الخبير
كلمةُ (الخبير) في اللغةِ صفة مشبَّهة، مشتقة من الفعل (خبَرَ)،...
العربية
المؤلف | محمد الغزالي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الصيام |
وهذا العالم تنقصه حضارة أخرى، حضارة تعترف بالروح والجسد، وتخدم الدنيا والآخرة، وتُحدِّد حقوق الناس، إلى جانب ما لرب العالمين من حقوق؛ هذه الحضارة هي الحضارة الإسلامية، وهي حضارة ليس لها الآن من دعاة في العالم، وليس لها من كيان أدبيٍّ محترم، وليس لها علمٌ تأْرِزُ إليه، وتستجمع فيه، وتُقَدِّمُ نماذجَ من تكوينها الماديِّ والأدبيِّ لينظر الآخرون إليه؛ ويوازنوا بينه وبين غيره..
أما بعد: فإن أياماً طيبة توشك أن تفد إلينا، ربما كانت الجمعة المقبلة اليوم الأول من رمضان، إن بشائر الموسم الكبير -موسم العبادة والتقوى- هبت علينا، تستروحها قلوبنا، وإن كان المرء يتساءل: ما أسرع ما عادت الأيام! ورجعت الذكريات!.
وإذا ألقى الإنسان نظرة خلفه إن كان قد بلغ العشرين أو الثلاثين أو الأربعين أو الخمسين أو أكثر أو أقل فإنه يشعر أن الأيام التي عاشها والليالي التي قضاها قد تداخل بعضها في بعض، وأصبحت كتلة واحدة منكمشة مبهمة لا يدري بالضبط إلا أنها أصبحت ماضياً تركه خلفه ولن يعود.
الإحساس بالزمن غريب، لأن الناس يوم يلقون ربهم سيشعرون بأن الأعمار كلها قد أصبحت ماضياً وانكمشت وتداخلت أجزاؤها بعضها في البعض الآخر، وأصبحت شيئاً قليلاً: (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ؟ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ * قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) [المؤمنون:112-114].
تكرر هذا المعنى في القرآن الكريم، فهو -جل شانه- يتحدث عن الساعة: (يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا) [طه:102-104].
والواقع أن الإنسان يبقى على ظهر الأرض مدة طويلة، الطفل فيها يشِبُّ، والشاب فيها يشيخ، ومع ذلك، فالمرء ينظر إلى عمره الذي خلَّفه فلا يجد إلا أن هذا الماضي الطويل قد أصبح هذه الكتلة المنكمشة في زمن مبهم لا يدري أوله ولا آخره، ولكن الإنسان الذي لا يدري ما كان، يجب أن يعلم أن الله يسجل عليه كل ما كان، (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجاثية:29].
وقد مرت سنة، ففي مثل هذه الأيام كنا نتهيأ لاستقبال شهر رمضان المبارك، والآن نتهيأ لاستقبال آخر حتى نلقى ربنا، فينبغي أن ننتفع من الزمن الذي هو رأس مالنا، الذي هو هبة القدر الأعلى لنا، إنه لا يجامل فيه، إنه إما صديق وإما عدو، صديق إن انتفعت به، وعدو إن أهملته وأضعته.
ورمضان يجيء، ولا نتحدث عنه طويلاً، إنما نريد أن نتحدث عن فلسفة الإسلام في العلاقة بين الروح والجسد، لمناسبة صيام المسلمين في رمضان؛ فإن هذا الصيام في حقيقته ترويض للغرائز البشرية العاتية، فليس هناك أعتى من غريزة البطن التي تطلب الأكل باستمرار، وليس هناك أعتى من غريزة الجنس التي تريد أن تُنَفِّسَ عن تطلعها باستمرار.
والبشرية قد تُنْكَب نكبة قاصمة إذا هي لم تحسن تحديد موقفها من كلا الأمرين، والمتأمل في سير القافلة الإنسانية يجد أن هناك فلسفتين استطاعتا أن تسيطرا على جماهيرَ كثيفةٍ من الناس، فلسفة مادية موغلة في المادة، وفلسفة روحية موغلة في الروح.
فأما الموغلون في الفكر المادي من ملحدين، ومن شيوعيين، ومن وجوديين، ومن وثنيين، فإنهم يعيشون ليومهم الحاضر، ويطلقون العنان لغرائزهم، فما تقف عند حد؛ إنهم يطلبون المتع. وطبيعة البشر أنهم إذا أحرزوا نصيباً من الشهوة استهانوا بما أحرزوه وازدروه، وطلبوا شيئاً أكثر وأعلى.
ولذلك؛ فإن الشهوات البشرية مسعورة يسلم بعضها إلى بعض، ويتطلع من حاز قليلاً على كثير، ومن حاز الكثير إلى أكثر، ومن هنا فإن القرآن الكريم قد هدَّد هؤلاء: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الحجر:3]، وقال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ) [محمد:12].
إنهم في هذه الدنيا فارغو البال، يجرون وراء نزواتهم، ويقطعون الطريق إليها في خفة؛ لكنهم يوم القيامة سيدفعون ثمن هذه مرارة يشعرون بغصتها في حلوقهم، ويقال لهم: (ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ) [غافر:75].
هذه فلسفة مادية، هناك فلسفة روحية قامت على الرهبنة، ورأت أن من عبادة الله كبْت الغريزة الجنسية، وسحق نوازعها، واعتبار القرب من الله على أساس أن يميت المرء في بدنه نوازع التطلع إلى الجنس الآخر، والطعام حيناً؛ المهم، إنهم دخلوا في معركة ضد الجسد البشري. وهذه الفلسفة تبنتها الكنيسة المسيحية من قديم.
ولكن من التقرير للواقع أن نقول: إن الفلسفتين قاتلت إحداهما الأخرى، وإن عواصم الغرب الآن سحقت فلسفة الكنيسة، وتخلصت منها؛ وإن عواصم أوروبا الآن تنفق من وقتها ومن مالها أغلب ما تكسب وقوداً لشهوات الجسد، وإن فلسفة الروحانية اختفت، وإن الكنائس المسيحية ليس لها وارد حتى في يوم الأحد! وإن المسيحية إذا كان لها وجود أو ازدهار فبين الأقليات التي تعيش في العالم الإسلامي!.
ولذلك أسباب قد ندرسها فيما بعد، أما قصة إماتة الجسد، وقتل الغرائز بالرهبنة، فإن هذه القصة قد تلاشت، وتوشك الآن أن تنتهي؛ بل إن الرهبنة نفسها أصبحت شيئاً يفر منه أصحابه سراً أو علناً!.
والواقع -أيضاً- أن الإسلام كان ديناً منصفاً عندما احترم الروح والجسد معاً، وعندما اهتم بالخصائص العليا للإنسان، وفي الوقت نفسه كفل ضرورات الحياة للغرائز الدنيا، فجعلها تتحرك ولكن داخل إطار معلوم، وسياج حارس، وتقاليد ضابطة، وفضائل معروفة مقصاة، فترك الغريزة الجنسية تأخذ مداها في بيت الطاعة، في فراش الزوجية، ومنع ما وراء ذلك منعاً صارماً حاسماً.
وأباح للإنسان أن يأكل، ولكنه بين له أن القصد والعفاف خير له وأولى، وفي هذا يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كلوا واشربوا والبسوا وتصدَّقوا، في غير إسراف ولا مخيلة". أي: إسراف وخُيَلاء، كُل والبس في غير إسراف ولا خيلاء.
صالَح الإسلام بين الروح والجسد، فقال -صلى الله عليه وسلم- وهو يحافظ على جسده وروحه: "اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة". وقال فيما صح عنه: "اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، لا إله إلا أنت" الكفر ضياع الآخرة، والفقر ضياع الدنيا، والإسلام كفل الاثنين معاً: (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ؟ قَالُواْ خَيْرًا، لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ، وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ، وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ) [النحل:30].
إن الإسلام في تعاليمه يريد تزكيتك ورفع مستواك؛ فيطهرك جسداً بالغسل والوضوء، ثم يطهرك روحاً بالركوع والسجود. الإسلام جسد وروح، دنيا وآخرة. لقد بيَّن الإسلام حقيقةً تعرف مع فلسفة الصيام، هذه الحقيقة هي أن الإنسان وإن كان قد نبت من الأرض جسده فإن قيمته ليست في هذا الجسد الذي يطعم ويكتسي، ولكن قيمته في الروح التي تحركه، الإنسان من حيث هو جسد لا كرامة له، وما كلف أحد بان يسجد له، إنما كان التكريم وتكليف الملائكة بالسجود بعد شيء آخر، قال تعالى: (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) [ص:71-72].
فسجود الملائكة لآدم إنما كان بعد أن سواه ربه ونفخ فيه من روحه، فقبل أن يسويه بالعقل والشعور والإحساس كان طينة من الأرض، إذا تحركت بحياة حيوانية فلا وزن لها، إنما كرامة الإنسان في أنه نفخة من روح الله.
والناس بعد ذلك قسمان: قسم يعرف من نفخ فيه من روحه؟ من كرَّمه على سائر الخلق؟ قسم يعرف هذا، ويشكر ولي النعمة رب العالمين الذي سوَّى وكرَّم، وهذا القسم هو المؤمن، عرف نسبه السماوي، وعرف الفضل الأعلى الذي أسبغ عليه، فهو جدير بأن يحترم، وان بنعم في دار الخلد.
وقسم آخر نسي ربه، نسي مَن نفخ فيه من روحه، نسي من برَأه من عدم، نسي هذا كله، ولذلك يعاتبه ربه ويقول: (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ) [الانفطار:6-7].
لماذا تنسى؟ إذا كان الإنسان -وهو فرد- يؤمن ويكفر، أو ينسى ربه أو يذكر، أو يجحد نسبه الأعلى أو يعترف به، فكذلك الحضارات؛ وأنا آسف إذ أقول لكم إن العالم الآن تنفرد بزمامه حضارات ذهلت عن ربها، ونسيت حقه! فإما أنكرت هذه الحضارات رب العالمين بَتَّةً كما تفعل الشيوعية، أو اعترفت به على نحو مضحك كما جاء في العهد القديم الذي يوصف فيه رب العالمين بأنه أكل من الوليمة التي صنعها إبراهيم عندما ذبح له العجل السمين! وقال له: يا ربّ إن كان عبدك له نعمة عندك فكل من وليمته، فأكل الله من وليمته! هذا النوع من تصوير الألوهية رفضه العقل الإنساني؛ فكانت النتيجة أن ناساً إما كفروا صراحة، وإما انتسبوا إلى أديان لم تملأ فراغهم النفسي فعاشوا بأفئدة فارغة، وكملوا هم طريقة معيشتهم واتجاه سلوكهم على ما يشتهون.
وهذا العالم تنقصه حضارة أخرى، حضارة تعترف بالروح والجسد، وتخدم الدنيا والآخرة، وتُحدِّد حقوق الناس إلى جانب ما لرب العالمين من حقوق؛ هذه الحضارة هي الحضارة الإسلامية، وهي حضارة ليس لها الآن من دعاة في العالم، وليس لها من كيان أدبيٍّ محترم، وليس لها علمٌ تأْرِزُ إليه، وتستجمع فيه، وتُقَدِّمُ نماذجَ من تكوينها الماديِّ والأدبيِّ لينظر الآخرون إليه، ويوازنوا بينه وبين غيره.
إن المدنية الإسلامية، أو الحضارة الإسلامية، أو المنطق الإسلامي في فلسفة الدنيا والآخرة، والروح والجسد غير قائم الآن، لأن الأمة الإسلامية أمة ممزقة، وليست لها وحدة ثقافية يتبناها معهد عريق يستطيع أن يقدم النضارة الروحية والمادية لهذه الحضارة العظيمة.
وكانت النتيجة أن بقي الناس كما وصف رب العالمين عند ظهور البعثة الأولى، أو عند ظهور محمد -صلى الله عليه وسلم-: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [الروم:30].
ثم أكثر الناس لا يعلون! علماء الإسلام بين مقصر يجبن عن أداء واجبه؛ خوفاً على رزقه، أو خوفاً على أجَله، أو كسَلاً، أو إخلاداً إلى الأرض، واتباعاً للهوى، وطلباً للدنيا! أما العلم الإسلامي كما ينبغي أن يقدم، فالواقع أن أجهزته بين معطوب وكسلان! الفلسفة الإسلامية لم نجد إلى الآن من يقدمها للناس.
قال لي بعض الوافدين من عواصم أجنبية: والله لقد رأيت شباباً في "باريس" من الفرنسيين اعتنقوا البوذية. وما البوذية؟ نحلة مضحكة! نحلة وثنية. قال لي: وجدتهم حلقوا رؤوسهم على الطريقة البوذية، حلقوها بالموسى وتركوا بعض الشعر في وسطها نامياً لكي يدل على أنهم بهذا بوذيون!. قلت: فهل للإسلام دعاة؟ لا، وبداهةً فإن امتداد الإسلام في هذه العواصم إنما هو فرع قوته في بلاده، والإسلام في بلاده شاحب الوجه، خائر القوة، محدَّد الخطو.
يجيء رمضان فتبدأ قصة الصيام، وأنا لا أعلق على صيام المسلمين، إني اعلم أن رمضان شهر الطعام لا شهر الصيام، شهر الأكل والمتع، وليس شهر تدريب الغرائز وتكوين الإرادات! دعنا من هذا، فلا أتحدث عنه، إنما أتحدث عن ليالي رمضان؛ فإن الله –جل شأنه- لأمرٍ ما؛ أنزل كتابه في هذا الشهر، بدأ نزول القرآن في شهر رمضان، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يضاعف من إقباله على القرآن الكريم، ومن مُدارسته له، فهو طول العام يقرأ القرآن، ولكنه في شهر رمضان يضاعف الدراسة، وكلمة الدراسة شيء آخر غير القراءة العابرة، أو التلاوة المجردة، لأن القراءة العابرة نوع من حفظ الحروف، التلاوة المجردة نوع من ترتيل الكلمات؛ لكن روح القرآن في معانيه، ويوم تقرع المعاني نفوس الناس؛ ومع ذلك تبقى هذه النفوس موصدة الأبواب، تبقى وعليها أقفالها. إن المشكلة كبيرة: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ) [السجدة:22].
المسلمون لا يعرفون عظمة هذا الكتاب الذي شرفوا به، لكي نعطي لمحة من عظمة هذه الكتاب أقول لكم: إن الله جل شأنه جعل هذا الكتاب موازياً أو مساوياً للكون الذي نعيش فيه، عندما وصف نفسه، رأيتُ أنه –جل جلاله- وصف نفسه بأمرين: أمر يقول فيه أنا خالق الكون، وأمر يقول فيه أنا مُنزل الكتاب، فجعل خلق الكون وإنزال الكتاب صفتين كلتاهما تعادل الأخرى.
تأمل في قول الله تعالى وهو يذكر بركته، ويشرح نعمته، ويلفت النظر إلى ما في الوجود من ثمرات دانية القطوف، ومن آيات رائعة الدلالة، يقول مرة: (تَبَارَكَ الَذِي بِيَدِهِ المُلْكُ وهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الملك:1]، تبارك: كثُرت بركته. ويقول مرة أخرى: (تَبَارَكَ الَذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً) [الفرقان:1]. فمرة: تبارك من بيده الملك؛ ومرة: تبارك من أنزل هذا القرآن. وعندما حمد ربنا نفسه، وأثنى على ذاته بما هو أهله، قال مرة: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ وجَعَلَ الظُّلُمَاتِ والنُّورَ) [الأنعام:1]، فبين أنه أهل الحمد لأنه خالق الكون، وموجد ما يتخلل الكون من ظلام ونور، ويقول مرة أخرى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الكِتَابَ ولَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجاً) [الكهف:1].
وكما وصف نفسه على هذا النحو، أقسم كذلك على هذا النحو، أقسم بعظمة الكون وأبعاده. وعلماءُ الفلك لهم حديث مذهل عن السنين الضوئية، وعما بين الكواكب من مسافات، تسمع رب العالمين وهو يقول: (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وإنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إلاَّ المُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العَالَمِينَ) [الواقعة:75-79].
بمواقع النجوم أقسم، بالكون أقسم، ويتكرر القسم في مواضع أخرى من القرآن: (فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * ومَا لا تُبْصِرُونَ * إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ومَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ * ولا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العَالَمِينَ) [الحاقة:38-42].
ويقول: (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الجَوَارِ الكُنَّسِ * واللَّيْلِ إذَا عَسْعَسَ * والصُّبْحِ إذَا تَنَفَّسَ * إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي العَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * ومَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ) [التكوير:15-22]. في هذه الآيات يصف رب العالمين الفترة قبل بزوغ الشمس وقبل مطلع الفجر، والكون في حالة ترقب لليوم الجديد الذي يطل على الناس ليفتتحوا معه صفحة جديدة، إنه يقسم بهذه الحالة لكي يلفت النظر إلى أن من أراد الهدى ففي القرآن هداه، ومن أراد الحق ففي القرآن أمله، ومن أراد النصر والعزة ففي القرآن ما ينشده: (مَن كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَلِلَّهِ العِزَّةُ جَمِيعاً إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ والْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر:10]. نحب أن نقول: إن هذا الكتاب جاء إلى الناس بحياة تذهب الموت الأدبي، الموت العقلي، الموت الحضاري؛ الأمم محتاجة إلى عصر إحياء، فمن الذي يحييها؟ (أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا) [الأنعام:122].
ما مصدر هذا النور الذي نمشي به بين الناس؟ ما مصدر هذه الحياة التي أذهبت الموت الأدبي والمادي في الأمم؟ إنه القرآن، القرآن الذي جاء إلى أمة على هامش الدنيا فما زال يرتفع بها حتى جعلها قمة الوجود. مَن الذي بوأها هذه المكانة؟ من الذي رفعها إلى هذا المستوى؟ إنه القرآن الكريم؛ ولذلك فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- حضّ على دراسته، حضّ على قراءته قراءة بحث واستطلاع وتفقُّه وترتيل، لذلك كان القرآن في رمضان النور الذي تضاء به الليالي وتبيض.
ومن أعجب ما قرأت في وصف ليالي الصالحين الذين يقرؤون القرآن والذين ينتفعون بوعده ووعيده، وأمره ونهيه، أبيات لشاعر من الشعراء وصف من يقومون الليل فقال:
تَتَجَافَى جُنُوبُهم | عَن وَطِيءِ الـمَضَاجِعِ |
كُلُّهُمْ بَيْنَ خَائفٍ | مُسْتَجِيرٍ وطَامِعِ |
ترَكُوا لَذَّةَ الكَرَى | للعُيُونِ الهَواجِعِ |
وَرَعَوْا أنجُمَ الدُّجَى | طالعاً بَعْدَ طَالِعِ |
لو تَرَاهُمْ إذا هُمُ | خطَرُوا بالأصَابِعِ |
وإذا هُم تأوَّهوا | عِنْدَ مَرِّ القَوارِعِ |
وإذا باشَرُوا الثَّرَى | بالخُدُودِ الضَّوارعِ |
واسْتَهَلَّتْ عُيُونُهم | فائضَاتِ المـَدامِعِ |
يا مَلِيكَنَا! | يا جميلَ الصَّنَائِعِ |
اُعْفُ عَنَّا ذُنُوبَنَا | للوُجُوهِ الخَواشِعِ |
اُعْفُ عَنَّا ذُنُوبَنَا | لِلعُيُونِ الدَّوامِعِ |
أنْتَ إنْ لم يَكُنْ لنَا | شافعٌ خيرُ شَافِعِ |
فأُجِيبُوا إِجَابَةً | لم تَقَعْ في المسَامِعِ |
ليسَ ما تصْنَعُونَهُ | أوليائي بِضَائِعِ |
تَاجِرُوني بِضَاعَتِي | تربَحُوا في البَضَائِعِ |
وابذُلُوا لي نُفُوسَكُم | إنَّها فِي وَدَائِعِي |
هذا قيام الليل في رمضان، بعد صيام، كما وصف نبي الإسلام محمد -صلى الله عليه وسلم-، صيام يرتفع به مستوى الصائم فيتحوّل في المجتمع إلى عنصر رحمة، إلى عنصر سلام، إلى عنصر طمأنينة، وزكاة نفس، وشرف خلق، ونضارة سيرة: "وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب. فإنْ سابَّه أحدٌ أو قاتَله فلْيقُل: إني امرؤ صائم". الرفث: الكلام العيب، الصخب: الكلام الذي لا معنى له ولا خير فيه، الذي هو ضجة ليس لها عقل. إني صائم: أي لا يكون الصائم سبَّاباً مع السبابين ولا شتاماً مع الشتامين.
هذا الشهر المقبل فيه فلسفة الإسلام في ربط الدنيا بالآخرة، فيه ربط الروح بالجسد، ربط الأرض بالسماء، ربط البشر بالوحي الإلهي، ربط الدنيا بالكتاب الذي أضاء لها الطريق، وحدد لها الغاية! شهرٌ ينبغي أن يعرف المسلمون فضله، وأن يستعدوا له.
الخطبة الثانية:
الحمد لله (الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ.وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) [الشورى:25-26].
وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد الصالحين. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
عباد الله: أوصيكم ونفسى بتقوى الله عز وجل، واعلموا -أيها المسلمون- أننا قد تسلل إلى مجتمعنا ما أفسد المجتمعات الأولى. المجتمع الإسلامي عندما بدأ كان مجتمعا ناضرا حيا، كان الوحى فيه غضا طريا، كانت النبوة ترشد الناس إلى المسالك الشريفة، والمستويات العالية؛ فيرتفعون معها، ويبذلون الجهود فى الاستجابة لها؛ لأنهم يعلمون أن الحياة الحقيقية فى الاستجابة لله وللرسول -صلى الله عليه وسلم-: (يا أيُّها الذِين آمنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وللرَّسُولِ إذا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيِكُم..) [الأنفال:24].
لكن فساد الأديان يجىء من أن بعض الناس ينتسب إليها شكلا، ويرفضها موضوعا، يأخذ شارة الدين من فوق، ولكنه فى الخبىء فيما بينه وبين الله لا يعرف من الدين لا حقيقة ولا كيانا صالحا! عندما حقر الإسلام بعض رجال الدين الأوائل قال في وصفهم إنهم ليسو رجال دين، هم تجار دين، يأكلون بالدين ولا يخدمون الدين، يأكلون الجماهير ولا يهدون الجماهير، قال فيهم ربنا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ...) [التوبة:34].
سبحان الله! أحبار ورهبان، مفروض أن تكون وظائفهم أن يقتادوا الناس إلى الله، وألا يرزؤوا أحدا فى ثروته أو ماله أو ما يحرص عليه من دنياه؛ لكن هؤلاء الأحبار والرهبان عاشوا كما تعيش الطفيليات على الجسد البشرى، فهم يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله. إلى جانب هذا فإن جوهر الدين هو القلب السابح في معرفة الله، الواعي للوجود الإلهي حوله، الشاعر بأن الرقابة العليا ما تنفك عنه ليلا أو نهارا. هذا هو التدين، وعندما يفسد التدين يأخذ الناس الغطاء الذى يظهر فوق تعاليم الدين، أما الدين نفسه فيكون قد ضاع من قلوبهم.
المجتمع الإسلامي الآن يصوم، وله فى صيامه تقاليد غريبة! قد يقرأ القرآن واستمعت إلى سورة الرحمن، والقارىء يقول: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) [الرحمن:26]، فإذا المستمع يقول: الله! الله! أعِدْ. ما هذا؟ هل يعنى هذا الإنسان أن الآية تهدده بالهلاك، بالفناء، وأن الآية تشير إلى أن الوجود من حوله سوف يتلاشى، ويعود إلى ربه ليحتكم الطائع والعاصي، والمؤمن والكافر، ويشرح كل شيء مرة أخرى أمام الله ليبت فيه؛ ولتبيض وجوه وتسود وجوه. هل الذي يقرأ، هل الذي يسمع، يعي شيئا؟ هذا نوع من التلاعب بالدين والقرآن، ليس هذا إلا حفاوة بالنغم أو حفاوة بشكل القرآن. وتسالي رمضان، هل ليالي رمضان للتسالي؟ للسهر المجنون؟ للَّغو الفارغ؟ للعبث التافه؟.
ومَن الذي يتسلَّى؟ ربما عُذِر الفارغُ إذا تسلَّى،... في الجاهلية التي لا ضوء فيها وجدنا شابا من أصحاب الخمر والنساء، عاش طول عمره صعلوكا ضئيلا هو: "امرؤ القيس"، كان عاهرا، لما قتل أبوه شعر بالصدمة توقظه من ذهوله فقال: اليوم خمر؛ وغدا أمر!. الشاب الماجن ترك مجونه وأخذ يعمل لإدراك ثأره، والاقتصاص لمقتل أبيه، فلما أعياه أن يدرك ثأره؛ لأن قبائل العرب لم تسعفه، قرر أن يذهب ومعه صديق له إلى بلاد الروم، وكان الصديق مخلصا، ورأى الشاب الناعم الذي عاش في الملذات ومجالسها، رآه يتعسف الطريق ذاهبا إلى غربة بعيدة؛ فبكى، فقال امرؤ القيس:
بَكَى صَاحِبِي لَمَّا رَأَى الدَّرْبَ دُونَهُ | وَأَيْقَنَ أنَّا لاحِقانِ بِقَيْصَرَا |
لا تَبْكِ عينُكَ، إنَّما | نُحاوِلُ مُلْكَاً أو نَمُوت فَنُعْذَرَا |
والله! لَوَدِدْتُ أن المسلمين اتَّبعوا حتى هذا العربى فى الجاهلية، إنهم يقولون: وأنا أعرف: نحن قوميون عرب أو بعثيون عرب، كونوا قوميين عربا، كونوا بعثيين عربا، كونوا عربا. أهذا المسلك الذي تسلكونه والبلاد محتلة، وأعداؤها جاثمون على صدرها، وسواد الذل يقطر من وجهها، ويراه أهل المشرق والمغرب فيتضاحكون منه؟! هل هذا وقت التسالي، التسالي إنما هى وظيفة القلوب الميتة، والأعصاب الهالكة، والسِّيَر الباردة، ومن يريد أن يعيش لا ليقول: اليوم خمر وغدا أمر.. لا، اليوم خمر، وغدا خمر، وبعد غد خمر.
لابد أن نصحو، لابد أن نستيقظ. ليالي العبادة لا تكون ليالي تسلية، ليالي العبادة تكون ليالي إقبال على الله. شهر رمضان موسم طاعة، ومواسم الطاعات جعلت معالم في حياة الناس؛ كي ينتهوا إليها ليبدؤوا من عندها صفحة جديدة، ولذلك لابد لاستقبال الشهر من نية جديدة لمن أراد رضوان الله، نية جديدة... أن أغير من حياتي كذا وكذا بالتحديد، أن أجدد في حياتي كذا وكذا بالتعيين. هذا هو مفهوم مواسم العبادة. أما أن تجيء أنثى لذعها الهجر وغياب الحبيب فتتأوه ليستمع الصُّوَّام أو القوام إلى تأوهاتها، ويحتفل الناس بهذه التسلية، فهذا نوع من العبث الذى تهلك به الأمم.
إن الله أهلك الأولين لما لعبوا بالعبادات، وأخذوها شكلا ولم يتحركوا بها قلبا! وحذرنا ربنا أن نجرى وراء هذه المسالك الطائشة فقال: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ، وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) [الحديد:16].
"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير واجعل الموت راحة لنا من كل شر ".
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10].
عباد الله: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].