المجيد
كلمة (المجيد) في اللغة صيغة مبالغة من المجد، ومعناه لغةً: كرم...
العربية
المؤلف | مسفر بن سعيد بن محمد الزهراني |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | القرآن الكريم وعلومه - التاريخ وتقويم البلدان |
في الحديث: "مَن سَرَّهُ أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عينٍ فلْيقرأ: (إذا الشمس كُوِّرَتْ) و(إذا السماء انفطرَتْ) و(إذا السماء انشقَّتْ)" ..
الحمد لله القائل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، المروي عنه في الحديث: "مَن سَرَّهُ أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عينٍ فلْيَقْرَأ: (إذا الشمس كورت) و(إذا السماء انفطرت) و(إذا السماء انشقت)". صلَّى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها المسلمون: مما تقدم سنتكلم عن سورتي التكوير والانفطار، فسورة التكوير هي الحادية والثمانون في ترتيب المصحف الشريف، وآياتها تسع وعشرون آية.
بدأها الله سبحانه بقوله (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) [التكوير:1]، وذلك يوم القيامة، والتكوير الجمع، قال المفسرون: تجمع الشمس بعضها إلى بعض، ثم تُلَفُّ ويُرْمَى بها، وقيل: تُلَفُّ كما تلف العمامة.
(وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) [2]، أي: تهاوت وانقضت وتناكرت، قيل: تمطر السماء يومئذ نجوماً فلا يبقى نجم في السماء إلا وقع على الأرض، وقيل: انكدارها طمس نورها، (وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ) [3]، أي: قلعت عن الأرض وسُيِّرَتْ في الهواء.
(وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ) [4]، العشار: النوق الحوامل، التي في بطونها أولادها، وهي التي قد أتى عليها في الحمل عشرة أشهر، ثم لا يزال اسمها العشار حتى تضع، وخص العشار لأنها أنفَس مال العرب وأعزة عندهم، ومعنى عُطِّلَتْ: أي تُرِكت هملاً بلا راع، وذلك لما شاهدوا من الهول العظيم.
(وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) [5]، الوحوش: ما توحَّش من دواب البر، ومعنى حُشرت: بعثت حتى يقتص لبعضها من بعض، فيقتص للجماء من القرناء، (وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ) [6]، أي: أوقدت فصارت ناراً تضطرم.
(وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) [7]، قال عطاء: زوجت نفوس المؤمنين بالحور العين، وقرنت نفوس الكافرين بالشياطين. وقيل: قُرنت الأرواح بالأجساد. وقيل غيره.
(وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ) [8]، الموءودة: المدفونة حية، وقد كان العرب إذا ولدت لأحدهم بنتا دفنها حية مخافة العار أو الحاجة، ومعنى سئلت: توجيه السؤال إليها لإظهار كمال الغيظ على قاتلها، حتى كأنه لا يستحق أن يخاطب ويسأل عن ذلك، (بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) [9]، تبكيت لقاتلها؛ لأنه قتلها بدون ذنب.
(وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) [10]، يعني صحائف الأعمال نشرت للحساب؛ لأنها تطوى عند الحساب فيقف كل إنسان على صحيفته فيعلم ما فيها فيقول: (مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا) [الكهف:49].
(وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ) [التكوير:11]، الكشط: قلع عن شدة التزاق، أي تُقلع كما يقلع السقف، (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) [12]، أي: أوقدت لأعداء الله إيقاداً شديداً، (وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) [13]، أي: قربت إلى المتقين، وأدنيت منهم، (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ) [14]، يعني ما عملت من خير أو شر.
(فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ) [15]، أي: أُقسم بالخُنَّس، وهي الكواكب، وسميت الخنس من خَنَس إذا تأخر؛ لأنها تخنس بالنهار فتختفي ولا ترى، وهي زحل والمشترى والمريخ والزهرة وعطارد، كما ذكر المفسرون، وخُصت بالذكر من بين سائر النجوم لأنها تستقبل الشمس وتقطع المجرة، وقيل الخنس: الكواكب كلها.
(الْجَوَارِ الْكُنَّسِ) [16]، أي: أنها تجري مع الشمس والقمر، ومعنى الكُنَّس: التي ترجع حتى تختفي تحت ضوء الشمس، فخنوسها رجوعها، وكنوسها اختفاؤها تحت ضوئها، (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ) [17]، يقال: عسعس الليل إذا أقبل، ويقال عسعس إذا أدبر، فهو من الأضداد، وقيل: المراد أدبر الليل، (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) [18]، التنفس في الأصل خروج النسيم من الجوف، وتنفس الصبح إقباله؛ لأنه يقبل بروح النسيم، فجعل ذلك تنفساً له مجازاً.
(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) [19]، أي: إن القرآن الكريم لقول رسول كريم، يعني جبريل -عليه السلام-، لكونه نزل به من جهة الله سبحانه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم وصفه الله، وهذا جواب القسم، بأوصاف محمودة فقال: (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) [20]، أي: ذي قوة شديدة بالقيام بما كلف به، وذو رفعة عالية، ومكانة مكينة عند الله سبحانه، (مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) [21]، أي: أنه مطاع بين الملائكة يرجعون إليه ويطيعونه، ومعنى (ثَمَّ أَمِينٍ) أي: في السماوات مؤتمن على الوحي وغيره.
(وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) [22]، الخطاب لأهل مكة، والمراد بصاحبهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والمعنى: وما محمد يا أهل مكة بمجنون، وذكَرَه بوصف الصحبة للإشعار بأنهم عالمون بأمره، وأنه ليس ممن يرمونه بالجنون وغيره في شيء، وأنهم افتروا عليه ذلك على علم منهم بأنه أعقل الناس وأكملهم.
(وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) [23]، أي: وتالله لقد رأي محمد جبريل بالأفق المبين، أي: بمطلع الشمس من قبل المشرق، لأن هذا الأفق إذا كانت الشمس تطلع منه فهو مبين؛ لأن من جهته ترى الأشياء (وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) [24]، أي: وما محمد -صلى الله عليه وسلم- بخبر السماء، وما اطلع عليه مما كان غائباً علمه عن أهل مكة، بمتَّهَم، أي: هو ثقة بما يؤدي عن الله سبحانه. وقيل: معنى بضنين: ببخيل، أي: لا يبخل بالوحي.
(وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ) [25]، أي: وما القرآن بقول شيطان من الشياطين المسترقة للسمع، المرجومة بالشهب، (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) [26]، أي: إلى أين تعدلون عن القرآن وعن طاعته؟ (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ) [27]، أي: وما القرآن إلا موعظة للخلق أجمعين، وتذكير لهم.
(لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) [28]، أي: لمن شاء منكم الاستقامة على الحق والإيمان والطاعة، (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [29]، أي: وما تشاءون الاستقامة إلا أن يشاء الله تلك المشيئة، فأعلمهم سبحانه أن المشيئة في التوفيق عليه، وأنهم لا يقدرون على ذلك إلا بمشيئته وتوفيقه.
عباد الله: هذه لمحة عامة عن معاني سورة التكوير، وفقنا الله وإياكم لفهم معاني كتاب الله، ونفعنا بها وبهدي كتابه الكريم، وسنة خاتم المرسلين، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله مبدع الخلق وفاطر السماء والأرض، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلن، وسورة الانفطار هي السورة الثانية والثمانون في ترتيب المصحف الشريف، وهي تسع عشرة آية، وهي سورة مكية بلا خلاف.
بدأت بقوله تعالى: (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ) [1]، وانفطارها: انشقاقها، قيل: المراد أنها انفطرت لنزول الملائكة منها، (وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ) [2]، أي: تساقطت متفرقة، (وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ) [3]، أي: فجر بعضها في بعض فصارت بحراً واحداً، واختلط العذب منها بالمالح، (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) [4]، أي: قُلب ترابها وأخرج الموتى الذين هم فيها، وكل ذلك من مشاهد يوم القيامة.
ثم ذكر سبحانه جواب القسم لكل ما تقدم فقال (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) [5]، أي: أنها علمته عند نشر الصحف، لا عند البعث، لأنه وقت واحد من عند البعث إلى عند مصير أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار.
(يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) [6]، هذا خطاب للكفار، أي: ما الذي غرك وخدعك حتى كفرت بربك الكريم، الذي تفضل عليك في الدنيا بإكمال خلقك وحواسك، وجعلك عاقلا فاهماً، ورزقك وأنعم عليك نعمه التي لا تقدر على جحد شيء منها؟.
(الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) [7]، أي: خلقك من نطفة ولم تك شيئاً، فسواك رجلاً تسمع وتبصر وتعقل، وجعلك معتدلا في قامتك، (فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) [8]، أي: ركبك في أي صورة شاءها من الصور المختلفة.
(كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) [9]، أي: بل تكذبون يا أهل مكة بالدين، وهو الجزاء والحساب، (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ) [10]، وهم الرُّقَباء من الملائكة الذي يحفظون على العباد أعمالهم ويكتبونها في الصحف، (كِرَامًا كَاتِبِينَ) [11]، أي: كراماً على الله، ويكتبون أقوالكم وأعمالكم، (يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) [12]، وهذا تعجب من حالهم، أي: ما يعلمون ما يصدر منكم من خير وشر ويسجلونه في صحائف أعمالكم؛ لتجازوا به يوم القيامة.
ثم بين سبحانه حال الفريقين فقال: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ * وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ) [13-16]، فالأبرار هم عباد الله الصالحين في نعيم مقيم في الجنة، والفجار العصاة والكفار في نار جهنم يصلون نارها يوم الجزاء لا يفارقونها أبداً، ولا يغيبون عنها.
(وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ) [17-18]؟ كرره تعظيما لقدره، وتفخيما ً لشأنه، وتهويلاً لأمره، والمعنى: أي: أيّ شيئاً جعلك دارياً ما يوم الدين؟ (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) [19]، أي: يوم الدين هو اليوم الذي لا تملك نفس من النفوس لنفس أخرى شيئاً من النفع أو الضر، فالملك لله وحده، لا يملك غيره، كائناً مَن كان، ذلك اليوم شيئاً.
عباد الله: هذه بعض معاني سورة الانفطار، أسأل الله أن ينفعنا بها وبكتابه الكريم، وسنة خاتم المرسلين، وأن نكون ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، إنه سميع قريب مجيب الدعاء.
وصلُّوا وسلِّموا على خاتم رسل الله، نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.