البر
البِرُّ في اللغة معناه الإحسان، و(البَرُّ) صفةٌ منه، وهو اسمٌ من...
العربية
المؤلف | هشام عبد القادر آل عقدة |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
وإذا بالقوي العزيز يفتح على عبده الفقير أبواب السماء باليسر والخيرات، ويبين الله -عز وجل- في صورة عملية واقعية ما يجب اعتقاده من أن الفرج والرزق يأتي من الله -عز وجل- مهما رأى الإنسان الظروف حالكة، والشدائد قاسية، فإن مقاييس الأرض تقول: إن الإنسان إذا كان هاربًا مطاردًا فإنه لا يستطيع أن يجد رزقًا ولا يجد زوجة ولا يجد غنى، وكم من أناس تركوا التزامهم بدينهم وابتعدوا عن الدعوة إلى دين الله تأمينًا لأنفسهم من المخاطر ..
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70، 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون: يقول الله -عز وجل- في كتابه العزيز: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [يوسف:111].
(لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ): لقد كان في خبر المرسلين مع قومهم، وكيف نجينا المؤمنين وأهلكنا الكافرين، وفي أخبارهم ما نقص عليك من أمورهم (عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ): لأصحاب العقول والبصائر والأفهام الصحيحة، (مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى): أي وما كان لهذا القرآن وما فيه من الأخبار والأحكام والقصص والعظات أن يفترى من دون الله، أي يكذب ويختلق، (وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْه): أي من الكتب المنزلة من السماء، يصدق ما فيها من الصحيح، وينفي ما وقع فيها من تحريف وتبديل وتغيير، ويحكم عليها بالنسخ أو التقرير، (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْء): من تحليل وتحريم، ومحبوب ومكروه، وغير ذلك من الأمر بالطاعات، والواجبات والمستحبات، والنهي عن المحرمات، وما شاكلها من المكروهات، والإخبار عن الأمور الجلية، وعن الغيوب المستقبلة المجملة والتفصيلية، والإخبار عن الرب -تبارك وتعالى- بالأسماء والصفات، وتنزيهه عن مماثلة المخلوقات؛ فلهذا كان (هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ): تهتدي به قلوبهم من الغي إلى الرشاد، ومن الضلال إلى السداد، ويبتغون به الرحمة من رب العباد، في هذه الحياة الدنيا ويوم المعاد.
نسأل الله العظيم أن يجعلنا منهم في الدنيا والآخرة، يوم يفوز المبيضة الناضرة وجوههم بالسلعة الرابحة، ويرجع المسودة المكفهرة وجوههم بالصفقة الخاسرة.
لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب، ومن تلك القصص ذوات العبرة قصة نتأملها اليوم بمشيئة الله تعالى، فيها عبر وفوائد عظيمة، يحتاج إليها كل مسلم في رحلته على هذه الأرض، قصة تتمثل فيها حقيقة الارتباط بالله -عز وجل- في كل حين، والحرص على الخير في كل الظروف، والثقة الكاملة بما عند الله، وانتظار اليسر من قبل العسر، وانتظار الفرج من قبل الكرب، (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) [الطلاق: 2، 3].
هذه القصة -أيها المسلمون- هي واحدة من القصص المتعددة التي يقصها الله علينا بشأن موسى -عليه السلام- وما كان يلاقيه في هذه الدنيا.
يقول الله -عز وجل- في محكم التنزيل في سورة القصص: (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ * وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ * فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ * قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) [القصص: 20-28]. ولنمضِ مع القصة آيةً آيةً لنتلمس ما فيها من عبر لأولي الألباب.
(وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ)، وكان موسى -عليه السلام- قد استغاث به إسرائيلي من شيعته على عدو قبطي من قوم فرعون، فوكز موسى القبطي فقضى عليه، وهذه الفعلة من موسى -عليه السلام- كانت كبيرة عند فرعون وملئه؛ إذ كيف يُقتل قبطي من أجل إسرائيلي حقير؛ إذ إن فرعون كان قد استعبد بني إسرائيل واستذلهم، ففي فعلة موسى نوع من التمرد والتجرؤ على فرعون وملئه، وفيها نوع من التحدي بنصرة أولئك الضعفاء المضطهدين؛ لذا ثارت ثائرة فرعون وملئه، وتشاوروا فيما بينهم على قتله، ولكن الله -عز وجل- الذي حفظ موسى منذ ولادته، لم يسلمه لأعدائه، بل قيَّض له ناصحًا أمينًا جاء يسعى من أقصى المدينة، لينبه موسى لحماية نفسه بالإسراع بمغادرة البلدة قبل أن يدركه الملأ فيقتلوه، وأكد له أهمية الخروج وخطورة البقاء بتحذيره الكامن في قوله: (إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ).
وهكذا يجد موسى نفسه مضطرًّا للخروج من الديار المصرية التي نشأ وتربى فيها، ولكنه ليس أول الخارجين من ديارهم، فكثيرون من قبله من الأنبياء خرجوا من ديارهم، وكثير هددوا بالإخراج منها، فهذا وكل صاحب دعوة وحامل رسالة لابد أن يوطن نفسه على ذلك، فأنبياء الله لم يخلدوا إلى أرض أو وطن، بل نرى في سيرهم كيف كان بعضهم يقضي مراحل طويلة من عمره خارج وطنه، مع صعوبة الانتقال وبعد الطريق في ذلك الزمان، فهذا إبراهيم -عليه السلام- نقرأ في سيرته فتجده مرة يعيش في فلسطين ومرة في الشام في مواجهة النمرود ملك بابل، ومرة يعيش في الجزيرة العربية بواد غير ذي زرع، يرفع القواعد من البيت، ومرة يعيش في مصر، وأين الشام من الجزيرة العربية من مصر؟! وما زمن الانتقال فيها ومخاطره في ذلك الزمان؟!
وهذا موسى -عليه السلام- مرة نجده في مصر، ومرة في مدين، ومرة في الطور، وهذا محمد -صلى الله عليه وسلم- يترك مكة ويحيا بقية حياته بالمدينة، وهكذا يجد الإنسان نفسه ضعيفًا حين يطلع على ذلك النوع من الحياة، فإن مثل هذه الانتقالات لتثقل علينا حتى الآن، وإنما تسهل من أجل جمع الأموال والبحث عن الراحة والرفاهية، أما الاستعداد للخروج أو الإخراج مع ما فيه من مفارقة الدنيا والأموال والأهل والأحباب من أجل الدعوة فلم يزل في حاجة إلى تكوين وتقوية، كذلك إذا اطلعنا على سير الأنبياء فإننا نجد لوطًا -عليه السلام- يهدده قومه: (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) [الشعراء: 167]، وشعيب يقول له الملأ الذين استكبروا من قومه: ( لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) [الأعراف: 88]، ومحمد -صلى الله عليه وسلم- يقول الله -عز وجل- عن تآمر المشركين عليه: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال:30]، (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) [إبراهيم: 13].
والذي نريد الإشارة إليه في هذا المقام أن الأنبياء تعرضوا للإخراج من ديارهم، وأن موسى -عليه السلام- في خروجه في هذه القصة لم يكن قد أوحي إليه بعد، ومع ذلك فهذا الخروج نوع من الإعداد والتجربة والتربية على ما فيه من إرادة الله من الخير والنعمة، يقول الله -عز وجل-: (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)، وهنا نرى كيف يكون صاحب الفطرة السليمة مرتبطًا بربه، وإذا خاف فإنما يخاف الخوف الطبيعي من الشر المتحقق لا وهْم الجبناء المنافقين الذين يحسبون كل صيحة عليهم، ثم هو خوف لا يعوق عن إكمال الطريق وتدبير الأمور واتخاذ الأسباب، ولا يلهي عن ذكر الله واللجوء إليه، بخلاف الجبناء الذين يرتبكون وينسون ربهم ولا يلجؤون إليه، بل لا يذكرون إلا الأسباب الأرضية والحماية المادية، ولكن موسى -عليه السلام- لم يكن كذلك، بل اتجه للقوة التي لا تغلب (قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)، وكذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خاف قومًا قال: "اللهم إنا نعوذ بك من شرورهم، ونجعلك في نحورهم". فالخوف بهذه الصورة ليس من الخوف المذموم الشركي، بل هو الخوف الفطري الطبيعي الذي لا ينفك عنه البشر في الدنيا، وإنما يسلمون منه في الجنة، حيث لا خوف ولا حزن.
(فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ): فهو متلفت واعٍ لما حوله، ومحتاط لنفسه؛ حتى لا يدركه عدوه، (قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ): خرج من المدينة وحيدًا فريدًا، لا حيلة له إلا اعتماده على مولاه، والتوجه إليه طالبًا عونه وهداه، ولكن إلى أين يذهب؟! إنه يتوجه تلقاء مدين، وأين مدين؟! إنها في قارة أخرى، فهي بين الحجاز والشام، وهو في مصر، وإنه لعجب: أن يسير تلك المسافة الشاسعة في ذلك الزمان، ولا يذكر لنا القرآن كيف كان ينتقل وماذا كان يأكل، وإنما يُروَى في ذلك أقوال وأخبار تناقلها الصحابة ومن بعدهم ذكروا فيها أنه كان حافيًا ليس لديه طعام إلا ورق الشجر.
(وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ) فهو الاتجاه مرة أخرى إلى ربه مستسلمًا له متطلعًا لهداه، وهكذا نجد موسى -عليه السلام- في هذه الظروف الصعبة المخيفة، بعد فترة من الأمن، بل من الرفاهية والراحة والمتاع في قصر فرعون، نجده يسير وحيدًا مطاردًا في الطرق الصحراوية في اتجاه مدين في جنوبي الشام وشمالي الحجاز مسافات شاسعة، وأبعاد مترامية، لا زاد ولا استعداد، خرج من المدينة خائفًا يترقب، وليس معه من دليل، يسير مجردًا من قوى الأرض الظاهرة جميعًا، يطارده فرعون وجنده، ويبحثون عنه في كل مكان لينالوا منه اليوم ما لم ينالوه منه طفلاً، ولكنه اتجه إلى رب السماوات والأرض والخلق جميعًا، يستمد منه العون والنجاة والهداية، فيجد ذلك كله عند ربه، فهاهو ذا يقطع الطريق الطويل، ويصل إلى حيث لا تمتد إليه اليد الباطشة بالسوء، فيصل إلى مدين ويرد ماءها، لتبدأ سلسلة جديدة من الأحداث المليئة بالعبر النافعة، والحكم البالغة، كما سنرى بعد قليل بمشيئة الله تعالى.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول الله -عز وجل-: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ)، لقد انتهى به السفر الشاق الطويل إلى ماء مدين، وصل إليه وهو مجهد ومكدود، وإذا هو يطلع على مشهد لا تستريح إليه النفس ذات المروءة والفطرة السليمة كنفس موسى -عليه السلام-، وجد الرجال الرعاة يوردون أنعامهم لتشرب الماء، ووجد هناك امرأتين تمنعان غنمهما عن ورود الماء، ويكفكفانها خوف أن تذهب مع غنم القوم فيؤذيهما الرعاة، وحياءً من التزاحم مع أولئك الرجال، والأولى عند ذوي المروءة والفطرة السليمة إذا اجتمع مثل هؤلاء الرجال وليس معهم إلا هاتان المرأتان الضعيفتان أن لا يتجاهلوهما، بل يعينوهما ويفسحوا لهما لتسقيا وتصدرا بأغنامهما أولاً، ولم يقعد موسى الهارب المطارد المسافر المكدود ليستريح، وهو يشهد هذا المنظر المنافي للمروءة والأدب والمعروف، والمؤثر في النفس الحية الزكية، وهذه فائدة أخرى في قوة النفس والهمة والحرص على الخير وفعله ما أمكن في مختلف الظروف والأحوال، وعدم التكاسل عن الأعمال بحجة التعب أو الهم، وهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو مطارد في طريق الهجرة يلقى ركبًا فيدعوهم إلى الإسلام فيسلمون، وهذا يوسف -عليه السلام- من قبل وهو في الحبس يدعو من معه إلى توحيد الله -عز وجل- إذ يقول: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) [يوسف:39]. وهذا شأن من يعدهم الله للقيام بدعوته، ويختارهم لحمل رسالته.
وهذا موسى -عليه السلام- واحد منهم، فيه ما في الأنبياء من هذه الصفات الرفيعة، وتلك الهمم العالية، والعزائم القوية، فما أن وصل متعبًا بعد سفره الطويل، ويجد ذلك المنظر، حتى يتجه للمرأتين يسألهما عن أمرهما الغريب: (قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ)، فهما امرأتان ضعيفتان، ليس لهما أن يسقيا حتى ينتهي الرعاة الرجال، وأبوهما شيخ كبير لا يقدر على الرعي ومجالدة الرجال، وثارت نخوة موسى -عليه السلام- وتقدم لإقرار الأمر في نصابه، فتقدم فسقى للمرأتين أولاً، في قوة وشهامة، ولا تنس أنه غريب في أرض لا يعرفها، ولا سند له فيها ولا ظهير، وهو مكدود قادم من سفر طويل بلا زاد ولا استعداد، وهو مطارد من خلفه أعداء قساة لا يرحمون، ولكن هذا كله لا يقعد به عن تلبية دواعي المروءة والنجدة والمعروف (فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ)، بعد هذه الرحلة من العناء، ثم بعد ما قام به من ذلك المعروف، وما فيه هو الآخر من جهد، يبدأ يفكر في نفسه وما يصلحها، فأوى إلى ظل شجرة، في ذلك الجو من القيظ والحر، متوليًا عن الناس والسقاية وضوضاء الحياة، في خلوة بنفسه ومع ربه، وهو جو له مذاقه في النفس المتعبة المطاردة، ثم الاتجاه إلى رافع السماء (فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)، ربي: إني في الهاجرة، رب: إني فقير، رب: إني وحيد، رب: إني ضعيف، رب: إني إلى فضلك ومَنِّك وكرمك فقير محووج، وهو أدب المؤمن في اتجاهه إلى ربه طلبًا لما عنده.
يبدأ بالطاعة وصنع المعروف، ثم يثني بالتذلل والمسكنة والانكسار، وذكر فقره وحاجته بين يدي ربه وخالقه.
وإذا بالقوي العزيز يفتح على عبده الفقير أبواب السماء باليسر والخيرات، ويبين الله -عز وجل- في صورة عملية واقعية ما يجب اعتقاده من أن الفرج والرزق يأتي من الله -عز وجل- مهما رأى الإنسان الظروف حالكة، والشدائد قاسية، فإن مقاييس الأرض تقول: إن الإنسان إذا كان هاربًا مطاردًا فإنه لا يستطيع أن يجد رزقًا ولا يجد زوجة ولا يجد غنى، وكم من أناس تركوا التزامهم بدينهم وابتعدوا عن الدعوة إلى دين الله تأمينًا لأنفسهم من المخاطر؛ حتى يستطيعوا الحصول على عمل أو زوجة، وهم لا يعلمون أن الله قادر على أن يأتيهم بالأمن من حيث الخطر، وأن يأتيهم باليسر من العسر، وأن يأتيهم بالفرج من الكرب، (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) [البقرة: 106، 107].
فتأملوا ما يأتي من الآيات لتعلموا أن الله قادر على أن يرزقكم من حيث لا تحتسبون، وأن ينعم عليكم بما لا تتوقعون، وأن يأتيكم بالخير من حيث تخافون، وأن يأتيكم بالفرج من حيث لا تنتظرون، فها هو موسى -عليه السلام- بعد اتجاهه إلى ربه يأتيه الفرج متتابعًا، (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ) في أدب وعفة دونما تبذل أو تبرج أو تبجح، جاءته لتبلغه أمرًا في أقصر لفظ وأدله وأخصره: (قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا)، هكذا في حياء مع رقة ووضوح وجد واختصار وعدم تلجلج، وهكذا تكون الفتاة العفيفة إذا تكلمت، ولم يكن موسى يريد بما صنع أجرًا منهم، وإنما فعله مروءة وشهامة، لكن كتب الله له الفرج من حيث لا يتحرى أو يقصد: (فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)، لقد كان موسى في حاجة إلى الأمن والطمأنينة، وهاهو يقيض له هذا الشيخ الكبير، والشيوخ الكبار حين يكسوهم لباس التقوى والوقار يكونون هم بذاتهم وبكلامهم مبعثًا للأمن والطمأنينة، وهاهو ذلك الشيخ الحكيم، لا يبادر فيتحدث عن السقيا وأجرها، بل يستمع القصص والأحداث التي مر بها موسى -عليه السلام- حتى الآن، ثم يبدأ قبل أي شيء بإنشاء جو الطمأنينة والأمن على هذا الغريب المطارد المتعب: ( قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)، فأنت الآن في أرض مدين، بعيدًا عن فرعون وجنده، حيث لا سلطان لهم على هذه البلاد، ولا يمكن أن يصيبك أحد الآن بسوء.
وبعد هذا الجو من الأمان، إذا بالنعمة الأخرى -نعمة العمل والرزق- يجدها هذا الغريب الذي فارق الديار هاربًا من البطش دون أن يبحث عنها، بل تأتيه من حيث لا يحتسب: (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ)، وهذا الطلب من الفتاة دلالة سلامة فطرتها، فالمرأة إذا سلمت فطرتها أحبت الابتعاد عن الخروج ومزاحمة الرجال في الأعمال، ومن ثَمَّ طلبت ابنته أن يستأجر من يرعى لهم ويسقي، وتبقى ابنتا الشيخ في البيت.
وإذا بالشيخ يقبل ذلك ويعرضه على موسى -عليه السلام- ومعه نعمة أخرى جديدة، ألا وهي الزواج: (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ)، أي على أن ترعى غنمي ثماني سنين، (فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ)، أي فهو فضل منك لكن لا يلزمك، (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ)، أي في معاملتك والوفاء معك، وهكذا تأتي الزوجة لموسى -عليه السلام- ذلك الغريب المنقطع دون أن يبحث عنها أو يطلبها، بل تعرض عليه في تلك الصورة الخالية من التكلف والتصنع.
(قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ)، أي كما اتفقنا، (أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ)، الثماني سنوات أو العشرة، (فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ)، وقضى موسى أتم الأجلين وأكملهما، وقيل: كان الشيخ شعيبًا -عليه السلام-، وقيل: بل غيره؛ لأنه لو كان شعيبًا لكان ذلك بعد هلاك المكذبين وبقائه مع المؤمنين، وبَعِيدٌ أن يترك المؤمنون ابنتي نبيهم هكذا ويسقون قبلهما ويتجاهلونهما.
ثم كانت النعمة العظمى بعد هذه النعم كلها، وهي نعمة النبوة والرسالة كما يقول المولى -عز وجل-: (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ) [القصص:29]، وذلك ليعود لزيارة أهله وبلاده خفية عن فرعون (آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا)، أي في أثناء الطريق حين وصل للطور، وكان يريد الضوء والدفء، وكان في ليلة مطيرة مظلمة: (قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ)، ليعلموا الطريق الصحيح، (أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ)، أي شعلة تستدفئون بها من البرد، (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ)، أي من يمين الجبل، أي جهة القرب، وذلك بالنسبة لموقف موسى، حيث كان مستقبلاً مكة والجبل بينه وبينها، (فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [القصص:30].
وهكذا انتهت هذه الرحلة الطويلة التي بدأت بالهروب من فرعون، ثم انتهت بالرزق والزواج والنبوة والوحي؛ ليعود بالأمر إلى فرعون وملئه داعيًا لهم إلى الله -عز وجل-.
نسأل الله -عز وجل- أن نكون قد انتفعنا بما في تلك القصة كما يرويها القرآن من الفوائد والعبر، وأن يكون كل منا قد وجد فيها ما هو شفاء لما في صدره، وأن يستصحبها في كثير من الظروف والمواقف.
اللهم انفعنا بالقرآن وبسير الأنبياء وهديهم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.