القدوس
كلمة (قُدُّوس) في اللغة صيغة مبالغة من القداسة، ومعناها في...
العربية
المؤلف | عمر بن عبد الله المقبل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الحج |
ففي أعقاب مواسم العبادات وأسواق الآخرة، يفتش أهلُ الإيمان وأصحابُ القلوب الحية عن المكاسب التي حصّلوها، والأرباحِ التي جَنَوها من هذه المواسم وتلك الأسواق، تماماً بل أشد مما يفعله أهلُ الدنيا مع أسواقهم ومزارعهم، وإذا كان المزارع -أثناء موسم الزرع- يحاول القضاءَ على كل ما يؤثّر على زرعه من حشائش غريبة؛ ف...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله ...
أما بعد:
ففي أعقاب مواسم العبادات وأسواق الآخرة، يفتش أهلُ الإيمان وأصحابُ القلوب الحية عن المكاسب التي حصّلوها، والأرباحِ التي جَنَوها من هذه المواسم وتلك الأسواق، تماماً بل أشد مما يفعله أهلُ الدنيا مع أسواقهم ومزارعهم، وإذا كان المزارع -أثناء موسم الزرع- يحاول القضاءَ على كل ما يؤثّر على زرعه من حشائش غريبة؛ فكذا أصحابُ القلوب الحية، ينقّبون عن كل ما هو دخيل ومؤثّر على قبول أعمالهم، وثباتِ أثَرها في قلب الإنسان، ومِن ثَم على سلوكه وتصرفاته.
نعم! إنهم يحرصون على ذلك؛ لأن خسارة الدنيا قد تُعوّض مهما كان الغبنُ فيها، ولكن خسارةَ مكاسب أسواق الآخرة غبنُها عظيم، وكسرها كبير.
أيها المسلمون: هاهي صفحةٌ من الزمن تُطوى على أيام هي من خير أيام الدنيا عند الله، سواء للحجاج أو للمقيمين، فهل وقف أحدٌ مِنا وقفةَ صدق ومحاسبة عما أحدثته هذه الأيامُ مِن أَثَر عليه؟
واسمحوا لي أن أخص بالحديث وفدَ الله، وحجاجَ بيته الحرام، فأوجه لهم أسئلة محمّلة بالنصح والمودة، بعد أن أقول للجميع: تقبل الله منكم صالح العمل، وغفر الزلل.
أخي الحاج الكريم: أكاد أجزم أنه مرت بك أثناء حجك مشاعرُ فيّاضة، وأحاسيسُ عظيمة، مَنبَعُها فرحُك وسرورُك بطاعة ربك.
فخبّرني: أما زالتْ تلك المشاعرُ العجيبة -التي كانت تصاحبُك أثناءَ أداءِ المناسك- من مراقبةِ الله، والخوفِ من تأثّر النُّسك بأي معصية، أو محظور من محظورات الإحرام، أما زالت هذه المشاعر موجودة إلى الآن؟
أخبرني -حفظك الله- عن تلك المراقبة لله وغضِك لبصرك بمحض إرادتك، وأنت تطوفُ في البيت أو تتنقلُ في المشاعر المقدسة ومن أمامك نِسوة، وعن يمينك نِسوة، وعن شمالك نِسوة، فيمنعك شعورُك بمراقبة الله أن تُزاحِم، أو تُطلِق بصرَك إلى ما لا يحل.
أخبرني -أيها الحاج-: هل بقي معك هذا الشعورُ بعد ما رجعت إلى بلدك أو رفقتِك، فصرتَ تَصرِف بصرَك وتحمي سمعك عن الحرام إذا عرض لك؟
حدِّثني -رعاك ربي- عن تلك الرغبةِ العظيمةِ في التوبة والإقلاع عن المعاصي، وتلك الرغبةِ في عفو الله، وأنت تدعو وتبكي أو ترى مَن يبكي على صعيدِ عرفات، حينما كنتَ تشعر بتنـزل الرحمات!.
حدّثني عن حرارة تلك الدموع، وعن حرارة تلك الرغبة في قلبك، أهي هي إلى الآن؟! أم أن لهيبَها قد انطفأ؟
وماذا عن تلك الأحاسيس الإيمانية التي كانت تختلجُ في صدرِك وأنت ترى الناسَ في تلك المشاعر على اختلاف ألوانهم، وتَبايُن بلدانهم، وتَعدُّد لغاتهم يدعون رباً واحداً لا تشتبه عليه لغةٌ، ولا يختلف عليه لسانٌ، ولا يُعجزه أن يجيب كلَّ واحدٍ بما سأل؟
أخبرني عن هذه الأحاسيس الإيمانية، أين أثرُها عليك في تعظيمِ ربك، وتَذكِّر قدرتِه على الخلق، وافتقارِ المخلوقات كلها إليه، واضطرارهم له، أين أثرُ ذلك عليك في كثرة الدعاء والإلحاح، والتعلق بذي الجلال والإكرام؟
بل حدّثني -رعاك الله- عن ذلك الحرص الشديد على سلامةِ حجِّك، يوم كنتَ تسأل عن قطعةٍ من الظُّفْر انكسرت فخشيتَ بسببها من الإثم والدم! ويوم كنتَ تستفتي عن شعراتٍ سقطت من رأسك؛ لأنك حككتَه فسقطت من غير عمد! ولعلك تتذكر أسئلةً كثيرةً عن أمورٍ دقيقةٍ كنتَ تسأل عنها خشيةَ أن يتأثر نُسُكُك، وما أحسنَه مِن حرص! وما أجملها مِن رغبة في سلامة النسك من كل ما يؤثِّر عليه!.
ولكن: هل بقي هذا الحرص معك إلى الآن؟ فصرتَ تسأل عن كلِّ معاملةٍ جديدة تدخل فيها خشيةَ أن يتلطخ مَكسبُك بشيءٍ فيه شبهةٌ -فضلاً عن الكسب الذي لا شبهة في تحريمه-؟ وهل هذا الحرص والخوف من تأثُّر حجِّك أو عمرتك امتد؛ لتسأل عن أحكام صلاتك التي تتكرر عليك في اليوم والليلة خمس مرات؟ وهل استمر هذا الورعُ معك -والذي يبدو من خلال أسئلتِك- هل استمر ليَظهر أثرُه في بُعدك عن الحرام البيِّن الذي لا لَبْس فيه؟
إنها أسئلة مُلحِّة -أخي الحاج- تحتاج منك إلى وقفةٍ صادقة، ومحاسبةٍ جادّة ليَظهر أثرُ حجِّك عليك، واستمع -حفظك ربي من كل مكروه- إلى كلمةِ شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- حيث يقول: "إذا لم تجد للعمل حلاوةً في قلبك وانشراحاً فاتهمه؛ فإن الرب -تعالى- شكور، لا بد أن يُثيبَ العاملَ على عَمَله في الدنيا؛ مِن حلاوةٍ يجدها في قلبه، وقوةٍ وانشراحٍ وقرةِ عين، فحيثُ لم يَجد ذلك فعمَلُه مدخول" [نقله عنه ابن القيم في "المدارج" في منزلة المراقبة، ينظر: "تهذيب مدارج السالكين" للعزي 1/ 498، وينظر كلام ابن القيم في المدارج 1/360 فهو مهم].
أيها الإخوة: إن مَن ربّى نفسَه على المحاسبة، وتفقَّد أثر العبادة عليه؛ فسيترقّى في مدارج (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة: 5].
ومن ترك ذلك فسيندم ولا بد!.
ولعل تربيةَ النفس على محاسبتها على الصلاة وأثرها على القلب؛ مِن أعظمِ الدوَرات اليومية التي تُربّي القلبَ على تفقُّد الأثَر!.
مَن تأمل هذه الصلاةَ وجد الله، يقول عنها: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) [العنكبوت: 45].
فيتساءل العبدُ: ما الذي غيّرتْه فينا؟ لماذا يصلي بعضُنا ولا زال على بعض زللِه وذنوبِه مِن سنوات؟ هل تغيّر عددُ ركعات الصلوات عما كان عليه في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-؟
كلا! هل تغير وقتها؟
كلا! لكن الذي تغيّر هو القلوبُ، الذي تغيّر هو الحفاوةُ بها، والشوقُ إليها، والذي تغيّر هو أننا -إلا من رحم الله- يؤدّي الصلاةَ وهو يشعر بأنه إنما يؤديها لإبراء الذمة فحسب، حتى لا يُكتب في صحيفة أعماله أنه لم يصل ذلك الوقت، ولذا فإن مَن يأتيها بمثل هذه الحال قلّ أن يجد للصلاة لذةً أو طعماً، فضلاً عن أن يكون لها أثرٌ واضحٌ في حياته!.
إنه لفرقٌ كبيرٌ بين صلاةٍ يُراد منها إسقاطُ الفرض، وبين صلاةٍ يحصل بها رضى الربِّ، ودواءُ القلب، وانشراحُ الصدر!.
فرقٌ عظيمٌ بين من يقول: أرحنا بالصلاة بها، وبين من يقول: أرحنا منها!.
فرقٌ كبير بين من يرد الصلاة ورود العطشان على الماء، وبين يردها ورود الريان!.
وفرقٌ كبيرٌ بين مَن يَشعر بحاجته إلى الصلاة، وشوقِه وغبطتِه وسرورِه بالوقوف بين يدي الله تعالى، والأنسِ بمناجاته؛ وبين مَن يُصليها وهو فاقدٌ لهذه المشاعر!.
والمقصود من هذا كلّه: أن نجعل مراجعةَ حالِنا مع الصلاة دورةً تدريبية للمحاسبة وتفقّدِ أثرِها علينا، فمَن نحج في محاسبةِ نفسه فيها؛ نجح في محاسبة نفسِه، وتفقُّد أثرِ الزكاة، والصيام، والحج عليها.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة...
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي لا يَظلم مثقالَ ذرة وإن تكُ حسنةً يُضاعفْها، ويؤتِ من لدنه أجراً عظيماً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيقول ابن القيم -رحمه الله- : "وقد جعل اللهُ -سبحانه- للحسنات والطاعات آثاراً محبوبةً لذيذةً طيبة، لذتُها فوقَ لذةِ المعصيةِ بأضعافٍ مضاعفة، ولا نِسبةَ لها إليها، وجعلَ للسيئات آلاماً وآثاراً مكروهة، وحزازاتٍ تُرْبي على لذةِ تناوُلِها بأضعافٍ مضاعفة، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "إن للحسنةِ نوراً في القلب، وضياءً في الوجه، وقوةً في البدَن، وزيادةً في الرزق، ومحبةً في قلوب الخلق، وإن للسيئةِ سواداً في الوجه، وظلمةً في القلب، ووَهَناً في البدَن، ونقصاً في الرزق، وبُغضةً في قلوب الخلق" ا.هـ. كلامه رضي الله عنه.
علق ابنُ القيم على هذه الآثار والثمرات الخمس للحسنة والسيئة، فقال: "وهذا يعرفه صاحبُ البصيرة، ويَشهدُه مِن نفسه ومِن غيره، وآثارُ الحسنات والسيئات في القلوب والأبدان والأموال أمرٌ مشهودٌ في العالم، لا يُنكره ذو عقلٍ سليم، بل يعرفه المؤمنُ والكافرُ، والبَرُ والفاجرُ" [تهذيب مدارج السالكين 1/359-361 باختصار وتصرف].
فلنحرص -أيها الموفَّقون- على تلمُّس آثارِ العبادةِ على قلوبنا وأعمالنا، ومدى انتفاعِنا بها، فإن وجدنا هذه الآثارَ فلنحمد الله، وإلا فلنبحث عنها، قبل أن نلقى اللهَ على هذه الحال المقصِّرة، وليعلم كلُّ مَن لم يجد الأثرَ من عبادته أنه مصابٌ بخلل في عمَله، وأن في قلبه علةً منعته من الانتفاع الحقيقي بهذه العبادة العظيمة.
ألا وإن مِن التناقض الذي لا يرضاه عاقل: أن يَحرص الشخصُ على زوال الصداع إذا أصابه -لأنه يؤثّر على أكله وعمله- ويتركَ قلبَه المريضَ بمرضِ الشبهات أو الشهوات التي تؤثِّر على انتفاعه بعبادته من غير علاج!.
فإياك -أيها اللبيبُ العاقل- إياك أن يكون أهلُ الدنيا أكثرَ حرصاً منك على التفتيش عن أسباب خسائرهم! فخسارةُ الدنيا هيِّنة، أما خسارة الآخرة، فإن الله يقول عنها: (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِين) [الزمر: 15].
اللهم ارزقنا التلذُّذَ والانتفاعَ بعبادتك، والأنسَ بمناجاتك، والشوقَ إلى لقائك، في غير ضراءَ مضرَّة، ولا فتنةٍ مُضلَّة.
اللهم لا تحرمنا بركةَ ما تُوفِّقنا له من الطاعات بسبب ما نجترحه من السيئات، واجعل نورَ طاعتك مطفئاً لنارِ معصيتك.