الرءوف
كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحياة الآخرة |
والله تعالى قد وعد المتقين جنة عرضها السموات والأرض، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. كل ما في الدنيا مما رأيناه وما لم نره، وما سمعناه وما لم نسمعه، ما وصف لنا وما لم يوصف لنا، موضع سوط في الجنة خير منه، وخمار قصير على رأس الحور العين خير من الدنيا وما عليها، ولو اطلعت واحدة من الحور العين على الأرض لملأتها ريحاً وجمالاً، (تِلْكَ الجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا) ..
والله تعالى قد وعد المتقين جنة عرضها السموات والأرض، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. كل ما في الدنيا مما رأيناه وما لم نره، وما سمعناه وما لم نسمعه، ما وصف لنا وما لم يوصف لنا، موضع سوط في الجنة خير منه، وخمار قصير على رأس الحور العين خير من الدنيا وما عليها، ولو اطلعت واحدة من الحور العين على الأرض لملأتها ريحاً وجمالاً، (تِلْكَ الجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا).
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].
أما بعد: فإن خير الكلام كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس: إذا أذن الله تعالى بنزول الغيث، فارتوت الأرض بالماء، فأنبتت عشبها، واكتست بخضرتها، وطاب ريحها؛ فإن كل حي لا يمل النظر إليها، والاستمتاع بها.
وإذا قُدِّر للعبد أن يرى بلادًا قد اخضرَّت أرضها، وجرت أنهارها، وأزهرت أشجارها، وأينعت ثمارها، وطاب هواؤها؛ فإنه يأنس فيها، ويتمنى عدم مفارقتها.
وإذا دخل الإنسان بستانًا كثرت أشجاره، وتوفر ماؤه، ورتب بنيانه، ودنت ثماره؛ فإنه يطيل المكث فيه، ويُقَلِّبُ بصره في نواحيه.
وإذا حضر إنسان شروق الشمس في غابة كثيفة، ورأى أشعتها تتخلل أشجارها، أو حضر غروب الشمس في بحر أو بحيرة، وأبصر قرصها يسقط فيها؛ فلن يجد منظرًا أجمل منه، ولن يعثر على صورة تُقَرِّبُ صورته.
وإذا دخل قصر منيفًا قد أحاطت به حدائق غناء، يختلط فيها خرير الماء بحفيف الأشجار، وبداخله من التحف والنوادر، والأثاث والمتاع، والزينة والزخارف ما لا يوصف؛ فإنه يتمنى ملكه وسكناه.
كل ما سبق ذكره نرى شيئًا يسيرًا منه في الدنيا، وما خفي علينا من بساتين الأرض وبحارها، وأنهارها وقصورها، وما فيها أكثر مما نعلمه، وما لم نره منها أكثر مما رأيناه! هذا عدا ما فيها من المآكل والمشارب، والملابس والمراكب، وأنواع الزينة والمتاع، مما لا يوصف من كثرته وتنوعه.
والله تعالى قد وعد المتقين جنة عرضها السموات والأرض، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
كل ما في الدنيا مما رأيناه وما لم نره، وما سمعناه وما لم نسمعه، ما وصف لنا وما لم يوصف لنا، موضع سوط في الجنة خير منه، وخمار قصير على رأس الحور العين خير من الدنيا وما عليها، ولو اطلعت واحدة من الحور العين على الأرض لملأتها ريحاً وجمالاً، (تِلْكَ الجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا) [مريم:63].
استحقت اسم الجنة حتى صار علمًا عليها؛ لأنها مكسوّة بالخضرة، مستورة بالأشجار، ولا يستحق اسم الجنة إلا بستان كثرت أشجاره، وتنوعت ثماره، وجرى ماؤه، وأعظم جنة في الأرض ليست تساوي عودًا بالنسبة لجنة الخلد: (قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا * لهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولاً) [الفرقان: 15-16].
فيها من النعيم ما لا يوصف كثرة وتنوعًا ولذة؛ ولذلك أضيف النعيم إليها فقيل: جنات النعيم: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ) [لقمان: 8]، وسألها إبراهيم -عليه السلام- ربه -عز وجل- فقال: (وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ) [الشعراء:85].
يأوي إليها المؤمنون، فيتبوءون منها منزلاً، وتكون لهم مقامًا ونزلاً: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى * فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى) [النَّازعات: 40-41]، (خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا) [الفرقان:76].
هي دار الخلد، وجنة الخلد؛ لأن أهلها لا يظعنون عنها، ولا يرتحلون إلى غيرها أبدًا: (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) [هود:108]، أي: غير مقطوع، بل هو دائم مستمر مستقر، (لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ) [الحجر:48].
وما فيها من النعيم والمتاع مما يتنعم به أهلها دائم غير منقطع، كامل غير منقوص: (مَثَلُ الجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا) [الرعد:35]، (مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ * وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الحِسَابِ * إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ * هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآَبٍ) [ص: 50-54].
نعم ونسأل الله تعالى أن يجعلنا ووالدينا والمسلمين أجمعين من أهلها، آمين، آمين.
يفرح أهلها بخلودهم فيها، ويلهجون بحمد ربهم قائلين: (وَقَالُوا الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ المُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ) [فاطر:34-35].
هي الدار الآخرة، فلا دار بعدها، ولا عمل لمن دخلها، إلا التمتعُ بالنعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول: (تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص:83].
يحيون فيها حياة خالدة فلا يموتون، ولا يمرضون، ولا يهرمون، وينعمون فلا يبأسون: (وَإِنَّ الدَّارَ الآَخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [العنكبوت:64]. ولما أمر الله تعالى رسوله -صلى الله عليه وسلم- بأن يخير زوجاته أمهات المؤمنين بين الدنيا ومتاعها وزينتها وبين الله ورسوله والدار الآخرة بدأ -عليه الصلاة والسلام- بعائشة -رضي الله عنها- فقال لها: "إني ذاكر لك أمرًا فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك، ثم خيّرها بين الدنيا والآخرة فقالت -رضي الله عنها-: في أيِّ هذا استأمر أبويّ؟! فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، قالت: ثم فعل أزواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثل ما فعلت". رواه الشيخان.
هي دار السلام التي دعا إليها الرحمن: (وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [يونس: 25]، فمن استجاب لدعوة الله تعالى، واتبع رسله، وسلك صراطه المستقيم؛ فهو المستحق لها: (وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ * لهَمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام: 126-127].
وهل دارٌ تستحق اسم السلام غيرها وهي دار الرحمن، ومن أسمائه -جل جلاله-: السلام؟! (هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلَامُ) [الحشر:23]، فهي دار السلام: لأنها دار الله تعالى، وقد سلمها الله -عزّ وجل- من كل الآفات والمكروهات؛ ولذلك فإن خزنتها من الملائكة يبشرون أهلها بأنهم سالمون، ويستقبلونهم بالسلام: (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) [الزُّمر:73]، (وَالمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد: 23-24].
وهي كذلك سالمة من اللغو والتأثيم، ومن كل كلام قبيح، ويسلم أهلها من سماع ما لا يسرهم: (لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا) [الواقعة:26].
يحيي بعضهم بعضًا بالسلام؛ لأن السلامة قد كتبت لهم: (تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ) [إبراهيم:23].
ويكفيهم سلامًا بشرى ربهم لهم بالسلام: (لهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلهُمْ مَا يَدَّعُونَ * سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس:57-58].
وهي دارٌ حسنةٌ، قد زينها الرحمن -جلّ جلاله-، وجعلها موئلاً لعباده، ومستقرًا لأحبابه؛ فاستحقت أن تسمى بالحسنى (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) [يونس:26]، وقد جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يفيد أن: الحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الرحمن.
من دخلها فهو آمن من كل مكروه، ولا يناله أيُّ سوء: (إِنَّ المُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) [الدُخان:52]، فأهلها آمنون من الخروج منها، آمنون من نقص النعيم فيها، آمنون من أيِّ كَدَرٍ أو تنغيص، آمنون من الموت: (يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آَمِنِينَ * لَا يَذُوقُونَ فِيهَا المَوْتَ إِلَّا المَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الجَحِيمِ) [الدُخان:56]، (إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آَمِنِينَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ) [الحجر: 45-48].
وقد وُصِفَ إدخالهم للجنة بالإكرام؛ لأنه كذلك؛ بل هو من أعظم الإكرام: (وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا) [النساء:31]، قال السمعاني -رحمه الله-: "فالمدخل -بفتح الميم-: الجنة، والمُدخل -بضمها-: الإدخال، يعني إدخالاً كريمًا؛ وذلك إرضاءً لهم على أعمالهم الصالحة في الدنيا؛ كما قال سبحانه: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ) [الحج: 58-59].
أسأل الله تعالى بمنه وكرمه، وفضله وإحسانه، وعفوه ورحمته أن يجعلنا ووالدينا وأحباءنا وإخواننا المسلمين من أهلها، وإن يجعلها لنا مستقرًا ومقامًا، إنه سميع مجيب.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لهَمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الحَمْدُ للهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ العَامِلِينَ) [الزُّمر:73-74].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده على إحسانه، وأشكره على توفيقه وامتنانه، وأستغفره لنيل غفرانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أرجو بها النجاة يوم لقائه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- ونافسوا في الأعمال الصالحة، وسابقوا إلى المغفرة والجنة؛ فإن الجنة أعدت لأهل التقوى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران: 133].
هي دارهم ومَحِلَّتُهُم، ومكانُ إقامتِهم: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآَخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ المُتَّقِينَ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللهُ المُتَّقِينَ) [النحل: 30-31].
أيها المسلمون: الجنة اسم شامل لجميع ما حوته من البساتين والمساكن والقصور، وهي جنات كثيرة جدًّا، لا يعلم عددها إلا الله تعالى!! دليل ذلك: ما رواه البخاري من حديث أنس -رضي الله عنه-: "أن أم الرُّبيَع بنت البراء وهي أم حارثة بن سراقة أتت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا نبي الله: ألا تحدثني عن حارثة، وكان قتل يوم بدر أصابه سهم غَرْبٌ -أي لا يعرف راميه- فإن كان في الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء، قال -عليه الصلاة والسلام-: "يا أم حارثة: إنها جنان في الجنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى"، وفي رواية: "إنها جنان كثيرة في جنة".
لكل واحد يدخل الجنة من المؤمنين جنتان، والمؤمن إما أن يكون من السابقين المقربين فله جنتان عاليتان: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) [الرَّحمن:46]، وإما أن يكون من أصحاب اليمين، فله جنتان دون الأوليين: (وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ) [الرَّحمن:62]، قال العلماء: "وإنما استحق المؤمن جنتين؛ لأنه امتثل أوامر الله تعالى، واجتنب نواهيه؛ فجنةٌ جزاء أداء الأوامر، وجنة جزاء اجتناب المحارم".
وجاء في الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتها وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن".
إن الإنسان في الدنيا ليُدهش حين يرى ذهبًا أو فضة، والناس يُخزنون هذين المعدنين في آمن مكان عندهم، وأقوى حرز لديهم، وهذان المعدنان جرت حروب عظيمة في التاريخ البشري عليهما!! وفي آخر الزمان: "يحسر الفرات عن جبل من ذهب، فإذا سمع به الناس ساروا إليه، فيقول من عنده: لئن تركنا الناس يأخذون منه ليُذْهَبن به كله، فيقتتلون عليه، فيُقتل من كل مئة تسعة وتسعون". رواه الشيخان واللفظ لمسلم.
فإذا كانت هذه ثمنية شيء قليل من ذهب وفضة، يستبق الناس عليهما، ويبذلون نفوسهم من أجلهما، فما الظن بجنة من ذهب، كل ما فيها من ذهب، وجنةٍ أخرى من فضة، وكل ما فيها من فضة، وليس ذهب الدنيا أو فضتها، اللذَين يشوبهما ما يشوبهما من كدر المعادن، وغش الصاغة، ولكنهما ذهب الجنة وفضتها.
فمن ابتغى ذلك، وأراد ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؛ فعليه بالإيمان والعمل الصالح، واكتساب الحسنات، والبعد عن المحرمات.
ينبغي للمسلم إذا رأى منظرًا أعجبه من متاع الدنيا أن يتذكر مناظر الجنة، ليتذكرْ بساتينها وأشجارها وأنهارها، ليتذكرْ قصورها وأثاثها وحورها، ليتذكر طيب طعامها وشرابها وريحها، ليتذكرْ أن فيها قصورًا مشيدة من الذهب والفضة؛ فلبنة من ذهب ولبنة من فضة.
فإذا شرب ماءً عذبًا، أو رأى نهرًا يجري، أو سيلاً يتدفق، أو سماءً تمطر؛ فليتذكرْ أن في الجنة أنهارًا من ماء غير آسن، وأن فيها قصورًا تجري من تحتها الأنهار.
وكل نعيم يتنعمه الإنسان في الدنيا ففي الجنة ما هو أطيب منه وأبقى وأكمل لذة ونعيمًا؛ فأعدوا لها -عباد الله- عدتها، واعملوا بعمل أهلها، وسارعوا إليها، وسابقوا الناس عليها، ونافسوهم في أعلى درجاتها بالإقبال على الله تعالى، والمحافظة على الفرائض، والإكثار من النوافل؛ فإن الفوز والسعادة في ذلك، ولا فوز يعدلُه، ولا سعادة مثله؛ فمن غلب عليها فهو المغلوب، ومن حرمها فهو المحروم، نسأل الله تعالى من فضله، ونعوذ بالله أن نُغلب عليها، أو نحجب عنها، أو نحرم نعيمها.
ألا وصلوا وسلموا على نبيكم كما أمركم بذلك ربكم...
جنة الخلد (2) الدرجات والمنازل