الفتاح
كلمة (الفتّاح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) من الفعل...
العربية
المؤلف | هشام عبد القادر آل عقدة |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
فانظروا مدى انتفاع المسلم بالدعاء والذكر إن وجد فيهما الصدق، ومدى خسرانه وعدم انتفاعه بذلك مع غياب الصدق من القلب والاقتصار على حركة الجوارح، كذلك الذي يستغفر ربه وفي قلبه نية العودة إلى الذنب، فهذا -كما قال السلف- كالمستهزئ بربه، واستغفاره يحتاج إلى استغفار ..
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70، 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون: إن من أهم صفات المسلم التي أمر الله بالتحلي بها الصدق؛ يقول الله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة: 119]، ويقول أيضًا: (وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 35].
وفي الصحيحين عن ابن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابًا".
والصدق يكون في كل أمر من أمور الحياة، ولا يقتصر على الصدق في كلام الناس وأحاديثهم المعتادة، وقد استخدم لفظ الصدق في الكتاب والسنة في معانٍ أخرى عظيمة غير الصدق في كلام الناس وما يتبادلونه من أخبار.
فهناك أولاً: الصدق في إيمان العبد بهذا الدين ابتداءً، وفي نطقه بالشهادتين، فلابد أن يكون صادقًا فيما بينه وبين ربه في ذلك؛ ففي الصحيحين عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله صدقًا من قلبه إلا حرمه الله على النار".
وهناك أيضًا صدق العبد بينه وبين ربه في الطلب والدعاء والعبادة؛ ففي صحيح مسلم عن أبي ثابت -وقيل أبي سعيد، وقيل أبي الوليد- سهيل بن حنيف -وهو بدري رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من سأل الله تعالى الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه"، وتأملوا أيضًا ما صحّ عند الترمذي وغيره عن أبي هريرة مرفوعًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً من قلب غافل لاهٍ".
فانظروا مدى انتفاع المسلم بالدعاء والذكر إن وجد فيهما الصدق، ومدى خسرانه وعدم انتفاعه بذلك مع غياب الصدق من القلب والاقتصار على حركة الجوارح، كذلك الذي يستغفر ربه وفي قلبه نية العودة إلى الذنب، فهذا -كما قال السلف- كالمستهزئ بربه، واستغفاره يحتاج إلى استغفار، وفي المقابل لو استغفر العبد ربه بصدق وعزم على عدم العودة إلى الذنب وندم على ما فات فإن الله يغفر له، ولو عاد فوقع في الذنب مرة أخرى واستغفر بنفس الصدق السابق ذكره لغفر الله له، كما ورد بذلك الحديث الصحيح.
وذكر بعض العلماء فيما سلف من الزمان: أن العبد إذا قال في استفتاح صلاته: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض، وقلبه مشغول بالدنيا فهو كاذب. فأيُّنا يحاسب نفسه على ألفاظه وأذكاره ودعواته، وما فيها من صدق وحضور قلب وصفاء نية؟!!
ثم اعلم أن الصدق في مقامات الدين وعباداته درجات متفاوتة، فمثلاً يتفاوت المؤمنون في صدق خوفهم من الله -عز وجل-، فإنك تجد كثيرًا من المسلمين يصح إطلاق اسم الخوف في حقهم ولكن لا يبلغون حقيقته الكاملة، فمثلاً ترى أحدهم إذا خاف سلطانًا يصغر ويرتعد خوفًا من وقوع المحذور، ثم إنه يخاف النار ولا يظهر عليه شيء من ذلك عند فعل المعصية.
ولذلك قال عامر بن قيس: عجبت للجنة نام طالبها، وعجبت للنار نام هاربها. وقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحابته وسلف هذه الأمة قمة في الخوف من الله -عز وجل-.
كان -عليه الصلاة والسلام- إذا رأى الريح تغير وجهه، وقام وأقبل وأدبر ويقول: "ما يؤمنني أن قومًا رأوا الريح فقالوا: هذا عارض ممطرنا". أي دائمًا كان فيه عذابهم، فإذا نزل المطر ذهب ذلك عنه -صلى الله عليه وسلم-.
وكان يصلي وحده فيبكي، والناس في العادة إنما يبكون في اجتماعهم معًا في الصلاة، ولكن الخائفين من الله -عز وجل- حقًّا كرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقع منهم البكاء في صلاتهم منفردين عن الناس، كما يقول عبد الله بن الشخير: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي، ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء. أي كصوت القدر يغلي بالماء.
وكان أبو بكر -رضي الله عنه- من خوفه من الحساب والجزاء يقول: ليتني كنت شاة ذبحها أهلها، فأكلوا لحمها، وحسوا مرقها.
وكان بعض السلف يبكي بكاءً شديدًا عند قوله تعالى: (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) [الزمر: 47]. ويقول: هم قوم عملوا أعمالاً ظنوها صالحة فوجدوها وبالاً عليهم يوم القيامة. وكان بعضهم ينظر مرارًا في المرآة مخافة أن يكون وجهه قد اسود من المعاصي، وكان بعضهم يقوم بالليل يتفقد جلده وينظر فيه خشية أن يكون قد مسخ قردًا أو خنزيرًا. هكذا كان صدق خوفهم من عقوبات الذنوب والمعاصي، والتحقق بالصدق في هذه الأمور عزيز جدًّا، فلا غاية لهذه المقامات حتى ينال تمامها، ولكن لكلٍ حظٌّ حسب حاله، إما ضعيف وإما قوي، فإذا قوي سمي صادقًا، وإذا علم الله من عبد صدقًا قَرَّبَه وأنعم عليه وأعانه وأكرمه بمعيته، والصادق في جميع مقامات الدين وعباداته عزيز، ولكن قد يكون للعبد صدق في بعضها دون بعض. والله المستعان.
وهناك الصدق في النية والإرادة، ويسمى الإخلاص، ومقابله الكذب أو الرياء؛ يقول الله -عز وجل-: (فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ) [محمد: 21]، أي فإذا جدّ الحال وحضر القتال، فلو أخلصوا النية لله لكان خيرًا لهم. وفي حديث "أول ثلاثة تسعر بهم النار" أن الله يقول لكل منهم: "كذبت، وإنما قرأت أو تصدقت أو قاتلت ليقال كذا وكذا". أي وليس صدقًا في طلب الثواب من الله -عز وجل-.
ومن علامات صدق النية والرغبة في الأجر كتمان المصائب والطاعات جميعًا، وكراهة اطلاع الخلق على ذلك.
وهناك الصدق في العزم والوفاء، كأن يقول: إن أتاني الله مالاً تصدقت بجميعه، فقد يقول ذلك مع عدم صدق العزيمة، بل مع التردد أو خلو القلب من الصدق والإصرار على ما يتلفظ به، وقد يقول ذلك مع عزيمة ثم يترك الصدق في الوفاء عند تمكنه من ذلك: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ) [التوبة:75 ـ 77]. فأين هؤلاء ممن قال الله -عز وجل- فيهم: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) [الأحزاب:23].
وهناك الصدق في العمل، والبذل بالإتقان، واستفراغ الجهد، ومن هذا القبيل قول سعد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء. أي صادقون في الحرب والقتال، نثبت ونستفرغ الجهد، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه".
وذلك أن الإنسان كما أنه قد يكذب في كلامه بأن يخبر بغير الواقع والحقيقة، فكذا قد يكذب بعمله، فيوري بالضعيف من العمل، ويضبط ظاهره دون باطنه ليخدع الناس أو يخدع نفسه، فيظهر لهم خلاف واقع العمل وحقيقته.
ثم هناك الصدق في كلام الناس وأحاديثهم بعضهم مع بعض؛ فقد جعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- من الصفات الفارقة بين المؤمن والمنافق أن المؤمن يصدق الحديث، والمنافق يكذب فيه؛ ففي الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعًا: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان". فالمؤمن -إخوة الإسلام- لابد إذًا أن يكون صادقًا في قوله وحديثه، وفي عمله واعتقاده.
وكل منا ينبغي أن يحاسب نفسه على ذلك، فإنه من القبيح جدًّا أن يظهر التفريط بيننا في أمر الصدق، أو أن يقع أحدنا في آفة الكذب، سواء في القول أم الكلام أم العمل، كما يقع من البعض في أداء الأعمال دون إتقان، ودون روح، ودون الجهد المطلوب، أم في الذكر والدعاء، بحيث لا يوجد الصدق في القلب، بل يكون الأمر مجرد كلمات أو حركات بلا رصيد في القلب وإصرار وإلحاح، أم في التعلم والعمل لنصرة هذا الدين والالتزام به، حيث يبدو التكاسل والتفريط والتخلف عن القيام بالواجب أو الدور المطلوب.
هدانا الله وإياكم للصدق، وعصمنا وإياكم من الكذب ومخادعة النفس.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فنقف في هذه الدقائق المتبقية -بمشيئة الله تعالى- وقفة قصيرة عند أحد أنواع الصدق التي أشرنا إليها، وهو ذلك النوع العظيم المهم الذي لا نجاة للعبد إلا به، ألا وهو صدقه ابتداءً في إيمانه بهذا الدين، وتلفظه بالكلمة العظيمة، كلمة التقوى شهادة أن لا إله إلا الله، وكذا تلفظه شهادة أن محمدًا رسول الله: "ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله صدقًا من قلبه إلا حرمه الله على النار".
فاشترط -صلى الله عليه وسلم- في إنجاء من قال هذه الكلمة من النار أن يقولها صدقًا من قلبه، فلا ينفعه مجرد التلفظ بدون مواطأة القلب.
وقال -عز وجل- في ذمّ من يقول هذه الكلمة دون مواطأة القلب: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) [البقرة: 8-10].
والصدق في الإيمان له مقومات ودلائل: أولها: العمل الصالح؛ فإن الله -عز وجل- جعل العمل الصالح أيضًا -بالإضافة إلى مواطأة القلب للسان- من مقومات صدق الإيمان التي لا يتم إلا بها، كما قال -جل وعلا-: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [البقرة: 177].
ومن دلائل صدق الإيمان: التضحية بالنفس والمال في سبيل الله، واستفراغ الجهد وما في الوسع لنصرة دين الله -عز وجل-، مصداقًا لقوله -تبارك وتعالى-: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ) [الأحزاب: 23، 24]، ويقول -عز من قائل-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [الحجرات:15].
ومن دلائل الصدق في الإيمان: الثبات في الفتنة، وتحمل الأذى في سبيل الله -جل وعلا-، في تواضع تام دون غرور، يقول -عز وجل-: (ألم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت:1-3]، ويقول -عز وجل-: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ * وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ) [العنكبوت: 10، 11]، (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) [الحج:11].
فالصادقون في إيمانهم لا يؤثرون عليه شيئًا ولو كان ذلك الشيء هو الحياة نفسها، وتأملوا صدق إيمان أولئك القوم الذين قصّ الله علينا شأنهم، في ذلك الحوار بينهم وبين فرعون، حين قال لهم فرعون: (آمَنْتُمْ لَهُ)، أي موسى عليه السلام، (قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى * قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى) [طـه: 71-76].
والمؤمن لا يندم أو يتحسر على ما أصابه من أذى في سبيل الله، ولا يقول: ليت ذلك لم يحدث لي؛ لأنه يعلم أن ذلك من إكرام الله له ورفع درجته، وأنه في حاجة لتقديم نفسه كلها في سبيل الله، فهذا صحابي من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما فقأ المشركون عينه قالوا له: أما كنت غنيًّا عما أصابك، أو كلمة نحوها -يريدون بذلك أن يتحسر ويندم- فقال: بل الأخرى أحوج لما يصلحها في سبيل الله. وصدق الحق -تبارك وتعالى- إذ يقول: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: 146-148].
ومن دلائل الصدق في الإيمان: مغالبة الضرورات، وعدم الترخص في المعاصي، وعدم التحجج بالأعذار في ترك الطاعات والبذل والجهاد والدعوة؛ فإن المنافقين هم الذين يتحججون بالأعذار، وقد يكون عذرهم أقبح من الذنب، كما ذكر الله عنهم مقالتهم وعذرهم السخيف في سورة الفتح: (شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا) [الفتح: 11]، وكما فضحهم -جل وعلا- في سورة التوبة: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي)، أي في ترك الجهاد، وذلك في غزوة تبوك، (وَلا تَفْتِنِّي)، أي برؤية نساء العدو، فقال -عز من قائل-: (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) [التوبة:49].
ومن العجب أن المنافق يريد القعود وليس له عذر، وأن المؤمن قد يكون معذورًا من الله -عز وجل-، ولكنه يصر على الجهاد والتضحية والطاعة لصدق إيمانه، كما كان الرجل الكبير في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يؤتى به يتهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف، وهذا عمرو بن الجموح، شيخ طاعن في السن، يصرّ على الخروج مع المسلمين للقتال في غزوة أحد، مع أنه رجل أعرج عذره الله بقوله: (لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) [النور: 61]، ويبيّن له المسلمون أن الله عذره، فيقول: إني أريد أن أطأ بعرجتي الجنة، ويقاتل ويكرمه الله بالشهادة.
وهذا ابن أم مكتوم رجل أعمى معذور من الله -عز وجل- هو الآخر في ترك القتال، ومع ذلك يطلب من المسلمين أن يعطوه اللواء ليرفعه لهم في المعركة قائلاً: فإنني رجل أعمى لا أستطيع الفرار.
وأولئكم قوم لا دواب لهم يغزون عليها، ولا مال لهم ينفقونه في سبيل الله، فهم معذورون من الله -عزّ وجل-، ولكنهم لا يفرحون أن ظروفهم خلصتهم من عبء الجهاد، بل يبكون على عدم استطاعتهم مشاركة إخوانهم، يقول -جل وعلا-: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ * يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) [التوبة: 91-96].
ويا ليت من يقصر يكون صادقًا، ويقول: ما كان لي من عذر، فهو أكرم له عند الله -عز وجل- وأنجى له من اختراع المعاذير التي يحسِّن بها صورته أمام الخلق ليحظى برضاهم، وما أجمل الصدق في موقف كعب بن مالك -رضي الله عنه- حين تخلّف مع من تخلفوا عن غزوة تبوك، فإنه قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد الغزوة بعد أن فكّر وأعيته الحيل ثم هداه الله -عز وجل- إلى الصدق والصراحة، وتحمل نتيجة ذلك في جرأة، مهما يكن الأمر فذلك خير له عند الله -عز وجل- من اختراع المعاذير الكاذبة، فقال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما كان لي من عذر، فلقي جزاءه من تعزير الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين له بهجره خمسين ليلة، ثم أنجاه الله بصدقه وتاب عليه، أما الذين أتوا للرسول -صلى الله عليه وسلم- وقد اخترعوا المعاذير الكاذبة فقد هلكوا، وتهددهم الله بالعذاب، قال الله -عز وجل-: (وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [التوبة:90].
فاحذروا -إخوة الإسلام- من خداع أنفسكم، وتبرير التكاسل لها عن العبادة أو الطاعة، أو عن العلم والبذل والتضحية، ومشاركة إخوانكم في الدعوة والأعمال، واحذروا من تبرير الترخص في المعاصي، واختراع الأعذار الواهية؛ فإن النفس ضعيفة، ونزاعة للراحة والخمول، وأمارة بالسوء، إلا ما رحم ربي، إن ربي غفور رحيم.
أعاننا الله وإياكم على أنفسنا وعلى الشيطان، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.