البحث

عبارات مقترحة:

المهيمن

كلمة (المهيمن) في اللغة اسم فاعل، واختلف في الفعل الذي اشتقَّ...

الآخر

(الآخِر) كلمة تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...

الواحد

كلمة (الواحد) في اللغة لها معنيان، أحدهما: أول العدد، والثاني:...

عبودية السراء

العربية

المؤلف سليمان بن حمد العودة
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك
عناصر الخطبة
  1. الأسباب المعينة على الشكر .
  2. من سير الشاكرين .
  3. معوقات الشكر .

اقتباس

كيف لا يثير الشكر كوامن النفوس، وفينا من يبيتون على أنعم الله، ويستيقظون على معاصي الله، تمتلئ بطوننا من رزق الله، وننام ملء جفوننا بنعمة الله، لا يعكر ذلك مرض ولا خوف، ولا قلق، يعسعس الليل، ويتنفس النهار، فلا صوت المؤذن يحرك فينا ساكناً، ولا انشقاق الفجر أو ظلمة الليل تذكرنا بعظمة الباري، فنزداد لله ذكراً وتعظيماً، ولأنعمه علينا شكراً كما أراد الله لنا ..

إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدث لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فأوصي نفسي وإياكم أيها الناس بتقوى الله، ألا إن تقوى الله مان من الزلل، وبها المخرج عند الشدائد والكرب، وبها يتوفر سعادة الدنيا ونعيم الآخرة (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِب) [الطلاق: من الآية2-3].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الأنفال:29].

أيها المسلمون: ابتدأت معكم – في الجمعة الماضية – حديثاً عن الشكر، وأستكمل الحديث عنه في هذه الخطبة.

عباد الله: لماذا لا يكون الحديث عن الشكر، ونعم الله علينا كثيرة لا تعد ولا تحصى، ونحن في المقابل نبارزه بالمعاصي صباح مساء؟ ولم لا نكثر الحديث عن الشكر ونحن نخشى قوارع السماء، وقد أهلك الله من قبلنا أمماً كانوا أشد منا قوة وأكثر جمعاً؟

كيف لا يثير الشكر كوامن النفوس، وفينا من يبيتون على أنعم الله، ويستيقظون على معاصي الله، تمتلئ بطوننا من رزق الله، وننام ملء جفوننا بنعمة الله، لا يعكر ذلك مرض ولا خوف، ولا قلق، يعسعس الليل، ويتنفس النهار، فلا صوت المؤذن يحرك فينا ساكناً، ولا انشقاق الفجر أو ظلمة الليل تذكرنا بعظمة الباري، فنزداد لله ذكراً وتعظيماً، ولأنعمه علينا شكراً كما أراد الله لنا: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً) [الفرقان:62].

إخوة الإسلام: نحتاج لمزيد الحديث عن الشكر، لأنه صمام الأمان لبقاء النعم وزيادتها، وأمان من العذاب إذا توفر الإيمان كما قال ربنا (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً) [النساء:147].

قال العارفون: ويا عجباً أي مقام أرفع من الشكر، الذي يندرج فيه جميع مقامات الإيمان، حتى المحبة والرضا، والتوكل وغيرها، فإن الشكر لا يصح إلا بعد حصولها.

أيها المسلمون: إذا علم حقيقة الشكر ومنزلته، وحاجتنا جميعاً إليه، فما هي الأسباب المعينة على الشكر، وما هي المعوقات عنه؟

إن مما يعين على الشكر رضاك بما قدر الله لك، واعتقادك الخير فيما أصابك، فلست تدري الخير فيما أوتيت أو منعت، قال عليه الصلاة والسلام: "عجباً لأمر المؤمن إن أمره له كله خير، إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن".

والنظر في الدنيا لمن هو دونك يزيد من قناعتك وشكرك والنظر في أمور الدين لمن هو فوقك يزيد في همتك، ويدعوك للمسارعة في الخيرات، يقول عليه الصلاة والسلام: "انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم".

ومما يعينك على الشكر أن يمتد بصرك إلى نعيم الآخرة، وألا تكون الدنيا محط رحالك ونهاية آمالك، وهناك في الجنان ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، لمن آمن وعمل صالحاً، هذا الشعور يجعلك تقنع بأي نعيم في هذه الحياة الفانية، متطلعاً إلى النعيم الباقي، متأملاً قوله تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر:من الآية54-55].

وكيف لا تشكر يا ابن آدم وقد سخر لك من الدواب والأنعام ما تركب وتأكل، وهيأ لك من المسكن ما تكن إليه وتأوي وأفاء عليك من نعم الأموال والأولاد والأزواج ما تأنس به، وتتزين وإليه تسكن، وكم من نعمة أنعم الله بها عليك وقد تعلم بها وقد لا تعلم، أفلا تستحق هذه وتلك منك الشكر للمنعم، ودونك تذكير القرآن بواحدة من هذه النعم (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ) [يّـس: من الآية 71-73].

والإكثار من تلاوة كتاب الله وتدبر آياته، يزيد في إيمانك وشكرك، وهو خير مذكر لك بأنعم الله عليك، كيف لا وفيه سورة تدعى سورة (النعم) بسبب ما عدد الله فيها من نعمه على عباده.. هي سورة (النحل).

ومما يعينك على الشكر أن تتذكر أحوال الضعف التي مرت بك، وكيف صيرك الله إلى حال قوة وغنى، فلا يطغيك الغنى، ولا تنسيك النعم الشكر، وتذكر حالتك الأولى، ومن فقه أبي هريرة وشكره أنه رئي في الليل يكبر، فلحقه رجل ببعيره، وقال: من هذا؟

قال: أبو هريرة، قلت: وما التكبير؟ قال: شكر. قلت: على مه؟ قال: كنت أجيراً لبسرة بنت غروان بعقبة رجلي وطعام بطني، وكانوا إذا ركبوا سقت بهم، وإذا نزلوا خدمتهم، فزوجنيها الله، فهي امرأتي.

والنظر في سير الشاكرين يعينك بإذن الله على الشكر، قال داود الذين امتدحهم الله بالشكر بقوله (اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً )[سـبأ: من الآية13] ورد أنهم لم يأت عليهم ساعة إلا وفيهم مصل.

وإبراهيم الخليل الأمة القانت كان شاكراً لأنعمه اجتباه. ولم ينس يوسف عليه السلام بعد خروجه من السجن وتبوئه خزائن الأرض أن يذكر نعمة الله، ويقول: (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) [يوسف: من الآية100] إلى قوله: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [يوسف:101].

وموسى عليه السلام يأمره ربه أن يتلقى ما آتاه من النبوة والرسالة والتكليم بالشكر (قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) [الأعراف:144].

ويطول ذكر سير الشاكرين.. ولكنه خلق الأنبياء والتابعين لهم بإحسان، قال رجل لابن تيمية يرحمه الله: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت بين نعمتين، لا أدري أيتهما أفضل، ذنوب سترها الله فلا يستطيع أن يعيرني بها أحد، ومودة قذفها الله في قلوب العباد لا يبلغها عملي.

بل كان الصالحون يتجاوزون بشكرهم خاصة أنفسهم، ويفرحون بالنعمة يهبها الله لإخوانهم المسلمين؛ نصرة للدين، وإعلاء لشأن المسلمين. وفي هذا ذكر عبد الله بن المبارك يرحمه الله أن (النجاشي) يرحمه الله أرسل ذات يوم إلى جعفر وأصحابه، فدخلوا عليه، وهو في بيت، عليه خلقان، جالس على التراب، قال جعفر: فأشفقنا منه حين رأيناه على تلك الحال، فلما رأى ما في وجوهنا قال: إني أبشركم بما يسركم، إنه جاءني من نحو أرضكم عين لي، فأخبرني أن الله قد نصر نبيه صلى الله عليه وسلم، وأهلك عدوه، وأسر فلان وفلان، وقتل فلان وفلان بواد يقال له (بدر).. حتى قال له جعفر: ما بالك جالساً على التراب، ليس تحتك بساط، وعليك هذه الأخلاق؟ قال: إنا نجد فيما أنزل الله على عيسى عليه السلام: أن حقاً على عباد الله أن يحدثوا لله تواضعاً عندما أحدث الله لهم من نعمه، فلما أحدث الله لي نصر نبيه أحدثت لله هذا التواضع.

يا أخا الإسلام: العلم نافذة تفتح لك آفاقاً واسعة في الشكر، ويدرك العالمون الربانيون من آلاء الله ونعمه، مما يستوجب الشكر ما يفوق غيرهم، بل إن فعل الشكر وترك الكفر لا يتم إلا بمعرفة ما يحبه الله، ومعرفة ما يكرهه، ولهذا ميز الله الذين يعلمون عن الذي لا يعلمون (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الزمر:9] وقال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر: من الآية28].

والأصل كلما ازداد علم الإنسان زاد شكره وخشيته لله، ومن يضلل الله فما له من هاد، وصلاح القلب وقوة الإيمان مكملات للعلم وبهما يتحقق الشكر، وبالجهل والفجور والطغيان يحل الهلاك والدمار.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ) [القصص:58].

الخطبة الثانية:

الحمد لله، يشهد بآلائه الإنس والجن، خيره للناس نازل وشرهم إليه صاعد، (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ) [فاطر: من الآية45].

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ليس العطاء منه دليل الرضى، وليس المنع منه علامة سخط وعذاب، يبلو بالسراء ليرى مدى الشكر، والضراء ليعلم – وهو أعلم – بالصابرين.. وهو العليم الحكيم.

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أصابته الضراء فصبر، وحين أفاء الله عليه من النعم شكر واستغفر، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين.

أيها المسلمون: أما معوقات الشكر فكثيرة، ومنها:

الجهل والكبر، والغفلة، فالجاهل لا يعرف نعم الله عليه، وأنى له أن يشكر ما لا يعرف، والكبر داء يتعالى به الفرد وينسى فضل المنعم، ويخيل إليه أن ما حوله من نعم بحوله وقوته، كما قال قارون: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) [القصص: من الآية78].

والغفلة آفة تنسي النعم، ويظل صاحبها يرمق نعمة الله على الآخرين، غافلاً عما أنعم الله به عليه، وإذا لم يتنبه الغافل في العلم، فسبيله للشكر أن يشهد المرضى تارة، ويشهد أصحاب الحدود تارة أخرى، ليستيقن فضل الله بالعفو والعافية فيشكر الله.

ويلحق بذلك عائق الشح والطمع والحسد، فمن ابتلي بذلك قل شكره وكثرت شكواه، وأصبح كالعطشان يرد البحر فلا هو ارتوى منه، ولا البحر سقا ظمأه، وفي التنزيل (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر: من الآية9].

واختر لنفسك ما تشاء من مراتب الإجابة، فكل عبد سئل عن حال فهو بين أن يشكر، أو يشكو، أو يسكت.

يا أخا الإيمان: لا يغب عن بالك أن الشيطان بوسوسته وإغوائه معوق عن الشكر، كيف لا وقد أخذ العهد على نفسه بذلك.

(قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) [الأعراف:16-17].

وهاك نموذجاً لإعاقة الشيطان للإنسان عن الشكر، قال بكر بن عبدالله المزني: "ينزل بالعبد الأمر فيدعو الله فيصرف عنه، فيأتيه الشيطان فيضعف شكره، يقول: إن الأمر كان أيسر مما أذهب إليه قال: أو لا يقول العبد كان الأمر أشد مما أذهب إليه ولكن الله صرفه عني".

يا أخا الإيمان: ومن المعوقات عن الشكر احتقارك نعمة وهبها الله لك، فتظل تنظر إلى ما أوتيت على أنه شيء قليل، وتنسى أن المعافاة من البلايا نعمة، وأن السلامة من الأمراض نعمة، وهكذا مما صرف الله عنك، فكيف إذا أضيف إليها ما وهبك الله من نعم، ولا تنس أن النعم قد تكون مادية وقد تكون معنوية.

يحكى أن بعض القراء اشتد به الفقر، حتى ضاق به ذرعاً، فرأى في المنام كأن قائلاً يقول له: أتود أنا أنسيناك من القرآن سورة الأنعام وأن لك ألف دينار؟ قال: لا، قال فسورة هود؟ قال: لا، قال فسورة يوسف؟ قال: لا، فعدد عليه سوراً، ثم قال: فمعك قيمة مائة ألف دينار، وأنت تشكو، فأصبح وقد سري عنه.

أجل لقد كان العارفون يشكرون الله على كل نعمة وهبهم الله إياها.

وهذا الإمام المزني – تلميذ الشافعي – يرحمهما الله، كان مجاب الدعوة، وذا زهد وتأله، أخذ عنه خلق من العلماء، وبه انتشر مذهب الإمام الشافعي في الآفاق، وألف مختصراً في الفقه امتلأت البلاد به، حتى قيل: كانت البكر يكون في جهازها نسخة من مختصر المزني، هذا الإمام بلغ من شكره كما قال الذهبي: إنه كان إذا فرغ من تبييض مسألة، وأودعها مختصره صلى لله ركعتين.

أيها المسلمون: وإذا زادتكم سير الشاكرين شكراً، فإن نهاية الجاحدين للنعم تنهاكم وتخوفكم من الكفر بالنعم، وقصص القرآن للذكرى والعبر، لا لمجرد السلوة والنظر، وهاكم نموذجين لعدم الشكر وعاقبة الجحود في القرآن، يمثل الأول (سبأ) الذين كانوا في نعمة وغبطة، وعيش هنيء رغيد، بلادهم رخية، وأماكنهم آمنة، وقراهم بالخيرات متواصلة، حتى أن مسافرهم لا يحتاج لحمل زاد ولا ماء بل يجد ذلك أنى نزل، ويقيل في قرية ويبيت في أخرى، فلما أعرضوا ولم يشكروا أنزل الله بهم بأسه، وخرب ديارهم، وفرق جمعهم وجعلهم أحاديث للناس، حتى أن العرب لتقول في القوم إذا تفرقوا (تفرقوا أيدي سبأ، وأيادي سبأ، وتفرقوا شذر مذر).

وصدق الله (لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ) [سـبأ:15-17].

أما النموذج الثاني فيمثله أصحاب القرية الذين قال الله فيهم: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [النحل:112].

عباد الله: ليس من الشكر لله تضييع الواجبات كإقامة الصلوات وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحوها من شعائر الدين. وليس من الشكر فعل المحرمات كالزنا وتناول المسكرات والمخدرات، وتعاطي الربا وقطع ما أمر الله به أن يوصل ونحوها من المحرمات.. ليس من الشكر فشو العداوة والبغضاء والتنافر بين المسلمين، والمودة والموالاة للكافرين..

لا بد أن تلهج ألسنتنا بالذكر والشكر لله، ولا بد أن تصح القلوب من الغل والحقد والحسد، ولا بد أن تشهد جوارحنا على ذلك بعمل الصالحات والبعد عن المحرمات.
تذكر يا عبد الله أن شكرك لنفسك وأن الله غني عنك (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) [لقمان: من الآية12].

وكن على يقين بزيادة النعم بعد الشكر، قال الفضيل بن عياض: من عرف نعمة الله بقلبه، وحدث بلسانه لم يستتم ذلك حتى يرى الزيادة لقول الله تعالى: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ) [ابراهيم: من الآية7].

اللهم ما أصبح بنا من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر.

اللهم زدنا ولا تنقصنا، اللهم أكرمنا ولا تهنا، اللهم أعطنا ولا تحرمنا. هذا وصلوا…