ كُلُّهَا خِلاَلٌ عَظِيمَةٌ، تَسْتَدْعِي رَحْمَةَ اللهِ تَعَالَى، فَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ.
عَنْ كَعْبِ بنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الْخَامَةِ مِنَ الزَّرْعِ، تُفِيئُهَا الرِّيحُ؛ تَصْرَعُهَا مَرَّةً وَتَعْدِلُهَا أُخْرَى حَتَّى تَهِيجَ، وَمَثَلُ الْكَافِرِ كَمَثَلِ الأَرْزَةِ الْمُجْذِيَةِ عَلَى أَصْلِهَا، لاَ يُفِيئُهَا شَيءٌ حَتَّى يَكُونَ انْجِعَافُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً" رواه البخاري ومسلم واللفظ لمسلمِ. (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) [الزمر:23]. قَالَ قَتَادَةُ رَحِمَهُ اللهُ: هَذَا نَعْتُ أَوْلِيَاءِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، بأَنَّهُ تَقْشَعِرُّ جُلُودُهُم، وَتَبْكِي أَعْيُنُهُم، وتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم إِلَى ذِكْرِ اللهِ، ولَمْ يَنْعَتْهُم بِذَهَابِ عُقُولِهِم، والغَشَيَانِ عَلَيهِم، إِنَّمَا هَذِهِ في أَهْلِ البِدَعِ.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: لَقَدْ ذَمَّ اللهُ عَزَّ وجَلَّ الذِينَ قَسَتْ قُلُوبُهُم مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، وَحَذَّرَ المُؤْمِنِينَ أَنْ يَطُولَ عَلَيهِمُ الأَمَدُ في المَعَاصِي وَالغَفْلَةِ عَنْ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى، فَتَقْسُوَ قُلُوبُهُم: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) [الحديد:16]. قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه-: مَا كَانَ بَينَ إِسْلاَمِنَا وَبَينَ أَنْ عَاتَبَنَا اللهُ بِهَذِهِ الآيَةِ: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ) إِلاَّ أَرْبَعُ سِنِينَ. رواه مسلم.
نَعَمْ عِبَادَ اللهِ: إِنَّهَا السُّنَنُ اِلإلَهِيَّةُ الكَوْنِيَّةُ التِي تَجْرِي في قُلُوبِ العِبَادِ ونُفُوسِهِم؛ وَهِي أَنَّ مَنِ اسْتَغْرَقَ في المَعَاصِي وَالآثَامِ ونَقَضَ مَوَاثِيقَهُ مَعَ اللهِ طَرَدَهُ مِنْ صُفُوفِ أَهْلِ التَّقْوَى، وَأَبْعَدَهُ عَنْ مَهَابِطِ رَحْمَتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، حَتَّى يَقْسُوَ قَلْبُهُ، ويَعْلُوهُ الرَّانُ والظُّلْمَةُ.
إِنَّ أَيَّةَ أُمَّةٍ يَطُولُ عَلَيهَا العَهْدُ وَهِي تَتَقَلَّبُ في بحْبُوحَةِ النِّعَمِ عَلَى فِسْقٍ وَمَعْصِيَةٍ وَنِسْيَانٍ لِرَبِّهَا، وَابْتِعَادٍ عَنْ دِينِهَا، لاَ تَلْبَثُ أَنْ تعْتَرِيَهَا أَمْرَاضُ النُّفُوسِ وَأَدْوَاءُ القُلُوبِ، فَتَقْسُوَ قُلُوبُهَا، فَلاَ تَخْشَعُ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ، (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنْ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [البقرة:74].
إِنَّهَا ثَلاَثُ حَالاَتٍ مَفْقُودَةٌ في القَاسِيَةِ قُلُوبُهُم، صَوَّرَتْهَا ثَلاَثُ حَالاَتٍ للصُّخُورِ القَاسِيَاتِ؛ فَمِنَ الحِجَارَةِ القَاسِيَةِ مَا تَتَفَجَّرُ مِنْهُ يَنَابِيعُ المَاءِ الثَّرَةِ بالأَنْهَارِ التِي تَنْفَعُ النَّاسَ وَتَجْرِي في الأَرْضِ، وَمِنْهَا مَا يَتَشَقَّقُ فيَخْرُجُ مِنْهُ مَاءٌ غَيرُ ثَارٍّ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَمِنْهَا مَا يَهْبِطُ بِتَأْثِيرِ هَزَّاتٍ وعَوَارِضَ إِلَى مَواطِنِ التَّواضُعِ والخُشُوعِ للهِ. أَمَّا القَاسِيَةُ قُلُوبُهُم فَلاَ تَسْتَجِيبُ لأَيِّ مُؤَثِّرٍ يَسْتَثِيرُ الرَّحْمَةَ، بَلْ تَظَلُّ في قَسْوَتِهَا وَاسْتِكْبَارِهَا، فَلاَ تَذِلُّ وَلاَ تَخْضَعُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، وَلاَ تَعْرِفُ للرَّحْمَةِ واللِّينِ طَرِيقًا.
قَالَتْ عَائِشَةُ -رضي الله عنها-: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ؟! فَمَا نُقَبِّلُهُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "أَوَأَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ؟! " رواه البخاري ومسلم، وَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنِّي لأَقُومُ إِلَى الصَّلاَةِ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاَتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ" رواه البخاريُّ.
إِنَّهَا الرَّحْمَةُ التِي جَعَلَهَا اللهُ تَعَالَى في قُلُوبِ عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عبادِهِ الرُّحَمَاءَ؛ قَالَ أَبُو هُرَيرَةَ -رضي الله عنه-: سَمِعْتُ أَبَا القَاسِمِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "لاَ تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلاَّ مِنْ شَقِيٍّ " رواه الترمذيُّ وحسَّنه وأحمدُ وأبو داود. وَقَالَ جَرِيرُ بنُ عَبْدِ اللهِ البَجَلِيُّ -رضي الله عنه-: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَرْحَمُ اللهُ مَنْ لاَ يَرْحَمُ النَّاسَ " رواه البخاري ومسلم.
اللَّهُمَّ وفِقْنَا لِهُدَاكَ، وَاجْعَلْ عَمَلَنَا في رِضَاكَ، واجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الرُّحَمَاءِ، وارْحَمْنَا يَوْمَ العَرْضِ عَلَيكَ، وَلاَ تَجْعَلْ فِينَا وَلاَ مَعَنَا شَقِيًّا وَلاَ مَحْرُومًا، يَا رَبَّ العَالَمِينَ.
اللَّهُمَّ وفِقْنَا لِهُدَاكَ، وَاجْعَلْ عَمَلَنَا في رِضَاكَ، واجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الرُّحَمَاءِ، وارْحَمْنَا يَوْمَ العَرْضِ عَلَيكَ، وَلاَ تَجْعَلْ فِينَا وَلاَ مَعَنَا شَقِيًّا وَلاَ مَحْرُومًا، يَا رَبَّ العَالَمِينَ.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ فَاسْتَغْفِرُوهُ وَتُوبُوا إِلَيهِ؛ إِنَّهُ كَانَ للأَوَّابِينَ غَفُورَا.
الخطبة الثانية:
الحمْدُ للهِ علَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لشَأْنِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ ورَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَعَلَى آلهِ وَأَصْحَابهِ وَإِخْوَانِهِ، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بإحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: فَيَا أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّقُوا اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَقَّ التَّقْوَى، فَإِنَّ تَقْوَاهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سَبَبُ الفَلاَحِ وَالسَّعَادَةِ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
وَاعْلَمُوا -رَحِمَكُمُ اللهُ- أَنَّ قَسْوَةَ القَلْبِ إِنَّمَا تُلَيَّنُ بالإِيمَانِ باللهِ تَعَالَى، فَبِذِكْرِ اللهِ تَرِقُّ الأفْئِدَةُ، وَبِالعَمَلِ الصَّالِحِ تَخْشَعُ النُّفُوسُ لِخَالِقِهَا، وَتَلِينُ القُلُوبُ أَمَامَ بَارِئِهَا؛ (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) [الرعد:28-29]، (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [الأنفال:2-4].
وَإِنَّ كِتَابَ اللهِ العَزِيزِ لَهُوَ خَيرُ مَا تَرِقُّ بِهِ الأَفْئِدَةُ وتَخْشَعُ لَهُ القُلُوبُ؛ وَقَدْ قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تُكْثِرُوا الْكَلاَمَ بِغَيرِ ذِكْرِ اللهِ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الْكَلاَمِ بِغَيرِ ذِكْرِ اللهِ قَسْوَةٌ لِلْقَلْبِ، وَإِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنَ اللهِ الْقَلْبُ الْقَاسِي " رواه الترمذيُّ ومالكٌ.
عِبَادَ اللهِ: لقَدْ تَسَامَتْ رَحْمَةُ الإِسْلاَمِ حَتَّى شَمِلَتِ الحَيَوَانَاتِ في غَابِهَا وَالطَّيرَ في أَعْشَاشِهَا، وَسَائِرَ الكَائِنَاتِ في وُكْرِهَا، أَفَيَكُونُ الإِنْسَانُ أَبْعَدَ شَيءٍ عَنْهَا؟! قَالَ عَبْدُ اللهُ بنُ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه-: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي سَفَرٍ، فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ، فَرَأَينَا حُمَرَةً -وهي طَائِرٌ صغِير- مَعَهَا فَرْخَانِ، فَأَخَذْنَا فَرْخَيهَا، فَجَاءَتْ الْحُمَرَةُ فَجَعَلَتْ تَفْرِشُ، فَجَاءَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا؟ رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيهَا".
وَرَأَى قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرَّقْنَاهَا، فَقَالَ: "مَنْ حَرَّقَ هَذِهِ؟ " قُلْنَا: نَحْنُ، قَالَ: "إِنَّهُ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلاَّ رَبُّ النَّارِ" رواه أبو داود. وَقَالَ أبُو هُرَيرَةَ -رضي الله عنه-: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "جَعَلَ اللهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا، وَأَنْزَلَ فِي الأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ" رواه البخاريُّ ومسلمٌ.
وَإِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بالرَّحْمَةِ مِنْكَ -أَخِي المُسْلِمَ- وَالِدَاكَ اللَّذَانِ رَبَّيَاكَ صَغِيرًا، سَهِرَا وَتَعِبَا مِنْ أَجْلِكَ، فَاتَّقِ اللهَ فيهِمَا، ارْحَمْهُمَا إِنْ كَانَا عَلَى قَيدِ الحَيَاةِ، لاَ تُؤَاخِذْهُمَا، وَلاَ تُهِنْهُمَا، وَأَكْرِمْهُمَا، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَقُلْ: رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا.
وَكَذَا الأَوْلاَدُ وَالزَّوجَةُ وَسَائِرُ أَهْلِكَ وَإِخْوَانِكِ وَأَقْرِبَائِكَ، فَهُمْ أَوْلَى مِنْكَ بِالرَّحْمَةِ وَأَحْوَج إِلَيهَا؛ فَقَدْ قَالَ أَنَسُ بنُ مَالِكٍ -رضي الله عنه-: مَا رَأَيتُ أَحَدًا كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، كَانَ إِبْرَاهِيمُ مُسْتَرْضعًا لَهُ فِي عَوَالِي الْمَدِينَةِ، فَكَانَ يَنْطَلِقُ وَنَحْنُ مَعَهُ، فَيَدْخُلُ الْبَيتَ وَإِنَّهُ لَيُدَّخَنُ، وَكَانَ ظِئْرُهُ قَينًا، فَيَأْخُذُهُ فَيُقَبِّلُهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ. رواه مسلم.
وَكَذَا مَنْ تَحْتَ يَدِكَ أَوْ قَلَّدَكَ اللهُ أَمْرَهُ؛ مِنْ خَدَمٍ وَعَامِلٍ ومُوَظَّفٍ وَرَعِيَّةٍ، فَهَؤُلاَءِ جَمِيعًا هُمْ فِي حَاجَةٍ إِلَى الرَّحْمَةِ والشَّفَقَةِ مِنْكَ، فَلاَ تَكُنْ قَاسِيًا فَظَّا غَلِيظًا فَتَكْسِرُ، وَلاَ ضَعِيفًا خَوَّارًا جَبَانًا فَتُكْسَرُ، فَالإِسْلاَمُ دِينُ العَدْلِ وَالرَّحْمَةِ وَالوَسَطِ، وَقَدْ قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيئًا فَشَقَّ عَلَيهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ" رواه مسلم.
فَتَحَلّوا -رَحِمَكُمُ اللهُ- بِالرَّحْمَةِ وَالعَطْفِ، تَراحَمُوا فِيمَا بَينَكُمْ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ مِنْ عِبَادِ اللهِ وَخَلْقِهِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ.
ثُمَّ صَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى مَنْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيهِ في قَوْله عَزَّ مِنْ قَائلٍ عَلِيمٍ:(إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56]، وقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ صَلَّى عَليَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ بِهَا عَشْرًا" رواه مسلم.
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللهِ، وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أجمَعِينَ، وَالتَّابِعِينَ لَهُم
بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ...