البحث

عبارات مقترحة:

الكبير

كلمة (كبير) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل، وهي من الكِبَر الذي...

الرفيق

كلمة (الرفيق) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) من الرفق، وهو...

المتكبر

كلمة (المتكبر) في اللغة اسم فاعل من الفعل (تكبَّرَ يتكبَّرُ) وهو...

رمضان الأخير

العربية

المؤلف راغب السرجاني
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك - الصيام
عناصر الخطبة
  1. التغييرات الكونية الهائلة المصاحبة لشهر رمضان الفضيل .
  2. طول الأمل ودوره في تفلت الشهر الفضيل .
  3. تذكر الموت وترقُّبُه دافع قوي للعمل .
  4. استصحاب ذكر الموت لإحسان التعبُّد في رمضان .
  5. الوقت مسؤولية يُجْتَنَبُ تضييعه في المحرمات .

اقتباس

إن هذه التغييرات الهائلة في الكون مفادها أن الله -عز وجل- يحتفل احتفالا خاصاً مهيبا عظيماً جليلاً بقدوم هذه الفترة الزمنية المحدودة المعروفة لنا، شهر واحد في السنة أعد الله -عز وجل- فيه من الاحتفالات والابتهاجات في الكون بكامله ما يعجز البيان عن وصفه، ذكر لنا حبيبنا -صلى الله عليه وسلم- أن احد علامات هذا الابتهاج هو أن تفتح أبواب الجنة، والجنة خلق عظيم خلقها الله -عز وجل-، وغرَس بيده -سبحانه وتعالى- فيها كرامة المؤمنين ..

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الفاتحة:2]. (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام:1]. (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا) [الكهف:1-3]. (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) [سبأ:1]. (الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [فاطر:1].

"الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه"، "الحمد لله ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد".

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى) [الأعلى:2-5].

وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، وصَفيه من خلقه وحبيبه، بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في سبيل الله حق الجهاد حتى أتاه الله اليقين، اللهم أجزه خير ما جزيت به نبيا عن قومه، ورسولا عن أمته، واسقنا من يده الشريفة شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبدا يا رب العالمين، آمين، آمين. وصلِّ اللهم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

ثم أما بعد: بعد عدة أيام تحدث تغييرات هائلة في الكون، يحدثها رب العزة تبارك وتعالى، أنبأنا بها حبيبنا ونبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- فقد روى النسائي وأحمد، عن أبي هريرة -رضي الله عنه وأرضاه-، أنه لما جاء شهر رمضان قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قد جاءكم شهر عظيم مبارك، تُفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتُغَلُّ فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، مَن حُرِمَ خيرَها فقد حُرِم".

إن هذه التغييرات الهائلة في الكون مفادها أن الله -عز وجل- يحتفل احتفالا خاصاً مهيبا عظيماً جليلاً بقدوم هذه الفترة الزمنية المحدودة المعروفة لنا، شهر واحد في السنة أعد الله -عز وجل- فيه من الاحتفالات والابتهاجات في الكون بكامله ما يعجز البيان عن وصفه، ذكر لنا حبيبنا -صلى الله عليه وسلم- أن احد علامات هذا الابتهاج هو أن تفتح أبواب الجنة، والجنة خلق عظيم خلقها الله -عز وجل-، وغرَس بيده -سبحانه وتعالى- فيها كرامة المؤمنين.

جهَّزها وعظَّمها ونوَّرها من الآن، بل قبل الآن خلقت في وقت لا نعلمه، لكنها موجودة في زماننا الآن بهيئة عظيمة تَسَع -كما قال ربنا عز وجل في كتابه الكريم- السماوات والأرض، (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ...) [آل عمران:133]، جنة فيها مائة درجة أعدت للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجة والدرجة ما بين السماء والأرض.

هذا الخلق الهائل، وهذه المساحات الشاسعة لها سُورٌ، ولها ثمانية أبواب كما وصف حبيبنا -صلى الله عليه وسلم- في أحاديثه الشريفة، في هذا الشهر العظيم تفتح الأبواب جميعاً من أول لياليه إلى آخر أيامه، تفتح ولا تغلق أبداً، ومفهومٌ من الحديث أنها في عامة السنة تفتح أحيانا وتغلق أحيانا أخرى، لكن لكرامة هذا الشهر الكريم تفتح هذه الأبواب الهائلة، الأبواب الواسعة، اتساعا لا يخطر لنا على ذهن، ولا يمكن أن يتخيله بال.

وصف حبيبنا -صلى الله عليه وسلم- كما جاء في حديث عتبة -رضي الله عنه-: "إنّ ما بين مصراعين من الجنّة لَمَسيرة أربعين سنة"، بين مصراع ومصراع آخر للباب الواحد يسير الراكب ما بينهما أربعين سنة يأتي يوم القيامة وهو كظيظ من الزحام، كما وصف حبيبنا -صلى الله عليه وسلم-، نسأل الله -عز وجل- أن نكون جميعاً الداخلين من هذه الأبواب. هذه الأبواب جميعاً تفتح في هذا الشهر الكريم، احتفالا وابتهاجا وتعظيما وتكريما لهذه الفترة الزمنية المحدودة.

دخل حبيبنا -صلى الله عليه وسلم- الجنة في معراجه يوم عرج به إلى السماوات العلى، دخلها بجسده وروحه -صلى الله عليه وسلم-، فوصف وقال: "فإذا حصباؤها اللؤلؤ، وترابها المسك"، إنها جنة موجودة الآن، زارها حبيبنا -صلى الله عليه وسلم- منذ أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان، والآن تستعد الملائكة لفتح أبوابها استقبالا لهذا الشهر الكريم الجليل.

وفي نفس الوقت، الخلق العظيم الآخر جهنم الجحيم -أعاذنا الله عز وجل جميعاً منها- احتفالا لهذا الشهر الكريم، وابتهاجاً به تغلق أبوابها طيلة هذا الشهر، من أوله إلى آخره، ولا يحدث ذلك إلا في رمضان.

وعدو الإنسان الأول منذ خلق وإلى يوم البعث، إبليس وجنوده، فإن الله -عز وجل- من كرامة هذا الشهر يصفده وأعوانه، يغله وشياطينه، فيقِلُّ عملهم مع المؤمنين، وتضعف همتهم في إغواء الصالحين.

نعم؛ نحن نرى كثيرا من الناس يبتعدون عن شرع الله -عز وجل- أكثر ما يكون ذلك في رمضان، فتجدهم يرتكبون من المعاصي ما لا يرتكبون في غيره، ويشاهدون من المحرمات ما لا يشاهدون في غيره.

لكن كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حق وصدق، الشياطين تُغَل، لعله قصد مردة الشياطين، أو لعله قصد الشياطين جميعاً، والذين يعملون في هذا الشهر هم شياطين الإنس كما وصف الله -عز وجل- في كتابه الكريم، وهم كُثْرٌ ومجرمون، ولعلهم أكثر إجراماً في بعض الأحيان من شياطين الجن، أعاذنا الله جميعاً من شياطين الإنس والجن.

شهرٌ جليلٌ مبارك، شهر عظيم مبارك، وجب علينا أن نستعد له، لا أقول من الآن، ولكن نستعد له منذ شهر سابق أو أكثر من ذلك، إنها أيام سعيدة أن نكون في انتظار هذا التحول الهائل في الكون بكامله.

ومع ذلك -يا إخواني- كلنا يرى ويعلم، وكلنا قد جرب ذلك قبل ذلك، وخبر كثيرا ما تتفلت من أيدينا أيام الشهر، فَنَبْهَت ونبغت أن الشهر قد مَرَّ نصفه أو قد مر ثلثه ولم نقم بما نريد أن نقوم به من عبادةٍ للإله الجليل الذي أنعم علينا بهذه النعمة العظيمة، نعمة رمضان؛ لماذا يتفلت من بين أيدينا؟ ولماذا تضيع منا الدقائق والساعات؟ بل وأحيانا الأيام، ويضيع من بعضنا الشهر بكامله؟ إن ذلك -يا إخوان- راجع لأسباب كثيرة، لعل من أهمها سبب رئيسي هو موضوع خطبتنا اليوم: "طول الأمل".

كلنا يظن أنه يعيش حتى يُقبل عليه رمضان آخَر، ورمضان ثالث ورابع وعاشر، كلنا يعيش بطول الأمل، الأجل محدود، والعمر مقسوم، ومعروف أن له موعداً لن يتقدم ولن يتأخر، لكل أمة أجل، فإذا جاء أجلهم لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون، هذه حقيقة يعلمها الجميع، ومع ذلك فالجميع لا يعملون لها.

وصدق التابعي الجليل إذ قال تعليقا على رؤيته لضعف حماسة الناس لموضوع اقتراب الموت، قال: ما رأيت يقينا أشبهَ بالشك مِن يقين الناس بالموت! كلنا يعلم أن الموت يأتي بغتة، وكلنا يعلم أنه لن يستطيع أن يؤخر ملك الموت عن قبض روحه ولو دقيقة واحدة، ولو نفَساً واحداً، ومع ذلك فكلنا يعيش بطول الأمل! مهما هرم الشيخ، ومهما ضعفت قوته، ومهما ابيضَّ شعره، فإنه ينظر إلى عمره القادم على أنه عمرٌ طويل مديد.

يفعل ذلك الكبير والصغير، والرجل والمرأة، وعموم الناس في الأرض، آفة خطيرة جاء من ورائها شر كثير، لذلك حذرنا حبيبنا -صلى الله عليه وسلم- ونبهنا وأمَرَنا ونصَحَنا فقال: "أكثروا من ذكر هاذم اللَّذَات"، قاطع اللَّذات، وهو الموت، أمَرَنا بذلك حبيبنا -صلى الله عليه وسلم-.

أترانا -يا إخواني- لو علمنا علماً يقينياً أنَّ رمضان القادم هذا هو آخر رمضان لنا على وجه الأرض، أيكون أداؤنا في هذا الشهر كأدائنا فيه ونحن نعلم أننا نعيش أعواماً كثيرةً، واعماراً مديدة؟ والله إنه لَيَخْتَلِف!.

إن الإنسان إذا أدرك إدراكاً حقيقياً أنه على الله مقبل، وأن الموت يأتي بغتة، وأن الحبيب -صلى الله عليه وسلم- مع أنه كان كريما عند ربه، أكرم ما يكون، هو خير البشر، وسيد المرسلين، كان يعلم أنه سيموت: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر:30].

الجميع يموت، والجميع يُبعث بين يديه سبحانه وتعالى يوم القيامة، (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) [البقرة:281]، (لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ) [الصافات:61]، الرسول الحبيب القريب من الله -عز وجل- هو الذي أمرنا أن نكثر من ذكر هاذم اللذات، وكان يقول معلِّماً أصحابه، ويعلمنا، ويعلم البشرية جميعاً، يقول: "ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل بظل شجرة ثم راح وتركها".

هكذا، ويأمر أصحابه ويقول: "كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل"، يعلق عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- على هذا الحديث فيقول: إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح.

يرى عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنّ مَن طال أمله وظن أنه يعيش أكثر من يوم واحد فقد بالغ في طول الأمل فيقول: إذا أصبحت فلا تنتظر المساء. لا يعدو طول أملك أن يكون عدة ساعات فقط، إن زاد على ذلك وطمعت أنك تعيش إلى الغد وإلى بعد الغد فهذا طول أملٍ في رؤية عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- بعدما سمع كلام الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: "كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل"!.

أتُرانا لو دخلنا على رمضان بهذا الشعور كيف يكون حالنا في هذا الشهر الكريم؟ أيظن بعضنا أن هذه دعوة سلبية؟! أيظن بعضنا أن هذه دعوة مكروهة أن نتكلم عن الموت ونحن نقبل على شهر سعيد؟! أبداً والله يا إخواني! الحديث عن الموت ليس حديثا كئيبا، وليس حديثا مكروها، إنما نتحدث عن شيء واقع لا محالة، نسيناه أو تذكرناه فإنه يحدث، يستعد له مَن يستعد، ويجهله ويغفل عنه مَن يجهله ويغفل عنه.

الناس هكذا، منهم من يعمل، ومنهم من يغفل، والذي يتذكر الموت هو أكثر العاملين من أبناء هذه الأمة، ولا يعوقه ذلك أبداً عن العمل، لا يعوقه ذلك أبداً عن الإنتاج، بل انظروا إلى رجال المسلمين الأبطال الذين فتحوا مشارق الأرض ومغاربها كيف كانت نظرتهم إلى الموت في سبيل الله؟ يقول خالد -رضي الله عنه وأرضاه-، خالد بن الوليد، سيف الله المسلول على الكفار، يقول في كلمة موجزة بليغة أرسلها إلى هرمز عند أول محطات فارس، وهو يذهب إليهم بجيش صغير يقاتل إمبراطورية هائلة ملكت نصف الأرض في زمانه، يقول لهم بعزة وقوة يرفع رأسه ويرفع لواء الإسلام: جئتكم برجال يُحِبُّونَ المـــَوْتَ كما تُحِبُّونَ أنتم الحياة.

هذه النوعية من الرجال، هذه النوعية من المسلمين التي تنتظر الموت، وتعلم أنه قريب، وتعد العدة له في كل لحظة من لحظاتها، بل يرتفع استعدادها لهذا الموت إلى حب له؛ لأنه يفصل بينها وبين الجنة، هذا الخلق الهائل الذي أعَدَّهُ الله -عز وجل- للصالحين من أبناء هذه الأمة.

لماذا نحن على وجل من الموت؟ لماذا نكره ذكر الآخرة ونحب ذكر الدنيا؟ كما يقول الحسن البصري -رحمه الله-: لأنكم عمرتم دنياكم، وخرَّبْتُم آخرتكم، فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب، فلو كنتم استعددتم للموت الاستعداد اللازم لكان احتفالكم بالموت احتفالا عجيبا.

وما أروعها من كلمات قالها بلال -رضي الله عنه وأرضاه- وهو على فراش الموت والناس من حوله يبكون وهو يضحك وهو سعيد ويقول: غداً ألقى الأحِبَّة، محمداً وحزبه. وفي رواية: محمدا وصحبه!. هو سعيد لأنه استعد دعوةً في سبيل الله، وجهاداً في سبيل الله، ورفْعَ أذَان، وقراءة قرآن، وصيام كما ينبغي الصيام، وصلاة كما تنبغي الصلاة، فلماذا لا يسعد بالموت؟ إنه يفصل بينه وبين السعادة التي لا شقاء فيها، والراحة التي لا تعب فيها، يفصل بينه وبين محبوبته، الجنة التي وعدها الله -عز وجل- عباده الصالحين.

يا إخواني: لابد أن ندخل هذا الشهر بهذا الشعور، احرصوا على صلاتكم وعلى قيامكم، وعلى صيامكم وعلى قرآنكم وعلى ذكركم وعلى دعائكم وعلى صدقاتكم وعلى صلتكم للأرحام، وعلى أمركم بالمعروف ونهيكم عن المنكر، وعلى دعوتكم في سبيل الله، احرصوا على ذلك كله فإن الأيام تتفلت من بين أيدينا فنبغت فجأة أن الشهر قد انتهى، فنتلاوم ونتحسَّر، وليس هناك عودة للأيام بعد انقضائها، هكذا قضت سنة الله -عز وجل-.

صلاتنا في رمضان الأخير لابد أن تكون كلها في بيت الله -عز وجل-، يؤذن المؤذن في كل صلاة، يدعونا: حي على الصلاة إلى المساجد، حي على الصلاة، حي على الفلاح، فلا يستحي أقوام أن يصلوا في بيوتهم ونداء الله -عز وجل- يدعوهم إلى بيته، يرفضون أن يزوروا الله -عز وجل- في بيته في وقت وقَّته سبحانه وتعالى، ونبهنا حبيبنا -صلى الله عليه وسلم- أن التخلف عنه صفة من صفات المنافقين.

يقول عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه وأرضاه-: وإني كنت أرى الرجل لا تستطيع قدمه أن تحمله يحمله الرجلان من يمين وشمال حتى يقيماه في الصف. حتى الرجل المريض الذي لا يقوى على الحراك؛ لأنه يعلم الخير الكثير في صلاة المساجد فإنه يوصي أصحابه وأقرانه أن يمروا عليه في بيته ليحملوه حملا حتى يقام في الصف، ونحن بأجسادنا الصحيحة، وقوتنا التي أعطاها الله -عز وجل- من كرمه وجوده ومنه وعطفه علينا، أعطاها لنا، فإذا بنا نبخل بهذه القوة فنصلي في بيوتنا، هذا كلام عام في رمضان وفي غير رمضان، إن المسلمين لابد أن يأتوا إلى بيت الله العزيز الجبار ليؤدوا فرضه الذي أمرهم أن يأتوا إليه في بيته.

هكذا تكون صلاتنا، وخشوعنا في صلاتنا، التفاتنا إلى كل حرف نطق به من كلام الله -عز وجل-، قراءتنا للقرآن في رمضان الأخير لابد أن تكون كثيرة كثيرة، الحرف بعشرة حسنات، والله إن هذا لفضل عظيم! ويضاعف الله لمن يشاء، ونحن في شهر كريم كشهر رمضان نوقن أن الله -عز وجل- يضاعف لنا ذلك.

إن الوقت الذي بين أيدينا لا يكفي لكل ما نريده من أعمال، قراءة كثيرة كثيرة للقرآن الكريم، ذكر لله -عز وجل-، تسبيحا تهليلا استغفاراً حمداً صلاة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قراءة في سيرته، وقراءة سيرة الأبرار من أصحابه رضوان الله عليهم جميعا، صلة للأرحام، وتزاور بين المسلمين، ووقوف إلى جوار المحتاجين، عون وكلمة طيبة، ووقوف في حاجة المسلمين، بل وغير المسلمين، إنه شهر كريم لابد أن يفوح عطر المؤمنين فيه في كل مكان يذهبون إليه.

هذه طبيعة الشهر، لو دخلته بطول أمل انقطع الشهر دون تحصيل أجر يُرجى، وإن دخلته وأنت تعلم أنك على الله مقبل، وأنك تموت في أي لحظة، وأنه من الفضل الكبير أن الله -عز وجل- قد أنعم علينا أن بلغنا هذا الشهر الكريم، فنحمد الله -عز وجل- على هذه النعمة الكبيرة، ونسأل الله -عز وجل- أن يهدينا في هذا الشهر الكريم إلى كل ما يرضيه، وان يتقبله منا ومن عامة المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، فيا فوز المستغفرين!.

الخطبة الثانية :

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه مَن يهدِ الله فلا مُضِل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد: يقول حبيبنا -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الترمذي وابن ماجه -رحمهم الله تعالى-: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه"، وفي رواية: "وعن شبابه فيما أبلاه"، وفي رواية: "وعن جسده فيما أبلاه" بدلا "من شبابه فيما أبلاه"، "وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه فيما عمل فيه".

نُسأل عن عمرنا فيما أفنيناه، ونُسأل عن شبابنا فيما أبليناه، ليست دعوتنا في هذه الخطبة لكبار السن الذين ينتظرون موتا، فالموت لا يفرق بين صغير ولا كبير، لا يفرق بين صحيح ولا عليل، لا يفرق بين رجل ولا امرأة؛ بل لا يفرق بين مؤمن ولا فاسق، يأتي الموت للخلق جميعاً، كل البشر يموتون، لا يبقى إلا الله -عز وجل-.

كلامنا لكل المسلمين، أوقاتنا محسوبة علينا، أعمارنا تسجل علينا بالصوت والصورة كل لحظة من لحظاتها، هكذا وصف ربنا -عز وجل- في كتابه الكريم في سورة الجاثية عندما قال: (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجاثية:29]، بالنسخة، بالصورة، بالصوت بالتجسيم سترى كل شيء وأنت واقف بين يدي الرحمان يوم القيامة.

ما منكم من أحد إلا وسيخاطبه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، منك إلى الله مباشرة، فينظر أيمن منه فلا يجد إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يجد ما قدم، وينظر تلقاء وجهه فلا يجد إلا النار، فاتقوا النار ولو بشق تمرة.

هذا الشهر الكريم لحظاته معدودة، ليس شق تمرة، إنما أعمال مجيدة كبيرة، نعم، قد تفعلون هذه الأعمال، ولكن قد نُضيع في مقابلها الأوقات الثمينة الغالية النفيسة، لا يحق لمؤمن يعلم أنه على الله مقبل، وأنه بين يديه واقف أن يفوِّت هذه الأوقات.

نصيحة غالية لي ولكم جميعاً، احترسوا من هذا الجهاز العجيب الذي نضعه جميعاً في بيوتنا ويأكل حسناتنا للأسف الشديد، هذا التليفزيون الذي يأكل أعمارنا وعلى وجه الخصوص في هذا الشهر المبارك الذي فتح الله فيه أبواب الجنة، وغلق أبواب الجحيم، وصفد الشياطين، فإذا ببعض المؤمنين -أو بكثير- من المؤمنين يقطعون طرفاً طويلا من أعمارهم أمام هذه الشاشات، ينتقلون من تمثيلية إلى فيلم إلى برنامج ترفيهي إلى فوازير ومسابقات إلى... وكأن الشهر الكريم جاء للترفيه عن المؤمنين، وليس شهر اختبار وامتحان وقربة من الله -عز وجل-.

تذكروا ما قاله حبيبنا -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الشريف الذي قدمنا به الخطبة عندما ختم هذا الحديث بقوله: "فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم"، لا تظن -يا عبد الله- أنك تضيع الأوقات تلو الأوقات طيلة الشهر الكريم ثم تأتي هكذا على سبيل العشوائية والحظ فيما ترى فتصيب ليلة القدر فتأتى خيرها، ليس هكذا يعامِل اللهُ -عز وجل- عباده الصالحين.

إنه إعداد منك أولا، الكرة -كما يقولون- في ملعبك، أنت الذي تستطيع أن تكون أهلا لأن تعطى خير هذه الليلة الذي لا يعطيها إلا الله -عز وجل-، كم من القائمين قاموا في هذه الليلة ولم يتقبل الله عز وجل منهم! وكم من الصالحين لم يبلغوا رمضان أصلا وهم في أعلى عليين!.

الأمر كله بيدك! لا نقترب منه إلا بالطريقة التي أمرنا بها، لا نعبده إلا بالمنهج الذي أعطاه لنا، تخيل وأنت جالس أمام شاشة التليفزيون تشاهد أمراً من الأمور أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد زارك في بيتك، ودخل معك في حجرتك، وجلس إلى جوارك؛ أتراك تظل فاتحاً ما تفتحه؟! إن كنت تشاهد ما لا تستحي من إغلاقه أمام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأنت على خير إن شاء الله، تشاهد برنامجاً يدعو إلى الخير والصلاح يعلمك أمر من دينك فهذا أمر طيب لا محالة.
 

وإن كان فيه عري وفيه خروج عن منهج الله -عز وجل-، وفيه تضييع للأوقات، وفيه ترفيه في وقت لم يجعل للترفيه فإن هذا لا شك يدعوك لإغلاقه، فاستحي من الله عز وجل أكثر من استحيائك من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإن الله عز وجل حي لا يموت وهو معك في كل وقت من أوقات عمرك لا يغفل عنك لحظة من اللحظات.

(إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجاثية:29]، أغلقوا هذا الجهاز في هذا الشهر الكريم، لا تتعاملوا معه، ليس عندكم وقت له أصلا، أوقاتنا في الأعمال التي نريد أن نفعلها في هذا الموسم العظيم، في هذه العطاءات اللانهائية من رب العالمين، أعمالنا أكثر بكثير من أوقاتنا، لن نستطيع أن نختم القرآن عشر مرات أو عشرين مرة كما كنا نتمنى، لم نستطع أن نقوم لله -عز وجل- كما كنا نتمنى، لم نستطع أن نزور كل أرحامنا كما كنا نتمنى.

فسدِّدوا وقاربوا ولا تضيعوا الأوقات من أعماركم فيما لا يغني، بل أحيانا فيما يضع على ظهورنا أوزارا نحن في حلً وفي عدم حاجة إلى حملها.

أسأل الله -عز وجل- أن يبصرنا بالخير كله في رمضان، وفي غير رمضان. اللهمَّ بلِّغْنا رمضان، وَتَقَبَّلْهُ منا يا رب العالمين.