البحث

عبارات مقترحة:

الباطن

هو اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (الباطنيَّةِ)؛ أي إنه...

المتكبر

كلمة (المتكبر) في اللغة اسم فاعل من الفعل (تكبَّرَ يتكبَّرُ) وهو...

المتعالي

كلمة المتعالي في اللغة اسم فاعل من الفعل (تعالى)، واسم الله...

كراهية الموت .. الفطري منها والمذموم

العربية

المؤلف هشام عبد القادر آل عقدة
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك - كتاب الجهاد
عناصر الخطبة
  1. كراهية الموت بين الفهم الفطري والمذموم .
  2. طريقة التعامل مع الأحاديث التي ظاهرها التعارض .
  3. كراهية الموت المذمومة التي حلت بالأمة .
  4. خصوصيات بالموت تبدد مخاوف الجبناء .
  5. الشجاعة والإقدام لا تقصر من الأعمار شيئًا .
  6. فرق بين الجرأة والشجاعة وبين التهور .
  7. حياة الأمة فيمن يقدم روحه فداءً لدين الله تعالى .
  8. بشارات على قرب اندحار الكفر وانتشار الإسلام .

اقتباس

وأنا لا أعني بهذا الكلام التهور، ولا أريد أن يتكلف أحد تعريض نفسه للقتل أو أن يطلب الفتنة، فإنه لا يسوغ للداعية أن يعرِّض نفسه وغيره من المسلمين للهلكة لغير مصلحة شرعية راجحة، وإنما أريد أن يلقي كل واحد منا عن نفسه شبح الموت ليثبت على دين الله ولا يخاف، ويمضي حاملاً لواء الدعوة، سائرًا في رفع كلمة الله، مستعدًّا أو متشوقًا لبذل دمه لله حين يقتضي الأمر، أو حين تتطلب المصلحة الشرعية ذلك ..

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70، 71].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها المسلمون: يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها"، فقال قائل: أَوَ من قلة نحن يومئذٍ؟! قال: "بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل. ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن"، فقال قائل: يا رسول الله: وما الوهن؟! قال: "حب الدنيا وكراهية الموت".

نتحدث اليوم بمشيئة الله تعالى عن هذه الآفة المهلكة، كراهية الموت. ولعل أحدكم يسأل: وهل كراهية الموت تتعارض مع الإيمان؟! وهل كراهية الموت أمر مذموم؟! أليس كل أحد مهما كان إيمانه يكره الموت؟! وربما دفعه وأيده وساعده على هذا التساؤل والتعجب ما جاء في الحديث الشريف الذي رواه الشيخان -البخاري ومسلم- في صحيحيهما عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه"، فقالت عائشة أو بعض أزواجه -رضي الله عنهن-: إنا لنكره الموت. قال: "ليس ذلك، ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله، وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حُضر بُشِّر بعذاب الله وعقوبته، فليس شيء أكره إليه مما أمامه، فكره لقاء الله، وكره الله لقاءه". وفي صحيح مسلم زيادة: "والموت قبل لقاء الله".

ففي هذا الحديث تصرح أم المؤمنين -رضي الله عنها- هذا التصريح عن نفسها وعن غيرها على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتقول: إنا لنكره الموت. ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يعترض على هذا ولا ينكره، فكيف الجمع بين هذا الحديث والحديث الأول الذي فيه التوبيخ والذم الصريح لمن يكرهون الموت، وذلك في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن"، فقال قائل: يا رسول الله: وما الوهن؟! قال: "حب الدنيا وكراهية الموت".

ومن المعلوم أن أهل العلم إذا عُرض عليهم حديثان ظاهرهما التعارض فإن الموقف منهما يتلخص في أربعة مراحل:

المرحلة الأولى: محاولة الجمع بين الحديثين، والحرص على العمل بهما جميعًا.

المرحلة الثانية: وذلك إن لم يمكن الجمع بينهما بوجه من الوجوه المناسبة أن يبحث عن تاريخ كل منهما ويُعمل بالمتأخر ويكون ناسخًا للمتقدم، وهذه المرحلة خاصة بالأحاديث الواردة في الأحكام الشرعية، فهي التي تقبل النسخ.

والمرحلة الثالثة: إن لم يعرف التاريخ، يبحث في الحديثين أيهما أرجح، فيعمل بالأرجح أو الأقوى ويترك الآخر.

المرحلة الرابعة: إن لم يمكن الترجيح بينهما فيتوقف عن العمل بهما جميعًا إلى أن يظهر ما يدل على رجحان أحدهما.

وهنا أمام هذين الحديثين إذا بدأنا بالمرحلة الأولى -وهي محاولة الجمع بين الحديثين- فإنا نجد ذلك سهلاً ميسورًا؛ وذلك أن الكراهية التي لا تذم، هي الكراهية الفطرية الراجعة إلى كره سكرات الموت وغصصه بقدرها المعقول الذي لا يؤدي إلى التشبث بالحياة على حساب الدين، أما الكراهية المذمومة فهي التي توجب ضعف القلب والوهن وقلة الإيمان واستحباب الدنيا على الآخرة كما في الحديث. حيث ذكر العلماء أنه -صلى الله عليه وسلم- فسّر الوهن بموجبه الذي هو حب الدنيا وكراهية الموت. ومن المعلوم أن كثيرًا من الأشياء إذا تعاطاها الإنسان بالقدر المعلوم الذي تطلبه الفطرة كان نافعًا لا يذم، وإذا تعاطاها بغلو وإسراف كان مذمومًا ضارًّا.

ومن ذلك كراهية الموت، فهي بالقدر الفطري لا تذم، بل قد تكون نافعة؛ لأنها تجعل الإنسان يستعد لما بعد الموت ويتقي الأخطار ويتعظ، وبالقدر الشاذ تكون ضارة مهلكة تنسي الإنسان كل شيء، ويضحي في سبيلها بكل شيء ولو كان دينه وعرضه، فرارًا من الموت، واستحبابًا للحياة الدنيا على الآخرة. ويظن أن كراهية الموت تسوِّغ للإنسان كل شيء، ولو كان ذلك خسارة الدين والتفريط في إعلاء كلمة الله.

والحقيقة التي علّمها لنا الشرع أن ليس كل ما جاز كرهه جاز تركه، بمعنى أن هناك أشياء تكون مكروهة للإنسان ويجيز له الشرع كراهتها، ومع ذلك يكون مأمورًا بفعلها ومأمورًا بجهاد نفسه التي تكره ذلك، والمثال الصريح الواضح لذلك القتال في سبيل الله -عز وجل- فهو مفروض على الأمة وإن كانت تكرهه، يقول الحق -تبارك وتعالى-: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) [البقرة: 216]، فهو سبحانه وتعالى أعلم بنا من أنفسنا، وهو يقول لنا: إنه كُرْهٌ لنا، ولكنه واجب مفروض؛ لحماية العقيدة ونصرة الدين ونشر كلمة التوحيد، ولإخضاع الخلق لحكم الحق تبارك وتعالى. والإنسان إذا جاز له كُرْهُ القتال لما في الفطرة من كره ألم الجراحات وسماع الصراخ ورؤية الدماء والقتلى، فإنه لا يجوز أن تبلغ هذه الكراهية الحد الذي يقعده عن القتال ويمنعه من المضي لإعلاء كلمة الله -جل وعلا-.

وأنا أسألكم الآن عن كراهية الموت التي حلّت بالأمة، هل هي كراهية الموت بالقدر الفطري النافع، الذي يدعو الإنسان لمحاسبة نفسه استعدادًا للموت وما وراءه؟! أم هي على العكس من ذلك؟! هذه الكراهية للموت التي تدعو أناسًا للعربدة والانغماس في متاع الدنيا، هل نقول: إنها كراهية فطرية ومشروعة؟! هذه الكراهية للموت التي تدعو أناسًا للتفريط في دينهم وللنكوص عن القيام بواجب الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد لإعلاء كلمة الله، هل تكون كراهية فطرية نافعة؟! هذه الكراهية للموت التي تحول الناس إلى جبناء عبيد للطاغوت، لا عزة لهم ولا قيمة ولا كرامة، هل هذه كراهية فطرية نافعة؟! وإني لأعلم أن هناك معوقات أقل خطرًا من الموت بكثير تصد الضعفاء والجبناء والممتنعين عن دينهم، ولكني تعمدت الكلام عن كراهية الموت خاصة حتى ينكسر أكبر حاجز يخيف الناس من حمل الحق والجهر به، والذي إذا انكسر هان كل حاجز دونه.

ومن تعدى هذا الحاجز تعدى غيره من العقبات، وحتى يعلم الجميع أنه حتى هذا الحاجز المخيف الذي يتصورونه أعظم خطر ليس بشيء، بل في الموت خصوصيات كان ينبغي أن يعلمها الجبناء حتى تتبدد مخاوفهم:

فمنها أنه مكتوب على كل أحد لا محالة ولا فرار منه:

من لم يمت بالسيف مات بغيره

(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران:185]، (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء:35]، (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) [الرحمن:26]، (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) [النساء: 78]، (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجمعة:8]، (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ) [آل عمران: 154]. فإذا كان الإنسان ميتًا إن هكذا وإن هكذا، فأيهما أكرم: أن يموت ذليلاً إلى جانب الجدران أم عزيزًا كريمًا شامخ الرأس؟!

ولو كان يمكن لأحد من الخلق اتقاء الموت والنجاة منه لكان أولاهم بذلك سيد ولد آدم أجمعين محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولكن قال له ربه تبارك وتعالى: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) [الزمر: 30، 31]، (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ) [الأنبياء:34]، (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) [آل عمران: 144].

وكان -صلوات ربي وسلامه عليه- عند موته يقول: "إني أوعك كما يوعك رجلان منكما"، ويضع يده في إناء به ماء فيمسح على جبينه ويقول: "لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات...". فكل من علم ذلك كان ينبغي أن تهون عليه مصيبة الموت وقد حلت بمن هو أفضل منه، بل بمن لا يقارن به، والذي لا يموت هو الله -عز وجل- خالق الخلق: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) [الفرقان: 58].

ثم إن الذي يقتل في سبيل الله لا يجد شيئًا يذكر من ألم الموت كما في الحديث الشريف: "لا يجد الشهيد ألم الموت إلا كما يجد أحدكم من ألم القرصة".

ثم أين يذهب من يموت؟! ومن أين يفر إلى أين؟! من الله وإلى الله، ما أشبه الميت بمن يتوارى عنا وراء ستار، أو يخرج من غرفة إلى غرفة، فإن الميت في دنياه وبعد موته في ملك الله، ويقطع سيره إلى الله، وإن غاب عنا في جزء من هذه المسيرة، فالموت من هذه الناحية لا يزعج إذا ما أعد الإنسان العدة لما بعده، ومن أدرك هذه الحقيقة لم يستطع أحد مهما كان بطشه أن يخيفه أو يهدده بشيء.

نعم، إذا كنتم مطيعين لربكم، متأهبين للقائه، فماذا يضيركم الموت؟! وماذا يخيفكم منه؟! وماذا يملك لكم طواغيت الأرض؟! هل يزيدون على أن يقتلوكم؟! (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ) [آل عمران: 157، 158]. نعم، أنتم في جميع الأحوال سائرون محشورون إلى الله، فالميت لا ينتهي بموته وينعدم، بل الموت نقطة انتقال في تاريخ الإنسان لا نقطة انتهاء، فلا تخشوا من نقطة الانتقال، لكن أحسنوا العدة لما بعدها، وما أجمل ذلك الحوار وما أبلغه حين قال عثمان -رضي الله عنه- لابن عمر لما خرج بعض الثوار المفتونين على عثمان وأرادوه أن يخلع نفسه من الخلافة، فقال عثمان لابن عمر -رضي الله عنهم-: انظر ما يقول هؤلاء. يقولون: اخلع نفسك أو نقتلك. فقال ابن عمر: أمخلد أنت في الدنيا؟! قال: لا. قال: هل يزيدون على أن يقتلوك؟! قال: لا. قال: هل يملكون لك جنة أو نارًا؟! قال: لا. قال: فلا تخلع قميص الله عنك فتكون سنة، كلما كره قوم خليفتهم خلعوه أو قتلوه.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فقد كان سلفنا أعزة أقوياء يوم كان شعارهم (احرص على الموت توهب لك الحياة)، نعم، (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً) [آل عمران: 145]، يوم كان القائد المسلم يقول لأعداء الله: (جئتكم برجال يحرصون على الموت كما تحرصون على الحياة). يوم كان شعارهم: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْن) -أي النصر أو الشهادة- (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) [التوبة: 52]، فلا الشجاعة والإقدام والجرأة تقصِّر شيئًا من الأعمار، ولا الجبن والخنوع والذل يطيل شيئًا في الأعمار، فذاك خالد بن الوليد الفارس المقدام الشجاع يموت على فراشه بعد حياة كلها معارك وقتال، ويقول حزينًا: وها أنا ذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء، فلا نامت أعين الجبناء.

وأنا لا أعني بهذا الكلام التهور، ولا أريد أن يتكلف أحد تعريض نفسه للقتل أو أن يطلب الفتنة، فإنه لا يسوغ للداعية أن يعرِّض نفسه وغيره من المسلمين للهلكة لغير مصلحة شرعية راجحة، وإنما أريد أن يلقي كل واحد منا عن نفسه شبح الموت ليثبت على دين الله ولا يخاف، ويمضي حاملاً لواء الدعوة، سائرًا في رفع كلمة الله، مستعدًّا أو متشوقًا لبذل دمه لله حين يقتضي الأمر، أو حين تتطلب المصلحة الشرعية ذلك.

فالأمة إنما تحيا بأولئك الرجال الذين يقدمون أرواحهم فداءً لدين الله -جل وعلا- الذين يتربون على الشجاعة والتضحية، الذين يتشوقون للشهادة في سبيل الله -عز وجل- وهؤلاء لن تخلو منهم الأمة إن شاء الله، وسيحيي الله بهم دينه ولو كره الكافرون. وستكون للإسلام كَرَّة وغلبة على الأرض إن شاء الله، وما ذلك على الله بعزيز.

وها نحن نرى البشائر، فارجعوا قليلاً إلى الوراء وتفكروا كم سنة مرت من القتل والحبس والتعذيب للدعاة والشباب المسلم، سنوات طويلة، ثم ماذا كانت النتيجة؟! كانت النتيجة مزيدًا من انتشار الصحوة الإسلامية، وإقبال الشباب المسلم على دين الله -جل وعلا-، لا أقول بالعشرات، بل بالألوف في كل مكان في العالم، حتى إنه ليبدو وكأن الطواغيت سيموتون غيظًا وحسرة وكمدًا قبل أن يموتوا بالسيف، يحاربون الصحوة الإسلامية ليل نهار، فإذا هي تزداد بريقًا وانتشارًا.

وتلك الدول الكافرة المتربصة ببلاد الإسلام المحاربة للدين الحق تفاجأ بالأعاجيب، فروسيا الشيوعية الملحدة بعد سنوات من القهر والاستعباد للمسلمين، وقد ظنت أنها قضت على كل صوت للإسلام في داخلها، فراحت تمد استعبادها وقهرها للخارج، ونزلت بقوتها على أفغانستان لضرب الإسلام هناك، ثم إذا بها تفاجأ بعد سنوات بغزو إسلامي يأتيها من داخلها، تظاهرات إسلامية تقوم في قلب روسيا، من كان يتصور أن ذلك سيحدث؟! ثم رجال من الروس يدخلون في الإسلام بعد التقائهم بالمجاهدين المسلمين في الحروب.

وتلك الهند التي انصب غضبها وكرهها على الإسلام، وتسعى لصده ودفعه بكل سبيل، تقوم فيها صحوة أخرى إسلامية في كشمير.

وهذه دول الغرب الكافرة -أوروبا وأمريكا- التي تصدر حرب الإسلام إلى الدول العميلة، تأتيها الصفعة من داخلها، فيدخل هناك في الإسلام في كل يوم أعداد متلاحقة.

ثم إذا بالكنائس تباع، نعم في أسبانيا يشتريها المسلمون ويحولونها إلى مساجد.

وهذه إسرائيل التي ظنت أنها كممت الأفواه وأخمدت كل صوت مسلم في فلسطين، ثم راحت تمد حربها للإسلام إلى الدول المجاورة لها، بل والبعيدة عنها، إذا بها بعد سنوات طويلة تفاجأ بما لم يكن في الحسبان، صحوة إسلامية من داخلها، نعم، عناصر إسلامية تحرك جمهرة الناس يحولون حياة اليهود إلى رعب وقلق وتوتر دائم.

ما هذا الذي يحدث في بقاع الأرض؟! ما هذا الذي يجري في كل مكان؟! إنه تصديق قول الحق -تبارك وتعالى-: (ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ) [الأنفال:18]، (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) [الأنفال:36].

إخوة الإسلام: أريدكم أن تتفاءلوا بذلك، ولكن حذار أن تتواكلوا؛ فإن البعض إذا سمعوا مثل هذه البشارات تراضت نفوسهم، ونفضوا أيديهم من العمل لأجل دين الله، وقالوا: إن الإسلام ماضٍ في طريقه ولله الحمد، ولنَفْرَغ نحن لأنفسنا والبحث عن لقمة العيش، وجزى الله المجاهدين خيرًا. وهذا عارٌ شنيع؛ فلو قال الجميع هذه المقالة لم يتحقق شيء من تلك البشارات، ولكن الصحيح أن هذه البشارات ينبغي أن تؤدي لنا دورًا نافعًا، فتكون دافعة لليأس عن نفوسنا، وحافزًا لنا على مزيد من العمل، ومعينًا على البصر والعطاء، فتعلم النفس أنه قد لاحت بعض الثمرات، وستتلوها الثمرات الكثيرة مع مزيد من الإيمان الصادق والبذل المتواصل، في إصرار وشجاعة، فقد آن الأوان أن تنتهي سياسة المشي إلى جانب الجدران.

فليعتز كل مسلم بإسلامه، وليدعُ إلى سبيل ربه ليل نهار، وليربِّ الناس على العقيدة القوية الدافعة للتضحية في سبيل الله، ولا يكل ولا يمل من مواصلة الطريق مهما طال.

وإني أعلم أن قومًا من الضعفاء يسرون في أنفسهم أنهم سيسيرون في ركاب الصحوة الإسلامية بعد انتصارها، ونقول لهؤلاء: بل من الآن، سيروا في ركاب الصحوة؛ فإنه (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا) [الحديد: 10]، ولا يجوز أن تروا الإسلام في حاجة إليكم ولا تتقدموا، تقدموا وابدؤوا بفهم الدين والتزامه عقيدة وسلوكًا، ثم دعوة وجهادًا، والله معكم ومعينكم ومؤيدكم (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [يوسف: 21].

اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أعمارنا أواخرها، وخير أيامنا يوم لقائك، واجعل عملنا خالصًا لك، واجعلنا ممن شرفتهم ببذل أنفسهم وأموالهم في سبيل إعزاز دينك ونصرة سنة رسولك محمد -صلى الله عليه وسلم-، اللهم توفنا على ملته، واحشرنا في زمرته وتحت لوائه، ولا تخزنا يوم لقائك (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) [الحاقة:18].

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.