المتعالي
كلمة المتعالي في اللغة اسم فاعل من الفعل (تعالى)، واسم الله...
العربية
المؤلف | سليمان بن حمد العودة |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
فيطيب لي أن أنتقل وإياكم نقلتين بعيدتي الزمان والمكان، إحداهما أبعد من الأخرى -أما الزمان فإلى ما يزيد على ألف وأربعمائة سنة- وبالتحديد ما بين أربعة عشر وستة عشر للهجرة، أما المكان فيتردد ما بين طابة الطيبة، وتخوم العراق حيث وقعت معركة القادسية ..
الحمد لله رب العالمين كتب العزة والغلبة له ولرسوله وللمؤمنين، وجعل الذل والصغار على الكافرين والمنافقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يديل على المؤمنين فترة ثم ينصرهم، ويمكن للظالمين حيناً ثم يأخذهم وربك يحكم ما يشاء ويختار.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله استخرج الله به الأمة من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر المرسلين، وعلى آله المؤمنين وصحابته الغر الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة:35].
أما بعد:
إخوة الإيمان: فيطيب لي أن أنتقل وإياكم نقلتين بعيدتي الزمان والمكان، إحداهما أبعد من الأخرى -أما الزمان فإلى ما يزيد على ألف وأربعمائة سنة- وبالتحديد ما بين أربعة عشر وستة عشر للهجرة، أما المكان فيتردد ما بين طابة الطيبة، وتخوم العراق حيث وقعت معركة القادسية.
لقد بلغ الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه هزيمة المسلمين في وقعة الجسر التي قتل فيها خلق من المسلمين وفي مقدمتهم قائدهم أبو عبيد رحمهم الله جميعاً ورضي عنهم، كما بلغ الخليفة -أيضاً- انتظام شمل الفرس تحت قيادة يزدجرد، ونقض أهل الذمة بالعراق عهودهم، وإيذاء المؤمنين وإخراج العمال من بين أظهرهم.. وبلغت الغضبة العمرية لله مداها، وقرر الخروج بنفسه غازياً للفرس في العراق، ولو كان يدير أمور الأمة كلها ومع أنه ركب ونزل على ماء يقال له صرار، واستصحب معه عثمان وسادات الصحابة، واستخلف علياً على المدينة.. إلا أن بعض المسلمين أشار عليه أن يبعث غيره وأن يعود هو إلى المدينة، وفي هذا يقول عبد الرحمن بن عوف: إني أخشى إن كسرت أن يضعف المسلمون في سائر أقطار الأرض.. فيرعوي عمر للمصلحة الكبرى ويقتنع المسلمون بمشورة ابن عوف رضي الله عنه أجمعين، وينتدب لهذه المهمة العظيمة الأسد في براثنه كما قال المشير ابن عوف: سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه مع سابقة سعد وشريف نسبه، وصدق جهاده وبلائه، فقد أوصاه عمر وذكره الله قائلاً: يا سعد لا يغرنك من الله أن قيل خال رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه، فإن الله لا يمحو السيء بالسيء ولكن يمحو السيء بالحسن، وإن الله ليس بينه وبين أحد نسب إلا بطاعته، فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء، والله ربهم وهم عباده، يتفاضلون بالعافية، ويدركون ما عنده بالطاعة، فانظر الأمر الذي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ بعث إلى أن فارقنا عليه فالزمه، فإنه الأمر".
ألا ما أعظمه من تجرد.. وأصدقها من نصيحة، وأصعبها من مهمة يستجيب سعد للمهمة وهو يرى أنه سهم من سهام الإسلام مستعد لأن يرمى به في أي نحر من نحور الأعداء، ويقود المعركة العظيمة وإن بقي متكئاً على صدره فوق وسادة لا يستطيع الركوب ولا الجلوس، فقد أصيب بمرق عرق النساء، وأصاب جسده دمامل في فخذيه وإليته.
عباد الله: إذا صدق القادة والأمراء انسحب ذلك على الجند وإن كانوا من أولي الأعذار والضعفاء، أوليس الأعمى من أولي الضرر الذين استثناهم الله في قوله: (لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّه) [النساء:95]. مع ذلك أثبتت القادسية بطولات لرجال كانوا من أولي الضرر قل أن يجود الزمان بمثلها.
قال أنس بن مالك رضي الله عنه رأيت يوم القادسية عبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنه وعليه درع يجر أطرافها وبيده راية سوداء، فقيل له: أليس قد أنزل الله عذرك؟ قال: بلى، ولكني أكثر سواد المسلمين بنفسي". وهو الذي كان يقول: ادفعوا إلي اللواء فإني أعمى لا أستطيع أن أفر، وأقيموني بين الصفين".
يقال إنه استشهد يوم القادسية رضي الله عنه وأرضاه.
أمة الإسلام: إذا قام أهل الأعذار بما أعفاهم الله من القيام به، أفيليق بالأسوياء الأقوياء أن يفرطوا بما أوجب الله عليهم من تكاليف هذا الدين؟
ألا إنها الهمم العالية لا ترضى بأصحابها دون أعالي الجنان وسيطرة الهوى والشهوة يوردان المرء موارد الردى.
أيها المسلمون: وثمة مواقف وعبر تلفت نظر المتأمل في هذه الوقعة العظيمة، وما أولانا بالاستفادة منها فهل من مذكر؟ وتحمل لنا الروايات التاريخية أنه كان عند سعد في قصره رجل مسجون على الشراب، كان قد حد فيه مرات متعددة.. فأمر به سعد فقيد وأودع في القصر، فلما رأى الخيول تجول حول حمى القصر، وكان من الشجعان الأبطال قال:
كفى حزناً أن تدحم الخيل بالفتى | وأترك مشدوداً علي وثاقيا |
إذا قمت عناني الحديد وغلقت | مصاريع من دوني تصم المناديا |
وقد كنت ذا مال كثير وإخوة | وقد تركوني مفرداً لا أخاليا |
ثم سأل من "زبراء" أم ولد سعد أن تطلقه، وتعيره فرس سعد، وحلف لها أن يرجع آخر النهار، فيضع رجله في القيد، فأطلقته، وركب فرس سعد وخرج فقاتل قتالاً شديداً، وجعل سعد ينظر إلى فرسه فيعرفها وينكرها ويشبه الفارس بأبي محجن، ولكن يشك لظنه أنه في القصر موثق، فلما كان آخر النهار رجع (الفارس الموثق) من رحلة الجهاد فوضع رجله في قيدها – وفاء بالعهد ونزل سعد فوجد فرسه يعرق، فقال: ما هذا؟ فكذروا له قصة أبي محجن، فرضي عنه وأطلقه رضي الله عنه ".
أيها المؤمنون: وليست الخطيئة ضربة لازب لا يستطيع المخطئ الفكاك عنها، وليس المخطئون عناصر فاسدة في المجتمع لا يمكن الاستفادة من طاقاتهم، ولا تقال عثراتهم كلا، وليس يكتب على المرء – في ظل شريعة الإسلام – الشقاوة أبد الدهر إن هو قصر يوماً أو استنزله الشيطان وحثه فعمل محظوراً، فالخطيئة تداوى بالتوبة، والسيئة تمحوها الحسنة بعدها، ومن مراغمة الشيطان عدم الاستسلام لنزغاته حين مقارفة الذنب، أو توهينه وتيئيسه بعد الوقوع في الذنب، فالله كريم يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ومن تمام عقل الإنسان وتوفيق الله له أن يزداد في الحسنات كلما أحس من نفسه ضعفاً وارتكاباً للخطيئات، والله تعالى يقول: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) [هود:114]، بل ربما تحولت السيئة إلى حسنة بفضل الندم على فعلها وكثرة الاستغفار منها، ومحاولة التعويض عنها، وعكس ذلك الحسنة التي يعجب بها صاحبها ويمن بها على الله وربما كانت سبباً لغروره وقعوده عن عمل الصالحات، ودونكم هذه المقولة لأحد السلف يقول سعيد بن جبير يرحمه الله: "إن العبد ليعمل الحسنة فيدخل بها النار، وإن العبد ليعمل السيئة فيدخل بها الجنة، وذلك أنه يعمل الحسنة فتكون نصيب عينيه ويعجب بها، ويعمل السيئة فتكون نصب عينيه فيستغفر الله ويتوب إليه منها.."أ.هـ.
ألا فلا تقعدن بكم الخطايا -معاشر المسلمين- عن عمل الصالحات ولا يصدنكم الشيطان معاشر المخطئين عن المساهمة مع المسلمين في الدفاع عن حياض الدين ومجاهدة المشركين والمنافقين، فكل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، وربما ارتفع سهم الغيرة لدين الله ومحارمه عند شخص يرى أنه مسرف على نفسه بالمعاصي، فكانت تلك الغيرة سبباً لانعتاقه من أسر الخطيئة أولاً، وطريقاً إلى سلوكه صراط الله المستقيم وثباته على شرعه القويم، ومجاهدتهم في سبيل الله بما يستطيع ثانياً، وفضل الله يؤتيه من يشاء، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت:69].
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام المتقين وسيد ولد آدم أجمعين، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين.
أيها المسلمون: ومن وقفات معركة القادسية حديث عن الأتقياء الأخفياء أولئك الذين وضعوا نصب أعينهم الآخرة ونعيمها فعملوا ما في وسعهم لها، واستشعروا محبة الله فعملوا بطاعته والبحث عن رضاه، لم تقعد بهم جراحات المعركة عن حزبهم من قيام الليل وتلاوة كتاب الله، ولم ينقص من جهادهم أن الخليفة لايعرفهم بأعيانهم أولئك أقوام يستشعرون رقابة الله فتكفيهم عن رقابة سواه، ويدركون دورهم في الحياة ومسؤوليتهم الفردية أمام الله فيدفعهم ذلك إلى أن يكونوا آساداً بالنهار، رهباناً بالليل.. يصفهم سعد رضي الله عنه في رسالته التي بعث بها إلى الخليفة عمر يخبره بالفتح ثم يقول:
وأصيب من المسلمين سعد بن عبيد القارئ، وفلان، وفلان ورجال من المسلمين لا يعلمهم إلا الله فإنه بهم عالم، كانوا يدوون بالقرآن إذا جن عليهم الليل كدوي النحل، وهم آساد في النهار لا تشبههم الأسود، ولم يفضل من مضى منهم من بقي إلا بفضل الشهادة إذا لم تكتب لهم".
أيها المسلمون: بهذه النوعية من الجند انتصر المسلمون وبهذه العناصر الجادة في الجهاد والعبادة فتحت البلاد والقلوب، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وامتد رواق الإسلام شرقاً وغرباً، تلك من إيحاءات وقعة القادسية التي لم يكن عدد جيش المسلمين فيها مقارباً لجيش الفرس، فقد نقل أن جيش المسلمين كانوا ما بين السبعة آلاف إلى الثمانية آلاف، وأن جيش الفرس كانوا أربعين أو ستين ألفاً، وقيل كانوا ثمانين ألفاً، وقيل كانوا في مائة ألف وعشرين ألفاً". وأيا ما كان العدد والفرق كبير بين الجيشين عدداً وعدة، ومع ذلك كتب الله النصر للمسلمين، وكانت بداية الأفول لإمبراطوية الفرس الكبرى. وذلك يدعونا إلى الحديث عن الغثائية في مجتمع المسلمين في الأزمنة المتأخرة، زمان التردي والضعف والانحسار حين يكثر عددهم ويقل صدقهم، وتتفرق كلمتهم وتذهب ريحهم، فيسومهم العدو سوء العذاب، ويستولي على بلادهم، ويهيمن على مقدراتهم أين نحن من أهل القادسية، أين رجالاتنا من رجالاتهم، وأن نساؤنا وصبياننا من نسائهم وصبيانهم، وتلك هو الوقفة الأخيرة التي تتعلق بالمرأة وحشمتها وعفافها، مع مساهمتا في الجهاد ونكاية الأعداء، ودونكم هذه الرواية فتأملوها وحري بنسائنا وبناتنا وأخواتنا أن يفقهنها، ويسرن على منوالها.
عن أم كثير امرأة همام بن الحارث النخعي قالت: "شهدنا القادسية مع سعد مع أزواجنا، فلما أتانا أن قد فرغ من الناس شددنا علينا ثيابنا، وأخذنا الهراوي ثم أتينا القتلى، فمن كان من المسلمين سقيناه ورفعناه، ومن كان من المشركين أجهزنا عليه، ومعنا الصبيان فنوليهم ذلك – تعنى استلابهم – لئلا يكشفن عن عورات الرجال".
وهكذا تشكل المرأة المسلمة لبنة مهمة في كيان المجتمع المسلم، ويشارك الرجال همتهم في الجهاد ونكاية الأعداء، دون أن تتجاوز أنوثتها أو تتنازل عن شيء من حشمتها وعفافها، فهي لم تشترك إلا حين فرغ الناس من القتال وانحازت الصفوف وبقي من يحتاج إلى المساعدة من المسلمين فيسقى، ومن به رمق من المشركين ولا يستطع الحراك فينهى.
وقبل الإقدام على هذه الخطوة تشد الثياب فلا يبين منها عورة، ولا يطمع الذي في قلبه مرض بنظرة أو شهوة وتترفع الحرائر العفيفات عن كشف عورات الرجال، وتترك للصبيان مهمة الاستلاب وأخذ ما مع الأعداء من عدة أو سلاح.
ألا ما أروع الصورة، وأنظف المسؤولية، ودقة الأداء مع كمال الحشمة والحياء..
أين هذا من نساء يلهثن وراء الدعوة للاختلاط، ورجال يرون الحشمة والحجاب مظهراً من مظاهر التخلف وعهود الظلام؟ الفرق كبير بين نساء يساهمن في نشر الإسلام والتمكين لحضارة المسلمين والقضاء على الظلم والجهل والاستعباد وبين نساء أو رجال يتمنطقون بالعلمنة والتغريب ويريدون لأمتهم أن تكون ذيلاً في ركب الأمم التائهة في بيداء الظلام ويريدون لنسائهم أن يكن رقماً ملحقاً بالغانيات الراقصات المائلات المميلات، وعلى الأقل يكن من النساء المترجلات فلا حشمة ولا حياء ولا عزلة عن الرجال الأجانب يدفع الفتن والشرور ولا قرار في البيوت يتيح للمرأة إيجاد المحاضن المسلمة، إنها لسعار المحموم والتقليد الأبله وإفساد المرأة باسم المطالبة بحقوقها، وإذابة القيم باسم التقدم والحرية وليس يخفى فحيح الأفاعي على أولي الأحلام والنهى، ومن فضل الله علنيا أن نساء هذه البلاد تربت وستظل بإذن الله على الحشمة والحياء رافضة موجات التقليد، ودعوات الاختلاط والسفور والناس بعمومهم يدركون الفرق بين المفسدين والمصلحين، وإن قال المفسدون إنما نحن مصلحون.
إخوة الإيمان: أخت الحديث عن هذه الوقفات باهتمام الخليفة عمر بأمور الإسلام والمسلمين في نهاية المعركة كما كان مهتماً في بدايتها.. رحمك الله يا عمر وأنت تخرج من المدينة إلى ناحية العراق تستنشق الخبر، وفي ذات يوم أبصر راكباً يلوح من بعد، فاستقبله عمر واستخبره فأخبره أن الله فتح على المسلمين بالقادسية وغنموا غنائم كثيرة، وجعل الرجل يحدث عمر وهو لا يعرفه، وعمر ماش تحت راحلته، فلما اقتربا من المدينة جعل الناس يحيون عمر بالإمارة فعرف الرجل عمر فقال: يرحمك الله يا أمير المؤمنين، هلا علمتني أنك الخليفة؟ فقال عمر: لا عليك يا أخي".
هكذا -إخوة الإيمان- تبدو صورة المجتمع المسلم في القادسية نموذجاً للصدق والإخلاص والجهاد والتفاني والتواضع والحشمة والحياء، بأمرائه ومأموريه، بقادته وجنده، برجاله ونسائه وصبيانه.. وإذا أراد المسلمون العزة اليوم فلا بد أن يتخذوا من تاريخ المجاهدين الصادقين نموذجاً يحتذى به وسلماً للوصول.. اللهم أصلح أحوال المسلمين واجمع كلمتهم على الحق والدين..