المهيمن
كلمة (المهيمن) في اللغة اسم فاعل، واختلف في الفعل الذي اشتقَّ...
العربية
المؤلف | منصور محمد الصقعوب |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
هو الموت؛ كدَّرَ اللَّذات، ونغَّصَ على الناس الحياة؛ هو الموت، نهاية حياة، وبداية حياة أخرى؛ هو الموت؛ سفر له نهاية لا نعرفها, ورحلة لها أمدٌ فنحن نسير إليه منذ خلقنا؛ هو الموت، شدة وكربة, وربما كان ما بعده أشد منه إلا إن رحم الله؛ هو الموت, مدركك وإن هربت, نازل بك وإن تخفيت, حالٌّ بك وإن تأخرت وأُمهِلت، (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَ?لِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) ..
في غمرة الأحداث وسخونتها, وفي معترك الحياة وأحوالها, قد يغفل المرء ويقسو القلب, ويحتاج حينها إلى ما يلينه ويزيل رانه.
أجل! فالقلوب تصدأ، وتقسو وتلهو، وتنشغل وتمرض وقد تموت, وليس شيء أصلح لها وأنفع من تعاهدها بالعظة ما بين الفينة والفينة.
وكل ناظر للقرآن الكريم يرى كيف حشدت فيه آيات الوعظ والتذكير, والترغيب والترهيب, ولا غرابة ولا عجب، فالمواعظ سياط القلوب, بها تقاد، وإلا انفلت زمامها.
ونحن -أيها الكرام- في حقبة شغلت الأحداث الناس, وفتنت الدنيا الناس, فأصبح الوعظ قليلاً, ونحن إليه أحوج من كثير من العلم.
نهايتك يا ابن آدم! رحيل الإنسان من الدنيا، قضية بها وعظ القرآن، وذكَّر بها الرسول عليه السلام؛ هي حقيقة وإن أُنسِيناها وغفلنا عنها إلا أنها حالّة لا مماراة فيها, فمهما طالت الأيام، وعاش المرء من الأعوام, مهما تقلب في النعم، وتنقل في الأقطار، فهو إلى زوال صائر، وإلى قبر آيل, وبالموت منتقل وراحل.
لو عاش المرء السنين الطوال فنهاية كل حي إلى الموت, وما ذاك إلا لأن الدنيا ليست هي دارنا، بل الدار الحق هي الآخرة, وهي مقرُّنا ومثوانا, فمغبون من تنعَّم في الطريق في سبيل أن يتعذب في مقر إقامته الدائمة!.
أيها المبارك: أين الآباء والأجداد؟ أين نمرود وعاد؟ أين الأمم السابقة، والأقوام الغابرة؟ أين من بلغوا الآمال؟ أين من ملؤوا الدنيا ضجيجاً وذكراً؟ أليس الجميع قد رحل؟ أين الملوك الذين كانت رؤيتهم أمنية، والخلفاء الذين كانت مجالسهم عامرة؟ أما ثووا اليوم في القبور، ولا أحد يمر عليهم ويحرسهم!.
أيها المبارك: لقد ولدتك أمهات، وكان لك آباءُ من لدن آدم إلى أبويك الأقربِين، فأين هم الآن؟ مئات الآباء أو ألوف لا تحس لهم حديثاً، ولاتسمع لهم ركزاً؛ رحل الجميع وأنت على التبع, تأخرت برهة، ويوشك المنادي أن ينادي عليك.
هو الموت، كدَّرَ اللَّذات، ونغَّصَ على الناس الحياة؛ هو الموت، نهاية حياة، وبداية حياة أخرى؛ هو الموت؛ سفر له نهاية لا نعرفها, ورحلة لها أمدٌ فنحن نسير إليه منذ خلقنا؛ هو الموت، شدة وكربة, وربما كان ما بعده أشد منه إلا إن رحم الله؛ هو الموت, مدركك وإن هربت, نازل بك وإن تخفيت, حالٌّ بك وإن تأخرت وأُمهِلت، (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) [ق:19]، سماه الله سكرة لأن الكثير يغفل عنه ولا ينتبه إلا في وهلة الحشر، وهول الحساب.
معشر الكرام: حين ترون الأرض تموج بالخلائق فاذكروا قول الخالق (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) [الرحمن:26]، فسيأتي يوم لا يكون على الأرض أحدٌ حي, ولا في السماء إلا الله, فالخلائق على أجناسها، والملائكة على كثرة عددها، يموت الجميع ولا يبقى حينها إلا الحي القيوم، (لِمَن الْمُلْكُ الْيَوْمَ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر:16].
عبد الله: إن المرء هو بين عمر ماضٍ، وزمن باقٍ, وما مضى من العمر وإن طالت أوقاته، فقد ذهبت لَذَّاته، وبقيت تبعاته، وكأنه لم يكن إذا جاء الموت وميقاته، قال الله -عز وجل-: (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ) [الشعراء:205-207].
صنع الرشيد يوما طعاماً كثيرا، وزخرف مجالسه، وأحضر أبا العتاهية، فقال له: صِف لنا ما نحن فيه من نعيم هذه الدنيا. فقال:
عِشْ مَا بَدَا لَكَ سَالِمَاً | فِي ظِلِّ شَاهِقَةِ القُصُورِ |
يُسْعَى عَلَيْكَ بِمَا اشْتَهَيْتَ | لَدَى الرَّوَاحِ وَفِي البُكُورِ |
فإذا النفوسُ تَقَعْقَعَتْ | فِي ظِلِّ حَشْرَجَةِ الصُّدُورِ |
فهُناكَ تَعْلَمُ مُوقِنَاً | مَا كُنْتَ إِلَّا فِي غُرور |
هذا الخليفة الذي ملك الدنيا لما مرض واشتد مرضه أحضر الطبيب فأخبره بقرب أجله فقال حينها:
إِنَّ الطَّبِيبَ بِطِبِّهِ وَدَوَائِهِ | لَا يَسْتَطِيعُ دِفَاعَ مَقْدُورِ القَضَا |
مَا للطبيبِ يَمُوتُ بالدَّاءِ الَّذِي | قَدْ كَانَ يُبْرِىءُ مِثْلَهُ فِيمَا مَضَى |
ذَهَبَ المـــُدَاوِي والمداوَي وَالَّذِي | جَلَبَ الدَّوَاءَ وَبَاعَهُ وَمَن اشْتَرَى |
نعم أيها الكرام! كل باك فسيُبكَى, وكُلُّ ناعٍ فسيُنعَى, وكل حي من الخلق فسيفنى, فلله كم من عبد سيندم عند موته على ذنوب ارتكبها، ولذات قارفها, وطاعات تركها! كم من امرئ سيعجب كيف جاء الأجل وهو لم يتأهب؟! كان يمني نفسه طول الأجل, ويعيش على طول الأمل, يظن أنه سيدرك المشيب, ويدفنُ البعيد والقريب, ويعيش السنين الطوال, ويحقق الآمال, وربما كانت منيته واقفةً ببابه!.
لما حضرت الوفاة المعتصم الخليفة وهو في عشر الأربعين جعل يبكي ويقول: لو علمت أن عمري قصير، ما فعلت ما فعلت, وجعل يقرأ (حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) [الأنعام:44].
والغبن الحق أن الموت ربما حلّ بالبعض وهو غافل عن ربه, متنكف طريق نجاته, والغٌ في سيئاته, وربما حلّ بامرئ وهو يؤدي طاعة، ويسلك طريق خير, فشتان ما بين الطريقين! ويا بُعد ما بين الخاتمتين! وذلكم التغابن الحق, فاختر لنفسك نهاية, ومَن أَكْثَرَ مِن شيءٍ مات عليه, ومن مات على شيء بُعث عليه, اللهم أحْيِ قلوبنا من رقدتنا, وارزق نفوسنا الأهبة قبل نُقلتها؛ اللهم صَلِّ وسلم على محمد.
الخطبة الثانية:
معشر الكرام: إذا كان الموت شدةً لم يسلم منها ولا سيد الخلق عليه السلام, فإن ما بعد الموت ربما كان بداية النعيم، أو بداية العذاب وبوابة الجحيم.
إنْ يَكُ خَيْرَاً فَالَّذِي مِنْ بَعْدِهِ | أَفْضَلُ عِنْدَ رَبِّنَا لِعَبْدِهِ |
وَإِنْ يَكُن شَرَّاً فَمَا بَعْدُ أَشَدّْ | ويْلٌ لعبدٍ عن سبيلِ اللهِ صدّْ |
وإذا كان رسولنا -صلى الله عليه وسلم- أخبر بأن الناس إما مستريح أو مستراح منه, فكم من الناس من يموت فيستريح منه العباد ويفرحون, وكم منهم من يموت فيستريح هو مِن نَصَب الدنيا وكدرها, ويظل ذكره في الباقين.
أيها المبارك: إذا كان الموت منك على بال، رَدَّك ذلك عن الذنوب وردعك, وأعانك على الطاعات ورغّبك؛ إذا كان الموت منا على بال لم ننغمس في الدنيا، ولم نخرِّب آخرتنا, الموت حين يكون منا على بالٍ فإن آمالنا تقصر، وأعمالنا تطيب, وذاك غاية المرام, وطلبة الكرام.
وحين تشغلك الدنيا عن تذكر الموت فاقصد المقابر, واشهد الجنائز, وزر المرضى, وعش مع كلام رب العالمين, وجالِس الصالحين, وأبشر حينها برحمة أرحم الراحمين, واذكر قول أرأف الأنام، عليه السلام: "أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَادِمِ اللَّذَّاتِ" رواه ابن ماجه؛ وتلك جملة لو استوعبناها ما احتجنا لكثرة الكلام عن الموت.
قال القرطبي: قال علماؤنا -رحمة الله عليهم-: قوله عليه السلام: "أكثروا ذكر هادم اللذات الموت" كلام مختصر وجيز، قد جمع التذكرة، وأبلغ في الموعظة، فإن مَن ذكر الموت حقيقة ذِكْره نغص عليه لذته الحاضرة، ومنعه من تمنيها في المستقبل، وزهَّده فيما كان منها يؤمل؛ ولكن النفوس الراكدة، والقلوب الغافلة، تحتاج إلى تطويل الوُعَّاظ، وتزويق الألفاظ، وإلا ففي قوله -عليه الصلاة والسلام-: "أكثروا ذكر هادم اللذات" مع قوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) [العنكبوت:57]، ما يكفي السامع له، ويشغل الناظر فيه.
وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كثيراً ما يتمثل بهذه الأبيات:
لا شَيْءَ مِمــَّا تَرَى تَبْقَى بَشَاشَتُهُ | يَبْقَى الإلهُ ويُودِي المالُ والولَدُ |
لم تُغْنِ عَنْ هُرْمُزٍ يَوْمَاً خَزَائِنُهُ | والخلدَ قد حاولَتْ عادٌ فما خَلُدُوا |
ولا سُليْمانُ إذْ تجري الرياحُ لَهُ | والإنسُ والجنُّ فِيما بينها تَرِدُ |
أين الملوكُ الَّتِي كانَتْ لِعِزَّتِها | مِنْ كُلِّ أَوْبٍ إِلَيْهَا وَافِدٌ يَفِدُ؟ |
حَوْضٌ هُنَالِكَ مَوْرُودٌ بِلَا كَذِبٍ | لا بُدَّ مِنْ وِرْدِهِ يَوْمَاً كَمَا وَرَدُوا |
ثم قال رحمه الله: وأجمعت الأمة على أن الموت ليس له سن معلوم، ولا زمن معلوم، ولا مرض معلوم؛
وذلك ليكون المرء على أهبة من ذلك، مستعداً لذلك.
وكان بعض الصالحين ينادي بليل على سور المدينة: الرحيلَ الرحيلَ! فلما تُوفي فقَدَ صوتَه أميرُ المدينة فسأل عنه، فقيل: إنه قد مات. فقال:
مَا زالَ يَلْهَجُ بالرَّحِيلِ وَذِكْرِهِ | حَتَّى أَنَاخَ بِبَابِهِ الجَمَّالُ |
فأَصَابَهُ مُتَيَقِّظَاً مُتَشَمِّرَاً | ذَا أُهْبَةٍ لَمْ تُلْهِهِ الآمَالُ |
أيها المبارك: يا مَن يُقصدُ بالموت ويُنحَى، يا من أسمعته المواعظُ إرشادًا ونُصحًا، هلاّ انتهيتَ وارعَوَيت، وندمتَ وبكَيت، وفتحتَ للخير عينَيك، وقُمتَ للهُدى مَشيًا على قدمَيك؟ لتحصُل على غايةِ المراد، وتسعَد كلَّ الإسعاد، فإن عصيتَ وأبيتَ وأعرضتَ وتولّيت، حتى فاجأك الأجل وقيل: "ميْت"، فستعلم يومَ الحساب مَن عصَيت، وستبكي دمًا على قُبح ما جَنيتَ، (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) [الفجر:23-24]، (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً) [الفرقان:27-29].