المقدم
كلمة (المقدِّم) في اللغة اسم فاعل من التقديم، وهو جعل الشيء...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
العقل لا يستقل بمعرفة كل حسن وقبيح ، ولا كل نافع وضار؛ ولذا أنزل الله تعالى الشرائع لتكمل ما في العقل من نقص وتسد ما فيه من عجز عن إدراك ذلك ؛ فكانت الشريعة نعمة أخرى يهتدي بها العباد لتحصيل مصالحهم العاجل منها والآجل0
الحمد لله رب العالمين ؛ له الحكمة العظيمة فيما شرع ، وله الحجة البالغة فيما حكم ، ولو شاء سبحانه لهدى العباد أجمعين (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [يونس: من الآية99]، أحمده حمدا كثيرا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ويرضي ؛ فقد هدانا صراطه المستقيم ، ومنَّ علينا بهذا الدين العظيم ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ؛ خلق عباده حنفاء مؤمنين ، فاجتالتهم الشياطين عن الدين القويم إلى سبل الكافرين والمنافقين ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ؛ لا خير إلا دلنا عليه ، ولا شر إلا حذرنا منه ، تركنا على بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ؛ استيقظ عليه الصلاة والسلام ليلة فزعا وهو يقول: " سبحان الله ، ماذا أنزل الله من الخزائن ؟ وماذا أنزل من الفتن؟ من يوقظ صواحب الحجرات؟ - يريد أزواجه لكي يصلين - رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة " صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد :
فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله عز وجل ؛ فاتقوه حق التقوى ؛ فإن الفتن تترى ، ولا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه ، ولا نجاة إلا من نجاه الله تعالى ، والنجاة يدركها العبد بالإيمان والتقوى.
أيها الناس: من عظيم نعم الله تعالى على عباده أن كرمهم على سائر الحيوان بالعقول ، وفتح لهم بعقولهم كثيرا من مغاليق العلوم (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل:78]. والعقل مأخوذ من عقال الإبل؛ ذلك أنه يمنع صاحبه مما لا يحسن به ، قال عامر بن عبد قيس رحمه الله تعالى : إذا عقلك عقلك عما لا ينبغي فأنت عاقل.
والعقل حجر يحجر العاقل عن كثير من الأقوال والأفعال التي تكون سببا في هلاكه ، ومن هذا المعنى قول الله تعالى (هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) [الفجر:5] أي: لذي لب وعقل ، قال ابن كثير رحمه الله تعالى :وإنما سمي العقل حجرا لأنه يمنع الإنسان من تعاطي ما لا يليق به من الأفعال والأقوال.
فالعقل إذا قيد يقيد صاحبه ، يهتدي في هذا التقييد بشرع منزل أو بعرف ساد في الناس ، ومن رفض هذا القيد فهو يريد إلغاء العقل لصالح الشهوة بحيث لا يكون ثمة فرق بين الإنسان والحيوان إلا النطق بكلام مفهوم.
والعقل لا يستقل بمعرفة كل حسن وقبيح ، ولا كل نافع وضار؛ ولذا أنزل الله تعالى الشرائع لتكمل ما في العقل من نقص وتسد ما فيه من عجز عن إدراك ذلك ؛ فكانت الشريعة نعمة أخرى يهتدي بها العباد لتحصيل مصالحهم العاجل منها والآجل.
إن الله تعالى هو خالق البشر ، وهو سبحانه واهب العقول ، ومنزل الشرائع ، فمصدر العقل والشريعة واحد فلا تعارض بينهما ، وإذا وقع التعارض عند بعض الناس فهو لخلل في عقولهم وطرائق تفكيرهم ، أو في ما نسب إلى الشريعة وليس منها ، وشرع الله تعالى هو الحاكم ، والعقل تبع لذلك ، ولا يقضى بالعقل على الشرع ؛ لقصور العقل عن إدراك كل شيء ، ولشمول الشريعة كل شيء (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) [الأعراف: من الآية145] هذا في شريعة موسى عليه السلام ، ودين الأنبياء واحد كامل من رب العالمين ، شامل لكل ما يحتاجه الناس من أول الزمان إلى آخره ، وفي خصوص القرآن قول الله تعالى (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ) [النحل: من الآية89].
ومن عارض ذلك فهو مصادم للعقل والفطرة ، متبع لهواه ، مستنكف عن عبادة مولاه ، وقد سمى الله تعالى الهوى إلها يعبد من دونه (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) [الفرقان:43] وفي الآية الأخرى (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [الجاثـية:23] ومن صور اتخاذ الهوى إلها من دون الله تعالى :
معارضة الشريعة المنزلة من حكيم حميد بأفكار البشر ونظرياتهم وتخبطاتهم ، وتقديم أقوالهم على أقوال الله تعالى وأقوال رسوله صلى الله عليه وسلم ، وقد استشرى ذلك في البشر في كثير من المجالات بعد انتشار موجات الإلحاد وإنكار الغيب في دول الغرب ، ولم تسلم من شره دول أهل الإسلام ، ولا سيما فيما يتعلق بشؤون الأسرة والمرأة ؛ فقد أجلب المنافقون والشهوانيون في ديار المسلمين بخيلهم ورجلهم على أحكام الله تعالى في شأن المرأة يريدون تغييرها ، ويرفعون عقيرتهم بتبديلها، مدعين أنهم يحطمون الأغلال التي غلتها ، ويرفعون وصاية الرجل عنها ؛ لينقلوها لو استطاعوا من عبادة الله تعالى إلى عبادة المبادئ الغربية الإلحادية.
إن هذه القضية بين الرجل والمرأة قد كثر القول فيها ، وسودت فيها ألوف الكتب والمقالات ، وأفردتها بالبحث والنقاش مئات الصحف والمجلات ، وتناظر فيها المتناظرون ، واختصم من أجلها المختصمون ، وعقدت لبحثها المؤتمرات ، وشكلت لها عشرات اللجان والجمعيات ، والبشر من الشرق إلى الغرب منذ مئة عام وزيادة وهم يدوكون فيها، ويناقشون تفاصيلها ، وتالله لهي أيسر من هذا كله لولا الضلال والهوى ، والتقليد على غير هدى.
إن القضية بكل يسر واختصار تتلخص في أن الله تعالى خلق الذكر ، ومن الذكر خلق الأنثى ، وجعلهما سبحانه جنسين مختلفين في التركيب البدني والعقلي والنفسي (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى) [النجم:45-46] (أَيَحْسَبُ الأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى) [القيامة:36-39] فبين سبحانه اختلاف كل جنس منهما عن الآخر ، فسمى أحدهما ذكرا ، وسمى الآخر أنثى ، ولو كانا واحدا لما سماهما زوجين ، ولما أفرد كل واحد منهما بوصف يختص به ، وأخبر سبحانه أن كل جنس منهما يكمل الجنس الآخر ، وهو محتاج إليه ، ولا تكتمل سعادته إلا به (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ ) [البقرة: من الآية187] (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) [الأعراف: من الآية189] (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ) [الروم: من الآية21]
ولو كانا متماثلين لما احتاج أحدهما إلى الآخر ، ولجاز أن يستقل بنفسه عن زوجه ، بل إن من دلائل توحيد الله تعالى أن كل شيء خلقه الله تعالى فهو محتاج إلى زوجه (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الذريات:49] فلا أحدا صمدا يحتاج الخلق إليه وهو غني عنهم إلا الله تعالى.
ولا أدل على هذا التفريق بين الذكر والأنثى من النص على ذلك صراحة في القرآن العظيم ؛ إذ حكى الله تعالى عن امرأة عمران أنها قالت (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى) [آل عمران: من الآية36] وأقرها الله تعالى على مقولتها تلك ، ولم ينكرها منها ، أو يعقب عليها.
وجاءت شرائع الله تعالى في كتابه العزيز ، وعلى لسان رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ، موافقة لهذه الحقيقة التي دل عليها الوحي والعقل والفطرة والحس ؛ فثمة أحكام يشترك فيها الجنسان وهي أغلب شرائع الإسلام ، وأحكام يختص بها جنس دون الآخر ، كاختصاص الرجال بالجهاد والجمع والجماعات ، واختصاص النساء بالرضاعة والحضانة ، ولم يسو الله تعالى بينهما في الميراث والنفقة ولا في الولاية والقوامة (فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) [النساء: من الآية176] و (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ) [النساء: من الآية34] (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) [البقرة: من الآية228] والرجل ينفق على المرأة أمًا كانت أم زوجة أم بنتا، ولو كان أفقر الناس وهي أغناهم.
ولغات البشر على اختلاف بلدانهم وأديانهم وأجناسهم منذ القدم قد ميزت الذكر عن الأنثى ، وخصت كل جنس منهما بخصائص في التسمية والخطاب والضمير والنداء ، وعلى هذه الفطرة السوية في التمييز بين هذين الجنسن المختلفين عاش البشر قرونا تباعا إلى أن جاء ملاحدة هذا العصر ببدعة المساواة بين الجنسين ، والقضاء على كل أشكال التمييز بينهما مهما كان مصدره ، ولو كان قرآنا منزلا من عند الخالق سبحانه وتعالى ، أو كان حكما ممن لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم ، ويريدون فرض هذا الضلال على كل البشر بالبطش و القوة ، وأعانهم بعض المتعاونين على الإثم والعدوان من المنافقين والشهوانيين بتسويق هذا الفساد والإلحاد في أوساط المسلمين ، والدعاية الفجة له ، ومخادعة المغرورين به ، وإرهابِ كل من يعارضه أو ينتقده أو يناقشه ، وتهديدِه بقوة الأعداء.
إن الذين ينادون بالمساواة بين جنس النساء وجنس الرجال من أولاد المسلمين ، والقضاء على كل أشكال التمييز بينهما ولو كان ولو كان مصدر هذا التمييز شريعة الله تعالى يلزمهم أن يلحدوا ، وينكروا أن الله تعالى خالق الذكر والأنثى ، على غرار ما يدين به ملاحدة الغرب الذين ابتدعوا نظرية المساواة بين الجنسين ؛ إذ هم ينكرون الخالق جل وعلا ، ويجعلون الحياة مادة أوجدتها الصدفة ، أو أفرزتها الطبيعة.
فإن كان المسوقون لهذه البدعة النكراء بين المسلمين يؤمنون بأن الله تعالى خالق الذكر والأنثى ، فليخضعوا إذا لشريعته ، وليرضوا بحكمه ، وليقبلوا تمييزه بين خلقه ، إذ إن من المتقرر عند العقلاء أن الصانع أدرى بصنعته من غيره ، فالخالق كذلك أعلم بخلقه منهم (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [النحل:17] (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك:14] فإن أبو إلا علوا واستكبارا ، وأصروا على خطئهم وضلالهم ؛ فليخلقوا خلقا آخر غير خلق الله تعالى ، وليعبثوا فيه ما شاءوا ، وليجعلوه جنسين متماثلين لا تمايز بينهما ، أما وإنهم لا يستطيعون ذلك ، فليدعوا الخلق للخالق سبحانه يحكم فيه بما شاء ، ويميز بينه كيف يشاء فيجعل للذكر ما له وللأنثى ما لها ، فلا راد لأمره ، ولا معقب لحكمه جل في علاه، وليتركوا للمسلمين دينهم الذي ارتضاه الله تعالى لهم ، وما لهم ولأناس قد ارتضوا شريعة الله تعالى فلا يبغون عنها بديلا ، وليبحثوا لهم عن بلاد أخرى غير بلاد المسلمين ليسوقوا إلحادهم فيها ؛ كفى الله تعالى العباد والبلاد شرهم، ورد كيدهم إلى نحورهم ، وأذاقهم ذل الدنيا قبل خزي الآخرة ، إنه سميع مجيب.
آمنا بالله تعالى وحده ، ورضينا به ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا ، وبشريعته منهجا وإماما ، وليقل من شاء ما شاء ، ونسأل الله تعالى الثبات على ديننا إلى الممات ، وأن نلقاه غير مغيرين ولا مبدلين ، آمين يا رب العالمين (مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً) [نوح:14].
(خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [الزمر:6-7].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية :
الحمد لله ؛ قضى بالحق ، وحكم بالعدل (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [الأعراف: من الآية54] أحمده وأشكره وأتوب إليه وأستغفره وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) [الأنعام:102] .
وأشد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد :
فاتقوا الله - عباد الله – (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [البقرة: من الآية223].
أيها المسلمون : شأن المرأة في الإسلام كبير، وقد أكرمها الله عز وجل بما كلفها به من أحكام، وأوجب عليها من حقوق وواجبات تجاه زوجها وأسرتها وأمتها ، وحفظ لها حقها ، وصان لها كرامتها وعفتها بما لم يكن لها قبل الإسلام ، ولكن مرضى القلوب يأبون إلا إهانتها بمزاحمتها للرجال ، والصدام معهم صداما تخسر فيه نفسها ودينها وبيتها وزوجها وولدها ، ويخسرها المجتمع كأم حانية ، وزوج فاضلة ، وبنت غافلة محصنة.
لقد كان المنافقون ومرضى القلوب من دعاة تحرير المرأة يراهنون على نجاح المرأة إن تمسكت بحجابها وعفافها ، ويزعمون أن دينها وأخلاقها أغلال قد غلتها عن الرقي والتقدم ، ويجعلون مثلها الأعلى في ذلك عرايا بني الأصفر اللآئي ابتذلن أعظم ابتذال ثم ألقين على قارعة الطريق كما يلقى المتاع القديم ؛ لتواجه الواحدة منهن صخب الحياة ومشكلاتها لوحدها ، فلا أب يحنو عليها ، ولا زوج يرعاها ويصونها ، ولا ولد يرحم شيبتها إن بلغت من الكبر عتيا.
فلما خسر رهان هؤلاء المنافقين والشهوانيين بقدرة المرأة على الجمع بين دينها وحجابها وبين دراستها وعملها ، وأبدعت في ذلك أيما إبداع ، وحازت شهادات عليا ، وأثبتت عمليا أن المرأة تستطيع أن تجمع بين واجبات دينها ومتطلبات دراستها وعملها ، إذا تم فصلها كليا عن مجالات الرجال وأعمالهم ومدارسهم ، وكانت هذه البلاد المباركة أنموذجا يحتذى في ذلك ولا سيما في تعليم البنات , فلما نجحت في ذلك ، وأغاضت المنافقين والشهوانيين راح الأبالسة منهم يضيقون مجالات عمل المرأة المنفصل عن الرجال ، ويوسعون مجالات الاختلاط ، ولا يقبلون من النساء إلا من كانت على شاكلتهم ، ومن تمسكت بحجابها رغم ما يفعلون تتم مضايقتها والتسلط عليها لتترك عملها ؛ لأن منظرها يزعجهم ، ويجعل أخريات يقتدين بها.
يفعلون ذلك وهم يصيحون بأعلى أصواتهم مطالبين بمجالات أكثر لعمل المرأة ، ولقد بان للناس ماذا يريدون ، وعرف ماذا يقصدون؟!
إنهم يريدون مجالات أوسع للاختلاط والخلوة ، ونشر السوء والرذيلة ، والقضاء على العفاف والفضيلة ، وإزاحة القيود الدينية والأخلاقية التي تقيدهم في ذلك ، وتعيقهم عن تنفيذ مشاريعهم التخريبية في المجتمع التي يسمونها زورا وبهتانا بالمشاريع التقدمية ، وحجتهم التي ملَّ الناس تكرارها :أن العالم سبقنا ولا زلنا نتأخر ، ولا تقدم في مفهومهم إلا بالفساد والإفساد ، ولقد حرموا نساء كثيرات من العمل لأنهن لم يجدن إلا مجالات ملوثة بالاختلاط والسفور.
وفي الوقت الذي ثبت فيه للعالم بشرقه وغربه ما خلفه اختلاط الرجال بالنساء من مشكلات لا علاج لها إلا بالفصل بين الجنسين لا يزال كثير ممن هم في غيهم يعمهون يصرون على المكابرة والإفساد ؛ ففي أمريكا التي يحتذونها في التقدم والقوة والصناعة صرح رئيسها بوش بلزوم فصل الطلاب عن الطالبات في الدراسة بعد أن أثبتت الدراسات التربوية أن اختلاط الجنسين أدى إلى ضعف التحصيل في الدراسة.
وفي دول الاتحاد الأوربي صدرت دراسات ميدانية وأبحاث جادة تثبت أن أعظم وبال منيت به الحضارة المعاصرة هو اختلاط الرجال بالنساء.
وفي الشرق الوثني عملوا على الفصل بين الرجال والنساء في الحافلات والقطارات بسبب كثرة شكاية النساء من تحرش الرجال بهن.
كل هذا - وغيره كثير - يثبت ما تنعم به بلادنا- ولله الحمد - من خير عظيم بالفصل بين الجنسين في الدراسة والعمل ، ولكن فئاما من بني قومنا من المنافقين والشهوانيين لا يزالون على ما هم عليه من أفكار قديمة متخلفة تلقوها قبل خمسين سنة ، فاستقرت في عقولهم ، وتغير العالم ولم تتغير عقولهم بعد ، بل شابوا على ضلالهم وسفاهتهم ، ولا حيلة في سفه الشيخ ؛ إذ لا حلم بعده.
وحين تعقد المؤتمرات والمنتديات الفكرية التي تعنى بشأن المرأة لا يرشحون لها من يمثل نساء المجتمع من النساء المتعلمات المهذبات ، وإنما يعمدون إلى عجائز ليبراليات أضعن أعمارهن في الأفكار الضائعة ، وشربن من المستنقعات الآسنة حتى ثملن ، ولا يعرفن عن مجتمعات المسلمين إلا أقل القليل، فيطالبن بما يعارض شرع الله تعالى ، ويرفضه الكثرة الكاثرة من نساء ورجال المجتمع المسلم ، في الوقت الذي تشتكي فيه هذه الفصيلة من المخلوقات من تأخر ثقافة الحوار ، وعدم قبول الآخر ، وهم وهن لا يحاورون إلا أنفسهم .
ولا يقبلون إلا من كان على شاكلتهم ، فأي حوار يدعون إليه ؟! وأي آخر يقبلونه ؟!
إنهم فئة قليلة في الناس لا تمثل إلا نفسها ومع ذلك يريدون خرق سفينة المجتمع ، وإغراقه في لجج من الرذائل والشهوات المحرمة لا عافية منها ، وما البلاد الإسلامية التي سبقت إلى إفساد المرأة وتحريرها من قيود الدين والأخلاق إلا أمثلة شاهدة على ما يريد هؤلاء المفسدون والشهوانيون أن يوصلوا مجتمعنا ونساءنا إليه، وواجب على كل مسلم أن يجاهدهم بما يستطيع من فضح مخططاتهم ، وكشف عوراتهم ، وتحذير المسلمين من خطر أفكارهم وطروحاتهم ، مع تحصين نساء المسلمين وفتياتهم من أفكارهم الضالة التي يزورونها بزخرف القول ، ويروجونها بشعارات براقة تنطلي على كثير ممن لا يعرف حقيقتهم ، وحقيقة ما يدعون إليه من فساد وانحلال ، ولا أجد وصفا أدق فيهم من أنهم : دعاة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوها فيها ، أسأل الله تعالى أن يكفي المسلمين شرورهم ، وأن يحبط كيدهم ، وأن يريهم ما يسوؤهم من تمسك المسلمين رجالا ونساء، وفتيات وفتيانا بتعاليم دينهم ، إنه سميع مجيب ، والحمد لله رب العالمين ،
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.