البحث

عبارات مقترحة:

المجيب

كلمة (المجيب) في اللغة اسم فاعل من الفعل (أجاب يُجيب) وهو مأخوذ من...

الباطن

هو اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (الباطنيَّةِ)؛ أي إنه...

المصدر الثاني: السنة النبوية

العربية

المؤلف عبد العزيز بن عبد الله السويدان
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الدعوة والاحتساب - أركان الإيمان
عناصر الخطبة
  1. بواعث التشكيك في السنة النبوية .
  2. مظاهر التشكيك في السنة النبوية .
  3. الاعتقاد بحفظ السنة من لوازم الإيمان .
  4. حفظ القرآن يستلزم حفظ السنة .
  5. أوامر القرآن والأحاديث باتباع السنة تدل على حفظ السنة .
  6. تقييض الله لعُدُول يحفظون دينه أبدا .

اقتباس

لقد تعدَّدَت المواضع في كتاب الله إلى أكثرَ مِن أربعين مَوْضِعَاً يُشير فيها -سبحانه وتعالى- إلى سُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فيأمر باتِّباعه، وعدمِ تقديمِ كلام بشَرٍ على كلامه، ويُبيِّنُ ضرورة هذا الاتِّباع، وفضلَه، وأنه أمر يقتضيه حُبُّ المؤمن لربه، ويحذِّرُ -سبحانه- مِن مخالفة أقوال رسوله صلى الله عليه وسلم ..

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

إن مما يسعى إليه أعداء الملة تشكيك المسلمين بأصول التلقي لدينهم، وبالذات مصدر التلقي الثاني وهو "السنة النبوية"، وهو سعي ماكر أثبت جدواه لدى المخدوعين ممن غرروا بهم بسبب جهلهم أولا، واعتزازهم بعقولهم في مقابل النصوص ثانيا،ً وضعف الإيمان لديهم ثالثا، وتأثرهم بحضارة الغرب رابعاً.

ففي زمانٍ ضعُف فيه المسلمون أشدَّ ضعف، وبضعفهم خفض وهج حضارة الإسلام، وعلى إثر ذلك سادت حضارة الغرب العالم كله، وغزت تلك الحضارة بلاد العرب والمسلمين غَزْواً ثقافيا عارما طالت به كل بيت، حتى أثرت في نفوس كثيرٍ من المسلمين؛ ونتيجة لذلك وقع الكثيرون منهم في مصيدة الإعجاب بكل ما هو غربي، طيباً كان أم غير طيب.

فالحضارة الغربية قدَّسَت العقل فوق الدين، وبالتالي لعبت بالدين، وبدَّلَتْ وحرَّفَتْ، (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) [البقرة:79]، حتى أصبح الدين في ثقافتهم موضع عناد عنصري، وعصبية بغيضة، أكثر من كونها عقيدة مقنعة لهم.

فالجانب العنصري الديني لدى أكثرهم لا يزال شديداً فاعلا يظهر على السطح في أوقات الشدة، كمواقفهم السياسية ضد المسلمين، واغتصابهم لأراضيهم، والسيطرة على مُقدَّراتهم، وحربهم على الحجاب، واستهزائهم بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وتهديدهم بإغلاق، المساجد وهلمَّ جرَّا...

فالبعد العنصري عندهم واضح، أما البعد الإيماني لديهم فهزيل جداً، ولا أدلَّ ذلك الهزال من شكهم في أصول عقيدتهم، واستمرارهم في تعديل النصوص الدينية وتكييفها لتوافق أهوائهم، بل أصبح الشك مدرسة عندهم.

والمصيبة أن يكون من آثار الغزو الثقافي الغربي انتقال هذا الشك أو شيء منه إلى ذهن المسلم نحو أصول دينه، سبب هذا الشك نوع من الاعتراض على بعض نصوص السنة الصحيحة التي لا تتماشي مع أذواقهم وأهوائهم، فمِنْ قائلٍ نحو ما هو منصوص عليه في السنة: ليس في القرآن ما ينص على هذا! يستهين بالحديث النبوي! وآخر يقول: ما الذي يدريني بصحة الحديث؟ سيشكك في السنة بلا علم ولا دراية.

وآخر يقول: القرآن نعم؛ أما الحديث فمحل نظر. وآخر يقول: إن الله تعالى إنما تكفَّلَ بحفظ القرآن الكريم، أما السنة فلم يتعهد بحفظها. وما شابه من عبارات الشك، وما لم نقف وقفة صلبة في وجه هذه اللوثة الخطيرة فسوف تكون بداية فتنة عظيمة لا يعرف مآلها سوى رب العباد.

أيها الأخوة المسلمون: إن الذين يشككون في السنة النبوية ما زالوا يزعمون الإيمان بها، ويقولون: نحن لا ننكر السنة، ولكنهم في نفس الوقت يعطون أنفسهم حق النظر فيها، والحكم عليها بأهوائهم لا بعقولهم ولا بعلمهم الشرعي؛ فما رأوه في نظرهم موافقاً للكتاب قبلوه، وما رأوه غير منصوص عليه في الكتاب أنكروه، مهما كانت قوة سنده، حتى ولو كان في الصحيحين!.

فأقول لهؤلاء وغيرهم إن على كل من يؤمن بأن محمداً -صلى الله عليه وسلم- خاتم الأنبياء وأنه مرسل إلى الناس كافة إلى قيام الساعة أن يعلم أن من لوازم هذا الإيمان الاعتقاد بحفظ السنة، ما دمت تشهد بالشق الثاني من الشهادتين: محمد رسول الله؛ فيقتضي ذلك إيمانك يقينا بحفظ السنة، وإلا فلا معنى لشهادتك!.

أقول: يجب على كل مسلم أن يعتقد اعتقادا جازما بحفظ السنة سواء أعلِم كيف حُفظت أو لم يعلم، وسواء كان من العلماء أو العامة، لماذا؟ لأن الله سبحانه وتعالى يقول (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:9].

ومع أن المعنى الشائع في كلمة الذكر في هذه الآيات أنه القرآن الكريم فقد قالت طائفة من العلماء إنها تشمل السنة أيضا، لقوله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) [النجم:3-4]، والذي أريد بيانه هنا -فضلا عن ذلك- أن حفظ القرآن ذاته يستلزم حفظ السنة، أي أنه حتى لو لم تكن كلمة الذكر في الآية الشاملة للسنة إلا أنها تستلزمها! كيف؟.

إن كلمة الذكر من التذكير والوعظ والفهم والإرشاد، كلها تأتي في معاني الذكر، كلمة الذكر في الآية تدل على أن المحفوظ (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ليس مجرد كلمات أو نصوص يمكن أن تبقى مصونة في متحف من المتاحف الأثرية، لا، وإنما يقتضي حفظ الذكر حفظ القرآن، وحفظ ما يؤدي لكونه ذكرا، وإلا لم يكن ذكرا يُتعظ به ويُفْقَه.

فحفظ الذكر مثلا يقتضي فهم المعنى؛ لأن الكلام لا يكون ذكرا إلا إذا فهم، وهل يُفهم القرآن الكريم حتى فهما أوليا إلا إذا عرفت لغته؟ وقد قال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا [أي بلغة القوم الذين نزل عليهم] لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [الزخرف:3]، وقال أيضا -جل جلاله-: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [يوسف:2]، وقال: (قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [الزمر:28]. فحفظ فهم المعنى يلحق بحفظ المخطوط بالضرورة وإلا انتفت الغاية من حفظ القرآن، فالقرآن إذاً لا يعقل معناه إلا إذا فهِمْتَ اللغة العربية.

إذاً فحفظ القرآن الكريم يستلزم حفظ اللغة العربية، وهذا هو الذي حدث بحمد الله تعالى، فاللغة العربية حفظت كما لم تحفظ لغة غيرها، فما زال الملايين من الناس يتحدثون بها ويكتبونها، وما زالوا يتذوقون أدبها، بالرغم من سعي الأعداء إلى تشويها بكل صورة، فلم تحارَب لغةٌ كما حوربت لغة الإسلام، اللغة العربية، ولا يزال -ولله الحمد- التعمق فيها أمرا ميسورا.

وقد استخدم الله تعالى لهذا الحفظ رجالا حباهم بجمع ألفاظها، وحفظ نحوها وصرفها، وجمع شعرها ونثرها؛ لكن القرآن نفسه أهم سبب لحفظه لها، لقراءة المؤمنين المستمرة له، ودراستهم تفسيره، وتمعنهم في لغته وإعجازه، فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

الآن نأتي للشق الآخر: يقول سبحانه مخاطباً نبيه -صلى الله عليه وسلم-: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل:44]، فلحكمة ما استعمل الله كلمة الذكر هنا كما استعملها في الآية الكريمة السابقة التي بيَّن فيها حفظ الذكر: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:9]، فكما أن الذكر لا يفهم إلا بفهم لغته، فإنه لا يتبين إلا ببيان الرسول له، في قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ): لتبينه بياناً وليس تلاوة فقط.

إذا، فحفظ الذكر مرهونا ً بحفظ بيانه، إن واحداً من عامة عقلاء البشر لا يمكن أن يكتب كتاباً يقول إنه لا يفهم فهما كاملا إلا بالحواشي والتفسيرات المصاحبة له، لا يمكن أن يفهم إلا بها، ثم ينشر الكتاب من غير تلك الحواشي والتفسيرات؛ فكيف يُظن بالحكيم العلم أن يرسل رسولا تكون مهمته أن يبين كتابه ثم يحفظ الكتاب ولا يحفظ ذلك البيان. كيف؟.

ولذلك فإنه يحق للمنصف الذي يرى أو يسمع من يشكك في السنة أن يُجَرِّم ذلك الإنسان أو يعتبره مجنونا لا يفقه ما يقول، لقد تعددت المواضع في كتاب الله إلى أكثرَ مِن أربعين مَوْضِعَاً يُشير فيها -سبحانه وتعالى- إلى سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فيأمر باتِّباعه، وعدمِ تقديمِ كلام بشَرٍ على كلامه، ويُبيِّنُ ضرورة هذا الاتِّباع، وفضلَه، وأنه أمر يقتضيه حُبُّ المؤمن لربه، ويحذِّرُ -سبحانه- من مخالفة أقوال رسوله -صلى الله عليه وسلم-.

يذكر كل هذا في مثل قوله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) [آل عمران:31]، يعني اتبعوا الرسول -صلى الله عليه وسلم- يحببكم الله، وقوله (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب:21]، وقوله (وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر:7]، وقوله (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور:63]، وفي غيرها من الآيات كثير.

الآن، هل يتصور عاقل يقدِّر ربَّه حَقَّ قدره من يظن أنه تعالى يشير في أمثال هذه الآيات إلى معدوم؟ أو غير محفوظ بالنسبة لمن هم في عصورنا هذه المتأخرة؟ هل يتصور عاقل هذا؟! يعني أمره -صلى الله عليه وسلم- غير موجود، ما عندنا إلا القرآن! ولذلك يقول: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) [النور:63]، هل يتصور عاقل مثل هذا؟ ثم كيف يكون الناس في عهده -صلى الله عليه وسلم- في حاجة إلى سنته وهم الذين نزل القرآن الكريم بلغتهم وهو بينهم -صلى الله عليه وسلم- ولا نكون نحن بحاجة إليها؟.

إذاً فلا يمكن أن يشير -سبحانه وتعالى- إلى معدوم بالنسبة لنا، وقد أرسل رسوله -صلى الله عليه وسلم- للناس كافة إلى قيام الساعة: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) [سبأ:28]، وجعله خاتما لأنبيائه، وإذا -سبحانه وتعالى- يعلم أن حاجتنا ماسة وعظيمة إلى سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، فكيف يتصور أَلَّا يحفظها لنا ويمنُّ علينا بها وينعم علينا بهدايتها كما أنعم على اللذين من قبلنا؟كيف يشك إنسان في حفظ السنة تمام الحفظ ثم يشهد بلسانه أن محمداً رسول الله.

ماذا تعني هذه الشهادة بالنسبة له إذاً؟ وما قيمتها؟ لا فرق في واقع الأمر بين إنكار السنة وإنكار حفظ الله لها، فكلا الأمرين يؤدي إلى عدم الاهتداء بها، يقول الله في كتابه: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [آل عمران:164].

أما الكتاب القرآن فهو بين أيدينا، طيب، ماذا عن تعليم الحكمة؟كيف تكون منة الله علينا بها؟ (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران:164]، قال القرطبي -رحمه الله-: (وَيُزَكِّيهِمْ) يعني يطهرهم من ذنوبهم باتبعاهم اياه، وطاعتهم له فيما أمرهم وينهاهم، (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) يعني يعلمهم كتاب الله الذي أنزل عليه، ويبين لهم تأويله ومعانيه، ويعني بالحكمة السنة التي سنها الله -جل سناؤه- للمؤمنين على لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

وقال قتادة في قوله تعالى: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ) [الأحزاب:34]، أي السنة. وقال ابن كثير في قوله تعالى: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ) [البقرة:231]، الحكمة أي السنة، يقول ابن كثير.

أيها الأخوة: إن فيما تقدم بعض الدلائل القرآنية على حفظ السنة، أما الدلائل من السنة ذاتها فكثيرة، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما يأمر الأمة باتباع سنته إنما يأمرها بالمستطاع، ولو لم يكن يعلم أن سنته سوف تحفظ ما كان ليأمر باتباعها، وما كان يقول -صلى الله عليه وسلم-: "تركت فيكم ما ان تمسكتم به لم تضلوا بعدي أبدا: كتاب الله، وسنتي".

ولذلك يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا به ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه" رواه البخاري ومسلم. وما كان ليقول، كما في الحديث: "فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومُحدَثاتِ الأمور" أبو داوود وابن ماجه.

بل إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- حذر من إهمال سنته أو الشك فيها صراحة بقوله -عليه الصلاة والسلام-: "‏لا ألفين ‏ ‏أحدكم متكئا على ‏ ‏أريكته‏ ‏يأتيه أمر مما أمَرتُ به أو نهَيت عنه فيقول لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتَّبَعْنَاه" أخرجه الترمذي وابن ماجه وغيرهما.

فالاعتقاد بحفظ السنة من لوازم الإيمان بالرسالة المحمدية؛ لأن المؤمن بهذه الرسالة يسأل الله تعالى في كل ركعة من ركعات صلاته الواجبة والنافلة في كل يوم أن يهديه الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين.

ومن ذا الذي يدخل فيمن أنعم الله عليهم إن لم يكن يدخل فيهم جهابذة العلماء الفضلاء الأتقياء الذين أفنوا أعمارهم في جمع السنة وحفظها وتفتيشها ودراستها والعمل بها؟ كيف يدعو إنسان ربه أن يهديه إلى صراط الذين أنعم الله عليهم ثم يعرض عن علماء السنة هؤلاء؟ أو يتعالى عليهم ظانَّاً أنه أعلم منهم أو أعقل أو أذكي أو أحرص على دين الله؟! لا يمكن ذلك.

أسأل الله تعالى أن يهدينا سواء السبيل، وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.

أما بعد: فلقد حرَّف اليهودُ التوراةَ، وحرَّف النصارى الإنجيل، واستمر تحريفهم عبر السنين يتطور حتى أصبح دينهم خليطاً من نظريات وفلسفات الإغريق، وظواهر التوراة والأناجيل، وأقوال القِدِّيسين القدامى.
 

أما دين الإسلام فقد حماه الله وحفظه من التغيير والتبديل؛ وذلك بحفظه لكتابه العزيز وسنة رسوله الأمين -عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم-، حيث قال الله -جل وعلا-: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:9].

فقد حفظ الله الدين وصانه من مكائد الأعداء، بجهابذة النقاد الأمناء، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وكذب المفترين، وتأويل الجاهلين، فلا يقدم أحد على تغييرٍ أو تبديلٍ إلا فضحه الله وأبطل كيده، ولله الحمد.

أخرج ابن عساكر عن ابن علية قال: أخذ هارون الرشيد زنديقاً فأمر بضرب عنقه، فقال له الزنديق: لماذا تضرب عنقي؟ قال: أريح العباد منك، قال فأين أنت من ألف حديث وضعتُها على رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- كلها ما فيها حرف نطق به؟ قال هارون: فأين أنت يا عدو الله من أبى إسحاق الفزاري، وعبد الله بن المبارك، ينخلانها فيخرجانها حرفا حرفا.

فلا يضيرنا كيد المستشرقين، ولا أقوال العلمانيين، ولا شبهات الجاهلين، فسنة المصطفى محفوظة ولله الحمد، وسوف تبقى محفوظة حتى قيام الساعة.

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشِّرْكَ والمُشرِكِين.