الكبير
كلمة (كبير) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل، وهي من الكِبَر الذي...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
ما من امرئ آتاه الله عقلا وحكمة، ونورا وبصيرة إلا وسعى إلى طهرة قلبه، ونقاء نفسه، وأعد العدة للقاء الكريم؛ مبتعدًا عما يغضبه، مجتهدًا في علاج قلبه من الأدواء المهلكة، والأسقام المردية...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
عباد الله: اعلموا أن من سموم القلب القاتلة، وأمراضه المهلكة، ومفاسده الخطيرة فضول النظر؛ فالنظر من الأسباب القوية التي تجعل قلب المرء يتعلق بما يرى، ويشتهي ما ينظر، وقد يتعلق القلب بشيء يهلكه، ويفسد عليه دينه ودنياه، ويوبقه في المهالك؛ فما هو فضول البصر؟ وما حكمه؟
فضول النظر: هو إطلاق النظر إلى الشيء بملء العين، والنظر إلى ما لا يحل النظر إليه، وهو على العكس من غض البصر.
أما حكمه فلا شك أن من جملة المحرمات التي حذر الله -تعالى- من الوقوع فيها؛ لأن النظر الحرام بريد الزنا وأول خطواته؛ وهذا ما دلت عليه نصوص الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب فقوله تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ)[النور:30-31]، قال ابن كثير -رحمه الله تعالى- عند تفسير هذه الآية: "هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين أن يغضّوا من أبصارهم عمّا حرّم عليهم؛ فلا ينظروا إلّا إلى ما أباح لهم النّظر إليه، وأن يغضّوا أبصارهم عن المحارم، فإن اتّفق أن وقع البصر على محرّم من غير قصد فليصرف بصره عنه سريعًا".
وقال القرطبي -رحمه الله- معلقًا على هذه الآية: "البصر هو الباب الأكبر إلى القلب، وأعمر طرق الحواس إليه، وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته. ووجب التحذير منه، وغضه واجب عن جميع المحرمات، وكل ما يخشى الفتنة من أجله".
ومن الأدلة كذلك قوله تعالى: (قَد أفلَحَ المؤمِنونَ) إلى قَولِهِ: (وَالذِينَ هُم لِفُرُوجِهِم حَافِظُونَ * إلا عَلَى أزوَاجِهِمْ أو مَا مَلَكَتْ أيمَانُهُم فَإنَّهُم غَيرُ مَلُومِينَ * فَمَن ابتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأولئِكَ هُمُ العَادُونَ)[المؤمنون:1-6]؛ ففي هذه الآية ضمن الله فيهما للمؤمنين الذين يغضّون أبصارهم بالفلاح، مؤكدًا بأقوى أنواع التّوكيد حيث أتى بحرف التحقيق (قدْ)، وأتى بالجملة في صيغة الخبر، ثمّ ذكر من صفات المؤمنين أنّهم: (لِفُرُوجِهِم حَافِظُونَ) ولا ريب أنّ حفظ الفرج لا يكون إلا بغضّ البصر؛ فالنّظر بريد الزّنا.
وأما الأدلة من السنة؛ فمنها ما أخرجه البخاري ومسلمٌ عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إياكم والجلوس في الطرقات! فقالوا: يا رسول الله، ما لنا من مجالسنا بد، نتحدث فيها. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:فإذا أبيتم إلا المجلس، فأعطوا الطريق حقه. قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال:غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر".
وأمّا الإجماع على وجوب غض البصر فقد حكاه غير واحدٍ من أهل العلم؛ فقد قال الإمام أبو بكرٍ بن عبد الله العامريّ -رحمه الله تعالى- في رسالته في أحكام النّظر: "إنّ الذي أجمعتْ عليه الأمّة، واتّفق عليه علماء السّلف والخلف من الفقهاء والأئمّة هو نظر الأجانب من الرّجال والنّساء بعضهم إلى بعضٍ، وهم من ليس بينهم رحمٌ من النّسب، ولا محرمٌ من سببٍ كالرّضاع وغيره، فهؤلاء حرامٌ نظر بعضهم إلى بعضٍ".
ومما سبق من الأدلة والإجماع يتبين لنا حرمة إطلاق النظر في المحرمات، وتتبعه للشهوات، واستمرائه للسيئات؛ ففي ذلك هلاك وأي هلاك.
أيها المؤمنون: لفضول النظر آفات مهلكات، ينبغي على المؤمن أن يعلمها؛ ليحذر منها، ويعقلها ليبتعد عنها، ومتى علم المرء أن إطلاق النظر مرض وعلة، وآفة وزلة كان منه أبعد، وإلى نقيضه أقرب؛ فأعظم آفات فضول النظر: كونه معصية لله، ومخالفة لأمره، وتجاوز لحدوده، وهل هناك آفة أكبر من هذه آفة؛ إذ كيف يسعد المرء وهو عاصٍ لله، مضيع لأوامره، ومرتكب لنواهيه.
ومن آفاته كذلك: أنه يشتت القلب ويفرق شمله، ويقسِّيه، ويجعله بعيدا عن الله، وبذلك تقع الوحشة بين العبد وبين خالقه، بل إنه يكسب القلب ظلمة وسوادًا، وإذا أظلم القلب أقبلت عليه سحائب البلاء والشر من كل مكان، من بدعة وضلالة واتباع هوى، واجتناب هدى، وإعراض عن أسباب السعادة، واشتغال بأسباب الشقاوة.
ومن آفاته كذلك: أنه باب من أبواب دخول إبليس إلى القلب، ومنفذ من منافذه، فإذا ولج الشيطان داخله زين له الصور، ثم منَّاه، وأوقد عليه نار الشهوة، حتى تتمكن من قلبه فتفسده.
ومن آفات إطلاق البصر كذلك: أنه يوقع العبد في الغفلة، واتباع الهوى، ويورثه الحسرات، ويملأه بالزفرات؛ فيرى العبد ما ليس قادرًا عليه ولا صابرًا عنه، قال الله -تعالى-: (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً)[الكهف:28].
وكنت متى أرسلت طرفك رائدا | لقلبك يوما أتعبتك المناظر |
رأيت الذي لا كله أنت قادر | عليه ولا عن بعضه أنت صابر |
ومن آفاته: أنه يذهب نور البصيرة؛ فيطمسها، ويجعلها مظلمة، ويوقع القلب في أسر الشهوة، ويزج به في سجن المعصية، فيصبح أسيرا لهواه، سجينا لملذاته؛ فكيف لذنب هذه بعض آفاته، وجانب من خطورته وظلماته ألا يجاهد المرء نفسه على تركه والبعد عنه، والبحث عن علاجه.
أقول ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسّلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمّا بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واجتنبوا الإثم والفواحش لعلكم تفلحون .
عباد الله: ما من امرئ آتاه الله عقلا وحكمة، ونورا وبصيرة إلا وسعى إلى طهرة قلبه، ونقاء نفسه، وأعد العدة للقاء الكريم؛ مبتعدًا عما يغضبه، مجتهدًا في علاج قلبه من الأدواء المهلكة، والأسقام المردية، قال الدهلوي: "اعلم أن شهوة الفرج أعظم الشهوات، وأرهقها للقلب، موقعة في مهالك كثيرة، والنظر إلى النساء يهيجها... والشيء إذا عولج قبل تمكنه، زال بأدنى سعي....".
وإن من الوسائل المعينة على غض البصر ما يلي:
أن يستحضر المرء أن الله مطلع عليه، عالم بسره وجهره، مراقب له، يراه وهو محيط به، وأنه (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ)[غافر: 19].
ومن أعظم الوسائل المعينة على غض البصر: طلب العون من الله والإلحاح بالدعاء، قال تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)[غافر: 60].
ومن الوسائل كذلك: معرفة العبد أن كل شيء أنعم الله به عليه يستوجب الشكر (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)[النحل: 53]، ونعمة البصر شكرها أن تُحفَظَ عما يغضب الله، وأن تستخدم في طاعته، و(هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ)[الرحمن: 60].
ومن الوسائل المعينة على ترك فضول النظر: مجاهدة النفس على غض البصر، وتعويدها عليه، والصبر على ذلك، وعدم اليأس. قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)[العنكبوت: 69]، وقال صلى الله عليه وسلم: "ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله"(رواه البخاري).
ومن الوسائل كذلك: أن يجتنب العبد الأماكن التي يخشى على نفسه من الوقوع في المعصية؛ كالأسواق، والطرقات، والأماكن العامة؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه الشيخان: "إياكم والجلوس في الطرقات، قالوا: مالنا بدٌّ، إنما هي مجالسنا نتحدث فيها، قال: فإذا أبيتم إلا المجالس، فأعطوا الطريق حقها، قالوا: وما حق الطريق؟ قال: غض البصر، وكف الأذى".
ومن الوسائل المعينة على غض البصر: الإكثار من نوافل العبادات، مع المحافظة على الواجبات؛ فإن ذلك سبب في حفظ العبد من المعصية؛ فقد قال الله تعالى في الحديث القدسي الذي رواه البخاري: "وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه".
ومن أهم الوسائل النافعة، والأدوية الناجعة لفضول النظر: الزواج؛ ففيه استكفاء بالحلال عن الحرام، وإعانة للمرء على كبح جماح النفس؛ فقد قال-صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الشيخان: "من استطاع الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء" .
عباد الله: اعلموا أن من اجتهد في علاج نفسه من هذه الآفة الخطيرة، والداء العضال، وحاول جاهدًا الإتيان بكل الوسائل والتدابير التي تحول بينه وبين هذا المنكر.. اعلموا أنه إن فعل ذلك كافأه الله مكافأة يجد نتائجها في دنياه قبل أخراه، ومن ذلك:
تخليص قلبه من الحسرات التي يسببها إطلاق النظر؛ فأضر شيءٍ على القلب إرسال البصر؛ فإنه يريه ما لا سبيل إلى وصوله ولا صبر له عنه، وذلك غاية الألم.
ومن ذلك: أن الله يورث قلبه نورا وإشراقا، يظهر في العين، وفي الوجه، وفي الجوارح، كما يورثه صحة الفراسة؛ فإنه إذا استنار القلب صحت الفراسة، قال شجاعٌ الكرماني -رحمه الله تعالى-: "من عمر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة، وغض بصره عن المحارم، وكف نفسه عن الشهوات، وأكل من الحلال، لم تخطئ فراسته".
ومن ذلك: أن الله يفتح له طرق العلم وأبوابه، ويسهل عليه أسبابه، وذلك بسبب نور القلب؛ فإنه إذا استنار ظهرت فيه حقائق المعلومات، وانكشف له بسرعةٍ، ونفذ من بعضها إلى بعضٍ، ومن أرسل بصره تكدر عليه قلبه، وأظلم، وانسد عليه باب العلم وأحجم.
ومن ذلك: أن الله يورث قلبه سرورا وبهجة، وفرحة هي أكبر وأعظم من الالتذاذ بالنظر، حتى قال بعضهم: "والله للذة العفة أعظم من لذة الذنب".
ومن ذلك: أنه يسد عنه بابًا من أبواب جهنم؛ فإن النظر باب للولوج إلى الشهوة التي تؤدي إلى فعل المحرم، وشرع الله حاجز ومانع من الوصول إلى ذلك؛ فمتى هتك الحجاب تجرأ على المحظور، ولم تقف نفسه منه عند غايةٍ، وغض البصر يسد عنه هذا الباب.
عبدالله: احذر فضول النظر؛ فإنه سبيل الخطر، ومن أطلق بصره يرتع في الشهوات لا يفتأ يلقيه في المهالك والعثرات؛ فابتعد عن كل ما فيه فساد لقلبك ليسلم لك فينفعك (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الشعراء: 88-89].
هذا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه ...