الحليم
كلمةُ (الحليم) في اللغة صفةٌ مشبَّهة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل)؛...
العربية
المؤلف | عبدالرحمن بن فهد الودعان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصيام |
من النوايا الطيِّبة، والعزائم الحسَنَة التي ينبغي الحرص عليها نيةُ المحافظة على الفرائض في أوقاتها مع الجماعة، بل المحافظة ما أمكنك على تكبيرة الإحرام، ونية المحافظة على قيام رمضان مع المسلمين، والعزم على عدم التفريط فيه ولا ليلة واحدة، ونية الحرص على الصدقة في رمضان؛ فهو شهر الصدقات، ويا حبذا أن يعزم الإنسان على الإكثار من الصدقة في رمضان ..
أيها المؤمنون: تعالوا بنا لنحضر هذا المشهد العظيم، من أعظم إنسان في تأريخ البشرية، وأفضل البشرية على الإطلاق، إنه محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو يدعو أصحابه قائلا لهم: احضروا المنبر، فيجتمع أفضل الأجيال -رضي الله عنهم- حول أفضل المربين -صلى الله عليه وسلم-، إنه يدعوهم ويهيئهم ليشهدوا أمرا عظيما.
فلما اجتمعوا اتجه إلى المنبر وصعِد الدرجة الأولى من المنبر ثم قال: "آمين"، والصحابة -رضي الله عنهم- يستمعون وينصتون، قلوبهم تعي وآذانهم تسمع للحبيب -صلى الله عليه وسلم- وهو يرفع صوته بالتأمين؛ يسمعونه وهم يتعجبون.
ثم يرفع رجله الشريفة -صلى الله عليه وسلم- ويرتقي الدرجة الثانية من المنبر، وعيون أصحابه تنظر، وآذانهم تستمع، فيرتفع صوت الحبيب -صلى الله عليه وسلم- قائلا: "آمين"، والصحابة -رضي الله عنهم- يستمعون وينصتون، قلوبهم تعي، وآذانهم تسمع، ولا يدرون ما الخبر. ثم للمرة الثالثة يصعد الدرجة الثالثة رافعا صوته: "آمين".
ثم ينزل -صلى الله عليه وسلم- من المنبر، وقلوب أصحابه متلهفة لمعرفة خبر هذا التأمين الثلاثي، فيقولون له: يا رسول الله! لقد سمعنا منك اليوم شيئا ما كنا نسمعه! قال: "إن جبريل -عليه الصلاة والسلام- عرض لي، فقال: بُعدًا لمن أدرك رمضان فلم يغفر له! قلت: آمين. فلما رقِيتُ الثانية قال: بعدًا لمن ذُكِرْتَ عنده فلم يصل عليك! قلت: آمين. فلما رقِيتُ الثالثة قال: بعدًا لمن أدرك أبواه الكبِرَ عنده، أو أحدُهما فلم يُدخِلاه الجنة، قلت: آمين".
عباد الله: هذا جبريل -عليه السلام- ومحمدٌ -صلى الله عليه وسلم- أحدهما يدعو والآخَر يؤمِّنُ، يدعوان لك أو عليك، إما بأن تكون مُبْعَدًا أو مُقَرَّبًا؛ مَن أدرك رمضان فلم يغفر له فأبعده الله! أبعده الله لأنه يستحق البعد، كيف وعنده في رمضان جميع أسباب المغفرة، وجميع أسباب الطاعة، وهو مع ذلك شارد عن مولاه، بعيدٌ عن خالقه، إنه يستحق الإبعاد؛ لأنه هو الذي أبعد نفسه: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) [الصف:5].
أيها المسلمون: ورمضان على الأبواب فبماذا نستقبله؟ وبأي شيء نستعد له؟ رمضان خير الشهور وأفضلها، رفَعَهُ الله على جميع الشهور بفضائل ومزايا كثيرة؛ ليعظِّمه المؤمنون ويفرحوا به، ويكون مدرسة لهم لكل خير.
عباد الله: إن مما يستقبل به هذا الموسم الكريم الفرح ببلوغه وإدراكه، فإن من النعم العظيمة على العبد أن يبلغه الله مواسم الخيرات، ومنازل المغفرة والرحمات، (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس:58].
نفرح برمضان لما فيه من أسباب الفوز بالجنات والنجاة من النيران، نفرح برمضان لأن الله يمنّ على عباده المؤمنين بفتح أبواب الجنان، وتغليق أبواب النيران، وتصفيد الشياطين من أول ليلة من لياليه؛ ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعاً: "إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين"، في رواية: "سُلْسِلَت الشياطين".
نفرح برمضان لأنه شهر يربينا على الصبر على الطاعات، والصبر عن الشهوات، فيفيدنا قوة في الدين، ورسوخاً في اليقين، وزيادة في الإيمان.
نفرح برمضان لأنه يعلمنا التقوى التي توصلنا إلى رضا الله وجنته، وتجعلنا نحقق الغاية التي لأجلها خلقنا الله تعالى، وتوصلنا إلى ولاية الله تعالى: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) [يونس:62-63].
عباد الله: نستقبل رمضان بالعزم على الطاعات، ونية الخيرات، والمسارعة إلى الباقيات الصالحات، فإن ذلك من المسابقة إلى الخيرات، ونيةُ الطاعةِ طاعةٌ يثاب عليها المؤمن يا عباد الله، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بيَّن ذلك، فمَنْ هَمَّ بحسَنةٍ فلم يعملها كتبها الله تبارك وتعالى عنده حسنة كاملة، وإن هَمَّ بها فعملها كتبها الله عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، وإن هَمَّ بسيئةٍ فلم يعملها كتبها عنده حسنة كاملة، وإن هَمَّ بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة".
لقد كان إمام أهل السنة الإمام أحمد -رحمه الله- يوصي ولده وحبيبه بالإكثار من نوايا الخير، قال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي يوما: أوْصِني يا أبه. فقال: يا بني! انْوِ الخير؛ فإنك لا تزال بخير ما نويت الخير.
من النوايا الطيِّبة، والعزائم الحسَنَة التي ينبغي الحرص عليها نيةُ المحافظة على الفرائض في أوقاتها مع الجماعة، بل المحافظة ما أمكنك على تكبيرة الإحرام، ونية المحافظة على قيام رمضان مع المسلمين، والعزم على عدم التفريط فيه ولا ليلة واحدة، ونية الحرص على الصدقة في رمضان؛ فهو شهر الصدقات، ويا حبذا أن يعزم الإنسان على الإكثار من الصدقة في رمضان كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعل، ونية الاعتكاف ولو ليلة واحدة في هذا الشهر العظيم، ونية العمرة في رمضان وهي تعدل حجة مع النبي -صلى الله عليه وسلم-.
عباد الله: إن أهم ما يستقبل به هذا الشهر الكريم التوبة الصادقة التي هي وظيفة العمر، (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور:31]، (وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الحجرات:11].
إن رمضان فرصة لكل منا للقرب إلى مولاه، والتَّرَقِّي في مدارجِ الفلاحِ والصَّلاحِ، فما منا إلا وعنده من التقصير في حق الله تعالى، وفي حق خَلْقِه الشيء الكثير، فرمضان فرصة للتوبة النصوح، والإقبال بالقلب بكُلِّيَّتِهِ على الله تعالى.
أَتَى رَمَضَانُ مَزْرَعَةُ العِبَادِ | لِتَطْهِيرِ القُلُوبِ مِنَ الفَسَادِ |
فَأَدِّ حُقُوقَهُ قَوْلَاً وَفِعْلَاً | وَبَادِرْ فِيهِ أَزْوَادَ المعَادِ |
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:183].
الخطبة الثانية:
عباد الله: أتَى طلحةُ بن عبيد الله -رضي الله عنه- وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ومعه جماعة من الصحابة -رضي الله عنهم- متعجِّبين مما رآه طلحة في منامه، فما ذا رأى طلحة في المنام؟.
لقد قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلانِ من قبيلة بَلِيّ، فكان إسلامهما جميعا واحدا، وكان أحدُهما أشدَّ اجتهادًا من الآخر، فغزا المجتهد فاستُشهد، وعاش الآخر سنة حتى صام رمضان ثم مات، فرأى طلحةُ بن عبيدالله [في منامه] خارجا خرج من الجنة، فأذِن للذي توفي آخرَهما، ثم خرج فأذن للذي استُشهد، ثم رجع إلى طلحة فقال: ارجع فإنه لم يأن لك.
فأصبح طلحة يحدث به الناس، فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- ، فحدثوه الحديث وعجبوا، فقالوا: يا رسول الله! كان أشدَّ الرجلين اجتهادا، واستشهد في سبيل الله، ودخل هذا الجنة قبله! فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أليس قد مكث هذا بعده بسنة"؟ قالوا: نعم. قال: "وأدرك رمضان فصامه، وصلى كذا وكذا في المسجد في السنة"؟ قالوا: بلى. قال: "فَلَمَا بينهما أبعد مما بين السماء والأرض!".
عباد الله: إن أعظم أسرار الصيام ما يورثه من مراقبة الله تعالى وحده لا شريك له، فالصائم يجوع وهو قادر على الطعام، ويعاني من العطش وهو قادر على الشراب، لا رقيب عليه إلا الله، يدع طعامه وشرابه وشهوته لأجل الله تبارك وتعالى؛ ولذلك فماذا يقول الله -عزَّ وجل- له؟ وبماذا يجازيه؟ يقول الله -عز وجل-: "الصومُ لي، وأنا أجزي به، يدَع شهوته وأكله وشُربه من أجلي" متفق عليه.
عباد الله: إن أعظم أسرار الصيام أنه يربى المسلم على كمال العبودية لله، فإذا أمره ربه -عز وجل- بالأكل في وقت معيَّن أكل، وإذا أمره بضد ذلك في وقت آخر امتثل، فالقضية أساسها طاعة الله تعالى وتنفيذ أمره، فالصيام تربية على طاعة الله تعالى دون اعتراض، فهِمتَ سرَّ الأمر أم لم تفهم، إذ إن سرَّ الأمرِ كلَّه هو العبودية المحضة لله تعالى، وتنفيذ أوامره.
والطاعة والامتثال ليست في رمضان وحده بترك الأكل والشرب، بل هي الطاعة الكاملة المطلقة في كل وقت وفي كل حين، حتى يأتيَك اليقين، إنَّ العبودية لله سبحانه هي الحرية الحقيقية، وهي الشرف الأكيد، والانطلاق من كل رِقٍّ فاضح، إلى رِقِّ الشرَف والكمال والعزة والكرامة، وترْك العبودية لله هو في الحقيقة عبودية أخرى، لكن لمن؟ للهوَى، للشيطان، لأصحاب السوء والفجور.
ومن نظم القاضي عياض رحمه الله:
وَمِمَّا زَادَنِي شَرَفَاً وتِيهَاً | وَكِدتُّ بِأَخْمَصِي أَطَأُ الثُّرَيَّا |
دُخُولِي تَحْتَ قَوْلِكَ يَا عِبَادِي | وَأَنْ صَيَّرْتَ أَحْمَدَ لي نَبِيَّا |
فبالصيام يتربى المؤمن على معنى الاستسلام والعبودية لله تعالى، بحيث يؤمر بالشيء فيمتثل، ويؤمره بضده فيمتثل، سواء أدرك الحكمة أو لم يدركها.
أيها المؤمنون: احذروا في هذا الشهر العظيم المبارك من الاستجابة إلى شياطين الإنس الذين يدعون إلى الفساد عبر متابعة القنوات الفضائحية بما أعدوه من برامج ليصدوا بها عن سبيل الله، ويضيعوا ما عقلته القلوب من التقوى والإيمان بسبب الصيام والقيام.
فاتقوا الله عباد الله، واجعلوا شهركم شهر توبة وأوبة، وصلاح ودعاء، وتضرع وبكاء، فعند الصباح يَحمدُ القومُ السُّرى، جعلَنا الله وإياكم ممن يقول: (قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) [الطور:25-27].